ومع ذلك فإن احتمال توصل الإنسان إلى نوع من التنظيم الاجتماعي الذي يجعله أهلا لمواجهة عصر التحكم في القدرات البشرية هذا، يبدو أضعف من احتمال وصول العلم إلى هذا العصر ذاته، وتلك ظاهرة تبدو محيرة بحق؛ إذ إن تغيير التنظيمات الاجتماعية والسياسية أمر يدخل في نطاق قدرتنا، ولا يتضمن عناصر خفية أو مجهولة أو مستحيلة التحقيق، على حين أن الوصول بالكشف العلمي إلى غايته ينطوي على قدر كبير من الصعوبة، ويدخل جزء كبير منه في باب المجهول الذي لم تتحدد معالمه بعد، ولكن طغيان المصالح وسيطرة الأنانية يجعل التغيير الواقع في نطاق سيطرتنا أصعب وأبعد منالا من ذلك الذي يخرج عن هذا النطاق.
وعلى أية حال فإن المستقبل يحمل في طياته مفاجآت كثيرة في هذا الميدان، لا تقل عن تلك التي حملها إلينا العلم في ميدان الفضاء خلال الأعوام العشرين الماضية، والمأمول أن يثبت العقل البشري أنه قد بلغ من النضج ما يسمح له بالتحكم في ذاته بنفس الكفاءة التي تحكم بها في العالم المحيط به. (2-5) مشكلة التسلح
هي بغير شك أخطر المشكلات التي يواجهنا بها العلم المعاصر، وهي التي يتوقف عليها حل كثير من المشكلات التي عرضناها من قبل إن لم يكن جميعها، وهي تتميز بطابع فريد عن غيرها من المشكلات التي تواجهها الإنسانية؛ إذ إنها «مصيرية» بكل ما تحمله هذه الكلمة من معنى؛ لأن من طبيعة الأسلحة المعاصرة أنها قادرة على إفناء العالم كله - حقيقة لا مجازا - في لحظات.
ولقد كان الوضع الطبيعي والمعقول هو أن يرتبط العلم بالسلم لا بالحرب؛ إذ إن العلم نتاج العقل، والعقل لا يعترف بلغة العنف في فض المنازعات، بل يحكم المنطق السليم في أي خلاف، وكان هذا بالفعل ما تصوره المفكرون الفلاسفة في عصر التفاؤل والاستنارة الفكرية في القرن الثامن عشر، حين أكد العقل - من خلال العلم - انتصاره على الخرافة والتعصب وضيق الأفق، فقد كان الحلم الذي يراودهم - وعلى رأسهم الفيلسوف الألماني الكبير إيمانويل كانت - هو أن يؤدي انتشار العلم إلى إقرار «سلام دائم»؛ وذلك على أساس أن المعقولية التي يشيعها العلم لا بد أن تؤدي بالإنسان إلى نبذ الحرب من حيث هي وسيلة لفض النزاعات، والاحتكام إلى العقل القادر على إيجاد وسيلة سلمية لحل كل خلاف.
ولكن هؤلاء الفلاسفة كانوا - بغير شك - متفائلين إلى حد السذاجة، ومن الممكن التفكير في أسباب كثيرة ربما كانت هي التي أدت بهم إلى الوقوع في هذا الخطأ، فربما كانوا مخطئين حين تصوروا أن العقل - في حالة العلم - هو وحده يتحكم فيما ينتجه، وتجاهلوا بذلك عنصر المصالح والأحقاد والأطماع، وتدخل الحكام - من غير العلماء - في احتمال استخدام العقل من أجل نشر الجنون، واستغلال العلم - وهو أعظم أداة في يد العقل لإعلاء الحياة - من أجل الخراب والموت، إذ كان هذا الاحتمال هو الذي تحقق بالفعل طوال الجزء الأكبر من تاريخ البشرية.
فقد ارتبط العلم بالحرب منذ أقدم العصور؛ إذ كانت عبقرية العلماء تستخدم في زيادة قدرة الإنسان على القتال والقضاء على الخصوم، بقدر ما كانت تستخدم في فهم قوانين الطبيعة. ومنذ عهد «أرشميدس» نجد العلم يتجه إلى خدمة الأغراض العسكرية، بل يبدو أن استخدامه في الحرب كان يفوق في أهميته - في كثير من الأحيان - استخدامه في السلم؛ فمن المعروف - على سبيل المثال - أن عالما كبيرا مثل «جاليليو» قد نال رضاء الحاكم عنه، لا لأنه اكتشف قانون القصور الذاتي أو قانون سقوط الأجسام أو صحح معلوماتنا الفلكية، بل لأنه أقنعه بأن كشوفه في الميكانيكا وعلم المقذوفات قادرة على تحسين الأسلحة وزيادة دقة تصويبها إلى حد بعيد، ويكاد يكون من المؤكد أن أبحاثه في ميدان الأسلحة هي التي أتاحت له فرصة القيام بأبحاثه الأخرى - الأهم بكثير - في ميدان الطبيعة والفلك، وقد حدث ذلك من قبل لعبقري النهضة الإيطالية ليوناردو دافنشي، ولعدد كبير من العلماء فيما بعد.
بل إن كثيرا من الكشوف العلمية السلمية قد ظهرت «في ظل» أبحاث ذات أهداف حربية، مما دفع بالكثيرين إلى القول بأن العبقرية البشرية تتجلى في الميادين العسكرية أكثر مما تجلى في الميادين السلمية، وأن الإنسان أقدر على استخدام العلم من أجل الموت منه على استخدامه لخدمة الحياة. ولكن حقيقة الأمر بالإنسان أن التطور السريع للبحث العلمي أيام الحرب يرجع إلى عوامل من بينها الإحساس وتركيزه لقواه البشرية وموارده المادية في سبل إيجاد حل سريع للمشكلات التي تعترض جهده الحربي، وكل هذه عوامل لا وجود لها في فترات السلم.
على أنه مهما كانت طبيعة العلاقة بين الكشوف السلمية والكشوف الحربية في القرون الماضية، فإن تطورا هاما وحاسما قد طرأ على هذه العلاقة في القرن العشرين، الذي بدأه الإنسان وما زال للخيل والفرسان دور في حروبه، وانتهى به الأمر - في عصرنا الحاضر - إلى حرب الأزرار الإلكترونية والصواريخ العابرة للقارات وأشعة الليزر والقذائف النووية. ففي القرن العشرين قفزت أداة الحرب ووسائل القتل والدمار قفزة هائلة إلى الأمام، وبقدر ما نجح العلم في إطالة عمر الإنسان عن طريق كشوفه الطبية والبيولوجية، وفي تحقيق الرخاء والرفاه لحياته عن طريق المخترعات التكنولوجية، نجح أيضا (إن كان اسم «النجاح» يصلح للانطباق على هذه الحالة) في اختراع أفتك وأشرس أدوات القتل الجماعي ونشر البؤس والتعاسة بين البشر.
ولقد كان الارتباط بين العلم وبين تطوير الأسلحة من الوثوق إلى حد أن أطلق البعض على الحرب العالمية الأولى اسم حرب الكيميائيين (إشارة إلى دور الكيمياء في صناعة المتفجرات وتطوير الوقود ثم الغازات السامة في هذه الحرب)، وعلى الحرب العالمية الثانية اسم حرب الفيزيائيين (إشارة إلى دور الفيزياء في صنع القنبلة الذرية والرادار وغيرهما). أما الحرب الثالثة فستكون - إذا وقعت - حرب علماء الصواريخ والفضاء والإلكترونيات؛ أي إن دور العلماء في هذه الحروب يفوق في أهميته دور الجيوش المحاربة، بل أصبح العلم متغلغلا في عمل الجندي المحارب ذاته.
وليس من السهل أن يحدد المرء النقطة التي بدأ عندها التحول من أسلحة الدمار المحدود إلى أسلحة الدمار الشامل. إن الحرب العالمية الثانية - التي استخدمت في جميع جبهاتها (باستثناء المرحلة الأخيرة من جبهة الشرق الأقصى) أسلحة تقليدية - أدت إلى قتل عشرات الملايين من العسكريين والمدنيين، منهم ثلاثون مليونا من الاتحاد السوفيتي وحده. ولكن من المؤكد أن اختراع القنبلة الذرية واستخدامها في هيروشيما ثم نجازاكي في أغسطس 1945 يمثل نقطة تحول حاسمة في تاريخ التسلح المرتكز على كشوف علمية.
অজানা পৃষ্ঠা