عليك أيها المسترشد الخبير البصير - أرشدك الله إلى امتثال ما سمعت في هذه السورة، سيما في الكريمة المذكورة آنفا، ورزقك الاتصاف بما فيها من الحكم والآداب، والأخلاق المرضية، والسجايا الفاضلة - أن تتأمل فيها حق التأمل والتعمق، حال كونك خاليا صافيا عن الكدورات العارضة من طغيان القوى البهيمية، والحمية الجاهلية، تاركا بما عرض عليك من الأغراض النفسانية المترتبة على الأمور العادية، المستلزمة فيه لأنواع الضلال والفساد من التفوق على الأقران، والترفع على الإخوان، والتكبر على ضعفاء الأنام، والتلذذ بالسمعة والرياء المثيرة لأصناف الأهواء الفاسدة، والآراء الباطلة التي لا يمكن قلعها وقمعها أصلا، سيما تمرنت ورسخت، فلك أن تراجع وجدانك بأي شيء أردت الترفع، وقصدت التفوق والتفضل، أما ترى منشأك ماذا؟! أما استحييت التفوه من هذا وهذا؟!.
وأما قصة كرامتك وخلافتك التي هي من المواهب الإلهية، والعطاءات الغيبية، فإنما هي مبنية على محض التذلل والتواضع، والخضوع والانكسار مع كل ذرة من ذرائر الكائنات؛ إذ مبناه على الحكمة المتقنة المتشعبة من أسرار سرائر الرسالة والنبوة، وهي عبارة عن اعتدال جميع الأوصاف، وتزكية النفس عن جميع الرذائل، بل هي مبنية على إفناء متقضيات الأوصاف البشرية رأسا إرادة واختيارا.
وبالجملة: من أنصف على نفسه أدرك أن جميع ما في نفسه سوى التذلل والانكسار، والمسكنة والافتقار، حال كونه خاليا عن شوب الرياء والسمعة، والعجب والجربزة، إنما هي رعونات صدرت من طغيان القوى البهيمية المؤيدة بالعقل المستعار المموه بتمويهات الأوهام الباطنة، وتزيينات الخيالات الكاذبة.
هب لنا من لدنك جذبة تنجينا من أنانيتنا، ولذة تلجئنا إلى سلوك طريق الفناء الموصل إلى البقاء السرمدي، إنك أنت الوهاب.
[17 - سورة الإسراء]
[17.1-7]
{ سبحان الذى أسرى) نزه سبحاه ذاته بما يجب تنزهه عنه في حضرة علمه، وأيهم اسمه على مقتضى تعاليه وترفعه عن أفهام عبداه عن إخراج العبد من ظلمة الإمكان الذي هو الليل الحقيقي إكلى نور الوجوب الذي هو النهار الحقيقي { بعبده } يعني: حبيبه محمد صلى الله عليه وسلم بعدما أخلع عنه كسوة ناسوته، وألبسه خلعة لاهوته، بحيث تجرد عن مقتضيات بشريته مطلقا، وارتفعت عنه حجب تعيناته جملة، وانكشفت سدل الغفلة والغشاوات عن بصيرته وبصره.
وحينئذ انطوت المسافات مطلقا { ليلا } أي: في قطعة منه، صرح به، وإن كان الإسراء في اللغة عبارة عن السير في الليل. ليعلم أن ابتداؤه وانتهاؤه كان فيه { من المسجد الحرام } الذي حرمت ما أبيحت في الأماكن الأخر من الصيد وغنيره، ألا وهو قلب الإنسان الكامل الذي هو بيت الله الأعظم حقيقة؛ إذ حرمت فيه التوجه إلى الغير والسوى مطلقا، وإن كان مبنيا في بقعة جسدانية إمكانية { إلى المسجد الأقصا الذي باركنا حوله } أي: كثرنا فيه الخير والبركة على زوارها وساكنيها، ألا وهو البيت المعمور الأبدي الأزلي الذي هو الوجود المطلق، المفيض على كافة المظاهر وحواليه عبارة عن مقتضيات الأوصاف والأسماء الإلهية، وزوارها استعدادات المظاهر وقابلياتها المستفيدة منها، الناشئة عن أضلال أوصافها.
وإنما أسريناه { لنريه من آياتنآ } الدالة على كمال قدرتنا وحكمتنا، ووفور جودنا وكرامتنا { إنه } بعد تجرده عن جلباب تعيينه وهويته { هو السميع } بسمعنا، فيسمع بنا منا { البصير } [الإسراء: 1] ببصرنا، فيبصر ببصرنا عجائب صنعنا، وغرائر مبدعاتنا.
{ و } كما أيدنا حبيبنا بما أيدناه من الإسراء به، وإراءة عجائب صنعنا وقدرتنا إياه، بأن أسريناه من مكة في ساعة إلى بيت المقدس، ثم فيها إلى فوق السماوات السبع، ومثلنا له أرواح الأنبياء والأولياء، فتكلم معهم، ثم منها إلى ما شاء الله، وأخبر عنه سبحانه بقوله:
অজানা পৃষ্ঠা