346

{ أ } أعرضتم عنه سبحانه بعد إنجائه وصلاخه إياكم { فأمنتم } عنه قهره وسخطه حين وصلتم إلى البر، مع أنه سبحانه قادرا على إهلاككم من البر أيضا، أما تخافون { أن يخسف بكم جانب البر } أي: يقلب عليك الأرض كما خسفها على قارون { أو يرسل عليكم } ريحا شديدا { حاصبا } ترميكم وترجمكم بحجارة كما رجمنا قوم لوط { ثم } بعدما أخذناكم في البر بأمثال هذه البليات { لا تجدوا لكم وكيلا } [الإسراء: 68] حفيظا يحفظكم عن أمثال هذه المصيبات، أو يشفع لكم بتخفيفها وكشفها.

{ أم أمنتم } أيها القاصرون عن إدراك قدر الله، وكما قدرته { أن يعيدكم } ويلجئكم إلى الرجوع { فيه } أي: في البحر { تارة أخرى } بأسباب ووسائ لا تخطر ببالكم { فيرسل عليكم } في الكرة الأخرى لأخذكم وانتقامكم { قاصفا } كاسرا { من الريح } لتكسر مركبكم { فيغرقكم } فيه { بما كفرتم } في اللكرة الأولى { ثم } بعد إرجاعنا إلى البحر، وإغراقنا فيه على نحو إنعامنا وإنجائنا ن قبل { لا تجدوا لكم علينا به تبيعا } [الإسراء: 69] أي: لا تجدوا ناصرا ومعينا لكم، فيظهر علينا بأخذكم وانتقامكم، ويطالب منا قصاص ما فعلنا بكم؛ إذ لا راد لفعلنا، ولا معقب لحكمنا، نفعل ما نشاء ونحكم ما نريد.

ثم قال سبحانه على سبيل الإنعام والامتنان: { ولقد كرمنا } وفضلنا { بني ءادم } بأنواع الكرامة والتفضيل على سائر المخلوقات من حسن الصورة والسيرة واعتدال المزاج، واستواء القامة، والعقل المفاض المتشعب من العقل الكل الذي هو حضرة العلم الحضوري الإلهي، وكذا بالقدرة والإدارة، وسائر الصفات المترتبة على الصفات الذاتية الإلهية يشعر بخلافته ونيابته { و } مع ذلك { حملناهم في البر } بركوب النجائب من الخيل والبغال والبعير وغير ذلك، { و } في { البحر } بركوب الجواري والسفن { ورزقناهم من الطيبات } أي: الأطايب التي يكسبونها بأيديهم على مقتضى إقدارنا إياهم، وإعدادنا أسباب مكاسبهم معهم، وأبحنا لهم ما تستلذ به نفوسهم وتشتهي قلوبهم على وفق ما نطق به رسلهم وكتبهم.

و { و } بالجملة { فضلناهم على كثير ممن خلقنا تفضيلا } [الإسراء: 70] والقليل المستثنى هم الملائكة المقربون المهيمون المستغرقون بمطالعة جمال الله وجلاله، وإن كان الوالهون الهائمون من الإنسان في ولاء الله ومحبته، المكاشفون بسر الخلافة والنيابة التي أخبر بها الحق، الواصلون إلى مرتبة الفناء بالموت الأرادي، أفضل منهم أيضا، وأرفع رتبة ومكانة.

وإنما كرمناهم وفضلناهم بما فضلناهم؛ لحكمة ومصلحة تقتضيها ذاتنا، وهي أن نريد أن نطالع ذاتنا المتصفة لجميع أوصاف الكمال ونعوت الجمال والجلال في مظهر تام كامل لمراتبنا وخلافتنا، وكرمناه لأجل هذه الحكمة العزيزة، فمن لم يبلغ منهم إلى هذه المرتبة العلية والدرجة السنية بسلوكه الذي أرشدناه وعلمناه بإرسال الرسل وإنزال الكتب فه ونازل كل التنازل عن درجة الاعتبار، ساقط عن رتبة ذوي الألباب والأبصار.

بل أولئك البعداء الضالون عن منهج الرشاد كالأنعام بلا شعور إلى ما جبلوا لأجله، بل أضل سبيلا منها وأسوأ حالا ومآلا،

من لم يجعل الله له نورا فما له من نور

[النور: 40].

اذكر يا أكمل الرسل للمكرمين المفضلين على سائر المخلوقات: { يوم ندعوا } نحشر { كل أناس } منهم؛ لنسألهم، ونطلب عنهم ما اكتسبوا، وحصلوا من المعارف والحقائق والأعمال المقربة إلينا باقتدائهم { بإمامهم } الذي نرسل إليهم، وننزل ع ليه من الرسل والكتب؛ لإرشادهم وإهدائهم مع أنا كتبنا منهم خيرهم وشرهم اللذين جاء كل منهم بهما في صحيفة، ونعطيهم اليوم صحائف أعمالهم { فمن أوتي كتابه } منهم { بيمينه } فهو دليل خيرية أعماله وطيب أحواله { فأولئك } المقبولون { يقرؤون كتابهم } فرحين بما فيها مسرورين، فيجازون على مقتضى ما كتب بل أضعافها وآلافها، عناية منا وفضلا { و } هم { لا يظلمون } ولا ينقصون من أجور أعمالهم { فتيلا } [الإسراء: 71] مقدار ما في ظهر النواة من الخط الأسود أو بين الأصابع من الوسخ المفتول.

{ و } من أوتي كتابه بشماله فهو علامة شرية أعماله، ورخامة حاله ومآله، فأولئك الأشقياء المردودون ينظرون إلى كتابهم، فيجدون ما فيها من أنواع المعاصي والآثام، فيغمضون عيونهم عن قراءتها آيسين محزونين، فيجازون على مقتضى ما كتب مثلا بمثل عدلا منه سبحانه؛ إذ { من كان في هذه } النشأة { أعمى } عن مطالعة آثار الأوصاف الذاتية الإلهية، وملاحظة عجائب صنعه وغرائب حكمته وبدائع تجلياته وتطوراته لحظة فلحظة { فهو في } النشأة { الآخرة } أيضا { أعمى } إذ النشأة الأولى مزرعات الخيرات، والأخرى وقت حصاده، فمن لم يزرع فيها، فهو وقت الح صاد خاسر مغبون أعمى عن وجدان الخيرات { وأضل سبيلا } [الإسراء: 72] لفوات أسباب التدارك والتلافي عنه، فيبقى متحيرا مدهوشا قلقا حائرا ضالا مستوحشا.

অজানা পৃষ্ঠা