الشعر منافية للحكمة الإلاهية، فإن القرآن هو مَقَرُّ الصدق، ومَعْدِنُ الحق.
وقصوى الشاعر تصوير الباطل في صورة الحق، وتجاوز الحد في المدح والذم دون استعمال الحق في تحري الصادق، حتى إن الشاعر لا يقول الصدق ولا يتحرى الحق إلا بالعرض.
ولهذا يقال: من كانت قوته الخيالية فيه أكثر كان على قرض الشعر أقدر، ومن كانت قوته العاقلة فيه أكثر فيه كان في قرضه أقصر.
ولأجل كون الشعر مقر الكذب، نزه الله نبيه ﵊ عنه لما كان مرشحًا لصدق المقال، وواسطة بين الله وبين العباد، فقال تعالى: ﴿وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنْبَغِي لَهُ﴾، فنفى ابتغاءه له.
وقال تعالى: ﴿وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ﴾ أي: ليس بقول كاذب.
ولم يعن أن ذلك ليس بشعر، فإن وزن الشعر أهر من أن يشتبه عليهم حتى يحتاج إلى أن ينفي عنه.
ولأجل شهرة الشعر بالكذب، سمي أصحاب البراهين الأقسية المؤدية في أكثر الأمر إلى البطلان والكذب شعري، وما وقع في القرآن من الألفاظ متزنة، فذلك بحسب ما يقع في الكلام على سبيل العرض بالانفاق، وقد تكلم الناس فيه.
وأما الإعجاز المتعلق بصرف الناس عن معارضته، فظاهر أيضًا إذا اعتبر، وذلك أنه ما من صناعة ولا فعله من الأفعال محمودة كانت أو مذمومة، إلا وبينها وبين قوم مناسبات خفية، واتفاقات الإهية بدلالة أن الواحد فالواحد يؤثر حرفة من الحرف فينشرح صدره بملابستها، وتطيعه قواه في مزاولتها فيقبلها باتساع قلب، ويتعاطاها بانشراح صدر.
وقد تضمن ذلك قوله تعالى: ﴿لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا﴾، وقول النبي ﷺ: " أعْملُوا فَكُلَّ مَّيَسًّر لما خلُقِ لَهُ "، فلما رؤي أهل البلاغة والخطابة الذين يهيمون في كل واد من المعاني بسلاطة ألسنتهم، وقد دعا الله جماعتهم إلى معارضة القرآن وأعجزهم عن الإتيان بمثله، وليس تهتز غرائزهم البتة للتصدي لمعارضته لم يخف على ذي لب أن صارفا إلهيًا يصرفهم عن ذلك وأي إعجاز أعظم من أن تكون كافة البلغاء مُخيرةً في الظاهر أن يعارضوه، ومُجْبَرةً في الباطن عن ذلك.
وما أليقهم بإنشاد ما قال أبو تمام:
فَإِنْ نَكُ أَهّمَلْنَا فَأَضْعِفْ بِسَعْينَا ...
وإَن نَكُ أُجْبِرنْاَ فَفيِم نُتَعْتِعُ
والله ولي التوفيق [والعصمة]
1 / 46