ثم فصل سبحانه ما أجمل بقوله: { ولقد بعثنا في كل أمة } من الأمم الهالكة السالفة حين اختل أمور دينهم { رسولا } منهم، قائلا لهم: { أن اعبدوا الله } المنصف بالوحدانية والفردانية، المستقل بالوجود والآثار المترتبة عليه، المنزه عن الشريك والأمثال { واجتنبوا الطاغوت } أي: الآلهة المضلة التي أنتم تتخذونها من تلقاء أنفسكم ظلما وزورا، ثم لما بلغهم الرسول جميع ما جاء به من عندنا { فمنهم من هدى الله } بأن أراد هدايته فهداه { ومنهم من حقت } أي: استمرت وثبتت { عليه الضلالة } وتمرنت بقلبه؛ لتعلق مشيئة الله بضلاله، وإن ترددتم فيه { فسيروا } أيها الشاكون المترددون { في الأرض } التي هي مساكنهم ومنازلهم { فانظروا } واعتبروا من آثارهم وأطلالهم { كيف كان عاقبة المكذبين } [النحل: 36] المستهزئين للرسل والكتب.
{ إن تحرص } يا أكمل الرسل { على هداهم } وتريد هدايتهم، إنك لا تهدي من أحببت { فإن الله } الحكيم الهادي لعباده على مقتضى علمه باستعدادتهم { لا يهدي من يضل } أي: لا يريد هداية من أراد ضلاله في ساب علمه، ولوح وفضائه { وما لهم } بعدما أراد الله إظلالهم { من ناصرين } [النحل: 37] ينصرهم على الهداية، ويشفع فهم حتى ينقذهم على الضلال.
{ و } من خبث طينتهم، وشدة بغضهم وضغينتهم { قسموا بالله جهد أيمانهم } أي: أغلظوا فيها وأكدوا، قائلين { لا يبعث اللأه } ولا يحيى مرة أخرى { من يموت } بأن زال الروح الحيواني عنه، ثم قال سبحانه رادا لهم، وتخطئة على أبلغ وجه وآكده أيضا: { بلى } يبعثون؛ إذ وعد الله البعث والحشر { وعدا } صدقا { عليه } سبحانه إنجاز ما وعد { حقا } حتما وفاء لوعده، وإيفاء لحكمه، مع أنه القادر المقتدر بالقدرة الكاملة على كل ما دخل تحت حيطة إرادته ومشيئته { ولكن أكثر الناس لا يعلمون } [النحل: 38] حق قدرته، وقدر قدرته وسطوته وسطوته وبسطته.
وإنما ينجز الوعد الموعود { ليبين } ويوضح { لهم الذي يختلفون فيه } بل يستعبدونه ويستحيلونه { وليعلم الذين كفروا } له، وأنكروا عليه عنادا ومكبارة { أنهم كانوا كاذبين } [النحل: 39] في إصرار عدم وقوعه وتكذيبه.
[16.40-46]
وكيف تستبعدون أيها المنكرون أمثال هذا عن كمال قدرتنا وعلمنا وإرادتنا { إنما قولنا } وحكمنا حين تعلق إرادتنا { لشيء } أي: الإظهار شيء من الأشياء المثبتة في لوح قضائنا، وحضرة علمنا، أي: شيء كان عظيما أو حقيرا { إذآ أردناه } أن يوجد ويتحقق في عالم الشهادة { أن نقول له } على مقتضى صفتنا القديمة التي هي الكلام، فارضين وجوده وتحققه؛ إذ هو عدم صرف، ولا شيء محض: { كن } كالمكونات الأخر { فيكون } [النحل: 40] بلا تراخ ومهلة وامتداد ساعة ولحظة، بل التلفظ بحرف التعقيب بين الأمر الوجودي الإلهي، وحصول المأمور المراد له سبحانه، إنما هو من ضيق العطف وضرورة التعبير، وإلا فلا ترتب بينهما إلا وهما؛ إذ الترتب إنما يحصل من توهم الزمان والآن، وعنده سبحانه لا زمان ولا مكان، بل له شأن لا يسع في زمان ومكان.
ثم أشار سبحانه إلى علو درجة المؤمنين، وارتفاع شأنهم، ورفعة قدرهم مكانهم، فقال: { والذين هاجروا } عن بقعة الإمكان، حال كونهم سائرين { في } سبيل { الله } بعدما حصل لهم مرتبة التمكن والاطمئنان { من بعد ما ظلموا } بتسلط الأمارة عليهم زمانا { لنبوئنهم } ونمكنهم { في الدنيا } أي: في نشاهم الأولى { حسنة } أي: حصة كاملة، وحظا وافرا من المعارف والحقائق إلى حيث انخلعوا عن اللوازم البشرية بالمرة، وماتوا عن أوصاف البهيمية إرادة واختيارا { و } مع ذلك { لأجر الآخرة } المعدة لرفع الحجب، وكشف الغطاء واسدل { أكبر } قدرا، وأعظم شأنا، وأعمل لذة { لو كانوا يعلمون } [النحل: 41] ويفهمون لذته بالذوق لمالوا إليه زيادة ميل، واجتهدوا نحوه زيادة اجتهاد، رزقنا الله الوصول إليه، والحصول دونه، وأذاقنا لذاته.
وأيضا { الذين صبروا } على ما أصابهم من المصيبات والبليات، مسترجعين إلى الله في جميع الحالات { وعلى ربهم } أي: لا على غيره من الوسائل والأسباب { يتوكلون } [النحل: 42] في جميع شئونهم وتطوراتهم.
{ و } كيف يستبعدون رسالتك يا أكمل الرسل أولئك المشركون المعاندون؛ إذ { مآ أرسلنا } للرسالة العامة رسلا { من قبلك } مبشرين ومنذرين { إلا رجالا } أمثالك { نوحي إليهم } شعائر الدين والإيمان، وننزل عليهم الكتب المبينة لأحكامها، فإن لم يقبلوا منك، ولم يعتقدوا صدقك، فقل لهم: { فاسألوا } أيها المكابرون المعاندون، الجاهلون بحال من مضي من الأنبياء { أهل الذكر } والعلم منكم، وهم الأحبار والقسيسون { إن كنتم لا تعلمون } [النحل: 43] صدقه ومطابقته للواقع.
وكما أيدنا الرسل والأنبياء الماضين { بالبينات } الواضحة { والزبر } اللائحة ترويجا لما جاءوا به، وأرسلوا معه؛ ليبينوا ويوضحوا بها أحكام أديانهم { و } كذلك أيضا { أنزلنا إليك } يا أكمل الرسل { الذكر } أي: الكتاب المعجز المشتمل على شعائر الإسلام وأحكامه { لتبين للناس } المتوغلين في الغفلة والنسيان { ما نزل إليهم } من عند ربهم على مقتضى إزمانهم وأطوارهم من الأوامر والنواهي، والآداب والأخلاق { ولعلهم } بعد تبليغك إياهم، وتبيينك لهم { يتفكرون } [النحل: 44] في آياته وأحكامه، ويتأملون في حكمه ومرموزاته؛ كي يتفطنوا إلى معارفه وحقائقه، وكشوفاته وشهوداته الموعودة فيه.
অজানা পৃষ্ঠা