ثم لما طال نزاع أحبار اليهود مع المؤمنين ومجادلتهم مع الرسول صلى الله عليه وسلم، أمر سبحانه لحبيبه بأن يتكلم بكلام ناشئ عن لب الحكمة، فقال: { قل } لهم يا أكمل الرسل كلاما دالا على توحيد الذات، مسقطا لجميع الإضافات { أتحآجوننا } وتجادلوننا { في الله } المظهر للكل من كتم العدم، بإشراق تجليات أوصافه فيه، ورش من نوره عليه { و } الحال أنه ليس له اختصاص ببعض دون بعض بل { هو ربنا وربكم } بإظهار ذواتنا وذواتكم من العدم، { و } بعد إظهاره إيانا { لنآ أعمالنا } صالحها وفاسدها { ولكم } أيضا { أعمالكم } الصالحة والفاسدة، لا تسري منكم إلينا ولا منا إليكم { ونحن } المتبعون لملة إبراهيم { له } أي: لله المظهر الظاهر بجميع الأوصاف والأسماء لا لغيره من الأظلال { مخلصون } [البقرة: 139] متوجهون على وجه الإخلاص المنبئ عن المحبة المؤدية إلى الفناء في ذاته.
جعلنا الله من خدام أحبائه المخلصين.
أيسلم اليهود والنصارى ويذعنون بعدما أوضحنا لهم أنا على ملة إبراهيم دونهم؟ { أم } تعاندون { تقولون إن إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط كانوا هودا أو نصارى } تابعين لملتنا فإن كابروا وعاندوا وقالوا مثل هذا { قل } لهم يا أكمل الرسل مستفهما مستوبخا على وجه التنبيه: { أأنتم أعلم } بحالهم { أم الله }؟ النافي عنهم اليهودية والنصرانية بقوله:
ما كان إبراهيم يهوديا ولا نصرانيا ولكن كان حنيفا
[آل عمران: 67] مائلا منهما، ثم ذرهم في خوضهم يلعبون { و } بعد ما ظهر عندهم حقية دين نبينا صلى الله عليه وسلم، وتحقق موافقة ملة أبيه إبراهيم بشهادة كتبهم ورسلهم { من أظلم } على الله { ممن كتم شهادة } ثابتة في كتب الله التي صحت { عنده } أنها منزلة { من الله } المنزل للرسل والكتب، مصدقا بعضها بعضا كتمانا ناشئا عن محض العداوة والشقاق بعد جزمهم حقيتها ومع ذلك يتوهمون كتمانها من الله أيضا { وما الله } المحيط بمخايلهم { بغافل عما تعملون } [البقرة: 140] من الكتمان والنفاق حفظا لجاههم وجاه آبائهم.
قل لمن تبعك يا أكمل الرسل تذكيرا لهم وتحذيرا: { تلك أمة } صالحة أو طالحة { قد خلت } مضت { لها } في النشأة الأخرى جزاء { ما كسبت } من الحسنات والسيئات في النشأة الأولى { ولكم } فيها جزاء { ما كسبتم } فيها { ولا تسألون } أنتم في يوم الجزاء { عما كانوا يعملون } [البقرة: 141] من الصالحات والفاسدات كما لا يسألون عن أعمالكم بل كل مجزي بصنيعه، مقتض ببضاعته.
نعوذ بفضلك من عذابك يا دليل المتحيرين.
[2.142-143]
ثم لما كان الغالب على رسول الله صلى الله عليه وسلم في أوائل حاله وسلوكه، توحيد الصفات والأفعال المورثين له عن آبائه - صلوات الله عليهم - كان تابعا لهم في قبلتهم التي كانوا عليها أيضا صورة، وحين ظهر وانكشف له صلى الله عليه وسلم توحيد الذات، وغلبت عليه تجلياتها وإشراقها استغرق ووله، بل فني واضمحل وتلاشت فيها هويته، وبعدما تنزل عن ولهه واستغراقه، خص له سبحانه قبلة مخصوصة، ووجهة معينة صورة؛ لتكون آية على قبلته الحقيقية المعنوية.
ثم لما أمره سبحانه بتوجهها واستقبالها وهو في الصلاة إلى القبلة التيكان عليها قبل الأمر وتحول نحوها فيها، أخذ المنافقون في الغيبة، واشتغلوا بالنفاق، ونسبوه إلى ما هو منزه عنه، وانتهزوا واغتنموا الفرصة لمقابلته وصمموا العزم بمجادلته، أراد سبحانه أن ينبه بما هم عليه من النفاق والشقاق في أمر القبلة على وجه الإخبار، فقال: { سيقول السفهآء } المعزولون عن مقتضى العقل الخيري، المتشعب من العقل الكلي، المتفرع على اسم العليم: { من الناس } المحجوبين بظلمة التعينات عن نور الوجود قولا ناشئا عن محض الغفلة والسفاهة على سبيل الاستهزاء، وهو قولهم: { ما ولهم } حولهم وصرفهم؛ أي: المؤمنين { عن قبلتهم التي كانوا عليها } ومن قبل مع أنها قبلة من يدعون الانتساب إليهم والاقتداء بملتهم؟
অজানা পৃষ্ঠা