Von Braun
الذي أصبح له بعد ذلك شأن هام في برنامج الفضاء الأمريكي.
ومن المؤسف أن البداية الحقيقة لهذا الإنجاز التكنولوجي الهام كانت بداية حربية، كما أن أهم تطوراته اللاحقة كانت متعلقة بالأغراض العسكرية؛ فقد أدرك الاتحاد السوفيتي أهمية هذا الكشف الجديد، وسار في أبحاثه بطريقة مستقلة، وكانت لديه دوافع قوية للإسراع في هذه الأبحاث؛ إذ كانت الاستراتيجية الأمريكية في فترة الحرب الباردة تعتمد على تطويق الاتحاد السوفيتي بسلسلة من القواعد العسكرية القريبة من حدوده، والتي تجعل الأراضي السوفيتية كلها في متناول الطائرات الأمريكية، بينما الأرض الأمريكية بعيدة تماما عن كل أسلحته المعروفة حتى ذلك الحين، ومن هنا فقد كان من أهم أهداف برنامج الصواريخ السوفيتية التخلص من عملية التطويق هذه، والاهتداء إلى وسيلة توصل التهديد أو الرد على التهديد إلى قلب الأراضي الأمريكية من وراء ظهر القواعد التي تطوقه.
وهكذا كان الاتحاد السوفيتي هو الذي افتتح عصر السفن الفضائية التي تطلقها صواريخ قوية من قواعد أرضية؛ لتدور حول الأرض بسرعة لم تألفها البشرية من قبل، أو لتستكشف الفضاء البعيد عن الأرض بفضل السرعة التي تتيح لها الإفلات من الجاذبية الأرضية. ولقد كان إطلاق القمر الصناعي السوفيتي الأول، «سبوتنيك 1» في 4 أكتوبر 1957 جزءا من برنامج علمي دولي كانت بلاد كثيرة تعد أنفسها للإسهام فيه منذ وقت طويل، هو برنامج «السنة الجيوفيزيقية الدولية» التي اختير لها عام 1957، وكان إطلاق القمر الصناعي هذا بالفعل أبرز أحداث هذا البرنامج العلمي، ولكن المغزى العسكري لهذا الحدث الهام لم يغب عن أحد؛ إذ كان معناه أن قوة دفع هائلة جديدة قد اكتشفت، وأن في استطاعة الصاروخ - الذي يدفع القمر الصناعي في مدار حول الأرض - أن يحمل سلاحا نوويا ويعبر به القارات؛ ليصيب أي مكان على سطح الأرض، مما كان يعني ضرورة إدخال تغيير حاسم على استراتيجية الدول الكبرى.
ولقد كانت الولايات المتحدة هي ثالثة الدول في ترتيب الدخول في عصر الصواريخ، وكان للعلماء النازيين - الذين آثروا أن يستأنفوا نشاطهم في الولايات المتحدة ومنهم فون براون نفسه - دور عظيم الأهمية في تعويض التخلف الذي كان يبدو - في أول سنوات عصر الفضاء - أن الولايات المتحدة تعاني منه، وسرعان ما وضع - منذ عهد الرئيس كيندي - برنامج طموح هدفه إنزال أول إنسان على القمر في عام 1969، وبالفعل نفذ هذا البرنامج بدقة، وأسفر عن هذا الإنجاز الرائع الذي يراه البعض أعظم الإنجازات العلمية في القرن العشرين، وهو سير رائد الفضاء الأمريكي «نيل أرمسترونج» على القمر في نفس الموعد المحدد في ذلك البرنامج.
وخلال ذلك كله كانت أهداف برامج الفضاء تتفاوت بين الأغراض العلمية كاستكشاف الموارد الأرضية أو التنبؤ بالأحوال الجوية، والأغراض الإعلامية كأقمار الاتصالات التليفزيونية، والأغراض العسكرية كأقمار التجسس، ولكن الأمر المؤكد هو أن نقطة البداية في برامج الدولتين الكبيرتين كانت عسكرية، وإن كانت الأهداف العلمية قد أخذت تكتسب أهمية متزايدة، بل لقد بدا في وقت من الأوقات أن هناك اندماجا بين هذه الأهداف كلها؛ إذ إن العودة بعينات من صخور القمر أو إجراء تجارب على سطح المريخ، هي حقا أغراض علمية في المحل الأول، ولكنها تعطي الدولة التي تحققها مكانة وهيبة، وتنبئ بارتفاع مستواها التكنولوجي إلى الحد الذي يخدم أغراضها الاستراتيجية خدمة كبرى.
ومع ذلك فالأمر المؤكد هو أن هذا الإنجاز التكنولوجي العظيم - الذي بدأ مستهدفا أغراضا عسكرية في المحل الأول - ستكون له في المستقبل نتائج علمية بالغة الأهمية، بل إن البعض يربط بين مستقبل البشرية وبين غزو الفضاء؛ إذ إن أرضنا هذه بدأت تضيق بمن عليها، وقد لا يكون من محض المصادفات أن يبدأ عصر الفضاء في نفس الوقت الذي أخذت البشرية تحس فيه بالخطر من نفاد موارد الأرض. وباقتراب الوقت الذي يتعين فيه على الإنسان أن يتخذ قرارات حاسمة بشأن التزايد السكاني المخيف، فمن الجائز أن يكون غزو الفضاء هو الحل الأمثل لهذه المشكلات، ومن الجائز أن يكون اتفاق التوقيت هذا مثلا آخر من أمثلة تلك القدرة العجيبة التي يستطيع بها العقل الإنساني أن يهتدي إلى حل لمشكلاته في اللحظة المناسبة.
وعلى أية حال فإن من يعتقد أن في هذا إسرافا في الخيال، عليه أن يتذكر أننا ما زلنا في المراحل الأولى لعصر استكشاف الفضاء؛ فعمر هذا العصر بكل إنجازاته لم يصل - حتى كتابة هذه السطور - إلى عشرين عاما بعد، والفترة التي انقضت منذ «سبوتنيك» السوفيتي الذي لم يكن وزنه يزيد عن ثلاثين رطلا حتى إرسال رجلين إلى القمر، ومعهما ثالث في السفينة الأم التي تزن عدة أطنان؛ لم تزد عن اثني عشر عاما، فإذا كان هذا التطور الهائل قد تحقق في تلك الفترة الوجيزة، فهل يستطيع أحد أن يتخيل ما يمكن أن يتم إنجازه بعد مائة عام أو بعد خمسمائة عام، مع ملاحظة الزيادة المطردة في معدل التقدم؟ وهل يكون من الخيال المسرف أن نتخيل مستعمرات بشرية في كواكب بعيدة وسفن فضاء تستكشف أبعد أطراف المجموعة الشمسية، ومحاولات للخروج من هذه المجموعة إلى النجوم البعيدة، بل محاولات للخروج من «المجرة» التي ننتمي إليها إلى مجرات أخرى؟
وبطبيعة الحال فإن المسافات الهائلة التي ينبغي عبورها في هذه المحاولات تكاد تجعل من المستحيل علينا - في ضوء معرفتنا الحالية - أن نتصور كيف يستطيع الإنسان أن يقضي مئات السنين في سفينة فضائية تسير به نحو نجم يبعد عنا مسافة تقدر بالسنين الضوئية، ولكن من المؤكد أن سرعات السفن الفضائية ستزداد دواما، بل إن البعض لا يستبعد مجيء يوم تقترب فيه هذه السفن من سرعة الضوء، وحتى لو تحقق هذا فستظل هناك مشكلات لا حصر لها متعلقة بكميات الغذاء والهواء اللازمة لهذه الرحلات التي تدوم قرونا، ومتعلقة بعمر الإنسان الذي لا يتجاوز حتى الآن القرن الواحد على أحسن الفروض.
ولكن لنذكر مرة أخرى ما حققه عصر الفضاء خلال عشرين عاما فقط، ولنتصور أن البشرية لن تحاول الانتحار عن طريق حرب عالمية ثالثة ، وأنها ستظل تتقدم بمعدل يزداد سرعة باطراد طوال قرن آخر أو عدة قرون أخرى، فهل ستكون هذه الأحلام عندئذ بعيدة عن التحقيق؟ إن الكلام عن الصعود إلى القمر كان يعد - منذ ربع قرن فقط - ضربا من الجنون، أو من الخيال الشعري (والأمران كما نعلم متقاربان) فهل نستكثر على إنسان القمر الحادي والعشرين أو الثاني والعشرين أن يصل إلى آفاق الكون البعيدة؟
অজানা পৃষ্ঠা