ولقد اعترفت البلاد المتقدمة علميا بهذه الحقيقة؛ لأنها لمستها عن قرب من خلال تجارب مباشرة أدى فيها التقدم العلمي والتكنولوجي إلى إثارة مشكلات أخلاقية لها خطورتها الكبرى، ونستطيع أن نضرب لذلك مثلا واحدا كان له بالفعل أصداء واسعة في تلك البلاد، هو حبوب منع الحمل؛ فقد ظهرت هذه الحبوب بوصفها مثلا واضحا لقدرة العلم على التدخل في مجرى الحوادث الطبيعية، وتنظيم حياة الإنسان، وتمكينه لأول مرة من أن يتحكم في نسله، وكان ذلك انتصارا علميا عظيما له تأثيره الهائل في جميع أرجاء العالم، ويكفي أنه أتاح لملايين الأسر ألا تنجب أطفالا غير مرغوب فيهم، بينما كانت نسبة كبيرة من الإنجاب - في كل التاريخ السابق للبشرية - لا ترجع إلى رغبة حقيقية في جلب أطفال جدد إلى العالم. ولكن هذا الانتصار العلمي الكبير - الذي حقق للإنسان السيطرة على عملية من أهم عملياته البيولوجية، وبدا أنه يبشر بعهد يتم فيه تنظيم النسل على مستوى عالمي مخطط - كانت له نتائج أخلاقية هائلة؛ ذلك لأنه أحدث انفصالا بين الجنس، من حيث هو ممارسة، وبين إنجاب الأطفال؛ أي إنه أصبح من الممكن أن يمارس الجنس دون خوف من الحمل. ونظرا إلى أن هذا الخوف كان - في كثير من المجتمعات البشرية - هو الدافع الحقيقي إلى التمسك بالعفة، فإن زواله كان يعني زوال سبب رئيسي للتمسك بالقيم الأخلاقية المتعلقة بالجنس. وهكذا اتسع نطاق الممارسات الجنسية الحرة - في المجتمعات الصناعية المتقدمة - على أوسع نطاق، لا سيما وأن الرقابة الأسرية القوية، والنوازع الدينية التي تميز المجتمعات الشرقية، كانت ضعيفة أو منعدمة في البلاد المتقدمة، وترتب على ذلك انهيار كثير من القيم الأخلاقية التقليدية، واختفاء الزواج بشكله القديم اختفاء شبه تام، وظهور أنواع من العلاقات الحرة التي كان من المستحيل أن تنتشر من قبل، وما هذا إلا مثل واحد للتغييرات الأخلاقية الأساسية التي يمكن أن تترتب على الكشوف العلمية الحديثة.
وطبيعي أن يؤدي هذا المثل وغيره إلى إثارة مشكلة «مسئولية العالم» في العصر الحاضر؛ ذلك لأن العالم كان تقليديا يقوم بالبحث النظري أو التطبيقي وليس في ذهنه إلا هدف واحد، هو إنجاز ما بدأ، ولكن الوعي المتزايد بالنتائج الأخلاقية والاجتماعية التي يمكن أن تترتب على كثير من الكشوف العلمية في هذا العصر، جعل من الضروري أن تضاف إلى أعباء العالم مهمة أخرى، هي أن «يفكر» في تلك النتائج قبل وأثناء قيامه ببحثه، وربما أن يمتنع أصلا عن مواصلة البحث إذا أيقن بأن نتائجه ستكون وخيمة.
ولقد تفاوتت الآراء في مشكلة «مسئولية العالم»، فهناك من يضيقون تلك المسئولية إلى الحد الأدنى، فيرون أنها تقف عند حدود معمله أو مختبره، وأن العالم لا شأن له بما يحدث خارج هذه الحدود، وهناك من يوسعون هذه المسئولية إلى أقصى حد، فيؤكدون أنها تمتد في عصرنا الحاضر إلى المجتمع بأسره، ولكل من الفريقين - وكذلك لمن يقفون موقفا وسطا بينهما - حججه التي يدعم بها موقفه، ومن الواضح أننا ميالون إلى تأكيد مسئولية العالم، وأننا نصفق بحماسة حين نجد عالما كبيرا يخرج من إطار عمله العلمي الخالص لكي ينبه الرأي العام في العالم إلى خطر يوشك أن يحدثه العلم، أو حماقة تنزلق إليها البشرية نتيجة للتقدم التكنولوجي، ولكن المسألة ليست دائما بهذه البساطة.
فهناك حالات لا يستطيع المرء أن يكون فيها على يقين من أن تدخل العلماء في اتخاذ القرارات الكبرى المتعلقة بمصير المجتمع لا بد أن يكون خيرا على الدوام، وهناك دول تولي علماءها وخبراءها ثقة زائدة، وتوكل إليهم أمورها، فلا تجد النتيجة مشجعة على الدوام، وقد ظهر ذلك بوضوح في عصرنا الحاضر في الحملة على ما يسمى «بالتكنوقراطية»، ولفظ «التكنوقراطية» يعبر عن نوع من أنواع الحكم كالديمقراطية التي تعني حكومة الشعب أو الأغلبية، والأرستقراطية التي تعني حكومة الأقلية، أما التكنوقراطية فهي حكومة الفنيين الأخصائيين، أو هي بمعنى أوسع سيطرة هؤلاء الفنيين وتحكمهم في اتخاذ القرارات الكبرى في المجتمع، هذا النوع من السيطرة ثبت بالتجربة أنه لم يكن خيرا على الدوام.
ذلك لأنه قد تبين أن هذا التكنوقراطي - الذي هو في الأغلب عالم متخصص أو خبير ذو تجربة واسعة - ينظر إلى الأمور بمنظور أضيق مما ينبغي، ينحصر في إطار اختصاصه وحده، وقد يكون ذلك مفيدا، بل هو بلا شك ضروري في المسائل المتخصصة التي لا تمس إلا نطاقا ضيقا من مصالح الناس. أما في المسائل المصيرية المتعلقة بمصالح المجتمع ككل، فإننا كثيرا ما نجد التكنوقراطيين عاجزين عن تأمل الأمور من منظور شامل ؛ لأن مهمتهم تغلب عليهم ، ونظرتهم العلمية المتخصصة تحجب عنهم رؤية الحقائق الكبرى للمجتمع العريض، ومن هنا فإن هؤلاء التكنوقراطيين كثيرا ما يتخذون قرارات ضيقة الأفق، وكثيرا ما يجد المجتمع نفسه مضطرا إلى اللجوء إلى «السياسيين» غير المتخصصين؛ لكي يصلحوا ما أفسده العلماء الحاكمون، ولكنه يتميز عنهم - على الأقل - بشمول النظرة، وبالإحساس بنبض الجماهير ومعرفة وقع القرارات الحاسمة عليها.
وبطبيعة الحال فإن الوضع الأمثل هو أن يكون العالم ذا وعي سياسي في الوقت نفسه، وهذا أمر يتحقق بالفعل لدى عدد من العلماء الكبار الذين يفخر بهم عصرنا هذا، والذين لم يمنعهم عملهم العلمي الشاق، وانهماكهم في كشوفهم الحاسمة، من أن يمتدوا بنظرهم بحيث تتسع لمشاكل العالم الكبرى، وتدرك وضع الإنسان في المجتمع المعاصر، وتنفذ إلى الأسباب العميقة للأزمات التي يعانيها، وإلى الحلول الفعالة لهذه الأزمات. ولكن أمثال هؤلاء العلماء قلة، والغالبية الساحقة تنشغل بعملها العلمي إلى الحد الذي يحجب عنها رؤية كثير من حقائق العالم المحيط بها. ومن الصعب أن يعيب المرء على هذه الغالبية قصور نظرتها في الأمور المتعلقة بالسياسة والأوضاع الاجتماعية ومشكلات الإنسان؛ إذ إن العمل العلمي يزداد تعقيدا على الدوام، ومن الطبيعي أن يكون في المشكلات المهنية الخاصة ما يشغل العالم بما فيه الكفاية.
ومع ذلك كله فإن العالم - في عصرنا الحاضر - ينبغي أن يكون لديه حد أدنى من الوعي بالنتائج المترتبة على عمله العلمي، وهذا يرجع إلى أن طبيعة العلم ذاتها قد أصبحت تقتضي ذلك. فحين تتغير وظيفة العلم من نشاط لا يؤثر إلا تأثيرا محدودا إلى نشاط مصيري يمتد تأثيره إلى كافة جوانب الحياة البشرية؛ يكون من الطبيعي أن تتغير نظرة المشتغل به من الإطار المهني الضيق إلى الميدان الإنساني الشامل.
ولو تأملنا العالم المحيط بنا لوجدنا أن الظروف الواقعية ذاتها - في هذا العالم - تحتم وجود تداخل وثيق بين العلم والسياسة، مفهومة بأوسع معانيها؛ أي بمعنى التنظيم الشامل لأوضاع المجتمعات البشرية، فلم يعد في استطاعة العالم أن يمضي في حياته العلمية مستقلا، ويبحث المشاكل التي تهمه أو يريد كشفها، بل إنه أصبح - كما قلنا من قبل - مرتبطا على الدوام بمؤسسات أكبر منه، هي التي تقدم إليه الإمكانات، وتزوده بالأدوات المعقدة المكلفة التي أصبحت شرطا أساسيا للبحث العلمي في العصر الحاضر، وينطبق هذا على مختلف أنظمة الحكم القائمة في العالم؛ ففي البلاد الاشتراكية يرتبط البحث العلمي بخطة الدولة، وهي خطة سياسية في المحل الأول، تحدد للعلماء مجالات البحث المطلوبة، ومقدار التمويل والتسهيلات التي ستقدمها الدولة إليها، وفي البلاد الرأسمالية يشتغل عدد كبير من العلماء في مؤسسات ذات أهداف تجارية مباشرة، وحتى العاملون في الجامعات يقومون بكثير من مشروعاتهم لصالح هذه المؤسسات. بل إن المرتبات التي يحصل عليها علماء الجامعات ومعاهد البحث يأتي جزء كبير منها من مساهمات المؤسسات الصناعية والتجارية في ميزانيات الجامعات والمعاهد. ومن الطبيعي أن تفرض هذه المؤسسات اهتماماتها الخاصة على مجالات البحث، فضلا عن أنها لا تود أن يخرج المشتغلون بالعلم عن إطار السياسة العامة التي تحافظ على مصالح هذه المؤسسات. وإذا كان يبدو أن تحكم «الخطة» التي تضعها الدولة في النظام الاشتراكي هو الأقوى، فإن حقيقة الأمر هي أن المؤسسات ذات الأغراض التجارية تحل محل الدولة في رسم السياسة المطلوبة للبحث العلمي في المجتمعات الرأسمالية؛ لأنها تمول نسبة كبيرة من مشروعات البحث العلمي عن طريق التبرع بأموال طائلة تخصم من الضرائب المستحقة عليها، وبذلك تضمن سيطرتها دون أن تخسر شيئا وتضمن في الوقت نفسه استمرار المبادئ العامة التي تتمشى مع مصالحها.
ولكن بالرغم من أن الاعتبارات السياسية تتحكم في العلم الحالي إلى هذا الحد، فإن كثيرا من المجتمعات تطالب العلماء بألا يتدخلوا في السياسة، وتضع كثير من المؤسسات والجمعيات العلمية هذا الشرط على كل عالم مشتغل بها، فالمطلوب من العلم أن يكون طاقة للمعرفة، تعمل جهات أخرى على توجيهها وتحديد الأهداف الاجتماعية التي ستخدمها، وإذا شاء العالم أن يعبر عن آرائه السياسية والاجتماعية، فعليه أن يفعل ذلك بوصفه مواطنا عاديا لا بوصفه عالما، وهذا هو الشرط الأساسي «لموضوعية» العالم كما تفهمها مجتمعات كثيرة ، وهذا أمر مؤسف؛ لأن معناه هو أننا نعمل منذ البداية على استبعاد المنهج العلمي من بحث الموضوعات التي تمس صميم حياة الإنسان، أعني الموضوعات السياسية والاجتماعية والأخلاقية. مع أن هذه الموضوعات قد تكون في أمس الحاجة إلى أن تبحث بالأساليب الفكرية السليمة، فحين نعالج هذه الموضوعات متوخين أن نبحث عن الأدلة النزيهة في كل حالة، ونبتعد عن أساليب الديماغوجية والتهويش، وحين نفكر في سياستنا وشئون مجتمعنا تفكيرا يخلو من الانفعالية ولا يعترف إلا بالحجة المنطقية، وحين نختبر النظريات التي تنظم وفقا لها حياتنا الاجتماعية عن طريق التطبيق، كما يفعل العالم في تجاربه المعملية، وحين نبحث عن العلاقات السببية الحقيقية الظواهر الاجتماعية، حين نفعل ذلك كله فنحن - بغير شك - نسدي خدمة جليلة إلى قضايا الإنسان المصيرية في مجمعاتنا، وفي هذه الحالة يكون العلم قد أثبت وجوده في المجال السياسي والاجتماعي، مما يبدد تلقائيا تهريج المشعوذين والأفاقين الذين يتحكمون في هذا المجال الحاسم بأساليب لا تمت إلى العلم أو التفكير السليم بأية صلة.
ولكن المهم في هذه الحالة هو أن يكون العلم نزيها بحق، وأن تعطى له فرصة التعبير عن نفسه دون ضغط أو تأثير، وهو على أية حال شرط يصعب إلى حد بعيد تحقيقه في معظم المجتمعات المعاصرة. (3) ثقافة العالم
অজানা পৃষ্ঠা