مقدمة
1 - سمات التفكير العلمي
2 - عقبات في طريق التفكير العلمي
3 - المعالم الكبرى في طريق العلم
4 - العلم والتكنولوجيا
5 - لمحة عن العلم المعاصر
6 - الأبعاد الاجتماعية للعلم المعاصر
7 - شخصية العالم
خاتمة
الهوامش
مراجع
مقدمة
1 - سمات التفكير العلمي
2 - عقبات في طريق التفكير العلمي
3 - المعالم الكبرى في طريق العلم
4 - العلم والتكنولوجيا
5 - لمحة عن العلم المعاصر
6 - الأبعاد الاجتماعية للعلم المعاصر
7 - شخصية العالم
خاتمة
الهوامش
مراجع
التفكير العلمي
التفكير العلمي
تأليف
فؤاد زكريا
مقدمة
ليس التفكير العلمي هو تفكير العلماء بالضرورة؛ فالعالم يفكر في مشكلة متخصصة - هي في أغلب الأحيان منتمية إلى ميدان لا يستطيع غير المتخصص أن يخوضه، بل قد لا يعرف في بعض الحالات أنه موجود أصلا - وهو يستخدم في تفكيره وفي التعبير عنه لغة متخصصة يستطيع أن يتداولها مع غيره من العلماء، هي لغة اصطلاحات ورموز متعارف عليها بينهم، وإن تكن مختلفة كل الاختلاف عن تلك اللغة التي يستخدمها الناس في حديثهم ومعاملاتهم المألوفة. وتفكير العالم يرتكز على حصيلة ضخمة من المعلومات، بل إنه يفترض مقدما كل ما توصلت إليه البشرية طوال تاريخها الماضي في ذلك الميدان المعين من ميادين العلم.
أما التفكير العملي الذي نقصده فلا ينصب على مشكلة متخصصة بعينها، أو حتى على مجموعة المشكلات المحددة التي يعالجها العلماء، ولا يفترض معرفة بلغة علمية أو رموز رياضية خاصة، ولا يقتضي أن يكون ذهن المرء محتشدا بالمعلومات العلمية أو مدربا على البحث المؤدي إلى حل مشكلات العالم الطبيعي أو الإنساني، بل إن ما نود أن نتحدث عنه إنما هو ذلك النوع من التفكير المنظم، الذي يمكن أن نستخدمه في شئون حياتنا اليومية، أو في النشاط الذي نبذله حين نمارس أعمالنا المهنية المعتادة، أو في علاقاتنا مع الناس ومع العالم المحيط بنا. وكل ما يشترط في هذا التفكير هو أن يكون منظما، وأن يبنى على مجموعة من المبادئ التي نطبقها في كل لحظة دون أن نشعر بها شعورا واعيا، مثل مبدأ استحالة تأكيد الشيء ونقيضه في آن واحد، والمبدأ القائل أن لكل حادث سببا، وأن من المحال أن يحدث شيء من لا شيء.
هذا النوع من التفكير هو ذلك الذي يتبقى في أذهاننا من حصيلة ذلك العمل الشاق الذي قام به العلماء - وما زالوا يقومون به - من أجل اكتساب المعرفة والتوصل إلى حقائق الأشياء؛ فبناء العلم يعلو طابقا فوق طابق، وكل عالم يضيف إليه لبنة صغيرة، وربما اكتفى بإصلاح وضع لبنة سابقة أضافها إليه غيره من قبل، ولكن الأغلبية الساحقة من البشر لا تعرف تفاصيل ذلك البناء، ولا تعلم الكثير عن تلك الجهود المضنية التي بذلت حتى وصل إلى ارتفاعه هذا، وهي تكتفي بأن تستخدمه وتنتفع منه، دون أن تعرف إلا أقل القليل عن الطرق المستخدمة في تشييده، وهذا أمر طبيعي لأن العلم قد تحول - على مر العصور - إلى نشاط يزداد تخصصا بالتدريج ولا تقدر على استيعابه إلا فئة من البشر أعدت نفسها له إعدادا شاقا ومعقدا. ولكن هل يعني ذلك أن جمهرة الناس لم تتأثر بشيء مما زودها به العلم فيما عدا تطبيقاته؟ وهل يعني أن العلم لم يترك أثرا في أية عقول فيما عدا عقول العلماء المشتغلين به؟ الواقع أن العلم - وإن كانت تفاصيله وأساليبه الفنية مجهولة لدى أغلبية البشر - قد ترك في عقول الناس آثارا لا تمحى، أعني أساليب معينة في التفكير لم تكن ميسورة للناس قبل ظهور عصر العلم، وكانت في المراحل الأولى من ذلك العمر مختلطة بأساليب أخرى مضطربة مشوشة وقفت حائلا دون نمو العقل الإنساني وبلوغه مرحلة النضج والوعي السليم.
وهذه الأساليب التي تركها العلم في العقول - حتى لو لم تكن قد اشتغلت به أو أسهمت بصورة مباشرة في تقدمه - هي ذلك النوع من التفكير العلمي الذي نود هنا أن ندرسه؛ فبعد أن يقدم العلماء إنجازاتهم قد لا يفهم هذه الإنجازات حق الفهم ويشارك في استيعابها ونقدها إلا قلة ضئيلة من المتخصصين، ولكن «شيئا ما» يظل باقيا من هذه الإنجازات لدى الآخرين، أعني طريقة معينة في النظر إلى الأمور، وأسلوبا خاصا في معالجة المشكلات، وهذا الأثر الباقي هو تلك «العقلية العلمية» التي يمكن أن يتصف بها الإنسان العادي، حتى لو لم يكن يعرف نظرية علمية واحدة معرفة كاملة، ولو لم يكن قد درس مقررا علميا واحدا طوال حياته. إنها تلك العقلية المنظمة التي تسعى إلى التحرر من مخلفات عصور الجهل والخرافة، والتي أصبحت سمة مميزة للمجتمعات التي صار للعلم فيها «تراث» يترك بصماته على عقول الناس.
موضوعنا إذن هو التفكير العلمي أو العقلية العلمية بهذا المعنى الواسع، لا بمعنى تفكير العلماء وحدهم، على أننا لن نتمكن من إلقاء الضوء على هذه الطريقة العلمية في التفكير إلا إذا ألممنا بشيء عن أسلوب تفكير العلماء الذي انبثقت منه تلك العقلية العلمية في مجتمعاتهم. فتفكير العلماء هو مصدر الضوء، ومن هذا المصدر تنتشر الإشعاعات في شتى الاتجاهات، وتزداد خفوتا كلما تباعدت، ولكنها تضيء مساحة أكبر في عقول الناس العاديين كلما كان المنبر الأصلي أشد نصاعة ولمعانا، ومن هنا كان لزاما علينا أن نعود - من حين لآخر - إلى الطريقة التي يفكر بها مبدعو العلم، لا في تفاصيلها الفنية المتخصصة، بل في مبادئها واتجاهاتها العامة التي هي الأقوى تأثيرا في تفكير الناس العاديين.
وفي اعتقادي أن موضوع التفكير العلمي هو موضوع الساعة في العالم العربي؛ ففي الوقت الذي أفلح فيه العالم المتقدم - بغض النظر عن أنظمته الاجتماعية - في تكوين تراث علمي راسخ امتد - في العصر الحديث - طوال أربعة قرون، وأصبح يمثل في حياة هذه المجتمعات اتجاها ثابتا يستحيل العدول عنه أو الرجوع فيه. في هذا الوقت ذاته يخوض المفكرون في عالمنا العربي معركة ضارية في سبيل إقرار أبسط مبادئ التفكير العلمي، ويبدو حتى اليوم - ونحن نمضي قدما إلى السنوات الأخيرة من القرن العشرين - أن نتيجة هذه المعركة ما زالت على كفة الميزان، بل قد يخيل إلى المرء في ساعات تشاؤم معينة أن احتمال الانتصار فيها أضعف من احتمال الهزيمة.
وفي هذا المضمار لا أملك إلا أن أشير إلى أمرين يدخلان في باب العجائب حول موقفنا من العلم في الماضي والحاضر:
الأمر الأول: هو أننا - بعد أن بدأ تراثنا العلمي في العصر الذهبي للحضارة الإسلامية بداية قوية ناضجة سبقتنا بها النهضة الأوروبية الحديثة بقرون عديدة - ما زلنا إلى اليوم نتجادل حول أبسط مبادئ التفكير العلمي وبديهياته الأساسية، ولو كان خط التقدم ظل متصلا - منذ نهضتنا العلمية القديمة حتى اليوم - لكنا قد سبقنا العالم كله في هذا المضمار إلى حد يستحيل معه أن يلحق بنا الآخرون. ومع ذلك ففي الوقت الذي يصعدون فيه إلى القمر، نتجادل نحن عما إذا كانت للأشياء أسبابها المحددة وللطبيعة قوانينها الثابتة أم العكس.
وأما الأمر الثاني فهو أننا لا نكف عن الزهو بماضينا العلمي المجيد، ولكننا في حاضرنا نقاوم العلم أشد مقاومة. بل إن الأشخاص الذين يحرصون على تأكيد الدور الرائد الذي قام به العلماء المسلمون في العصر الزاهي للحضارة الإسلامية، هم أنفسهم الذين يحاربون التفكير العلمي في أيامنا هذه؛ ففي أغلب الأحيان تأتي الدعوة إلى الدفاع عن العناصر اللاعقلية في حياتنا، والهجوم على أية محاولة لإقرار أبسط أصول التفكير المنطقي والعلمي المنظم، وجعلها أساسا ثابتا من أسس حياتنا؛ تأتي هذه الدعوة من أولئك الأشخاص الذين يحرصون - في شتى المناسبات - على التفاخر أمام الغربيين بأن علماء المسلمين سبقوهم إلى كثير من أساليب التفكير والنظريات العلمية التي لم تعرفها أوروبا إلا في وقت متأخر، وما كان لها أن تتوصل إليها لولا الجهود الرائدة للعلم الإسلامي الذي تأثر به الأوروبيون تأثرا لا شك فيه.
ومن الجلي أن هذا الموقف يعبر عن تناقض صارخ؛ إذ إن المفروض فيمن يزهو بإنجازاتنا العلمية الماضية أن يكون نصرا للعلم، داعيا إلى الأخذ بأسبابه في الحاضر؛ حتى تتاح لنا العودة إلى تلك القمة التي بلغناها في عصر مضى، أما أن نتفاخر بعلم قديم، ونستخف بالعلم الحديث أو نحاربه، فهذا أمر يبدو مستعصيا على الفهم.
وتفسير هذا التناقض يكمن - من وجهة نظري - في أحد أمرين؛ فمن الجائز أن أولئك الذين يفخرون بعلمنا القديم إنما يفعلون ذلك؛ لأنه «من صنعنا نحن»؛ أي إنهم يعربون بذلك عن نوع من الاعتزاز القومي ، ومن ثم فهم لا يأبهون بالعلم الحديث ما دام «من صنع الآخرين». ومن الجائز أيضا أن تأكيدهم لأمجاد العرب في ميدان العلم إنما يرجع إلى اعتزازهم «بالتراث» أيا كان ميدانه؛ ومن ثم فإن كل ما يخرج عن نطاق هذا التراث يستحق الإدانة أو الاستخفاف في نظرهم، وسواء أكان التعليل هو هذا أو ذاك، فإن الحلم الذي وصلنا إليه في الفترة الزاهية من الحضارة الإسلامية لا يمجد لأنه «علم» بل لأنه واحد من تلك العناصر التي تتيح للعرب أن يعتزوا بأنفسهم أو بتراثهم.
ولكننا إذا شئنا أن نكون متسقين مع أنفسنا، وإذا أردنا أن نتجاوز مرحلة اجترار الماضي والتغني بأمجاد الأجداد، وإذا شئنا ألا نبدو أمام العالم كما يبدو أولئك العاطلون الذين لا رصيد لهم من الدنيا سوى أن أجدادهم القدامى كانوا يحملون لقب «باشا» أو «لورد» أو «بارون»، فعلينا أن نحترم العلم في الحاضر مثلما احترمناه في الماضي، وأن نعترف بأن هذا الأسلوب في التفكير الذي كان مصدرا لاعتزازنا بأجدادنا في الماضي - أعني الأسلوب العلمي - ينبغي أن يكون هدفا من أهدافنا التي نحرص عليها في الحاضر بدوره، وأن المعركة التي يشنها الفكر المتخلف على كل من يدعو إلى المنهج العلمي في التفكير، ستقف عائقا في وجه جهودنا من أجل اللحاق بركب العصر، بل ستلقي ظلالا من الشك حول مدى إخلاصنا في التغني بأمجاد «ابن حيان» و«الخوارزمي» و«ابن الهيثم» و«البيروني»، الذين كانوا يقفون في الصف الأول من العقول التي تفكر بالأسلوب العلمي في عصورهم.
والحق أن أية محاولة لاعتراض طريق التفكير العلمي في عصرنا الحاضر إنما هي معركة خاسرة؛ فلم يعد للسؤال: هل نتبع طريق العلم أم لا؟ مجال في هذا العصر. بل إن الدول التي تحتل اليوم موقع الصدارة بين بلاد العالم قد حسمت هذا السؤال منذ أربعة قرون على الأقل، ولم تعد هذه المشكلة مطروحة أمامها منذ ذلك الحين. وصحيح أن طريق التفكير العلمي كان في بدايته شاقا، وأن المقاومة كانت عنيفة، والمعركة دامية سقط فيها شهداء كثيرون، ولكن العلم اكتسح أمامه كل عناصر المقاومة، وأصبحت القوى المعادية له والتي كانت في وقت من الأوقات تمسك بزمام السلطة في جميع الميادين؛ أصبحت هي التي تبحث لنفسها عن مكان في عالم يسوده العلم، ومنذ اللحظة التي بدأ فيها عدد محدود من العلماء يكتشفون حقائق جديدة عن الكون بأسلوب منطقي هادئ، وبناء على شواهد قاطعة وبراهين مقنعة لا سبيل إلى الشك فيها. منذ هذه اللحظة أصبحت سيادة العلم مسألة وقت فحسب، ولم يعد في وسع أية قوة أن تقف في وجه هذه الطريقة القاطعة في اكتساب المعارف الجديدة؛ ذلك لأن العلم ليس قوة معادية لأي شيء، ولا منافسة لأي شيء، والعالم شخص لا يهدد أحدا، ولا يسعى إلى السيطرة على أحد، وكل المعارك التي حورب فيها العلم والعلماء كانت معارك أساء فيها الآخرون فهم العلم، ولم يكن العلم ولا أصحابه هم المسئولون عنها. وأعظم خطأ يرتكبه المدافعون عن مبدأ معين أو عن ضرب من ضروب النشاط الروحي للإنسان، هو أن يعتقدوا أن العلم مصدر خطر عليهم، ويضعوا مبدأهم أو نشاطهم الروحي في خصومة مع العلم. فعلت هذا الكنيسة الأوروبية في مطلع عصر النهضة؛ فقام رجالها يحاربون العلم الوليد ويضطهدون رواده، ولم يكن ذلك منهم إلا عن جهل بطبيعة العلم أو طبيعة الدين أو كليهما معا، وربما كان في بعض الأحيان خوفا على نفوذ أو دفاعا عن مصالح يعتقدون أن أسلوب المعرفة الجديدة كفيل بتهديدها، فماذا كانت النتيجة آخر الأمر؟ ظل العلم يسير في طريقه بهدوء وثقة، ويحرز الانتصار تلو الانتصار، وتعاقب ظهور العلماء الأفذاذ، الذين كان معظمهم أشخاصا مخلصين في عقيدتهم الدينية، ولم يكن أحد منهم يتصور أن الجهد الذي يبذله من أجل بسط سيطرة العقل على الطبيعة وتحقيق النفع لإخوته في الإنسانية يمكن أن يغضب أحدا، لا سيما إذا كان من رجال الدين، واضطرت الكنيسة الأوروبية آخر الأمر إلى التراجع أمام قوة الحقيقة التي لا يستطيع أن ينكرها عقل سليم، ولكن تراجعها ربما كان قد أتى بعد فوات الأوان؛ إذ إن الكثيرين يعزون موجات الإلحاد التي اجتاحت أوروبا - منذ القرن الثامن عشر بوجه خاص - إلى تلك الخصومة التي لم يكن لها داع، والتي افتعلتها الكنيسة ضد العلم. كلا، إن العلم لا يهدد أحدا، وإنما هو في أساسه منهج أو أسلوب منظم لرؤية الأشياء وفهم العالم، وكل ما وجه إلى العلم من اتهامات إنما هو في واقع الأمر راجع إلى تدخل قوى أخرى لا شأن للعلم بها، تفسد تأثير العلم أو تسيء توجيه نتائجه، وهو أمر سنتحدث عنه في ثنايا هذا الكتاب بالتفصيل.
وعلى العكس من ذلك، فإن كل تقدم أحرزته البشرية في القرون الأخيرة إنما كان مرتبطا - بطريق مباشر أو غير مباشر - بالعلم، وإذا كان من المعترف به أن وجه الحياة على هذه الأرض قد تغير - خلال الأعوام المائة الأخيرة - بأكثر مما تغير خلال ألوف الأعوام السابقة؛ فإن الفضل الأكبر في ذلك إنما يرجع إلى المعرفة العلمية، ويرجع - قبل ذلك - إلى وجود شعوب تعترف بأهمية هذا اللون من المعرفة وتقدم إليه كل ضروب التشجيع.
واليوم لا يملك أي شعب يريد أن يجد له مكانا على خريطة العالم المعاصر إلا أن يحترم أسلوب التفكير العلمي ويأخذ به، وكما قلت من قبل: فليس التفكير العلمي هو حشد المعلومات العلمية أو معرفة طرائق البحث في ميدان معين من ميادين العلم، وإنما هو طريقة في النظر إلى الأمور تعتمد أساسا على العقل والبرهان المقنع - بالتجربة أو بالدليل - وهي طريقة يمكن أن تتوافر لدى شخص لم يكتسب تدريبا خاصا في أي فرع بعينه من فروع العلم، كما يمكن أن يفتقر إليها أشخاص توافر لهم من المعارف العلمية حظ كبير، واعترف بهم المجتمع بشهاداته الرسمية، فوضعهم في مصاف العلماء. ولعل الكثيرين منا قد صادفوا - على سبيل المثال - ذلك النمط من التجار الذين لم يكن لهم من الدراسة العلمية المنظمة نصيب، ولكنهم يدبرون شئونهم في حياتهم العملية - وربما في حياتهم الخاصة أيضا - على أساس نظرة عقلانية منطقية إلى العالم وإلى القوانين المتحكمة فيه، دون أن يكون لديهم أي وعي بالأسس التي تقوم عليها نظرتهم هذه، وفي الوجه المقابل لذلك فلقد رأيت بنفسي أشخاصا يعدهم المجتمع من العلماء - منهم من وصل في الجامعة إلى كرسي الأستاذية - يدافعون بشدة عن كرامات ينسبونها إلى أشخاص معينين (ليسوا من الأولياء ولا ممن عرفت عنهم أية مكانة خاصة بين الصالحين)، تتيح لهم أن يقوموا بخوارق كاستشفاف أمور تحدث في بلد آخر دون أن يتحركوا من موضعهم، أو تحقيق أمنياتهم بصورة مادية مجسمة بمجرد أن تطرأ على أذهانهم هذه الأمنيات، وفي أحيان معينة، عبور البحر سيرا على الأقدام! تلك بالطبع حالات شاذة متطرفة، لا يمكن أن تعبر عن وجهة نظر «فئة» كاملة، ولكنها في تطرفها تساعد على إثبات ما نقوله من أن التفكير العلمي شيء وتكديس المعلومات العلمية شيء آخر.
أما على مستوى المجتمعات البشرية، فقد أصبحت النظرة العلمية ضرورة لا غناء عنها في أي مجتمع معاصر لا يود أن يعيش في الظل بين سائر المجتمعات. وحسبنا أن نشير إلى أن مبدأ التخطيط - وهو مبدأ أساسي حاولت بعض الأنظمة الاجتماعية إنكار أهميته في بادئ الأمر ولكنها اضطرت إلى تطبيقه على نطاق واسع فيما بعد - هذا المبدأ إنما هو تطبيق مباشر لمفهوم التفكير العلمي المنهجي من أجل حل مشكلات المجتمع البشري، ولقد أصبح من المألوف في عالمنا المعاصر أن نسمع تعبيرات كالتخطيط الاقتصادي أو الخطة الاقتصادية والتخطيط الاجتماعي والتخطيط التربوي والعلمي والتخطيط الثقافي، وكلها تعبيرات تدل على اعتراف المجتمع الحديث بأن ميادين أساسية للنشاط البشري - كالاقتصاد والشئون الاجتماعية والتربية والعلم والثقافة - أصبحت توجه بطريقة علمية منظمة، بعد أن كانت تترك لتنمو على نحو تلقائي، أو تخضع لتنظيمات مؤقتة تغيب عنها الصورة الشاملة للميدان بأكمله، وتسري خلال وقت محدود فحسب. وكل نجاح يحرزه التخطيط في عالمنا المعاصر إنما هو نجاح للنظرة العلمية في تدبير شئون الإنسان، بل إن العلم تغلغل بادئ الأمر في ميادين ظل الناس طويلا يتصورون أنها بمنأى عن التنظيم المنهجي والتخطيط المدروس؛ فنحن نسمع اليوم عن دعاية سياسية «علمية » استطاعت بفضلها الدول أن تنشر المبادئ والأفكار التي ترى من مصلحتها نشرها - إما بين أفراد شعبها وإما بين أفراد الشعوب الأخرى - بطريقة مدروسة تؤدي إلى تيسير قبول العقول لهذه المبادئ وإضعاف قدرتها على مقاومتها بالتدريج، ومنذ الوقت الذي افتتح فيه «جوبلز» - الوزير النازي المشهور - عهد الدعاية «العلمية»، لم تعد هناك دولة حديثة إلا وتلجأ - بصورة أو بأخرى - إلى تلك الأساليب المنظمة المدروسة في الإقناع وتشكيل العقول. وقل مثل هذا عن أعمال التجسس ونشاط أجهزة المخابرات التي أصبحت لها مدارس ومناهج منظمة، بعد أن كانت تعتمد على الاجتهاد الفردي، وأصبحت تستعين بأحدث الكشوف العلمية وبأكبر عدد من العلماء المتخصصين؛ كيما تؤدي عملها على نحو فعال.
وإذا كان العلم في الميدانين السابقين يستخدم على نحو قد يتعارض أحيانا مع القيم الإنسانية الشريفة، فإنه في ميادين أخرى يستخدم على نحو يثري روح الإنسان أو يزيد من قدراته الروحية الجسمية. في ميدان الفنون أتيح للأجيال التي تعيش في القرن العشرين أن تتلقى دروسا وتدريبات - في ميادين الإبداع أو الأداء الفني - لم تكن متاحة إلا على نطاق ضيق للأجيال السابقة، وكان من نتيجة ذلك اتساع ثقافة الفنان وإلمامه بأصول فنه، وبلوغ الفنون الأدائية (كالموسيقى والرقص والتمثيل) مستويات تصل أحيانا إلى حد الإعجاز. كذلك أصبحت الرياضة البدنية علما بالمعنى الصحيح، بعد أن كانت تعتمد على الاجتهاد الشخصي، وتمكن الإنسان - بفضل التدريب المنهجي المدروس - من بلوغ نتائج كانت تدخل من قبل في باب المستحيلات، وهكذا أصبحت حياة المجتمعات الحديثة - في سياستها وحربها وسلمها وجدها ولهوها - منظمة تنظيما علميا منضبطا ودقيقا، ولم يعد في وسع مجتمع لديه أدنى قدر من الطموح أن يسير في أموره بالطريقة العفوية التي كانت سائدة في عصور ما قبل العلم. وإذا كنا - في الشرق بوجه خاص - نسمع بين الحين والحين أصواتا تحن إلى العهد التلقائي في أي ميدان من الميادين، فلنكن على ثقة من أن أصحاب هذه الدعوات إما مغرقون في رومانسية حالمة، وإما مدفوعون بالكسل إلى كراهية التنظيم العلمي الذي لا ينكر أحد أنه يتطلب جهدا شاقا. وسواء أكان الأمر على هذا النحو أو ذاك، فقد آن الأوان لأن نعترف - في شجاعة وحزم - بأن عصر التلقائية والعشوائية قد ولى، وبأن النظرة العلمية إلى شئون الحياة في ميادينها كافة هي وحدها التي تضمن للمجتمع أن يسير في طريق التقدم خلال القرن العشرين، وهي الحد الأدنى الذي لا مفر من توافره في أي مجتمع يود أن يكون له مكان في عالم القرن الحادي والعشرين، الذي أصبح أقرب إلينا مما نظن، وإذا كان بعض من يعيشون معنا في الربع الأخير من القرن العشرين غير مقتنعين حتى اليوم بجدوى الأسلوب العلمي في معالجة الأمور، وإذا كانوا لا يزالون يضعون العراقيل أمام التفكير العلمي حتى اليوم، فليفكروا لحظة في أحوال العالم في القرن القادم الذي سيعيش فيه أبناؤهم، ومن هذه الزاوية فإني أعد هذا الكتاب محاولة لإقناع العقول - في عالمنا العربي - بأن أشياء كثيرة ستفوتنا لو امتثلنا للاتجاهات المعادية للعلم، وبأن مجرد البقاء في المستقبل - دون نظرة علمية وأسلوب علمي في التفكير - سيكون أمرا مشكوكا فيه.
مارس 1977
فؤاد زكريا
الفصل الأول
سمات التفكير العلمي
لم يكتسب التفكير العلمي سماته المميزة - التي أتاحت له بلوغ نتائجه النظرية والتطبيقية الباهرة - إلا بعد تطور طويل، وبعد التغلب على عقبات كثيرة، وخلال هذا التطور كان الناس يفكرون على أنحاء متباينة، يتصورون أنها كلها تهديهم إلى الحقيقة، ولكن كثيرا من أساليب التفكير اتضح خطؤها فأسقطها العقل البشري خلال رحلته الطويلة، ولم تصمد في النهاية إلا تلك السمات التي تثبت أنها تساعد على العلو ببناء المعرفة وزيادة قدرة الإنسان على فهم نفسه والعالم المحيط به. وهكذا يمكننا أن نستخلص مجموعة من الخصائص التي تتسم بها المعرفة العلمية، أيا كان الميدان الذي تنطبق عليه، والتي تتميز بها تلك المعرفة عن سائر مظاهر النشاط الفكري للإنسان، ونستطيع أن نتخذ من هذه الخصائص مقياسا نقيس به مدى علمية أي نوع من التفكير يقوم به الإنسان، فما هي هذه السمات الرئيسية؟ (1) التراكمية
العلم معرفة تراكمية، ولفظ «التراكمية » هذا يصف الطريقة التي يتطور بها العلم والتي يعلو بها صرحه؛ فالمعرفة العلمية أشبه بالبناء الذي يشيد طابقا فوق طابق، مع فارق أساسي هو أن سكان هذا البناء ينتقلون إلى الطابق الأعلى؛ أي إنهم كلما شيدوا طابقا جديدا انتقلوا إليه وتركوا الطوابق السفلى لتكون مجرد أساس يرتكز عليه البناء.
وقد يبدو هذا الوصف أمرا طبيعيا بالنسبة إلى أي نوع من النشاط العقلي أو الروحي للإنسان، ولكن قليلا من التفكير يقنعنا بأن الأمر ليس كذلك بالنسبة إلى أنواع متعددة من هذا النشاط؛ فقد عرف الإنسان منذ العصور القديمة نوعا من النشاط العقلي قد يبدو مشابها للمعرفة العلمية إلى حد بعيد هو المعرفة الفلسفية، ولكن هذه المعرفة الفلسفية لم تكن تراكمية، بمعنى أن كل مذهب جديد يظهر في الفلسفة لم يكن يبدأ من حيث انتهت المذاهب السابقة، ولم يكن مكملا لها، بل كان ينتقد ما سبقه ويتخذ لنفسه نقطة بداية جديدة. ومن هنا فإننا إذا استخدمنا التشبيه السابق كان في وسعنا أن نقول: إن البناء الفلسفي لا يرتفع إلى أعلى، بل إنه يمتد امتدادا أفقيا. وفضلا عن ذلك فإن سكان هذا البناء لا يتركون طوابقه القديمة، بل يظلون مقيمين فيها مهما ظهرت له من طوابق جديدة؛ ذلك لأن افتقار المعرفة - في ميدان الفلسفة - إلى الصفة التراكمية، يجعل المشتغلين بالفلسفة يجدون في تياراتها القديمة أهمية لا تقل عن أهمية التيارات الحديثة؛ ومن ثم تظل موضوعا دائما لدراستهم.
ومثل هذا يقال عن الفن؛ فالفن ينمو أفقيا، بمعنى أننا نظل نتذوق الفن القديم، ولا نتصور أبدا أن ظهور فن جديد يعني التخلي عن أعمال الفنانين القدماء أو النظر إليها بمنظور تاريخي فحسب، وبطبيعة الحال فإن هذا النمو الأفقي لا يعني أن أي اتجاه جديد في الفن كان يمكن أن يظهر في أي عصر سابق؛ إذ إن ظهور الاتجاهات الفنية مرتبط ارتباطا وثيقا بمجموع الأوضاع الإنسانية التي يظهر فيها كل اتجاه منها؛ أعني بالأوضاع الاجتماعية والثقافية والروحية والمادية ... إلخ، بحيث لا يمكن أن يفهم هذا الاتجاه حق الفهم إلا في سياقه التاريخي الذي ظهر فيه، ولكن الذي يعنينا هو أن تذوقنا لفن معاصر لا يمنعنا من أن نتذوق فنون العصور الماضية، وأن الروح الإنسانية التي تجد متعة في أعمال فنية حديثة تجد متعة مماثلة في أعمال السابقين، ولا تحاول أبدا أن تنسخ القديم؛ لأن هناك جديدا ظهر ليحل محله.
أما في حالة المعرفة العلمية، فإن الأمر يختلف؛ إذ إن كل نظرية علمية جديدة تحل محل النظرية القديمة، والوضع الذي يقبله العلماء في أي عصر هو الوضع الذي يمثل حالة العلم في ذلك العصر بعينه لا في أي عصر سابق، والنظرية العلمية السابقة تصبح - بمجرد ظهور الجديد - شيئا «تاريخيا»؛ أي إنها تهم مؤرخ العلم لا العالم نفسه، ومن هنا فإن سكان البناء العلمي - كما قلنا من قبل - هم في حالة تنقل مستمر، ومقرهم هو أعلى الطوابق في بناء لا يكف لحظة واحدة عن الارتفاع.
وتكشف لنا سمة «التراكمية» هذه عن خاصية أساسية للحقيقة العلمية، هي أنها نسبية؛ فالحقيقة العلمية لا تكف عن التطور، ومهما بدا في أي وقت أن العلم قد وصل في موضوع معين إلى رأي نهائي مستقر، فإن التطور سرعان ما يتجاوز هذا الرأي ويستعيض عنه برأي جديد.
وهكذا بدا للناس - في وقت معين - أن فيزياء «نيوتن» هي الكلمة الأخيرة في ميدانها، وأنها تعبر عن حقيقة مطلقة، ودام هذا الاعتقاد ما يقرب من قرنين من الزمان، ثم جاءت فيزياء أينشتين فابتلعت فيزياء نيوتن في داخلها، وتجاوزتها وأثبتت أن ما كان يعد حقيقة مطلقة ليس في الواقع إلا حقيقة نسبية، أو حالة من حالات نظرية أوسع منها وأعم.
هذا المثل يكشف لنا عن طبيعة التراكم المميز للحقائق العلمية؛ ففي بعض الحالات تحل النظرية العلمية محل القديمة وتنسخها أو تلغيها، ولكن في معظم الحالات لا تكون النظرية الجديدة بديلا يلغي القديمة، وإنما توسعها وتكشف عن أبعاد جديدة لم تستطع النظرية القديمة أن تفسرها أو تعمل لها حسابا. وهكذا يكون القديم متضمنا في الجديد، ولا يكون العالم - كالفيلسوف - عقلا يبدأ طريقه من أول الشوط، وإنما يستمد نقطة بدايته من حيث توقف غيره.
ولكن إذا كانت الحقيقة العلمية نسبية على هذا النحو، فكيف جاز للبعض أن يصفوها بأنها «مطلقة»؟ إننا نصف مشاعرنا الانفعالية وأذواقنا الفنية بأنها «نسبية»، ونعني بذلك أنها تختلف من فرد لآخر، وأنه ليس من حق أحد أن يفرض ذوقه - مثلا - على الآخرين، ولكننا نقول عن الحقيقة العلمية إنها «مطلقة»، بمعنى أنها لا تتجاوز نطاق الاختلافات بين الأفراد، ولا تتقيد بظروف معينة، بل تتخطى الحدود الجزئية لكل عقل على حدة، لكي تفرض نفسها على كل عقل إنساني بوجه عام. وهذه التفرقة بين طريقة حكمنا على عمل فني وطريقة اقتناعنا بالحقيقة العلمية هي تفرقة صحيحة، فكيف إذن نوفق بين الاعتقاد - الذي قلنا إنه صحيح - بأن الحقائق العلمية مطلقة وبين ما قلناه منذ قليل من أنها نسبية؟
الواقع أن الحقيقة العلمية - في إطارها الخاص - تصدق على كل الظواهر وتفرض نفسها على كل عقل، وبهذا المعنى تكون مطلقة. فحين نقول: إن الماء يتكون من أكسجين وهيدروجين بنسبة 1 إلى 2، لا نعني بذلك كمية الماء التي أجرينا عليها هذا الاختبار، بل نعني أية كمية من الماء على الإطلاق، ولا نوجه هذه الحقيقة إلى عقل الشخص الذي أجري أمامه هذا الاختبار فحسب، بل إلى كل عقل بوجه عام، ولكننا قد نكتشف في يوم ما أملاحا في الماء بنسبة ضئيلة، أو نصنع «الماء الثقيل» (المستخدم في المجال الذري) فيصبح الحكم العلمي السابق نسبيا، لا بمعنى أنه يتغير من شخص إلى آخر، بل بمعنى أنه يصدق في إطاره الخاص، وإذا تغير هذا الإطار كان لا بد من تعديله، وهذا الإطار الخاص قد يكون هو المجال الذي تصدق فيه الحقيقة العلمية، كما هي الحال في أوزان الأجسام، التي يظل مقدارها صحيحا في إطار الجاذبية الأرضية، ولكنها تختلف إذا نقلت إلى مجال القمر، كما قد يكون هذا الإطار زمنيا، بمعنى أن الحقيقة التي تعبر عن المستوى الحالي للعلم تظل صحيحة وتفرض نفسها على الجميع في حدود معرفتنا الراهنة، وبذلك يكون هناك تعارض بين الطابع النسبي للحقيقة، وبين قولنا إنها مطلقة، بل إن الحقيقة المطلقة كثيرا ما يعبر عنها بعبارات نسبية، كما يحدث عندما نقول: إن ضغط الغاز يتناسب تناسبا عكسيا مع درجة حرارته مقيسة بمقياس كلفن؛ ف «النسبة» ذاتها تصبح في هذا القانون مطلقة، وإن كانت قيم الضغط والحرارة مختلفة فيها باستمرار. وهكذا فإن صفة «التراكمية» في التفكير العلمي تجمع بين الطابع النسبي والطابع المطلق للعلم دون أي تناقض.
هذه السمة «التراكمية» التي يتسم بها العلم هي التي تقدم إلينا مفتاحا للرد على انتقاد يشبع توجيهه - في بلادنا الشرقية على وجه الخصوص - إلى العلم، وهو الانتقاد الذي يستغل تطور العلم لكي يتهم المعرفة العلمية والعقل العلمي بالنقصان؛ فمن الشائع أن يحمل أصحاب العقليات الرجعية على العلم لأنه متغير، ولأن حقائقه محدودة، ولأنه يعجز عن تفسير ظواهر كثيرة، وهم بذلك يفتحون الباب أمام أنواع أخرى من التفسير الخارجة عن نطاق العلم أو المعادية له، وواقع الأمر أن هذا ليس اتهاما للعلم على الإطلاق، فإذا قلت: إن العلم متغير، كنت بذلك تعبر بالفعل عن سمة أساسية من سمات العلم، وإذا اعتبرت هذا التغير علامة نقص فإنك تخطئ بذلك خطأ فاحشا؛ إذ تفترض عندئذ أن العلم الكامل لا بد أن يكون «ثابتا»، مع أن ثبات العلم في أية لحظة، واعتقاده أنه وصل إلى حد الاكتمال، لا يعني إلا نهايته وموته؛ ومن ثم فإن الثبات في هذا المجال هو الذي ينبغي أن يعد علاقة نقص. إن العلم حركة دائبة، واستمرار حيويته إنما هو مظهر من مظاهر حيوية الإنسان الذي أبدعه، ولن يتوقف هذا العلم إلا إذا توقفت حياة مبدعه ذاته. والتغيير الذي يتخذ شكل «التقدم» والتحسين المستمر هو دليل على القوة لا على الضعف، ومن المؤكد أن هذا هو طابع التغير العلمي، بدليل أن النظرية الجديدة في كثير من الحالات تستوعب القديمة في داخلها وتتجاوزها، وتفسر الظواهر على نطاق أوسع منها كما قلنا من قبل.
ومجمل القول أن المعرفة العلمية متغيرة حقا، ولكن تغيرها يتخذ شكل «التراكم»؛ أي إضافة الجديد إلى القديم؛ ومن ثم فإن نطاق المعرفة التي تنبعث من العلم يتسع باستمرار، كما أن نطاق الجهل الذي يبدده العلم ينكمش باستمرار. ومن هنا لم يكن انتقال العلم إلى مواقع جديدة على الدوام علامة من علامات النقص فيه، بل إن النقص إنما يكمن في تلك النظرة القاصرة التي تتصور أن العلم الصحيح هو العلم الثابت والمكتمل.
ولكن في أي اتجاه يسير هذا التراكم الذي تتسم به المعرفة العلمية؟ إنه - في واقع الأمر - يسير في الاتجاهين؛ الرأسي والأفقي، أعني اتجاه التعمق في بحث الظواهر نفسها، واتجاه التوسع والامتداد إلى بحث ظواهر جديدة.
أما عن الاتجاه الأول - الذي نستطيع أن نسميه اتجاها رأسيا أو عموديا - ففيه يعود العلم إلى بحث نفس الظواهر التي سبق له أن بحثها ولكن من منظور جديد وبعد كشف أبعاد جديدة فيها؛ فالبحث الفيزيائي والكيميائي في المادة - مثلا - بدأ بخصائص المواد كما نتعامل معها يوميا؛ أي على مستوى إدراك حواسنا المادية، وبازدياد تقدم العلم ازداد مستوى الأبحاث في الظواهر نفسها تعمقا، فكشفت مستويات جديدة للمادة ألقت مزيدا من الضوء على ظواهر العالم الفيزيائي والكيميائي، وانتقل البحث إلى مستوى الجزيئات والذرات، ثم إلى مستوى دون الذري؛ أي مستوى أدق مكونات الذرة نفسها. وما زال العلم يتعمق في هذا الميدان الهام إلى مستويات تزداد دقة، وتتيح لنا مزيدا من السيطرة على العالم المادي، وينطبق هذا على العلوم الإنسانية بدورها؛ إذ يمكن القول - على سبيل المثال - إن التحليل النفسي عند فرويد هو محاولة للتغلغل إلى أبعاد في النفس البشرية أعمق من تلك التي كان يقتصر عليها علم النفس التقليدي، الذي كان يتناول سلوك الإنسان وفقا لمظاهره الخارجية، ويقتنع بالتعديلات والتبريرات الواعية التي تقدم لهذا السلوك، دون أن يدرك أن من وراء هذا التبرير «الواعي» دوافع لا شعورية خفية، لا يريد الإنسان أن يفصح عنها، وإنما تستخلص بعملية تحليل متعمقة.
وأما الاتجاه الثاني - وهو الاتجاه الذي يمكن أن يسمى أفقيا - فهو اتجاه العلم إلى التوسع والامتداد إلى ميادين جديدة؛ ذلك لأن العلم بدأ بنطاق محدود من الظواهر، هي وحدها التي كان يعتقد أنها خاضعة لقواعد البحث العلمي، على حين أن ميادين كثيرة كانت تعد أعقد أو أقدس من أن يتناولها العلم، وحسبنا أن نشير في هذا الصدد إلى أن آخر العلوم في ترتيب الظهور كانت مجموعة العلوم التي تدرس الإنسان بطريقة منهجية، مثل علم الاجتماع وعلم النفس اللذين ظهرا في القرن التاسع عشر. أما قبل ذلك فكانت دراسة الإنسان متروكة للتأملات الفلسفية التي كانت تزودنا - بغير شك - بحقائق عظيمة القيمة عن الإنسان، ولكن هذه الحقائق كانت تتخذ شكل استبصارات عبقرية ولا ترتكز على دراسة منهجية، والسبب الرئيسي لذلك هو الاعتقاد الذي ظل سائدا طويلا بأن العلم لا يستطيع أن يقترب من مجال الإنسان، وأن هذا المجال له حركته وقداسته الخاصة التي لا يصح أن «تنتهك» بالدراسة العلمية.
والواقع أن مسألة الترتيب الذي ظهرت به العلوم الطبيعية والإنسانية هو موضوع له من الأهمية ما يجعله جديرا بأن نستطرد فيه قليلا؛ ذلك لأن أول ما يتبادر إلى الذهن في هذا الصدد، هو أن الإنسان عندما يبدأ في ممارسة المعرفة العلمية يبدأ بمعرفة نفسه، على أساس أن هذا هو أقرب الميادين إليه، وهو الميدان الذي تكون فيه الملاحظة مباشرة بحق، وبعد أن تكمل دراسته لنفسه يصبح لديه من النضج ما يسمح له بدراسة العالم الخارجي، وربما كان يعزز هذا الرأي أن الآداب والفلسفات والعقائد والتشريعات - التي تعد شكلا قديما وهاما من أشكال معرفة الإنسان - قد ظهرت قبل العلم التجريبي بزمن طويل.
ولكن حقيقة الأمر هي أن هذا الشكل الأولي الذي اتخذته معرفة الإنسان لنفسه كان بعيدا عن الطابع العلمي، ولم يكن من الممكن بالفعل أن يبدأ العلم بدراسة الإنسان، بل كان المعقول أن يبدأ بدراسة الطبيعة الخارجية، ولقد كان هذا هو ما حدث بالفعل في التاريخ؛ ففي العالم القديم كانت المذاهب الفلسفية الأولى مذاهب «طبيعية»، ولم تظهر المذاهب التي تتناول الإنسان إلا في وقت متأخر، وهكذا بدأت الفلسفة بالمدرسة الأيونية والذرية ... إلخ، التي تركزت أبحاثها على العالم الطبيعي، قبل أن يظهر السفسطائيون وسقراط وأفلاطون، الذين جعلوا الإنسان موضوعا هاما لفلسفاتهم. وفي العصر الحديث بدأت النهضة العلمية بدراسة الطبيعة بطريقة مكثفة، ولم تلحقها دراسة الإنسان علميا إلا بعد قرنين على الأقل، وهذا أمر غير مستغرب؛ إذ إن دراسة الإنسان - وإن كانت تبدو أقرب وأسهل منالا لأنها تتعلق بمعرفة الإنسان لنفسه على نحو مباشر - هي في واقع الأمر أعقد بكثير من دراسة الطبيعة؛ لأنها تمس أمورا نعتبرها مقدسة في كياننا الداخلي، ولأن العلاقة بين الأسباب والنتائج فيها شديدة التعقيد والتشابك، على عكس الحال في دراسة الطبيعة؛ حيث تسير هذه العلاقة دائما في خط واحد قابل للتحديد.
وعلى أية حال فإن التطور في الاتجاهين - أعني اتجاهي دراسة الطبيعة ودراسة الإنسان - كان متداخلا، ولم يكن الفاصل بين الميدانين قاطعا؛ ففي المحاولات الأولى التي بذلها العقل البشري من أجل فهم الطبيعة، كان الإنسان يلجأ إلى تشبيه الطبيعة بنفسه، وفهمها من خلال ما يحدث في داخله، فيتصور أن أحواله النفسية والحيوية لها نظير في حوادث الطبيعة، وكأن الطبيعة تسلك كما يسلك الإنسان، وفي العصر الحديث دار الزمن دورة كاملة؛ فبعد أن كانت الظواهر الطبيعية تفسر على مثال الظواهر البشرية؛ أصبحت دراسة الإنسان - في كثير من الاتجاهات الحديثة - تتم على مثال الطبيعة، وظهر ذلك في تصور «أوجست كونت» وخلفائه للظواهر الاجتماعية كما لو كانت ظواهر طبيعية، كما ظهر عند «السلوكيين» والمدارس التجريبية في علم النفس بوجه عام؛ حيث يفسر السلوك الإنساني كما لو كان سلسلة من ردود الأفعال الطبيعية. وهكذا أصبحت الظواهر المتعلقة بكائن له حياة ونفس أو روح (أعني الإنسان) تدرس كأنها ظواهر تنتمي إلى الطبيعة الجامدة، بعد أن كانت ظواهر الطبيعة الجامدة - في العصور القديمة - تفسر كما لو كانت ذات حياة ونفس أو روح.
والذي يعنينا من هذا كله أن العلم يتوسع ويمتد رأسيا وأفقيا، وأنه يقتحم على الدوام ميادين كانت من قبل متروكة للخرافات أو للتفسيرات اللاعقلية، فحتى القرن الثامن عشر كانت أوروبا ذاتها تنظر إلى المرض العقلي على أنه ناتج عن تسلط روح شريرة على الإنسان، وكانت تعامل المريض بقسوة شديدة بهدف إخراج هذه الروح الشريرة منه، وفي كثير من الحالات كانت هذه القسوة تؤدي إلى موته.
وبالتدريج أخذ العلم يقتحم هذا الميدان بدوره - ميدان العقل البشري في صحته وفي مرضه - وامتدت رقعة المعرفة العلمية إلى أرض جديدة كانت محرمة على العلم من قبل، والأمثلة على ذلك عديدة، وكلها تثبت أن العلم يتوسع في جميع الاتجاهات.
ومرة أخرى نقول إن هذا التوسع يتضمن ردا مفحما على أولئك الذين يجدون متعة خاصة في اتهام العقل البشري بالقصور، على أساس أن هناك ميادين كثيرة لم يستطع هذا العقل حتى الآن أن يقتحمها؛ ذلك لأن هؤلاء لو تأملوا مسار العقل في تاريخه الطويل بنظرة شاملة - لا تقتصر على اللحظة التي يعيشون فيها وحدها - لأدركوا أن عصورا كثيرة قبلنا كانت تؤمن إيمانا قاطعا بعجز العقل العلمي عن اقتحام ميادين معينة، ولكن التطور سرعان ما أثبت لهم خطأهم، وهذا درس ينبغي أن يستخلصوا منه عبرة بليغة؛ وهي أن التوسع في المعرفة البشرية يسير باطراد، وأن كثيرا من الميادين التي نتصور اليوم أنها بعيدة عن متناول العلم سوف تصبح موضوعا للدراسة العلمية المنظمة في المستقبل القريب أو البعيد. (2) التنظيم
في كل لحظة من حياتنا الواعية يستمر تفكيرنا، ويعمل عقلنا بلا انقطاع، ولكن نوع التفكير الذي نسميه «علميا» لا يمثل إلا قدرا ضئيلا من هذا التفكير الذي يظل يعمل دون توقف؛ ذلك لأن عقولنا في جزء كبير من نشاطها لا تعمل بطريقة منهجية منظمة، وإنما تسير بطريقة أقرب إلى التلقائية والعفوية، وكثيرا ما يكون نشاطها مجرد رد فعل على المواقف التي تواجهها دون أي تخطيط أو تدبر، بل إننا حين ننفرد بأنفسنا ونتصور أننا «نفكر»، كثيرا ما ننتقل من موضوع إلى موضوع بطريقة عشوائية، وتتداعى الأفكار في ذهننا حرة طليقة من أي تنظيم، فنسمي هذا شرودا أو حلم يقظة، ولكنه يظل مع ذلك شكلا من أشكال التفكير، ومثل هذا التفكير الطليق غير المنظم سهل ومريح؛ ولذلك فإننا كثيرا ما نستسلم له هربا من ضغط الحياة أو تخفيفا لمجهود قمنا به، أو نجعل منه «فاصلا» مريحا بين مراحل العمل العقلي الشاق.
أما التفكير العلمي فمن أهم صفاته التنظيم؛ أي إننا لا نترك أفكارنا تسير حرة طليقة، وإنما نرتبها بطريقة محددة، وننظمها عن وعي، ونبذل جهدا مقصودا من أجل تحقيق أفضل تخطيط ممكن للطريقة التي نفكر بها، ولكي نصل إلى هذا التنظيم ينبغي أن نتغلب على كثير من عاداتنا اليومية الشائعة، ويجب أن نتعود إخضاع تفكيرنا لإرادتنا الواعية، وتركيز عقولنا في الموضوع الذي نبحثه، وكلها أمور شاقة تحتاج إلى مران خاص، وتصقلها الممارسة المستمرة.
ولكن إذا كان العلم تنظيما لطريقة تفكيرنا أو لأسلوب ممارستنا العقلية، فإنه - في الوقت ذاته - تنظيم للعالم الخارجي؛ أي إننا في العلم لا نقتصر على تنظيم حياتنا الداخلية فحسب، بل تنظيم العالم المحيط بنا أيضا؛ ذلك لأن هذا العالم مليء بالحوادث المتشابكة والمتداخلة، وعلينا في العلم أن نستخلص من هذا التشابك والتعقيد مجموعة الوقائع التي تهمنا في ميداننا الخاص، وهذه الوقائع لا تأتي إلينا جاهزة، ولا تحتل جزءا منفصلا من العالم ألصقت عليه بطاقة اسمها «الكيمياء» أو «الفيزياء»، بل إن مهمتنا في العلم هي أن نقوم بهذا التنظيم الذي يمكننا من أن ننتقي من ذلك الكل المعقد ما يهمنا في ميداننا الخاص.
وينطبق ذلك على ميدان العلوم الإنسانية مثلما ينطبق على ميدان العلوم الطبيعية؛ فحين يؤلف المؤرخ كتابا في التاريخ - وليكن مثلا كتابا عن تاريخ العالم العربي في القرن العشرين - تكون أمامه مهمة شاقة، هي أن يختار - من بين الواقع شديد التعقيد - ما يهمه في مجال بحثه؛ ذلك لأن مهمة المؤرخ هي إعادة الحياة إلى فترة ماضية، ولكنه لا يستطيع أن يعيد الماضي كاملا وبكل ما فيه من تعقيدات، فحين يعود بذهنه إلى وقائع حياة العالم العربي في الفترة التي يتناولها بحثه؛ يجد ألوفا من الظواهر المعقدة المتشابكة؛ حياة الناس اليومية، طريقة ملبسهم ومأكلهم وترفيههم، عاداتهم، أخلاقهم، حياتهم الاجتماعية والاقتصادية، علاقاتهم السياسية ... إلخ، وعليه أن ينتقي من هذا الخضم الهائل من الظواهر المختلفة ما يهمه في موضوع بحثه، ويترك ما عداه جانبا؛ أي إن عليه أن يدخل التنظيم في واقع غير منظم أصلا، وتلك هي مهمة العلم.
على أن التنظيم سمة لا تبدو مقتصرة على العلم وحده، فكل نوع من أنواع التفكير الواعي - الذي يهدف إلى تقديم تفسير للعلم - يتصف بنوع من التنظيم. بل إن الأساطير ذاتها تحاول أن توجد نظاما معينا من وراء الفوضى الظاهرية في الكون، وحين تفترض وجود آلهة أو أرواح خفية وراء كل ظاهرة من ظواهر الطبيعة، فإنها تسعى - عن طريق ابتداع هذه الكائنات الشخصية - إلى إيجاد شكل من أشكال التنظيم في الظواهر، وحين ظهر الفكر الفلسفي بعد ذلك ليحل محل التفكير الأسطوري كانت فكرة وجود نظام في الكون من أهم الأفكار التي دارت حولها الفلسفة اليونانية. بل إن نظرة اليونانيين إلى الكون - التي عبر عنها استخدامهم للفظ
cosmos
للتعبير عن الكون - كانت مبنية أساسا على فكرة التوافق والانسجام والنظام الذي يمكن فهمه بالعقل، والذي يؤدي كل شيء فيه وظيفة لها معناها داخل الكل المنظم، ويسير بأكمله نحو تحقيق غايات محدودة، ومن هنا كان الاختلاف هائلا بين ذلك الكون المنسق الذي تصوره اليونانيون، وبين تصور العلم الحديث للكون، الذي كان في صميمه تصورا آليا مضادا للغائية. أما في الفكر الديني فإن فكرة النظام أساسية، بل إن كثيرا من علماء الكلام واللاهوتيين يتخذون من وجود النظام في الكون دليلا من أدلة وجود الله ومظهرا من مظاهر قدرته. وهكذا يستحيل تصور العالم بطريقة عشوائية أو غير منظمة ما دام الخالق قادرا على كل شيء.
وإذن ففكرة وجود «نظام» في العالم هي فكرة تتردد في كل محاولة لإيجاد تفسير للعالم، فما هو الجديد الذي يأتي به العلم في هذا الصدد؟ أو على الأصح: فيم يختلف التنظيم الذي يقتضيه التفكير العلمي عن ذلك التنظيم الذي يظهر في أنماط التفكير المغايرة للعلم؟
إن الاختلاف الأساسي في أن التنظيم - كما يقول به العلم - يخلقه العقل البشري ويبعثه في العالم بفضل جهده المتواصل الدءوب في اكتساب المعرفة، على حين أن العالم - وفقا لأنماط التفكير الأخرى - منظم بذاته؛ ففي التفكير الأسطوري وفي التفكير الفلسفي نجد النظام موجودا بالفعل في العالم، وما على العقل البشري إلا أن يتأمله كما هو. أما في التفكير العلمي فإن هذا العقل البشري هو الذي يبعث النظام في عالم هو في ذاته غير منظم؛ فالكون في نظر العلم لا يسير وفقا لغايات، وإنما تسود مساره الآلية، وكلما تقدمت المعرفة استطعنا أن نبتدع مزيدا من النظام في مسار الحوادث العشوائي في العالم؛ أي إن الكون المنظم - بالاختصار - هو نقطة النهاية التي يسعى العلم من أجل بلوغها، وليس نقطة بدايته.
ولكن كيف يحقق العلم هذا النظام في ظواهر الطبيعة المتشابكة والمعقدة والمفتقرة بذاتها إلى التنظيم؟ إن وسيلته إلى ذلك هي اتباع «منهج»
method - أي طريق محدد - يعتمد على خطة واعية. وصفة «المنهجية» هذه صفة أساسية في العلم، حتى إن في وسعنا أن نعرف العلم عن طريقها، فنقول: إن العلم في صميمه معرفة منهجية، وبذلك نميزه بوضوح عن أنواع المعرفة الأخرى التي تفتقر إلى التخطيط والتنظيم، ونستطيع أن نقول إن المنهج هو العنصر الثابت في كل معرفة علمية، أما مضمون هذه المعرفة والنتائج التي تصل إليها ففي تغير مستمر. فإذا عرفنا العلم من خلال نتائجه وإنجازاته كنا في هذه الحالة نقف على أرض غير ثابتة، أما إذا عرفنا العلم من خلال منهجه فإنا نرتكز حينئذ على أرض صلبة؛ لأن المنهج هو الذي يظل باقيا مهما تغيرت النتائج.
غير أن القول بأن المنهج هو العنصر الثابت في العلم قد يفهم بمعنى أن للعلم مناهج ثابتة لا تتغير، وهذا فهم لا يعبر عن حقيقة العلم؛ إذ إن مناهج العلم متغيرة بالفعل؛ فهي أولا تتغير حسب العصور؛ لأن كثيرا من العلوم غيرت مناهجها بتقدم العلم؛ فالكيمياء مثلا تزداد اعتمادا على الأساليب الرياضية بعد أن كانت في بدايتها علما تجريبيا خالصا لا شأن له بالرياضيات، كذلك فإن المناهج تتغير تبعا لنوع العلم ذاته؛ إذ إن المنهج المتبع في علم يدرس الإنسان لا بد أن يكون مختلفا عن ذلك الذي يتبع في علم طبيعي، وهكذا لا يمكن القول بوجود منهج واحد ثابت للمعرفة العلمية على إطلاقها، ومع ذلك يظل من الصحيح أن منهج العلم - لا النظريات أو النتائج التي يصل إليها - هو العنصر الملازم للعلم على الدوام، بمعنى أن وجود منهج معين - أيا كان هذا المنهج - سمة أساسية في كل تفكير علمي؛ فالبحث العلمي هو بحث يخضع لقواعد معينة، وليس بحثا عشوائيا متخبطا، ومع اعترافنا بأن هذه القواعد قابلة للتغيير باستمرار، فإن مبدأ الخضوع لقواعد منهجية هو صفة أساسية تميز المعرفة العلمية.
وعلى أية حال فقد استطاع العلم الحديث - بفضل جهود رواده الأوائل وإضافات العلماء اللاحقين - أن يطور لنفسه منهجا أصبح يرتبط إلى حد بعيد بالدراسة العلمية، ولعله من المفيد - ونحن في معرض الكلام عن صفة التنظيم المنهجي في العلم - أن نقول كلمة موجزة عن هذا المنهج، لا بوصفه المنهج الوحيد الذي يمكن تصوره للعلم، ولكن بوصفه المنهج الذي أصبح غالبا على الدراسة العلمية في ميادين العلم الطبيعي، دون استبعاد أية تطورات أخرى ممكنة في المستقبل. (1)
فالمنهج العلمي يبدأ بمرحلة ملاحظة منظمة للظواهر الطبيعية التي يراد بحثها، ولا شك أن هذه الملاحظة تفترض - كما قلنا من قبل - عملية اختيار وانتقاء وعزل للوقائع التي تهم الباحث في ميدان عمله من بين ألوف الوقائع الأخرى التي تتشابك معها في الطبيعة، بل إن الواقعة أو الظاهرة الواحدة يمكن تناولها من زوايا متعددة وفقا لنوع اهتمام العالم؛ فقطعة الحجر يمكن أن تدرس بوصفها ظاهرة فيزيائية إذا ركزنا اهتمامنا على حركتها أو طريقة سقوطها أو ثقلها، ويمكن أن تدرس كيميائيا بتحليل المعادن أو الأملاح التي يمكن أن تكون موجودة فيها، كما تدرس جيولوجيا بتحديد الطبقة الصخرية التي تنتمي إليها وعصرها الجيولوجي ... إلخ. (2)
ومن الجدير بالذكر أن الملاحظة الحسية المباشرة نادرا ما تستخدم في العلم المعاصر. صحيح أنها في أوائل العصر الحديث كانت هي الوسيلة التي يلجأ إليها العلماء، والتي يدعو إليها فلاسفة العلم مثل بيكون؛ من أجل جمع معلومات عن الواقع، ولكن ذلك كان هو الوضع السائد قبل أن تكتشف أجهزة الملاحظة والرصد الحديثة، وأبسط مثال على ذلك أن ملاحظة الطبيب للمريض في البلاد المتقدمة طبيا أصبحت أقل اعتمادا على اليد أو سماعة الأذن، وازداد اعتمادها على الأجهزة الدقيقة في تسجيل ضربات القلب، أو على التصوير بكاميرات داخلية، أو على الأنواع الجديدة من الأشعة. كذلك فإن ملاحظات عالم الفيزياء لم تعد تعتمد على العينين، بل تتم عن طريق قراءة مؤشرات أو ومضات داخل أجهزة إلكترونية شديدة التعقيد. وبالمثل فإن العالم الفلكي أو الجيولوجي لم يعد يعتمد على ما يراه، بل على الصور التي تلتقطها الأقمار الصناعية؛ أي إن مفهوم الملاحظة ذاته قد تغير، فلم تعد هي تلك المادة الحسية الخام التي عرفها العلم في المراحل الأولى من تطوره الحديث، وإنما أصبحت عملية شديدة التعقيد، تحتاج إلى جهود سابقة ضخمة، وإلى معلومات واسعة من أجل تفسير «القراءات» أو «الصور» التي تنقلها الأجهزة المعقدة؛ أي إن الخطوة الأولى في العلم متداخلة مع خطواته المتأخرة، وهي ليست حسية خالصة، بل فيها جوانب عقلية هامة. (3)
وتأتي بعد الملاحظة مرحلة التجريب؛ حيث توضع الظواهر في ظروف يمكن التحكم فيها، مع تنويع هذه الظروف كلما أمكن، وقد أصبحت التجارب العلمية بدورها أمرا شديد التعقيد في عصرنا هذا، ولكنها مع ذلك لا تمثل المرحلة النهائية في العلم، بل تظل مرحلة أولية؛ ذلك لأن القوانين النهائية التي نتوصل إليها في هذه المرحلة قوانين جزئية، تربط بين ظاهرة وأخرى، وتقدم إلينا معرفة بجانب محدود من جوانب الموضوع الذي نريد بحثه، ومن مجموع التجارب يتكون لدينا عدد كبير من القوانين الجزئية التي يبدو كل منها مستقلا عن الآخر، والتي نظل في هذه المرحلة عاجزين عن الربط بينها؛ لأن التجربة وحدها لا تتيح لنا أن نصل إلى أية «نظرية» لها طابع عام. (4)
وفي المرحلة التالية يستعين العلم بتلك القوانين الجزئية المتعددة التي تم الوصول إليها في المرحلة التجريبية، فيضمها كلها في نظرية واحدة. وهكذا فإن نيوتن قد استعان بكل القوانين التي تم كشفها عن طريق تجارب جاليليو وباسكال وهيجنز وغيرهم من العلماء السابقين عليه؛ لكي يضعها كلها في نظرية عامة هي نظرية الجاذبية (أو قانون الجاذبية بالمعنى العام لهذا اللفظ). (5)
وفي كثير من الحالات يلجأ العلم - بعد الوصول إلى النظرية العامة - إلى الاستنباط العقلي؛ إذ يتخذ من النظرية نقطة ارتكاز أو مقدمة أولى، ويستخلص منها - بأساليب منطقية ورياضية - ما يمكن أن يترتب عليها من نتائج، وبعد ذلك قد يقوم مرة أخرى بإجراء تجارب - من نوع جديد - لكي يتحقق من أن هذه النتائج التي استخلصها بالعقل والاستنباط صحيحة، فإذا أثبتت التجارب صحة تلك النتائج كانت المقدمات التي ارتكز عليها صحيحة، أما إذا كذبتها فإنه يعيد النظر في مقدماته، وقد يرفضها كليا أو يصححها عن طريق إدماجها في مبدأ أعم؛ ومن أمثلة ذلك أن أينشتين - عندما وضع نظرية النسبية بناء على ملاحظات وتجارب جزئية سابقة قام بها هو وغيره من العلماء - استخلص النتائج المترتبة عليها بطريقة «الاستنباط العقلي»، وكان لا بد من تجربة لكي يثبت أن هذه النتائج تتحقق في الواقع، وبالفعل أجريت هذه التجربة في حالة الكسوف الشمسي التي حدثت في عام 1916، وأثبتت صحة النظرية التي اتخذ منها أينشتين مقدمة لاستنتاجاته.
وهكذا يسير المنهج العلمي المعترف به - في ضوء التطور الحاضر للعلم - من الملاحظات إلى التجارب ثم إلى الاستنتاج العقلي وإلى التجارب مرة أخرى؛ أي إن العنصر التجريبي والعنصر العقلي متداخلان ومتبادلان، كما أن الاستقراء - الذي نتقيد فيه بالظواهر الملاحظة - والاستنباط - الذي نستخدم فيه عقولنا متخطين هذه الظواهر الملاحظة - يتداخلان بدورهما، ولا يمكن أن يعد أحدهما بديلا عن الآخر؛ فالتجريبية والعقلية ليسا - في العلم - منهجين مستقلين، بل هما مرحلتان في طريق واحد. وفي أغلب الأحيان يكون العلم في بداية تطوره تجريبيا، وعندما ينضج يكتسب إلى جانب ذلك الصيغة العقلية الاستنباطية؛ ففي المرحلة الأولى يجمع أكبر عدد ممكن من المعارف بطريقة منظمة ، وفي المرحلة الثانية يتوصل إلى المبادئ العامة التي تفسر هذه المعارف وتضعها في إطار موحد. وقد بدأت الفيزياء مرحلتها التجريبية الأولى منذ القرن السادس عشر، وانتقلت بعد قرنين إلى المرحلة الثانية. أما العلوم الإنسانية فربما كانت - في معظم حالاتها - تمر حتى الآن بالمرحلة التجريبية التي تكدس فيها المعارف؛ انتظارا للمرحلة التي تنضج فيها إلى حد اكتشاف القوانين أو المبادئ العامة.
تلك لمحة موجزة عن هذا الموضوع الذي يعد أهم مظاهر التنظيم العلمي، وأعني به البحث المنهجي. ولا بد أن نؤكد مرة أخرى أن هذا المنهج الذي أشرنا إليه ليس ثابتا، وإنما هو يمثل حالة العلم في المرحلة الراهنة، كما أنه لا ينطبق بالضرورة على جميع مجالات البحث العلمي، بل هو تلخيص للطريقة التي يتبعها العلماء في العصر الحديث في أهم ميادين بحثهم.
فهل يعني ذلك أن المرء إذا أراد أن يكون عالما فما عليه إلا أن يتقن هذه القواعد؟ وهل يكفي لتكوين العالم في عصرنا هذا أن نلقنه الخطوط العامة للطرق التي اتبعها العلماء السابقون عليه لكي يصلوا إلى كشوفهم؟ الواقع أن هذا خطأ يقع فيه كثير من غير المتخصصين في العلم؛ ذلك لأن معرفة أية مجموعة من القواعد - مهما بلغت دقتها - لا يمكن أن تجعل من المرء عالما، بل إن هناك شروطا أخرى لا بد من توافرها لتحقيق هذا الهدف، والمسألة ليست مسألة تطبيق آلي لمجموعة من القواعد التي ثبتت فائدتها في أي علم من العلوم، بل إن العلم أوسع وأعقد من ذلك بكثير، ونستطيع أن نقول إن فيلسوفا ذا عقلية علمية جبارة مثل «ديكارت» قد وقع في هذا الخطأ، فنظر إلى إيمانه بأهمية المنهج في الحلم (وهو على حق في ذلك) فقد استنتج أن العلم ليس إلا منهجا، وأكد أن الناس لا يتفاوتون في استعداداتهم العقلية، وإنما يتفاوتون في كيفية استخدامهم لهذه العقلية بالطريقة الصحيحة؛ ولذا ركز ديكارت اهتمامه على وضع مجموعة من القواعد التي يستطيع العقل - إذا ما التزمها بدقة - أن يهتدي بواسطتها إلى حل أية مشكلة في أي ميدان من ميادين العلم.
ولكن التجارب أثبتت أن المرء قد يتبع أدق القواعد المنهجية دون أن يصبح لهذا السبب عالما؛ ذلك لأن العلم يحتاج إلى أمور منها التحصيل وحدة الذكاء - وهو استعداد طبيعي - وتلك الموهبة التي تجعل العالم أشبه بالفنان، بل تجعله قادرا على تجاوز القواعد المنهجية المتعارف عليها في ميدانه ووضع قواعده الخاصة به إذا اقتضى الأمر ذلك، ومع ذلك فقد كان لديكارت كل العذر في إلحاحه على أهمية معرفة القواعد المنهجية في البحث العلمي، وفي تأكيده أن أية مشكلة لن تستعصي على العقل الذي يهتدي بهذه القواعد؛ إذ إنه ظهر في مطلع العصر الحديث، وفي الوقت الذي كان لا بد فيه للمفكر من أن يقدم للباحثين صورة للعمل العلمي تعطي الجميع أملا في بلوغ الحقيقة، ولا شك أن تأكيد القواعد المنهجية، ورفض الرأي القائل بأن الاستعدادات والقدرات العقلية تختلف من شخص لآخر، يفسح أمام الجميع مجال البحث، ويقضي على أرستقراطية الفكر التي كانت سائدة في العصور الوسطى؛ لتحل محلها ديمقراطية فكرية كانت ضرورية في المرحلة التاريخية التي ظهر فيها ديكارت.
وإذا كنا حتى الآن قد اقتصرنا على الكلام عن المنهج العلمي بوصفه المظهر الرئيسي لسمة التنظيم في العلم، فمن الواجب أن نشير - قبل أن ننتقل إلى سمة أخرى - إلى مظهر آخر للتنظيم العلمي، هو الترابط الذي تتصف به القضايا العلمية؛ فالعلم لا يكتفي بحقائق مفككة، وإنما يحرص على أن يكون من قضاياه نسقا محكما، يؤدي فهم كل قضية فيه إلى فهم الأخريات، وكل حقيقة علمية جديدة لا تضاف إلى الحقائق الموجودة إضافة خارجية، بل تدمج فيها بحيث تكون معها كلا موحدا، وربما اقتضت عملية الإدماج هذه التخلي عن بعض العناصر القديمة التي تتنافر مع الحقيقة الجديدة، أما إذا ظهرت حقيقة جديدة ولم نعرف كيف ندمجها في نسق الحقائق الموجودة بالفعل، فإن ذلك يقتضي إعادة النظر في النسق بأكمله من أجل تكوين نسق جديد قادر على استيعاب الحقيقة الجديدة، وهذا بالفعل ما حدث عندما أعاد أينشتين النظر في نسق الفيزياء الذي كونه نيوتن، والذي ظل يعد حقيقة نهائية طوال مائتي عام، نتيجة لتجارب «ميكلسون ومورلي» في الضوء، وهي التجارب التي لم يكن من الممكن إدماجها في النسق القديم. وقد أسفرت إعادة النظر هذه عن تكوين نسق جديد أرحب، يستوعب النسق القديم في داخله بوصفه حالة من حالاته، ويتجاوزه بحيث يقدم تفسيرا أوسع منه بكثير، وهذا النسق الجديد هو نظرية النسبية.
وهكذا يمكن القول إن صفة التنظيم تحتل مكانها عند نقطة بداية البحث العلمي؛ حيث تتمثل في اتباع العالم لمنهج منظم، وكذلك عند نقطة نهاية هذا البحث، عندما يكون العالم من النتائج التي يتوصل إليها نسقا مترابطا يستبعد أي نوع من التنافر في داخله. (3) البحث عن الأسباب
لا يكون النشاط العقلي للإنسان علما - بالمعنى الصحيح - إلا إذا استهدف فهم الظواهر وتعليلها، ولا تكون الظاهرة مفهومة - بالمعنى العلمي لهذه الكلمة - إلا إذا توصلنا إلى معرفة أسبابها، وهذا البحث عن الأسباب له هدفان: (أ)
الهدف الأول هو إرضاء الميل النظري لدى الإنسان، أو ذلك النزوع الذي يدفعه إلى البحث عن تعليل لكل شيء، ولنلاحظ أن هذا الميل - الذي نصفه بأنه نظري - لا يوجد في جميع الحالات بدرجة متساوية؛ فهناك حضارات بأكملها كانت تعتمد على الخبرة والتجربة المتوارثة، وتكتفي بالبحث عن الفائدة العملية أو التصرف الناجح، دون سعي إلى إرضاء حب الاستطلاع الهادف إلى معرفة أسباب الظواهر. وهكذا كانت هذه الحضارات تشيد مباني ضخمة، أو تقوم في تجارتها بحسابات دقيقة، دون أن تحاول معرفة «النظريات» الكامنة من وراء عملية البناء أو الحساب، وحسبها أنها حققت الهدف العلمي المطلوب فحسب، بل إن في وسعنا أن نرى من حولنا أشخاصا لا يهتمون إلا «ببلوغ النتيجة»، ولا يكترثون بأن يسألوا: «لماذا» كانت النتيجة على هذا النحو، وربما رأوا في هذا السؤال حذلقة لا تستحق إضاعة الوقت، ما دامت الإجابة عنه لن تقدم ولن تؤخر في بلوغ النتيجة المطلوبة. (ب)
ولكن هذا الاعتقاد بأن معرفة الأسباب ليس لها تأثير عملي هو اعتقاد واهم؛ ذلك لأن معرفة أسباب الظواهر هي التي تمكننا من أن نتحكم فيها على نحو أفضل، ونصل إلى نتائج عملية أنجح بكثير من تلك التي نصل إليها بالخبرة والممارسة؛ فمن الدراسة الدقيقة لطبيعة الموجات الصوتية وكيفية انتقالها أمكن ظهور سلسلة طويلة من المخترعات كالتليفون ولاقط الأسطوانات («البيك أب»، أو ما كان يسمى في تعريب قديم باسم «الحاكي») والراديو ومسجل الشرائط ... إلخ. وكلها وسائل لنقل الصوت أدت وظائف عملية رائعة، وكان من المستحيل بلوغها لولا الدراسة المعتمدة على معرفة أسباب الظواهر. ومعرفة أسباب الأمراض يمكن من معالجتها، كما أن المعرفة النظرية للعناصر الفعالة في مدة معينة يمكن من استخراج هذه العناصر بطريقة صناعية وإنقاذ ملايين الأرواح (كالأنسولين المستخدم في علاج مرض السكر مثلا). وهكذا تؤدي المعرفة السببية ليس فقط إلى إرضاء نزوعنا النظري إلى فهم حقائق الأشياء، بل إلى مزيد من النجاح في الميدان العملي ذاته، وتتيح لنا تحوير الظواهر وتغيير طبيعتها على النحو الذي يضمن تسخيرها لخدمة أهدافنا العملية.
من أجل هذين العاملين كانت المعرفة العلمية الحقيقية مرتبطة بالبحث عن أسباب الظواهر، وإذا كان كثير من المؤرخين يتخذون من آراء الفلاسفة اليونانيين القدماء نقطة بداية للعلم، فما ذلك إلا لأن هؤلاء الفلاسفة قد تفوقوا على غيرهم في التساؤل، وفي البحث عن الأسباب، صحيح أنهم لم يجدوا إجابات إلا عن قليل من الأسئلة التي طرحوها، وأن كثيرا من إجاباتهم كانت ساذجة أو قاصرة، ولكن المهم أن يطرح السؤال، وهذا الطرح هو في ذاته الخطوة الأولى في طريق العلم. بل إن هذا التساؤل عن الأسباب هو أول مراحل المعرفة في حياة الفرد نفسه؛ ففي السنوات الأولى من عمر الطفل تحكم تصرفاته الدوافع الطبيعية والاستجابات المباشرة، ويسودها مبدأ الفعل ورد الفعل، ولكن في مرحلة معينة - تحدد بحوالي سن السابعة وربما قبل ذلك - يبدأ الطفل في السؤال عن أسباب كل ما يراه حوله، وتصبح كلمة «لماذا» أكثر الكلمات ترددا على لسانه، وربما أضجر المحيطين به بتكرارها، وباستخدامها في السؤال عن أسباب ظواهر لا تحتاج إلى تعليل (كأن يسألك: «لماذا» عندما تقول له إنك شبعت). وفي هذه المرحلة بالذات تبدأ حصيلة المعرفة تتراكم في ذهن الطفل، ويكون ترديد هذا السؤال إيذانا بدخوله مرحلة استخدام التفكير العقلي، وإذن فالعلم مرتبط ارتباطا وثيقا بالبحث عن أسباب الظواهر، ومع ذلك فإن طبيعة هذا البحث عن الأسباب، ومعنى كلمة «السبب» ذاتها، لم تكن واضحة كل الوضوح في أذهان الناس، على الرغم من أنهم لا يكفون عن استخدامها في تفكيرهم العلمي، وربما في تفكيرهم اليومي أيضا.
فعند اليونانيين ظهر مفهوم معقد لفكرة «السبب» و«السببية»، على الرغم من اهتمامهم الشديد بهذا الموضوع وريادتهم له، وقد لخص فيلسوفهم الكبير «أرسطو» آراء اليونانيين السابقين عليه بالإضافة إلى آرائه الخاصة حول الموضوع، فذكر أن هناك أنواعا أربعة من الأسباب: (أ)
السبب المادي؛ كأن نقول عن الخشب الذي يصنع منه السرير إنه سبب له. (ب)
السبب الصوري؛ أي إن الهيئة أو الشكل الذي يتخذه السرير والذي يعطيه إياه صانعه هو أيضا سبب له. (ج)
السبب الفاعل؛ أي إن صانع السرير أو النجار هو سببه. (د)
السبب الغائي؛ أي إن الغاية من السرير - وهي استخدامه في النوم - سبب من أسبابه.
ومن الواضح أن هذا التحديد لمعاني كلمة «السبب» وأنواع الأسباب ينطوي على خلط شديد؛ إذ إن «المادة» التي يصنع منها الشيء ليست إلا أداة لا سببا، كما أن «الصورة» هي فكرة في الذهن، لا تنتج شيئا في العالم المحسوس بصورة مباشرة، أما الغاية فلا يأتي دورها إلا بعد أن يتم إيجاد الشيء أو الظاهرة بالفعل؛ فاستخدام السرير يحدث بعد صنع السرير، ومن هنا لم يكن من المعقول أن تكون هذه الغاية سببا، وهكذا يتبقى لدينا في النهاية نوع واحد من الأنواع الأربعة التي تحدث عنها أرسطو، هو السبب «الفاعل» وهو النوع الذي يمكن الاعتراف به.
والواقع أن «السبب الغائي» يستحق وقفة خاصة؛ إذ إنه كان من أهم عوامل تشويه التفكير في موضوع السببية، بل في العلم بأسره؛ ذلك لأن الأذهان قد اتجهت إلى البحث في كل ظاهرة عن «الغايات» المقصودة منها، فكانت النتيجة أنها تصورت الحوادث الطبيعية بل والعالم كله، كما لو كانت تستهدف «غايات»، وكأنها تسير في طريق يؤدي إلى تحقيق رغبات بشرية معينة أو إلى معاكسة هذه الرغبات، وكان من المستحيل أن يقوم علم حقيقي في ظل هذا التصور «الغائي» للطبيعة؛ لأنه يصرف الأنظار عن كشف الأسباب الحقيقية، ويوجهها نحو طبع الصورة البشرية على أحداث الطبيعة. وعلى أية حال فهذه مسألة عولجت بمزيد من التفصيل في موضع آخر من هذا الكتاب.
1
لذلك كان من الطبيعي أن تستبعد كل أنواع الأسباب الأخرى - وخاصة الأسباب الغائية - من مجال العلم الحديث عند بداية ظهوره؛ بحيث يقتصر البحث على «الأسباب الفاعلة»، وتظهر الطبيعة على أنها سلسلة متشابكة من الحوادث التي يؤثر كل منها في الأخريات ويتأثر بها، وترتبط فيما بينها برابطة السببية، وأصبح هدف العلم هو أن يكشف - بأساليب مقنعة للعقل - عن الأسباب المتحكمة في الظواهر؛ من أجل السيطرة عليها عقليا بالفهم والتعليل، وعمليا بالتشكيل والتحوير، وكان لتقدم العلوم الرياضية واستخدامها في التعبير عن قوانين العالم الطبيعي دور كبير في دعم فكرة السببية في أول عهد العلم الحديث؛ أي في القرنين السادس عشر والسابع عشر،
2
إذ أصبح الاعتقاد سائدا بأن حوادث الطبيعة المادية تترابط فيما بينها برابطة لا تقل ضرورة عن تلك التي تجمع بين طرفي معادلة مثل 2 + 2 = 4، فإذا كانت هناك نار «فمن الضروري» أن تكون هناك حرارة، مثلما أنه إذا كان هناك مثلث «فمن الضروري» أن يكون مجموع زواياه قائمتين. وهكذا كان العلم المزدهر في ذلك العصر هو الفيزياء الميكانيكية، التي هي أكمل تعبير عن فكرة الترابط السببي بين ظواهر الطبيع؛ إذ إن العالم يعد عندئذ آلة ضخمة، تترابط أجزاؤها بقانون الفعل ورد الفعل، وتنتقل الحركة من جزء إلى آخر وإن ظل المجموع الكلي للحركة في الكون واحدا، ويصبح القانون المسيطر على كل شيء والذي يتوقف عليه مصير العلم هو قانون السببية. على أن العلماء كانوا يستخدمون فكرة السببية دون تحليل، فلم يفكر أحد منهم في إيضاح معنى «السبب » وطبيعة العلاقة التي تربط بين السبب وما ينتج عنه، وكان الاهتمام الكبير الذي أبدى بفكرة السببية في مطلع العصر الحديث - نتيجة لسيطرة النظرة الميكانيكية إلى العالم - هو الذي دعا أحد فلاسفة هذا العصر - وهو «ديفد هيوم»
David Hume - إلى القيام بتحليل فلسفي لمفهوم السببية، انتهى منه إلى نتيجة كانت لها من الناحية السببية أصداء عميقة؛ فقد انطلق هيوم من المفهوم الذي أوضحناه من قبل، والذي كان سائدا في العلم الميكانيكي؛ أي في أهم علوم عصره، وأعني به أن العلاقة بين السبب والنتيجة فيها من الضرورة بقدر ما في العلاقة بين المثلث ومجموع زواياه، وتبين له - من خلال تحليله الفلسفي - أن المسألة في حقيقتها على خلاف ذلك؛ فمن المستحيل أن تكون هناك ضرورة حتمية بين الحوادث الطبيعية ونتائجها؛ أي بين ارتفاع نسبة الرطوبة وسقوط المطر مثلا. صحيح أننا نقول: إن الأول سبب الثاني، ولكن هل يعني ذلك أن هناك قوة خفية في الحادث الأول تؤدي إلى وقوع الحادث الثاني؟ وهل تقوم الرطوبة بإسقاط المطر، مثلما نقوم نحن - بجهدنا البشري - بصنع أشياء؟ الواقع أن الأسباب الموجودة في الطبيعة لا تتضمن أية قوى تنتج شيئا، ولا توجد أية ضرورة تحتم سقوط المطر بعد ارتفاع نسبة الرطوبة، وكل ما في الأمر أننا «اعتدنا» أن نرى الظاهرتين تتعاقبان، فنشأ عن هذا التعاقب المتكرر ميل ذهني لدينا إلى الربط بينهما؛ بحيث إننا كلما رأينا الظاهرة الأولى توقعنا الثانية؛ فالخبرة والتجربة البشرية تكشف لنا عن أن الطبيعة لا تتضمن إلا أحداثا متعاقبة، ونحن الذين نربط بين هذه الحوادث المتعاقبة نتيجة التعود، بحيث يكون أصل الضرورة في عقولنا نحن التي يدفعها التعود إلى توقع شيء بعد شيء آخر. أما الطبيعة ذاتها فلا تتضمن حوادثها أي ارتباط ضروري من ذلك الذي نجده في الرياضيات.
وهكذا اعتقد «ديفيد هيوم» أن الأساس الأول للعلم - وهو فكرة السببية - بات مزعزعا نتيجة هذا التحليل الذي قام به، ولكن حقيقة الأمر هي أن هذا التحليل لا يمتد تأثيره إلا إلى ميدان التفكير الفلسفي فحسب، أما الممارسات العلمية فلا تتأثر به؛ ذلك لأن العالم يستطيع أن يمضي في طريقه دون أن يغير اتجاهه، سواء أكان معنى السببية هو الارتباط الضروري، أم كان معناها مجرد التعاقب؛ لأن هذه مسائل تتعلق بالجذور الفلسفية للمفاهيم العلمية، وما يهم العالم هو استخدام المفهوم على ما هو عليه، أما استخلاص معانيه وأسسه وجذوره، فتلك مهمة الفيلسوف وحده.
لذلك فإن العلم - عندما عدل المفهوم التقليدي للسببية فيما بعد - لم يفعل ذلك لأسباب فلسفية، أو نتيجة لنقد من النوع الذي قال به هيوم، وإنما قام بهذا التعديل لأسباب علمية خالصة؛ فقد تبين له أن هناك ظواهر كثيرة تبلغ من التعقيد حدا يستحيل معه أن نجد لها سببا واحدا، وإنما تشترك فيها مجموعة من العوامل، لكل منها دور في أحداث الظاهرة، فإذا كنا مثلا بصدد تعليل ظاهرة الإجرام كان في إمكاننا أن نجد مجموعة كبيرة من العوامل التي تؤدي إلى هذه الظاهرة، فلو أخذنا مجموعة كبيرة من المجرمين؛ لوجدنا أن منهم من ارتكب جريمته لأسباب اجتماعية اقتصادية كالفقر، ومنهم من ارتكبها لأسباب متعلقة بالقيم كالمحافظة على الشرف أو الأخذ بالثأر، أو لأسباب عضوية وراثية كوجود اختلال معين في العدد أو في التركيب العقلي، أو لأسباب متعلقة بالبيئة والتربية وهلم جرا. كل من هذه العوامل له دوره في ظاهرة الجريمة، فهل يفيدنا أن نلجأ إلى فكرة السببية بمعناها المعتاد في هذه الحالة؟ من الواضح أن الظاهرة تبلغ من التعقيد حدا لا نستطيع معه أن ننسبها إلى سبب معين؛ ولذلك نلجأ إلى فكرة الارتباط الإحصائي لكي نبين النسبة التي يسهم بها كل عامل من العوامل السابقة في إحداث هذه الظاهرة، فنقول: إن نسبة (أو معامل) ارتباط العوامل الوراثية بارتكاب الجرائم هي كذا ... ومن مزايا هذه الطريقة أنها تمكننا من تحليل الظواهر شديدة التعقيد، وخاصة تلك التي تحدث في مجال العلوم الإنسانية، حيث تتعدد عوامل الظاهرة الواحدة وتتشابك على نحو يستحيل فيه استخدام علاقة السببية المباشرة، كما أن من مزاياها أنها تتيح المقارنة - بطريقة رقمية دقيقة - بين هذه العوامل، بحيث نستخلص مثلا أن العوامل المكتسبة أقوى تأثيرا في ظاهرة الإجرام من العوامل الوراثية ... إلخ.
والمهم أن العلم في الوقت الحالي يبحث عن بدائل لفكرة السببية - بمفهومها التقليدي - في المجالات التي لا يتسع فيها هذا المفهوم للتعبير عن العلاقات بين الظواهر تعبيرا دقيقا، ولكن من المهم أن نذكر على الدوام أن هذا لا يعني «إلغاء» فكرة السببية، بل يعني «توسيعها»؛ ففي المجالات التي تكون العلاقات فيها مباشرة بين عامل وعامل آخر ناتج عنه - كالعلاقة بين جرثومة معينة ومرض معين - تظل فكرة السببية مستخدمة، وتظل لها فائدتها الكبرى في العلم، والتطور الذي حدث في هذا الصدد مشابه للتطور الذي يحدث في النظريات العلمية ذاتها في أحيان كثيرة؛ حيث لا يؤدي ظهور النظرية الجديدة إلى إلغاء القديمة، بل يوسع نطاق تطبيقها ويمتد بها إلى مجالات لم تكن النظرية القديمة قادرة على استيعابها. ومن المؤكد أن التوسيع المستمر لنطاق البحث العلمي، والكشف الدائم عن مجالات جديدة أو عن أبعاد جديدة للمجالات المعروفة من قبل، يجعل فكرة السببية - بمعنى العلاقة المباشرة بين عامل وعامل آخر ناتج عنه - غير كافية للتعبير عن كل متطلبات العلم، وإن ظل لها دورها في مجالات محددة. (4) الشمولية واليقين
المعرفة العلمية معرفة شاملة، بمعنى أنها تسري على جميع أمثلة الظاهرة التي يبحثها العلم، ولا شأن لها بالظواهر في صورتها الفردية، وحتى لو كانت هذه المعرفة تبدأ من التجربة اليومية المألوفة، مثل سقوط جسم ثقيل على الأرض، فإنها لا تكتفي بتقرير هذه الواقعة على النحو الذي نشاهدها عليه، وإنما تعرضها من خلال مفاهيم ذات طابع أعم، مثل فكرة الجاذبية والكتلة والسرعة والزمن ... إلخ، بحيث لا تعود القضية العلمية تتحدث عن سقوط هذا الجسم بالذات، أو حتى عن مجموعة الأجسام المماثلة له، بل عن سقوط الجسم عموما، وبذلك تتحول التجربة الفردية الخاصة - على يد العلم - إلى قضية عامة أو قانون شامل، على أن شمولية العلم لا تسري على الظواهر التي يبحثها فحسب، بل على العقول التي تتلقى العلم أيضا؛ فالحقيقة تفرض نفسها على الجميع بمجرد ظهورها، ولا يعود فيها مجال للخلاف بين فرد وآخر؛ أي إن العلم شامل بمعنى أن قضاياه تنطبق على جميع الظواهر التي يبحثها، وبمعنى أن هذه القضية تصدق في نظر أي عقل يلم بها.
وهنا يظهر الاختلاف واضحا بين العمل العلمي والعمل الفني أو الشعري؛ ذلك لأن الموضوع الذي يتناوله هذا العمل الأخير هو بطبيعته موضوع فردي، وحتى لو كان يتناول قضية عامة - مثل أزمة الإنسان - فإن الفنان أو الشاعر يعالج هذه القضية العامة من خلال شخصية فردية ومواقف محسوسة وملموسة. ومن ناحية أخرى فإن العمل الفني يظل على الدوام مرتبطا بصاحبه وبالأصل الذي نشأ منه ارتباطا عضويا، بحيث لا يفهم أحدهما فهما تاما بدون الآخر. وهكذا يتعرف الخبير في الموسيقى أو الشعر على مؤلف القطعة الموسيقية أو القصيدة الشعرية من خلال إنتاجه ذاته، وكل من العمل وصاحبه يحيلنا على الدوام إلى الآخر. أما العمل العلمي فلا يوجد ارتباط عضوي بينه وبين جميع العوامل والظروف الشخصية المتعلقة بكيفية نشأته والشخص الذي ظهر على يديه ... إلخ. ومن هنا كانت الحقيقة العلمية «لا شخصية
impersonal » على عكس العمل الفني، وكان صدق هذه الحقيقة غير متوقف على ظروف المكان والزمان الذي تنشأ فيه إلا من حيث تعبيرها عن مستوى العلم في مرحلة معينة من تطوره فحسب. أما العمل الفني فإن الظروف الفردية والشخصية لمبدع هذا العمل تقوم فيه بدور يستحيل تجاهله إذا شئنا أن نفهم هذا العمل ونتذوقه من جميع جوانبه.
وعلى ذلك فإن الحقيقة العلمية قابلة لأن تنقل إلى كل الناس الذين تتوافر لديهم القدرة العقلية على فهمها والاقتناع بها، أي إنها حقيقة عامة أو مشاع
public
تصبح بمجرد ظهورها ملكا للجميع، متجاوزة بذلك النطاق الفردي لمكتشفها والظروف الشخصية التي ظهرت فيها، وهذه الصفة هي التي تجعل الحقيقة العلمية «يقينية».
والواقع أن «اليقين» في العلم مرتبط ارتباطا وثيقا بطابع «الشمول» الذي قلنا: إن القضايا العلمية تتسم به؛ إذ إن كل عقل لا بد أن يكون «على يقين» من تلك الحقيقة التي تفرض نفسها عليه بأدلة وبراهين لا يمكن تفنيدها. على أن كلمة «اليقين» ذاتها - بقدر ما تبدو واضحة للوهلة الأولى - يمكن أن تستخدم في الواقع بمعنيين متضادين، ينبغي أن نميز بينهما بوضوح حتى تتبين لنا طبيعة اليقين العلمي: (أ)
فهناك نوع من اليقين نستطيع أن نطلق عليه اسم «اليقين الذاتي»، وهو الشعور الداخلي لدى الفرد بأنه متأكد من شيء ما، هذا النوع من اليقين كثيرا ما يكون مضللا؛ إذ إن شعورنا الداخلي قد لا يكون مبنيا على أي أساس سوى ميولنا أو اتجاهاتنا الذاتية. وإنا لنلاحظ في تجربتنا العادية أن أكثر الناس «يقينا» هم عادة أكثرهم جهلا؛ فالشخص محدود الثقافة «موقن» بصحة الخبر الذي يقرؤه في الجريدة، وبصحة الإشاعة التي سمعها من صديقه، وبصحة الخرافة التي كانت تردد له في طفولته، وهو لا يقبل أية مناقشة في هذه الموضوعات؛ لأنها في نظره واضحة يقينية، وكلما ازداد نصيب المرء من العلم تضاءل مجال الأمور التي يتحدث فيها «عن يقين»، وازداد استخدامه لألفاظ مثل «من المحتمل» و«من المرجح» و«أغلب الظن» ... إلخ. بل إننا نجد بعض العلماء يسرفون في استخدام هذه التعبيرات الأخيرة في كتاباتهم إلى حد لا نكاد نجد معه تعبيرا جازما أو يقينيا واحدا في كل ما يكتبون؛ إذ ممارستهم الطويلة للعمل العلمي، وإدراكهم أن الحقائق العلمية في تغير مستمر، وأن ما كان بالأمس أمرا مؤكدا قد أصبح أمرا مشكوكا فيه، وقد يصبح غدا أمرا باطلا؛ كل ذلك يدفعهم إلى الحذر من استخدام اللغة القاطعة التي تعبر عن يقين نهائي.
أما في أساليب التفكير العادية فإن اليقين يعتمد - كما قلنا - على الشعور الداخلي للشخص نفسه بأنه واثق من شيء معين، وهذه الثقة قد تكون ناتجة عن أن الفكرة التي يرددها تخدم مصالحه؛ فإذا سمع الموظف إشاعة تقول إن الحكومة ستصرف علاوة للموظفين، رددها للآخرين باعتبارها خبرا «يقينيا». أو قد تكون الثقة ناتجة عن عدم الاطلاع على وجهة النظر المضادة، فيؤكد الفرد شيئا بصفة قاطعة؛ لأن الفرصة لم تتح له كيما يعرف الرأي المخالف في الموضوع، وهذا أمر شائع في كثير من المناقشات السياسية، وخاصة في البلاد غير الديمقراطية؛ حيث يعرف المرء وجهة نظر حزبه أو بلاده ولا تتاح له معرفة أية وجهة نظر أخرى. كما أن هذا العامل قد يكون سببا في «يقين» من ينتمي إلى أي طائفة دينية بأن طائفته وحدها على حق، وكل الطوائف الأخرى على خطأ. (ب)
على أن العلم لا يمكن أن يرتكز على هذا النوع من اليقين النفسي الذي يختلف من فرد لآخر، والذي تتحكم فيه الظروف والمصالح والعوامل الذاتية، وإنما يكون اليقين فيه «موضوعيا»، بمعنى أنه يرتكز على أدلة منطقية مقنعة لأي عقل، ولا بد للوصول إلى هذا اليقين الموضوعي من هدم كل أنواع اليقين الذاتية الأخرى، فلا بد أن يزعزع العالم - كخطوة أولى في بحثه - ما رسخ في عقول الناس من أوهام وتحيزات عملت على تثبيتها عوامل غير موضوعية. وكثيرا ما كانت نقطة البداية المؤدية إلى كشف علمي هام هي التشكيك في يقين راسخ حتى عند العلماء أنفسهم، كما هي الحال عندما شكك بعض علماء الهندسة في المصادرة القائلة أن الخطين المتوازيين لا يلتقيان، ثم توصلوا من ذلك إلى هندسة جديدة هي الهندسة «اللاإقليدية» التي ترتكز عليها النظريات الحالية في الفيزياء. كذلك يؤدي أي كشف علمي هام إلى زعزعة اليقين الذي كان متوطدا من قبل في عقول البشر دون أن يفكر أحد في المساس به؛ أي إلى حلول يقين علمي موضوعي محل يقين ذاتي، كما حدث عند ظهور نظرية كبرنيكوس التي هدمت الاعتقاد «اليقين» القديم بأن الأرض ثابتة وبأنها هي مركز الكون.
ولكن إذا كان اليقين العلمي يعتمد على براهين وأدلة منطقية، فإن هذا لا يعني على الإطلاق أنه يقين ثابت أو نهائي. فالعلم لا يعترف بشيء اسمه الحقائق النهائية التي تسري على كل زمان ومكان، بل يعمل حسابا للتغير والتطور المستمر. أي إن اعتماد العلم على أدلة مقنعة للعقل بصورة قاطعة لا يعني أن الحقائق تعلو على التغير، بل إن المقصود من ذلك أن البرهان العلمي يقنع كل من يستطيع فهم هذا البرهان في ضوء حالة العلم في عصر معين. أما أن تتحول القضية العلمية إلى حقيقة تفرض نفسها على الناس في جميع العصور، فهو شيء يتنافى مع طبيعة العلم ذاتها. (5) الدقة والتجويد
في حياتنا المعتادة نستخدم في أحيان كثيرة عبارات تتسم بالغموض وتبتعد عن الدقة، كأن يقول شخص: «قلبي يحدثني بأنه سيحدث كذا ...» وأمثال هذه التعبيرات ليست مرفوضة في الأحاديث اليومية المألوفة، بل إنها قد تؤدي فيها وظيفة عامة، هي الإيحاء بشيء معين دون تحديد دقيق له، أما في العلم فمن غير المقبول أن تترك عبارة واحدة دون تحديد دقيق، أو تستخدم قضية يشوبها الغموض أو الالتباس، بل إنه حتى في الحالات التي لا يستطيع فيها العلم أن يجزم بشيء ما على نحو قاطع، وإنما يظل هذا الشيء «احتماليا» في ضوء أحدث معرفة وصل إليها العلم. حتى في هذه الحالات يعتبر العلم عن هذا «الاحتمال» بدقة؛ أي بنسبة رياضية محددة، وبذلك فإنه يحدد بدقة درجة عدم الدقة، إذا جاز لنا أن نستخدم تعبيرا فيه مثل هذه المفارقة. والوسيلة التي يلجأ إليها العلم من أجل تحقيق صفة الدقة هذه هي استخدام لغة الرياضيات. وبالفعل يتبين لنا من دراسة تطور العلم أنه كلما انتقل إلى مرحلة أدق، أصبح من المحتم عليه أن يستخدم الصيغ الرياضية على نطاق أوسع. وبالعكس تظل العلوم غير دقيقة ما دامت تعبر عن قضاياها باللغة المادية، ومن هنا كنا نجد بعض مؤرخي العلم يفرقون في تاريخ أي علم بين مرحلتين؛ المرحلة قبل العلمية
pre-scientific
التي يستخدم فيها لغة الحديث المعتادة. والمرحلة العلمية
scientific
التي يتوصل فيها إلى استخدام اللغة والأساليب الرياضية. والمثل الواضح على ذلك علم الطبيعة؛ فمنذ العصور القديمة كانت هناك محاولات لدراسة الطبيعة على أسس علمية، ولكن كان يعيب هذه المحاولات اعتمادها على لغة «كيفية»؛ أي على الكلام عن الظواهر الطبيعية من خلال صفاتها التي تبدو للحواس المعتادة كالحار والبارد والثقيل والخفيف، أو من خلال الصفات التي ينسبها إليها العقل الفلسفي كالمادة والصورة والقوة والفعل، وخلال ذلك كله لم يكن هناك علم طبيعي بالمعنى الصحيح لهذه الكلمة، ولم يبدأ ظهور هذا العلم إلا على أيدي أقطاب الفيزياء في أوائل العصر الحديث وعلى رأسهم جاليليو؛ إذ استطاع هؤلاء الأقطاب أن يطبقوا الرياضيات على البحث الطبيعي، ويطبقوا لغة الكم في التعبير عن الظواهر الطبيعية. وبالمثل ظلت الكيمياء تستخدم اللغة الكيفية طويلا، وتجمعت لديها خلال ذلك كمية لا بأس بها من المعلومات، وخاصة في الوقت الذي كان فيه الكيمائيون القدامى يبحثون بلا جدوى عن وسائل تحويل المعادن الرخيصة (كالنحاس) إلى ذهب، فخلال فترة «الهوس» الطويلة هذه عرفت أشياء كثيرة عن خواص الأجسام وتفاعلاتها، ولكن هذه المعرفة كانت خبرات متوارثة أو تجارب عشوائية ولم تكن علما؛ لأنها لم تكن تستخدم إلا لغة الكيف، ولم تبدأ الكيمياء دخول المرحلة العلمية إلا في القرن الثامن عشر عندما طبقت فيها المناهج الكمية، واستخدمت في التعبير عن حقائقها النسب والمعادلات الرياضية.
أما في مجال العلوم الإنسانية، فيمكن القول أن النزاع لم يبت فيه بعد بين أنصار التعبير الكيفي والتعبير الكمي عن الظواهر البشرية؛ إذ لا تزال توجد حتى يومنا هذا مدارس تؤكد أن الظاهرة الإنسانية مختلفة - من حيث المبدأ - عن الظاهرة الطبيعية؛ ومن ثم فإن أساليب التعبير عن الثانية لا تصلح للأولى، وإنما يجب أن نحتفظ للإنسان بمكانته الخاصة، ونعترف بطبيعته شديدة التعقيد، فلا نفرق في تبسيطها باستخدام لغة الرياضيات، وفضلا عن ذلك فإن الإنسان كائن فريد، وأهم ما في أي فرد هو العناصر التي يختلف فيها عن الآخرين، لا تلك التي يشترك فيها معهم. ومن هنا كان استخدام لغة الرياضيات يعني إزالة أهم مميزات الإنسان، واستبقاء أقل الأشياء أهمية، أعني تلك العناصر المشتركة التي تقبل التعبير عنها بلغة عددية، وفي مقابل ذلك يؤكد غيرهم أن مسار المنهج العلمي ينبغي أن يكون واحدا في جميع المجالات، وأن الدراسة الفردية للإنسان تعود بنا إلى عهد التعبير الفلسفي أو الفني أو الشعري عن مشاكله، على حين أننا إذا أردنا أن ننتقل إلى المرحلة العلمية في دراسة الإنسان فلا بد أن نتبع نفس الأساليب التي اتبعت بنجاح في بقية العلوم، مع عمل حساب الفوارق المميزة بين موضوع الدراسة الإنسانية وموضوع الدراسة الطبيعية. ويمكن القول أن هذا الرأي هو الذي ترجح كفته حاليا في ميدان العلوم الإنسانية، وإن كانت هناك مدارس لا يمكن تجاهلها ما زالت متمسكة بالرأي الأول.
والرياضة بطبيعتها علم مجرد؛ أي إنه لا يتحدث عن أشياء ملموسة، فحين نقول: إن 3 + 2 = 5 يكون المقصود من هذا أية ثلاثة أشياء محددة، وإنما المقصود هو العلاقة المجردة بين حدود معينة، بغض النظر تماما عما إذا كانت هذه الأرقام تعبر عن بشر أو فاكهة أو كتب ... إلخ. وتلك حقيقة يعرفها تلميذ المدرسة الابتدائية، الذي نعوده التجريد منذ مرحلة مبكرة من عمره، بعد أن يكون قد بدأ يلم بحقائق الحساب البسيطة في بداية مرحلته التعليمية بصورة ملموسة، عندما نقدم إليه فكرة الجمع والطرح عن طريق «البلي الملون» الذي نجمعه أو نطرحه على أسلاك حديدية. ففترة التعليم من خلال أمثلة ملموسة كهذه لا تستمر طويلا، وسرعان ما يصبح من الضروري أن نعوده كيف يتعامل مع الرقم «ثلاثة» ناسيا أنه يعبر عن ثلاث بليات أو ثلاث برتقالات، وعندما ينتقل إلى المرحلة التعليمية التالية، نعوده على مزيد من التجريد حين نقدم إليه حقائق الرياضة في صورة رمزية جبرية، فيعرف أن المعادلة س + ص = ص + س تظل صحيحة مهما كانت القيم العددية للحرفين س وص، أي إن التجريد هنا أصبح يسري على الأرقام ذاتها.
ومن هنا كان التجريد صفة ملازمة للعلم: سواء تم ذلك التجريد عن طريق الرياضة (وهو الأغلب) أو عن طريق أي نوع آخر من الرموز أو الأشكال، فحين يتحدث عالم الفلك مثلا عن المدار البيضاوي لكوكب معين، لا يعني بذلك أن هذا الكوكب يرسم وراءه مدارا محددا في السماء، وإنما يعني ذلك الخط الذي نتصور - بناء على تتبع حركة الكواكب - أنه يسير فيه. وحين يتحدث عالم الجغرافيا عن خط الاستواء أو خط جرينتش لا يقصد خطا عرضيا أو طوليا مرسوما على صفحة الكرة الأرضية، بل يقصد خطا تخيليا نرمز به إلى الأماكن والمواقع على سطح هذه الأرض، وهذه الخطوط ومعها مختلف الرموز التي نستخدمها في العلم هي عالم مصطنع يخلقه العالم، ولا وجود له في الطبيعة، بل إن وجوده ذهني فحسب.
هذا العالم المصطنع الذي نستحدثه في أبحاثنا العلمية وتلك التجريدات العقلية التي نفهم من خلالها الظواهر الطبيعية، تباعد بيننا وبين عالم التجربة اليومية بالتدريج، ولو تتبعنا مسار العلم لوجدنا أن نصيب هذه التجربة المألوفة يتضاءل فيه على الدوام، على حين يزداد العلم إيغالا في عالم الرموز والتجريدات الذي خلقه بنفسه، ويصبح القدر الأكبر من التعامل الذي يقوم به العالم هو تعامله مع تلك الكيانات الفعلية التي استحدثها لكي يفهم بواسطتها الظواهر. ومن هنا كان ذلك الاتهام الذي وجهه البعض إلى العلم بأنه يفصلنا عن منابع الحياة العينية الملموسة، ويقيم عالما مصطنعا أشبه بالهيكل العظمي الذي خلا من اللحم والدم والحيوية، ويكتفي بالعلاقات المجردة بين الظواهر، وهي دائما علاقات خارجية لا تنفذ أبدا إلى صميم الواقع، ولسنا في حاجة إلى مناقشة هذا الاتهام ما دمنا قد رددنا عليه في موضع آخر،
3
ولكن الأمر الذي نود أن نوجه إليه نظر القارئ هو أن تطور العلم نحو التجريد كان أمرا تحتمه مصلحة العلم ذاته، وبالتالي يحتمه تقدم المعرفة وتقدم الإنسان؛ فاستخدام الرموز الرياضية ولغة الكم يساعد - كما قلنا - على التعبير عن حقائق العلم بمزيد من الدقة؛ إذ إن الفرق هائل - من حيث الدقة - بين قولنا: إن الحديد ساخن كما - كان يقول القدماء بمن فيهم من العلماء حتى أوائل العصر الحديث - وبين قولنا: إن درجة حرارة الحديد 350 درجة مئوية مثلا. وفضلا عن ذلك فإن هذا التحديد الكمي يسمح بالمقارنة بين الظواهر؛ إذ تتحول الألوان مثلا من صفات كيفية إلى أرقام تعبر عن موجات ضوئية معينة، فيسهل المقارنة بينها، على حين أن النظرية الكيفية تقيم بين كل لون وآخر حواجز لا يمكن عبورها، وأخيرا فإن التعبير الكمي يتيح لنا أن نتخطى النطاق المحدد للحواس البشرية أو لقدراتنا بوجه عام. فهناك أصوات أعلى وأصوات أكثر انخفاضا مما تستطيع الأذن البشرية سماعه، وهذه الأصوات يمكن تحديد ذبذباتها كميا، وإن لم يكن من الممكن التعبير عنها باللغة الكيفية المألوفة، كذلك فإن درجات الحرارة التي يتسنى لنا تحملها هي درجات محدودة، وإذا ارتفعت الحرارة عن درجة معينة (ولتكن 50 مئوية مثلا) قلنا عن الجسم: إنه ساخن، ولأننا لا نستطيع أن نلمسه فإن الساخن بدرجة 60 لا يختلف - في ضوء النظرة الكيفية - عن الساخن بدرجة 600، ولكن التحديد الكمي والرياضي هو الذي يمكنا - مع الاستعانة بأجهزة القياس المرتبطة به - من تحديد الدرجات التي تعجز الحواس البشرية عن التعبير عنها، كما يعبر عن الفوارق الجزئية الضئيلة التي لا تستطيع حواسنا العادية تمييزها.
ولنذكر أخيرا - في صدد صفة التجريد هذه - أن هذه الصفة - التي يبدو أنها تباعد بين العلم وبين الحي الملموس - هي التي تكسب الإنسان مزيدا من السيطرة على هذا الواقع، وتتيح له فهما أفضل لقوانينه؛ فالعلم المعاصر الذي تبدو كتبه وأبحاثه كما لو كانت تعيش متقوقعة في عالمها الخاص المليء بالرموز والمعادلات والأشكال الهندسية. هذا العلم هو الذي يتمكن - عن طريق هذه الرموز المجردة ذاتها - من أن يقدم إلينا في كل يوم كشفا واختراعا جديدا يجعلنا نسيطر على نحو أفضل على ظروف معيشتنا، ويرفع مستوى حياتنا اليومية ذاتها بلا انقطاع، وتلك هي الصفة الفريدة حقا في العلم؛ أن طريقته في السيطرة على العالم الملموس والتغلغل فيه هي أن يبتعد عنه ويجرده من صفاته العينية المألوفة.
الفصل الثاني
عقبات في طريق التفكير العلمي
العلم ظاهرة متأخرة في تاريخ البشرية، وسواء أكنا من القائلين بأن العلم - بمعناه الصحيح - ظهر منذ أربعة قرون في عصر النهضة الأوروبية، أو بأنه يرجع إلى العصر اليوناني القديم حين اهتدى الإنسان - لأول مرة - إلى منهج البرهان النظري والمنطقي على قضاياه، أو حتى إلى الحضارات الشرقية الأقدم عهدا التي تركت لنا تراثا يدل على وجود معارف متراكمة لديها تستحق اسم العلم. أقول: إننا سواء أكنا من القائلين بهذا الرأي أو ذاك، فلا بد لنا من الاعتراف بأن البشرية عاشت قبل ذلك عشرات الألوف من السنين دون أن يتكشف نشاطها عن تلك الظاهرة التي نطلق عليها اسم العلم، ولو كنا ممن يتقيدون بالمعنى الدقيق لكلمة العلم، ويشترطون لكي تكون المعرفة علما أن تكون قد اكتسبت مناهج منضبطة تجمع بين الملاحظة الدقيقة والفرض العقلي والتجريب التطبيقي، وتصطنع الرياضة لغة للتعبير عن قوانينها؛ لوجب علينا عندئذ أن نشبه البشرية بإنسان عاش سبعين سنة من عمره أميا، ولم يتعلم القراءة والكتابة إلا في اليومين الأخيرين من حياته!
بل إننا نستطيع أن نقول إن البشرية - منظورا إليها ككل - ما زالت بعيدة عن اكتساب جميع سمات التفكير العلمي، وما زال هذا التفكير يقتصر فيها على مجتمعات معينة، وحتى في هذه المجتمعات يتعرض العلم لتشويهات عديدة قد تظهر حتى بين المتخصصين فيه.
فهل يعني ذلك أن العقل الإنساني ظل خلال هذا التاريخ الطويل خاملا؟ من المؤكد أن الوعي والتفكير العقلي والنشاط الروحي لم تتوقف لحظة واحدة طوال تاريخ الإنسان، بل إنها تكاد تكون مرادفة لهذا التاريخ؛ فمنذ أبعد العصور أنتج الإنسان فنونا كان بعضها رفيعا، كما أنتج أشعارا وحكما، وعرف العقائد والشرائع وكون لنفسه نظما اجتماعية وأخلاقية، أي إن عقله يعمل بلا انقطاع، فلماذا إذن لم ينتج العلم إلا في وقت متأخر؟
لقد آثر الإنسان - طوال الجزء الأكبر من تاريخه - ألا يواجه الواقع مواجهة مباشرة، وأن يستعيض عنه بأخيلته أو صوره الذاتية، وهذا أمر لا يصعب فهمه؛ إذ إن المواجهة المباشرة للواقع فيها صعوبة ومشقة، وتحتاج منه إلى بذل جهد كبير، وعليه أن يروض ذاته على اطراح ميولها الخاصة جانبا، وقبول الظواهر على ما هي عليه، ثم استخلاص القانون الكامن من وراء هذه الظواهر، وهو أمر يقتضي مستوى عاليا من التجريد. وهكذا يمكن القول: إن اتجاه الإنسان نحو العلم ينطوي على قدر كبير من التضحية؛ التضحية بالراحة والهدوء والاستسلام للخيال السهل الطليق، كما ينطوي على عادات عقلية فيها قدر كبير من الصرامة والقسوة على النفس. ولقد قال البعض: إن العلم لم يبدأ إلا مع «الرياضة»، وأحسب أن هذه العبارة تغدو أبلغ وأدق في التعبير عن البداية الحقيقية للحلم لو فهمنا لفظ «الرياضة» هذا، لا بمعنى أنه علم الأرقام والكم فحسب، بل أيضا بالمعنى النفسي والأخلاقي؛ أي بمعنى رياضة «الروح أو النفس» على اتباع نهج شاق من أجل فهم الظواهر بالعقل والمنطق الدقيق.
وبعبارة أخرى فإن العلم يظهر منذ اللحظة التي يقرر فيها الإنسان أن يفهم العالم كما هو موجود بالفعل، لا كما يتمنى أن يكون، ومثل هذا القرار ليس عقليا فحسب، بل هو بالإضافة إلى ذلك - وربما «قبل» ذلك - قرار معنوي وأخلاقي، ولا بد للعقل البشري أن يكون قد تجاوز مرحلة الطفولة - التي نصور فيها كل شيء وفقا لأمانينا - إلى مرحلة النضج التي تتيح لنا أن نعلو على الخلط بين الواقع والحلم أو الأمنية، وهذا مستوى لا يصل إليه الإنسان إلا في مرحلة متأخرة من تطوره.
أما قبل هذه المرحلة فكان من الطبيعي أن يستعيض الإنسان عن العلم بالحلم، دون أن يدري أنه يحلم. وكان من الطبيعي أن تظل البشرية كلها - طوال ألوف عديدة من السنين وفي جميع أرجاء الأرض بلا استثناء - مبتعدة عن رؤية الواقع وفهمه على ما هو عليه. وخلال هذه الفترة «الحالمة» كان الأدب والفن هما المظهر الرئيسي لنشاط الإنسان الروحي. وفي الآداب والفنون يهتم الإنسان بمشاعره الذاتية أكثر مما يهتم بالعالم المحيط به، وإذا اتجه إلى هذا العالم الخارجي فإنما يتجه إليه من خلال أحاسيسه الخاصة وميوله الذاتية، فلا يرى إلا مرآة تنعكس عليها انفعالاته وعواطفه.
بل إننا نستطيع أن نقول إن الفلسفة ذاتها - حين سارت في طريقها الخاص بوصفها نشاطا عقليا خالصا عند اليونانيين - كانت تهتم باتساق بنائها الداخلي، وبتماسك التركيب العقلي الذي يكونه الفيلسوف أكثر مما تهتم بالعالم الواقعي، وهذه سمة يمكن استنتاجها بوضوح مما عرضناه من قبل عن الصفات المميزة للعلم النظري (المختلط بالفلسفة) عند اليونانيين، وحين كانت الفلسفة تتحدث عن عالم الواقع كانت في معظم الأحيان تصفه بأنه خداع، بل تعد الحواس خداعة؛ لأنها تختص بإدراك عالم مادي من طبيعته ألا يكون موضوعا لمعرفة صحيحة.
وهكذا ظل الإنسان طويلا يستعيض عن العلم بخيالاته وانفعالاته وحدسه وأفكاره المجردة، ولم يصطنع منهجا يتيح له الاتصال المباشر بالواقع عن طريق الجمع بين العقل والتجربة إلا في مرحلة متأخرة من تاريخه، فلا بد إذن أن عقبات أساسية حالت دون تحقيق هذا الاتصال المباشر بين الإنسان والعالم عن طريق العلم، ولا بد أن الإنسان قد بذل جهودا كبيرة حتى استطاع أن يسيطر على عقله؛ ومن ثم يسيطر على العالم، ولا بد أن تاريخ النشاط الروحي والعقلي للإنسان كان تاريخا للأخطاء والأوهام التي تغلب عليها الإنسان بمشقة بقدر ما كان تاريخا لحقائق اكتسبت بالتدريج، فما هي هذه العقبات التي أخرت ظهور العلم، والتي لا تزال تشوه صورة المعرفة العلمية حتى يومنا هذا عند فئات كثيرة من البشر؟ (1) الأسطورة والخرافة
ظلت الأسطورة تحتل المكان الذي يشغله العلم الآن طوال الجزء الأكبر من تاريخ البشرية.
وترجع أسباب انتشار الفكر الأسطوري إلى أنه كان يقدم - في إطار بدائي - تفسيرا متكاملا للعالم؛ فالأساطير القديمة تعبر عن نظرة الشعوب التي اعتنقتها إلى الحياة والطبيعة والعالم، وتقدم تفسيرا يتلاءم مع مستوى هذه الشعوب ويرضيها إرضاء تاما، وهي - فضلا عن ذلك - تجمع بين الطبيعة والإنسان في وحدة واحدة، يزول فيها الحد الفاصل بين هذا وذاك، بحيث يبدو العالم متلائما مع غايات الإنسان محققا لأمانيه، وهي - كما قلنا منذ قليل - سمة رئيسية من سمات الفكر غير الناضج في عصور طفولة البشرية.
ومن الصعب أن يضع المرء حدا فاصلا دقيقا بين الأسطورة والخرافة، ولكن لو شئنا الدقة لقلنا: إن التفكير الأسطوري هو تفكير العصور التي لم يكن العلم قد ظهر فيها بعد، أو لم يكن قد انتشر إلى الحد الذي يجعل منه قوة مؤثرة في الحياة وفي طريقة معرفة الإنسان للعالم؛ فالأسطورة - كما قلنا - كانت تقوم بوظيفة مماثلة لتلك التي أصبح يقوم بها العلم بعد ذلك، وكانت هي الوسيلة الطبيعية لتفسير الظواهر في العصر السابق على ظهور العلم، أما التفكير الخرافي فهو التفكير الذي يقوم على إنكار العلم ورفض مناهجه، أو يلجأ - في عصر العلم - إلى أساليب سابقة على هذا العصر، وقد لا يكون هذا التحديد للفارق بين لفظي: «الأسطوري» و«الخرافي» دقيقا كل الدقة، ولكنه يفيد على أية حال في التمييز بين هذين اللفظين اللذين يختلطان - في كثير من الأحيان - في أذهان الناس. ونستطيع أن نضيف إلى ذلك فارقا آخر، هو أن الأسطورة غالبا ما تكون تفسيرا «متكاملا» للعالم أو لمجموعة من ظواهره، على حين أن الخرافة «جزئية» تتعلق بظاهرة أو حادثة واحدة. ففي العصور البدائية والقديمة كانت الأسطورة تمثل نظاما كاملا في النظر إلى العالم والإنسان، وكان هذا النظام يتسم - في كثير من الأحيان - بالاتساق والتماسك الداخلي، أما الخرافات فتتعلق بالتفاصيل، وهي قد تكون متعارضة أو متناقضة فيما بينها؛ لأن أحدا لا يحاول أن يوفق بين الخرافات المختلفة ويكون منها نظاما أو نسقا مترابطا، ومع ذلك فمن الواجب أن نعترف بأن اللفظين يستخدمان في أحيان كثيرة بمعنى واحد أو بمعنيين متقاربين، وإن كانت الدقة العلمية توجب التمييز بينهما.
وأهم مبدأ ترتكز عليه الأسطورة هو المبدأ الذي يعرف باسم «حيوية الطبيعة»
Animism ، والمقصود بهذا المبدأ هو أن التفكير الأسطوري يقوم أساسا على صبغ الظواهر الطبيعية غير الحية بصبغة الحياة؛ بحيث تسلك هذه الظواهر كما لو كانت كائنات حية تحس وتنفعل وتتعاطف أو تتنافر مع الإنسان. ولو فكرنا مليا في أية أسطورة فسوف نجدها تعتمد على هذا المبدأ اعتمادا أساسيا؛ فأسطورة إيزيس وأوزوريس - التي كان المصريون القدماء يفسرون بها فيضان النيل - هي إضفاء لطابع الحياة ولانفعالات الأحياء على ظاهرة طبيعية هي الفيضان، وأسطورة خلق العالم على يد سلسلة الآلهة التي تبدأ من زيوس - عند اليونانيين - تقوم على هذا المبدأ نفسه؛ إذ يكون لكل جزء من الطبيعة إله خاص به، ويسلك هذا الإله سلوكا مشابها لسلوك البشر، وقل مثل هذا عن أية أسطورة عند أي شعب قديم أو بدائي.
ولكي ندرك مدى الاختلاف بين هذه النظرة الأسطورية إلى العالم وبين النظرة العلمية الحديثة، ينبغي أن نشير إلى أن مطلب العلم - في الوقت الحاضر - هو المطلب المضاد؛ فعلى حين أن الأسطورة تفسر غير الحي عن طريق الحي؛ فإن العلم يسعى إلى تفسير الحي عن طريق غير الحي؛ أي إن العلم يحاول أن يجد لظواهر الحياة تفسيرا من خلال عمليات فيزيائية وكيميائية، وقد يتفاوت نصيبه في النجاح من مجال إلى آخر، ولكن ما يهمنا هو الهدف الذي يقف على النقيض من هدف التفسير الأسطوري للظواهر.
ولقد كان من الطبيعي أن يسود هذا النوع من التفسير الأسطوري في عصور طفولة البشرية؛ إذ إن أول ما يتوقع من الإنسان حين يحاول أن يفهم العالم المحيط به هو أن يفهمه في ضوء الحالات التي يمر بها هو ذاته؛ لأن المشاعر والانفعالات هي أمور نحس بها في أنفسنا مباشرة، ولا تحتاج إلى تعليم أو تدريب خاص، ومن هنا فقد كان طبيعيا أن يصبغ الإنسان - في أول عهده بالمعرفة - ظواهر الطبيعة بصبغة تلك الأحاسيس والخبرات التي يشعر بها في نفسه شعورا مباشرا، فيتصورها كما لو كانت تنفعل وتفرح وتغضب وتحب وتكره مثله. وهكذا علل البشر كسوف الشمس في إطار التفسير الأسطوري بأن الشمس غاضبة أو بأنها «مكسوفة» (كما تغطي المرأة وجهها حين «تنكسف»)، وما زال لأمثال هذه التفسيرات وجوده في مجتمعاتنا الشرقية حتى اليوم.
ومن الجدير بالذكر أن مبدأ «حيوية الطبيعة» - الذي قلنا إن الفكر الأسطوري كله يرتكز عليه - ظل عقبة في طريق العلم في أوروبا ذاتها حتى القرن الثامن عشر على الأقل إن لم يكن بعد ذلك؛ فقد كانت ظاهرة الكهرباء تعد دليلا على وجود مبدأ حيوي يتغلغل في الأجسام غير الحية، كذلك كانت المغناطيسية تعد مظهرا لوجود الحياة في الطبيعة،
1
بل إن بعض علماء أوروبا المشهورين ظلوا - حتى القرن الثامن عشر - يقولون بإمكان الاهتداء إلى ذكور وإناث في المعادن، وكان ذلك يبعث في نفوسهم أملا كبيرا في أن يأتي اليوم الذي يكتشف فيه الذهب المذكر والذهب المؤنث، حتى يمكن تحقيق «التكاثر» في هذا المعدن النفيس! بل إن كفاح العالم الفرنسي الكبير «باستير»
ضد مبدأ التولد التلقائي
generation spontanée
وهو المبدأ الذي كان يعتقد وفقا له أن الكائنات الحية الدقيقة - كالديدان وغيرها - تتولد في بعض الأجسام الطبيعية «تلقائيا» دون أن تكون قد تولدت عن كائنات حية مماثلة. أقول: إن هذا الكفاح المرير الذي خاضه «باستر» ضد أكبر علماء عصره يدل على أن بقايا مبدأ «حيوية الطبيعة» ظلت راسخة في أذهان العلماء الأوروبيين حتى وقت متأخر من القرن التاسع عشر، ولا يعني ذلك أن العلم الأوروبي كان متخلفا أو متوقفا عند مرحلة بدائية، بل إن هناك كشوفا عظيمة كانت تتحقق منذ القرن السابع عشر، وكل ما تعنيه هو أن كشف الحقائق العلمية يتم - في كثير من الأحيان - في إطار تكتنفه كثير من عناصر الخطأ.
ولعل من أوضح الأدلة على أن الفكر الأسطوري ظل محتفظا بمكانته فترة أطول مما ينبغي: استمرار ذلك النوع من التعليل المسمى بالتعليل «الغائي»
Teleological
للظواهر، أعني تفسير ظواهر الطبيعة من خلال «الغايات» التي تحققها هذه الظواهر للبشر، فنحن نتصور - مثلا - أن الشمس تطلع كل صباح لكي تدفئ أجسامنا، وأن القمر والنجوم تظهر كل مساء لكي تنير أو تهدي التائهين منا في الليل. ونحن نعتقد أن المطر ينزل لكي يروي الزرع، وأن رقبة الزرافة طويلة لكي تستطيع أن تصل إلى أوراق الأشجار الحالية وتتغذى بها. وهكذا نتصور أن للحوادث الطبيعية أغراضا وغايات، ونعتقد أن التفسير الحقيقي لهذه الحوادث إنما يكمن في تلك الأغراض والغايات.
وإذا كان مبدأ «حيوية الطبيعة» - أي وصف الطبيعة بصفات الكائنات الحية ولا سيما الإنسان - هو - كما قلنا من قبل - المبدأ الأساسي الذي يقوم عليه الفكر الأسطوري، فمن السهل أن ندرك أن فكرة «الغائية» في تفسير الطبيعة إنما هي تطبيق مباشر لهذا المبدأ أو امتداد له؛ ذلك لأن الغايات تقوم بدور أساسي في عالم الإنسان، وهي في هذا العالم تؤدي وظيفة طبيعية لا يستطيع أحد أن يزعم بأنها تتعارض مع العلم؛ فالإنسان يوجه سلوكه بالفعل نحو غايات معينة؛ أي إنه يستذكر دروسه لكي ينجح، ويطهو الطعام لكي يأكل، ويخرج إلى الشارع لكي يتنزه. ولو سألت هذا الشخص في الحالات السابقة: لماذا ذاكرت؟ أو لماذا خرجت ... إلخ؟ لكان الجواب الطبيعي: لكي أفعل كذا. أي إن التعليل الطبيعي لتصرفاتنا - في هذه الحالات - يأتي عن طريق الإشارة إلى الغاية منها. ومن هنا كان للغائية دور أساسي في المجال البشري، وكان من الممكن تحليل كثير من أفعال الإنسان عن طريق الغايات المقصودة منها.
ولكن الخطأ الذي وقع فيه المفكرون والعلماء أنفسهم أحيانا - خلال عصور طويلة ماضية - هو أنهم نقلوا هذه الفكرة بحذافيرها من مجال الإنسان إلى مجال الطبيعة، وتصوروا أن الحوادث الطبيعية يمكن تعليلها بغاياتها، قياسا على ما يحدث في عالم الإنسان. وهكذا فإنك إذا سألت: لماذا يسقط المطر؟ كان رد أنصار التفكير الغائي هو: لكي يروي الزرع. وإذا سألت: لماذا يحدث الزلزال أو الفيضان؟ كان الرد: لكي يعاقب أناسا ظالمين. وهكذا يتصور هؤلاء أن مسلك الطبيعة مماثل لمسالك الإنسان، فيقعون بذلك في شرك التفكير الأسطوري.
والواقع أن الطبيعة لا تعرف «غايات» بالمعنى الذي نفهم به نحن هذا اللفظ، بل إن حوادثها تحكمها الضرورة فحسب، ولا يحدث فيها شيء - كسقوط المطر أو وقوع فيضان ... إلخ - إلا إذا توافرت الأسباب الطبيعية المؤدية إليه، وعندما تتوافر هذه الأسباب يكون حدوث الظاهرة أمرا حتميا. أما الغايات فإننا نحن الذين نخلقها، ونستغل من أجلها حوادث الطبيعة؛ فنحن قد وجدنا المطر بالفعل ثم اكتشفنا بالتجربة فائدته في ري الزرع، فخلقنا هذه الغاية له، أما المطر ذاته فكان سيسقط سواء روينا به زرعنا أم لم نروه، وقس على ذلك بقية الحالات.
والدليل الواضح على إخفاق التعليل الغائي للظواهر الطبيعية، هو أن هذا التعليل كثيرا ما يتخبط ويتناقض؛ ففي الوقت الذي يعتقد فيه البعض أن المطر يسقط من أجل ري زراعته، يرى البعض الآخر أنه يسقط لكي يروي ظمأه أو ظمأ ماشيته، ويرى غيرهم أنه يسقط لكي يصنع بركة يستحم فيها، بينما يرى صاحب الكوخ الهش أن سقوط المطر نقمة عليه، وحتى الفيضان أو الزلزال - الذي يبدو أنه لا يمكن أن يفسر إلا بأنه نقمة - لا يصيب الأشرار وحدهم، وإنما تضيع فيه أرواح بريئة كما تضيع فيه أرواح آثمة، بل إن الأرواح البريئة - كما في حالة الأطفال والمسنين مثلا - ربما كانت أكثر تعرضا للضياع فيه من الأرواح الآثمة ... هذا فضلا عن أن حادثا مؤلما كهذا لا يخلو من النفع لبعض الناس، كمتعهدي نقل الموتى مثلا! وهكذا تتباين الغايات التي يمكننا أن ننسبها إلى الظاهرة الواحدة حسب مصالحنا ووجهات نظرنا الخاصة، ويتضح لنا أن تفسير ظواهر الطبيعة على أساس غايات مستمدة من المجال البشري هو تفسير باطل لا يخلو من التخبط والتناقض؛ ولذا لم يكن من المستغرب أن يتخلى التفكير العلمي عن فكرة «الغائية» ويعدها امتدادا للطريقة الأسطورية في فهم العالم، وإن يكن التفسير الغائي للظواهر أشد خفاء وأصعب تفنيدا من التفسير الأسطوري المباشر.
وهكذا أصبح العلم يقتصر - في فهمه للظواهر الطبيعية - على الأسباب التي تؤدي إلى حدوث هذه الظواهر؛ أي على ما يطلق عليه اسم «العلل أو الأسباب الفاعلة»، وهي الشروط الضرورية التي لا يحدث الشيء إلا إذا توافرت، ولا بد إذا توافرت من أن يحدث الشيء. وهذا النوع من الأسباب يتعلق بالمقدمات التي تمهد لحدوث الظاهرة، والتي تسبقها في الزمان، أي إن الماضي هو الذي يتحكم في الحاضر في حالة الظواهر الطبيعية، أما في حالة الظواهر البشرية - التي يمكن أن يكون للغايات وجود فيها - فإن «المستقبل» أيضا، بالإضافة إلى الماضي، يمكن أن يكون سببا للأحداث؛ فالإنسان لا يتصرف بناء على سوابق ماضية فحسب، بل يتصرف أيضا لأنه يخطط لهدف أو لمشروع في المستقبل، ولكن هذه صفة ينفرد بها الإنسان ولا تعرفها الطبيعة، وربما كانت هي التي أعطت الإنسان مركزه الفريد في الكون.
على أنه إذا جاز لنا أن نقول إن الفكر الأسطوري - في مجمله - قد اختفى باختفاء العصر الذي كانت فيه الأسطورة تحل محل العلم، فإن الفكر الخرافي ظل يعايش العلم فترة طويلة، وما زال يمارس تأثيره على عقول الناس حتى يومنا هذا. ولقد عاشت البشرية أمدا طويلا وهي حائرة بين الخرافة والعلم؛ لأن الخط الفاصل بينهما لم يكن في البداية واضحا كما هو اليوم، وخلال هذه الفترة كانت الأمور مختلطة ومتداخلة، وكان كثير من العلماء يجمعون بين عناصر من الخرافة وعناصر من البحث العلمي في مركب واحد لا يشعرون بأنه ينطوي على أي تنافر.
ولنضرب لذلك مثلا من ميدان التنجيم وعلم الفلك؛ فممارسة التنجيم كانت تتطلب معرفة واسعة بالحقائق الفلكية، و«الأبراج» التي يقول المنجمون إنهم يعرفون بها الطالع هي أشبه ما تكون بخريطة كبرى للسماء، تضم كثيرا من المعلومات الفلكية الصحيحة. واسم التنجيم ذاته يفترض معرفة بالنجوم، ومن ثم كان تداخله مع علم الفلك، بل إن كبار الفلكيين كانوا في الوقت ذاته منجمين، وهذا ينطبق على العصور القديمة والعصور الوسطى الإسلامية والأوروبية، بل وعلى أوائل العصر الحديث أيضا. فحتى كبلر ذاته - أعني ذلك العالم الألماني العظيم الذي حدد المدارات البيضاوية للكواكب واهتدى إلى مجموعة من أعظم القوانين الفلكية الرياضية - كان يؤمن بالتنجيم ويمارسه، ولم يكن يعتقد أن ممارسته له تتعارض على أي نحو مع عمله العلمي الدقيق. بل إن السعي إلى جعل التنجيم والتنبؤ بالطالع أدق ربما كان واحدا من أهم الأسباب التي حفزت العلماء على الاشتغال بعلم الفلك، والتي جعلت هذا العلم - الذي يتناول ظواهر تبدو بعيدة كل البعد عن اهتمام الإنسان على هذه الأرض - يصبح واحدا من أقدم العلوم البشرية عهدا ومن أدقها منهجا، ولولا أن الحكام كانوا يحرصون على معرفة طالعها، ويستشيرون المنجمين في قراراتهم الهامة لما أولوا علم الفلك ذلك الاهتمام وقدموا إليه ذلك التشجيع الذي أدى إلى نهوضه منذ وقت مبكر.
ولدينا مثل آخر في ظاهرة السحر، فقد تداخلت الممارسات السحرية مع الممارسات العلمية وقتا طويلا، وبالرغم من أن السحر كان مبنيا على معتقدات خرافية لا صلة لها بالعلم، فقد كان السحرة يلجئون، في كثير من الأحيان، إلى التعامل مع مواد الطبيعة وعناصرها على نحو يؤدي بهم إلى الكشف عن كثير من أسرارها، مما دعا بعض مؤرخي العلم إلى النظر إلى السحر بوصفه ممهدا للعلم التجريبي ولعلوم الكيمياء والأحياء بوجه خاص. ومع ذلك فقد نشبت معركة حامية بين العلم والسحر في مطلع العصر الأوروبي الحديث، ولم يكن رجال الكنيسة بمعزل عن هذه المعركة، وإن كانوا قد وقفوا موقفا معاديا للطرفين معا؛ فالسحرة في نظرهم تتقمصهم أرواح شريرة؛ ومن ثم كان من الواجب حرقهم. أما العلماء فهم ينادون بتعاليم مضادة لما تقول به الكنيسة، ومن ثم فمن الواجب اضطهادهم، وفي بعض الأحيان كان العلماء يتهمون بالسحر؛ حتى تكون إدانتهم أيسر، وبالفعل راح عدد غير قليل من الباحثين في العلوم الحديثة ضحية الاتهام بالسحر.
على أن هذا التداخل والاختلاط بين النظرة الخرافية والنظرة العلمية لم يدم وقتا طويلا، بل إن معالم النظرتين قد أخذت تتضح بالتدريج، وبدأت الطريقة العلمية في النظر إلى الأمور تثبت تفوقها الساحق على الطريقة الخرافية؛ وذلك لسببين؛ أولهما أن فهم قوانين الطبيعة من خلال العلم يتيح للإنسان سيطرة حقيقية على ظواهرها، ويمكنه من تغيير مجرى حوادثها لصالحه، على حين أن النظرة الخرافية تجعله يقف من الطبيعة موقفا سلبيا عاجزا، وحين بدأت ثمار التطبيقات العلمية تصبح متاحة للجميع، وأثبت العلم - بطريقة ملموسة - قدرته على السيطرة على الطبيعة بطريقة لا يحلم بها الساحر ذاته، لم يعد هناك مبرر لبقاء الطريقة السحرية الخرافية.
أما السبب الثاني فهو أن العلم قد أثبت أن نتائجه مضمونة يمكن التنبؤ بها، على حين أن نتيجة السحر الخرافية غير مضمونة على الدوام، فحين يدرس العالم ظاهرة معينة ويتوصل إلى العوامل المتحكمة فيها يستطيع أن يضمن استخدامها لصالح الإنسان بطريقة معلومة مقدما، أما إذا واجه هذه الظاهرة عن طريق أحجبة أو تعاويذ سحرية، فقد يصل إلى النتيجة المطلوبة مرة، ولا يصل إليها عشرات المرات، والأدهى من ذلك أنه لن يكون قادرا حتى على التنبؤ بالحالة التي سيكون سحره فيها فعالا، وسط عشرات الحالات التي يعجز فيها هذا السحر. وهكذا آثر الإنسان العلم؛ لأنه اكتسب ثقة في نتائجه، ولم يعد الناس يلجئون إلى الخرافات - في معظم الأحيان - إلا في الحالات التي لا يكون العلم فيها قد أحكم قبضته على الظواهر، كما في حالة الإصابة بمرض عضال لم يستطع العلم بعد أن يكتشف علاجا له.
والواقع أن هذه الحقيقة الأخيرة تشير إلى سمة هامة من سمات التفكير الخرافي؛ فقد ذكرنا أن نتائج السحر أو الخرافة غير مضمونة، وأنها في مقابل كل مرة تنجح فيها تخفق عشرات المرات، ومع ذلك فإن من أهم أسباب استمرار هذا اللون من التفكير: اتجاه العقل البشري إلى التعميم السريع، حيث يؤمن بفاعلية السحر أو الخرافة بناء على نجاح أمثلة قليلة جدا (وهو قطعا نجاح تحقق بالصدفة)، دون أن يختبر الحالات الكثيرة الأخرى التي أخفق فيها هذا الأسلوب؛ فنحن نقول عن فلان أو فلانة (وغالبا ما تكون «فلانة»): إن أحلامها لا تخيب، وإن لديها القدرة على رؤية حوادث مقبلة في الأحلام؛ لمجرد أنه حدث مرة أو مرتين أن تحقق شيء رأته في حلم، ولو سلمنا بأن هذا حدث (مع أنها ربما كانت قد روت هذا الحلم - بحسن نية - «بعد» وقوع الحادث، بحيث يبدو لها أنها حلمت به، وربما لم تكن تذكر بدقة ما حدث في الحلم، وربما كانت مشغولة بهذا الحادث مدة طويلة وتتوقع حدوثه لوجود مقدمات تدل عليه). فلنتذكر أننا نسقط من حسابنا ألوف الأحلام التي حلمت بها صاحبة «الرؤية التي لا تخيب»، والتي لم يتحقق منها شيء، وكل ما يعلق في ذهننا هو تلك الأحلام القليلة التي «تصادف» أنها تحققت.
ولما كان التركيز ينصب على الحالات القليلة التي تحققت، فإن الناس «يعممون» الحكم بحيث ينطبق على «جميع الحالات»، وعلى هذا النحو تنمو لدى الناس وتنتشر أسطورة صاحبة الرؤية الصادقة أو بصيرة عراف يستشف المستقبل ... إلخ.
والواقع أن ظاهرة الفكر الخرافي أعقد من أن تكون مجرد بقية من بقايا عصور ماضية، يستطيع العلم في مسيرته الظافرة أن يكتسحها ويمحو جميع آثارها؛ ذلك لأن الفكر الخرافي يظل متأصلا في أذهان كثير من الناس حتى في صميم عصر العلم، ويظل منتشرا بين الناس حتى في أكثر المجتمعات تمسكا بالتنظيمات العلمية. فالعلم والخرافة - وإن كانا ينتميان إلى عصرين مختلفين - يظلان متعايشين في نفوس البشر أمدا طويلا، وكأنهما طبقتان جيولوجيتان متراصتان الواحدة فوق الأخرى في الجبل الواحد، وكل منهما ترجع إلى زمن مختلف،
2
بل إن الشخص الذي نال من التعليم حظا رفيعا قد يظل متمسكا بالفكر الخرافي في كثير من جوانب حياته التي لا يمسها العلم مساسا مباشرا، وهكذا لا يكون اتباعه للمنهج العلمي في المعمل أو المختبر أو جمعه حصيلة ضخمة من المعلومات العلمية؛ لا يكون ذلك عاصما لذهنه من أن يؤمن في جانب من جوانبه بالخرافات، ويرضى بتفسير للظواهر لا علاقة له - من قريب أو بعيد - بالمنهج العلمي الذي يجيد استخدامه.
وهكذا نجد في أكثر المجتمعات تقدما بقايا من التعلق بالخرافة تتمثل في إعطاء مكان الصدارة - في كثير من الصحف - للحوادث التي تبدو خارقة للطبيعة، وفي استمرار ظهور أعمدة صحفية مثل «حظك هذا اليوم»، أو قراءة الطالع من الأبراج، أو التشاؤم من الرقم 13، أو انتشار تعبيرات تحمل معنى خرافيا مثل: «امسك الخشب». إلى آخر هذه المظاهر التي تدل على أن التفكير الخرافي ما زال - في عصر الصعود إلى القمر - متشبثا بكثير من مواقعه.
ولقد ظهرت تعليلات متعددة ومتباينة الاتجاه تفسر استمرار تيار اللامعقول في مساره الخفي تحت سطح العقلانية الظاهرة للمجتمع الحديث، وإصرار الغيبيات على عدم الاختفاء من حياة الإنسان العصري، وربما كانت التعليلات النفسية أكثرها انتشارا، فهنالك من يقولون: إن الأحلام في حياة الإنسان مصدر دائم للخرافة؛ إذ إن الصور الخيالية - غير المترابطة وغير الواقعية - التي تظهر في الأحلام يمكن أن تختلط بالواقع، وتكتسب في حياة الناس طابعا متجسدا يتخذ شكل الخرافة، وربما كان الأصل الأول لكثير من الخرافات راجعا إلى وجود شخصيات مريضة لديها استعداد أكبر للخلط بين الحلم والواقع، ولتأكيد الوجود الفعلي لأشباح وأرواح تراءت لها بإلحاح في منامها. وقد ركزت مدرسة التحليل النفسي عند فرويد جهودها - في هذا الميدان - في بحث تأثير اللاشعور في رؤية الإنسان للواقع، وأسهمت بذلك في استكشاف أسباب استمرار التفكير الخرافي في عصر ينظم الناس حياتهم فيه على أساس من العلم؛ ذلك لأن الخرافة - في ضوء التحليل النفسي - لا تظهر بوصفها شيئا ماضيا لم يعد له في حياة الإنسان مكان، بل تبدو جزءا من التكوين النفسي للإنسان يظل كامنا في اللاشعور إلى أن تطرأ ظروف تصعد به إلى السطح الخارجي.
على أن التعليل المستمد من مجال علم النفس والتحليل النفسي بوجه خاص ربما لم يكن كافيا إلا لإيضاح جانب واحد من جوانب مشكلة استمرار الفكر الخرافي في المجتمع الحديث، فحتى لو سلمنا بالإيضاح الذي تقدمه مدرسة التحليل النفسي، فسيظل علينا أن نعرف تلك الظروف التي تبعث الخرافة من أعماق اللاشعور إلى مستوى التفكير أو السلوك الواعي، ولا بد أن تكون هذه الظروف منتمية إلى طبيعة المجتمع، ونوع القيم السائدة فيه، والعوامل الاجتماعية التي تتحكم في تحديد هذه القيم.
وفي اعتقادي أن الشعور بالعجز هو العامل الأساسي في ظهور الخرافة واستمرارها، وهذا الشعور يتخذ أشكالا تختلف باختلاف البيئة والعصر، ولكن نتيجته دائما واحدة؛ هي أن يلجأ الإنسان في تعليله للأحداث إلى قوى لا عقلية تساعده على التخلص من المشكلات التي يواجهها تخلصا وهميا، بدلا من أن تساعده على حلها أو حتى مواجهتها بطريقة واقعية.
ومن الممكن القول: إن شعور الإنسان بالعجز كان يتخذ في العصور القديمة شكل العجز عن الفهم، والقصور في معرفة العالم المحيط به؛ ولذا كان يعلل الظواهر التي لا يفهمها تعليلات خرافية. أما في العصر الحديث - بعد أن توصل الإنسان إلى معرفة تتيح له إجابات علمية عن الأسئلة الأساسية التي كان يعجز من قبل عن فهمها - فإن المسألة لم تعد تتعلق بالعجز عن الفهم أو المعرفة، بل أصبح العجز يتمثل في عدم القدرة على التحكم الواعي في مسار المجتمع، وفي القوى التي تسيطر عليه؛ أي إنه أصبح عجزا اجتماعيا، وهذا ما يعلل استمرار ظهور الفكر الخرافي في مجتمعات لا يمكن القول إن الجهل مخيم عليها، أو إن الفقر يطمس عقول الناس فيها. ففي كثير من البلاد الأوروبية - وفي الولايات المتحدة الأمريكية بوجه خاص - تنتشر مظاهر واضحة للتفكير الخرافي، تتمثل في «قراءة الطالع» التي تحدث أحيانا عن طريق أجهزة إلكترونية معقدة (وهو مظهر واضح لتعايش العلم والخرافة معا: الجهاز علمي متقدم، والهدف من استخدامه خرافي متخلف). كما تتمثل في وجود جماعات تمارس أنواعا من السحر (السحر الأسود) والطقوس الغريبة في قلب أغنى المجتمعات الصناعية. والتعليل المعقول لذلك هو أن الناس - برغم ما توافر لهم من معرفة وعلم وما يتمتعون به من مستوى عال للمعيشة - يعجزون عن فهم القوى التي تتحكم في مسار حياتهم، وينظرون إلى المستقبل نظرة قاتمة، ويتصورون أن العالم تشيع فيه قوى شريرة وحتمية كئيبة تفرض على الناس أن يعيشوا في توتر وخوف دائم من المصير المجهول، وهي قوى لا يمكن محاربتها إلا بقوى أخرى من نفس نوعها.
على أن الأمر الذي ينبغي أن نؤكده - في هذا الصدد - هو أن ظاهرة استمرار الفكر الخرافي بأشكال مختلفة - في المجتمعات الصناعية المتقدمة - لا تشكل مع ذلك خطرا داهما على المسار العام لهذه المجتمعات، بل إنها تظل على الدوام ظاهرة هامشية؛ فنوع الحياة التي تسود المجتمع الصناعي، حيث يحسب كل شيء وينظم بدقة وانضباط، وحيث لا يسمح أسلوب الإنتاج السائد بأن تظل هناك عناصر غير محسوبة أو غير متوقعة، وحيث تخضع الحياة اليومية ذاتها لنظام محدد لا مجال فيه للاستثناءات أو الانحرافات. أقول: إن نوع الحياة هذا يشكل ضمانا مؤكدا يعصم المجتمع - في مجموعه - من أضرار التفكير الخرافي مهما كانت درجة انتشاره على مستوى الأفراد أو الجماعات المنعزلة؛ ففي مثل هذه المجتمعات يظل المجرى العام بحياة خاضعا للعقلانية والترشيد والتخطيط المدروس، أما الميول الخرافية فتتخذ شكلا فرديا لا يؤثر على هذا المسار العام.
بل إن من الممكن القول - بمعنى معين - أن الحياة الصناعية المخططة الدقيقة هي ذاتها التي تفرض على مجتمعاتها - من آن لآخر - اللجوء إلى ألوان من التفكير الخرافي. فانتشار الخرافات في هذه البلاد هو في أساسه «رد فعل» على العلم المتغلغل في صميم كيان المجتمع، ومحاولة للتخلص من قبضة تلك العقلانية المحكمة التي تمسك بجميع جوانب حياة الناس، عن طريق بعث عناصر لا عقلية من مكمنها اللاشعوري. إنه تعبير عن تمرد الشعوب الخاضعة للعقل على هذا العقل نفسه، ورغبتها في الخروج عنه، وإن كان ذلك لا يتم إلا بصورة مؤقتة؛ لأنها في النهاية تعود إليه، ولا تستطيع أن تتخلص منه بعد أن أصبحت كل جوانب حياتها تنظم وفقا له. إنها قفزة مؤقتة إلى الماضي البعيد عبر الحاضر، وربما كانت هذه العودة تساعدهم على تحمل الضغط والتوتر الذي تجلبه لهم الحياة الصناعية بإيقاعها السريع ونظمها الحتمية الصارمة. وهكذا يكون التفكير الخرافي - في هذه الحالة - منبثقا من قلب التفكير العلمي والعقلي، ولا يفهم إلا في إطاره. بل إن العودة إلى الماضي السحيق هي في هذه الحالة نتاج للمجتمع الصناعي ذاته؛ إذ إنها تعبير عن الرغبة في «التغيير»، وعدم القدرة على الاستقرار طويلا على حالة واحدة. وهذه الرغبة في التغيير هي ذاتها جزء لا يتجزأ من طبيعة الحياة في المجتمعات الصناعية المتقدمة؛ فمن سمات هذه الحياة أنها تغير إيقاعها بسرعة، وتجدد نفسها باستمرار وترفض الجمود والاستقرار، بل إن الرغبة في التغيير تمتد عندها حتى إلى القيم الأخلاقية والاجتماعية ذاتها؛ ولذلك كان الابتعاد عن العقل والعلم - في ظاهرة الفكر الخرافي - يتم في حالة المجتمعات الصناعية المتقدمة في إطار عصر العقل والعلم واستجابة لمقتضياته. وهو وضع تبدو فيه مفارقة واضحة، ولكنه يعبر بالفعل عن وضع الفكر الخرافي في المجتمعات المعاصرة المتقدمة.
ولقد حرصنا على تأكيد هذه الحقيقة لكي نوضح - بصورة قاطعة - الاختلاف الأساسي بين وضع العالم الشرقي عموما والعربي بوجه خاص، ووضع العالم الصناعي المتقدم بالنسبة إلى موضوع التفكير الخرافي؛ ذلك لأن هناك كثيرين في بلادنا العربية يحاولون التخفيف من تأثير هذه الظاهرة - أعني ظاهرة انتشار التفكير الخرافي في بلادنا - عن طريق الإشارة إلى وجود ظواهر مماثلة في البلاد المتقدمة. ومثل هذه المحاولة للتهوين من شأن الفكر الخرافي والتخفيف من خطره على مجتمعاتنا يعيبها أنها تقف عند حدود السطح الخارجي للظواهر ولا تتغلغل في أعماقها؛ إذ يبدو ظاهريا أن الوضع متشابه في الحالتين (وإن كان مقدار انتشار الخرافات عندنا أعظم بمراحل منه في البلاد المتقدمة)، ولكن الحقيقة أن دلالة الظاهرة مختلفة في الحالتين تمام الاختلاف.
ففي حالة مجتمعاتنا يتخذ التفكير الخرافي شكل العداء الأصيل للعلم والعقل، ويمثل هذا العداء امتدادا واستمرارا لتاريخ طويل كان العلم يحارب فيه معركة شاقة لكي يثبت أقدامه في المجتمع، وإذا كان قد بدا خلال فترة قصيرة أن العلم تمكن من تأكيد ذاته في مجتمعنا العربي، فمن المؤكد أن ذلك لم يحدث على مستوى المجتمع كله، وأن العداء للعلم كان هو الغالب في بقية الفترات في تاريخنا. وهكذا فإن انتشار الخرافة يمثل - في حالتنا - تعبيرا عن جمود المجتمع وتوقفه عند أوضاع قديمة ومقاومته للتطور السريع المحيط به من كل جانب. والفرق واضح بين هذا الأسلوب في الفكر الخرافي وبين أسلوب تلك المجتمعات التي مرت بتجربة التفكير العقلي حتى أعلى مراتبها، والتي يحاول بعض أفرادها أن يرتدوا عن هذه التجربة «من موقع الاندماج فيها» لا من موقع الجهل بها أو الخوف منها أو العجز عن تحقيقها؛ أي إن الفرق واضح بين الفكر الخرافي حين يكون تعبيرا عن جمود متأصل وتحجر على أوضاع ظلت سائدة طوال ألوف السنين دون أن يرغب المجتمع في تغييرها أو يجرؤ عليه، وبين هذا الفكر ذاته حين يكون تعبيرا - محدود النطاق - عن رغبة في التغيير يشعر بها مجتمع لا يستطيع أن يظل أمدا طويلا على حالة واحدة، حتى لو كانت هذه الحالة هي التفكير العقلي الرشيد.
وتلك مسألة نجد لزاما علينا أن ننبه إليها؛ لأن بعض كتابنا - الواسعي الانتشار للأسف الشديد - يرددون نفس الحجج التي يقول بها أنصار التفكير اللاعلمي في الغرب؛ لكي يبرروا بها ابتعادنا - نحن الشرقيين - عن التفكير العلمي وعدم ثقتنا في قدرات العقل، وهذا خطأ كبير ومغالطة أكبر؛ إذ إن دوافعنا في الابتعاد عن التفكير العلمي تختلف كل الاختلاف عن دوافع مجتمع مارس هذا التفكير قرونا عديدة، في الوقت الذي لا نزال فيه نحن نكافح من أجل الدخول لأول مرة في عصر العلم الحديث.
على أننا ينبغي أن نعترف بأن أنصار الخرافة - سواء في بلادنا أم في خارجها - لا يقتصرون على تأكيد هذا النوع «المضاد للعلم» من الخرافات؛ فهناك نوع آخر يدعي الانتساب إلى العلم، ويستند على شواهد يزعم أنها علمية، ويتظاهر أنصاره بأنهم يتبعون مناهج علمية في التحقق منه، ومن هذا القبيل الاعتقاد بوجود قوى خارقة لدى بعض البشر، كالاستشفاف عن بعد
telepathy ، أو الأشكال المختلفة لما يسمى بالحاسة السادسة أو غيرها. وربما وصل الحماس بالبعض إلى حد تأكيد قدرة «العلم» على إثبات «تحضير الأرواح»، وهو للأسف أمر ليس بعيدا عن المألوف بين بعض المشتغلين بالعلم، وكأنهم أصبحوا واثقين من أن الروح «شيء»، وأن هذا الشيء يمكن «تحضيره»؛ أي يمكنه أن يذهب ويجيء، وأن هذا الشيء الذي يذهب ويجيء يستطيع أن «يتكلم»، أو يؤثر في أشياء «مادية» كتحريك أكواب أو إسقاط منضدة. وهذا كله يستحيل لو لم تكن الروح بدورها شيئا «ماديا»، مع أن هذا يتناقض أساسا مع تعريف الروح.
والمهم في الأمر أن هؤلاء الذين يتمسحون بالعلم لتأكيد هذه الخرافات يلجئون إلى أساليب لا تتوافر فيها شروط التجربة العلمية على الإطلاق؛ فالملاحظات التي يعتمدون عليها قليلة غير قابلة للتكرار، مع أن من أهم شروط التجربة في العلم أن يكون من الممكن تكرارها أمام أي عدد من المشاهدين وفي مختلف الظروف، وسواء أكان هؤلاء المشاهدون من المقتنعين أم من غير المقتنعين. ومن المعروف أن شهود هذا النوع من التجارب هم في الأغلب من النوع الذي يتوافر لديه مقدما استعداد لتصديق نتائجها. هذا فضلا عن أن التجارب تتم دائما في جو لا يسمح بالرؤية الواضحة؛ إذ إن الضوء دائما خافت، ولونه أحمر (وهو أكثر الألوان تعتيما للبصر)، والجو العام يجعل الإيحاء بأي شيء ممكنا.
أما إذا ووجه أنصار هذه الخرافات ذات المظهر «العلمي» بحجج قوية تثبت ابتعاد الأساليب التي يلجئون إليها عن أصول المنهج العلمي الصحيح؛ فإنهم يلجئون إلى سهم آخر في جعبتهم، وهو أن منهج العلم الحالي محدود، وأن العلم أصبح الآن يتقبل أشياء كثيرة كان يرفضها من قبل، وأنه - بالتالي - يمكن أن يعترف بهذه الظواهر الخارقة للطبيعة في المستقبل، ومثل هذه الطريقة في التفكير تفتح الباب - كما هو واضح - لكل الخزعبلات المخرفة؛ إذ يستطيع أي دجال أن يؤكد أن العلم إذا لم يكن يقبلها الآن فسوف يقبلها في المستقبل. وواقع الأمر أننا لا نملك إلا هذا المنهج الذي أثبت أنه أفضل ما لدينا من أدوات المعرفة، وأنه مهما كان قاصرا عن بلوغ كثير من الحقائق، فإنه هو أضمن الوسائل لبلوغ «الحقيقة» ذاتها. وإلى أن يتوصل العلم ذاته إلى مناهج وأساليب أخرى أدق، فليس من حق أحد أن يتذرع بالتغيرات التي يمكن أن تطرأ عليه في المستقبل؛ لكي يفرض علينا خرافاته ويربطها زورا بعجلة التقدم العلمي.
فإذا أخفقت محاولات ربط الخرافة بالعلم، فإن أنصارها يلجئون إلى آخر أسلحتهم وأخطرها على التفكير الشعبي، وهو الربط بين الخرافة والدين. وهكذا تراهم يستغلون وجود بعض الحقائق الدينية الغيبية - كالروح مثلا - ووجود بعض النصوص الدينية التي تتحدث عن السحر والحسد ... إلخ؛ لكي يدافعوا بحرارة عن حقيقة الظواهر الخرافية، مؤكدين أن الدين نفسه يدعمها. ولقد قلت إن هذا السلاح أخطر الأسلحة جميعا؛ لأنه أولا يستغل عمق الإيمان الديني من أجل تأكيد الفكر الخرافي، ولأنه يضع الدين - بلا مبرر - في مواجهة العلم، ويضع عقول الناس في مواجهة الاثنين معا، فتقف حائرة بين عقيدة متأصلة فيها، وبين منهج علمي تثبت صحته على أرض الواقع العلمي في كل لحظة.
وفي اعتقادي أنه ليس هناك ما هو أضر بقضية الدين من هذا الربط بينه وبين الخرافة، ولقد حاولت الكنيسة المسيحية في الغرب - منذ عصر النهضة - أن تسلك هذا الطريق المحفوف بالخطر، فكانت النتيجة هي ما نراه اليوم من انصراف الجماهير في الغرب عن عقيدتها بأعداد كبيرة. والواقع أن الكنيسة كانت في ذلك الحين تواجه تجربة جديدة كل الجدة ، فلم يكن من المستغرب أن ترتكب خطأ مهاجمة العلم بحجة أنه يتعارض مع نصوص دينية (كما في حالة قضية دوران الأرض و«ارتفاع» السماوات مثلا)، ولم يكن من المستغرب أيضا أن تضطهد كثيرا من العلماء اضطهادا معنويا وجسديا، ولكن الحصيلة النهائية لهذا كله كانت انتصار الحقيقة العلمية، واضطرار الكنيسة إلى التراجع عن مواقعها واحدا تلو الآخر، حتى أصبحت تدافع اليوم عن كثير من الأمور التي كان القول بها فيما مضى كافيا لاضطهاد صاحبها على يد الكنيسة ذاتها، ومع كل هذا التراجع فقد خسرت مواقع كثيرة، وأخذ تأثيرها على الأجيال الجديدة يتضاءل باستمرار.
أما نحن هنا في العالم العربي فلسنا مضطرين - على الإطلاق - إلى أن نسلك هذا السبيل المحفوف بالخطر؛ وذلك لأسباب كثيرة؛ فنحن أولا لسنا أول من يمر بهذه التجربة، بل إن أمامنا تجربة الغرب في موضوع العلاقة بين الدين والخرافة، أو العلاقة بين الدين والعداء للعلم؛ لكي نستخلص منها ما شئنا من العبر. ونحن ثانيا أصحاب دين فسره مفكروه وفلاسفته في صدر الإسلام تفسيرا لا يتعارض مطلقا مع البحث العلمي، بل يدفع الفكر والعلم إلى الانطلاق. ونحن ثالثا نعيش في عصر أصبح فيه الأخذ بالأسلوب العلمي في الحياة مسألة حياة أو موت بالنسبة إلى المجتمع، فلماذا إذن يحاول الكثيرون أن يعيدوا التجربة المريرة للكنيسة الغربية مع الخرافة وضد العلم؟ ولماذا لا تتكاتف الجهود من أجل دعم وتأكيد التفسير الديني الذي يحارب الخرافة ويؤيد العلم؟ هذه مجرد أسئلة أطرحها وأنا لا أملك إلا الدهشة والاستنكار للتراجع المستمر إلى الخلف الذي تتسم به مناقشاتنا لهذا الموضوع في أيامنا هذه؛ فمن المؤسف أننا كنا نناقش هذه الموضوعات في أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين على مستوى أعلى بكثير من مناقشتنا لها في هذه الأيام، بعد أن أصبحت صدورنا أضيق واتهاماتنا للمفكرين تلقى جزافا واحترامنا بعضنا لآراء بعض مفقودا. ويبدو أن البعض يصرون على أن يعيدوا محنة الفكر العلمي في عصر النهضة الأوروبية مرة أخرى في بلادنا، ولكن الأمل معقود على أن تسود الحكمة ويغلب التعقل، فندرك أن طريق العلم لا رجوع فيه إلى الوراء، وأن الدفاع عن الخرافة تمسحا بالدين لن يضر قضية العلم كثيرا، ولكنه يسيء إلى قضية الدين إساءة بالغة. (2) الخضوع للسلطة
السلطة هي المصدر الذي لا يناقش، والذي نخضع له بناء على إيماننا بأن رأيه هو الكلمة النهائية، وبأن معرفته تسمو على معرفتنا.
والخضوع للسلطة أسلوب مريح في حل المشكلات، ولكنه أسلوب ينم عن العجز والافتقار إلى الروح الخلاقة. ومن هنا فإن العصور التي كانت السلطة فيها هي المرجع الأخير في شئون العلم والفكر كانت عصورا متخلفة خلت من كل إبداع، ومن هنا أيضا فإن عصور النهضة والتقدم كانت تجد لزاما عليها أن تحارب السلطة العقلية السائدة بقوة، ممهدة الأرض بذلك للابتكار والتجديد.
وأشهر أمثلة السلطة الفكرية والعلمية في التاريخ الثقافي هي شخصية أرسطو؛ فقد ظل هذا الفيلسوف اليوناني الكبير يمثل المصدر الأساسي للمعرفة - في شتى نواحيها - طوال العصور الوسطى الأوروبية؛ أي طوال أكثر من ألف وخمسمائة عام، كذلك كانت كثير من قضاياه تؤخذ بلا مناقشة في العالم الإسلامي؛ حيث كان يعد «المعلم الأول»، وإن كان بعض العلماء الإسلاميين قد تحرروا من سلطته في نواح معينة، ولا سيما في ميدان العلم التجريبي.
والأمر الذي يلفت النظر في ظاهرة الخضوع لسلطة مفكر مثل أرسطو، أن هذا الخضوع كان يتخذ شكل التمجيد - بل التقديس - لشخصية هذا الفيلسوف، ومع ذلك فقد جنى هذا التقديس على أرسطو جناية لا تغتفر؛ إذ إنه جمده وجعله صنما معبودا، وهو أمر لو كان الفيلسوف نفسه قد شاهده لاستنكره أشد الاستنكار؛ إذ إن الفيلسوف الحق - وأرسطو كان بالقطع فيلسوفا حقا - لا يقبل أن يتخذ تفكيره - مهما بلغ عمقه - وسيلة لتعطيل تفكير الآخرين وشل قدراتهم الإبداعية. بل إن أقصى تكريم للفيلسوف إنما يكون في عدم تقديسه وفي تجاوزه؛ لأن هذا التجاوز يدل على أنه أدى رسالته في إثارة عقولنا إلى التفكير المستقل على الوجه الأكمل. ومن ناحية أخرى فإن العصور الوسطى لم تأخذ من أرسطو «روح» منهجه التجريبي - الذي حاول الفيلسوف أن يطوره في المرحلة الأخيرة من حياته - بل أخذت منه «نتائج» أبحاثه، واعتبرتها الكلمة الأخيرة في ميدانها، فضاعفت بذلك من جنايتها على تفكيره.
وكان من الطبيعي أن يكون رد الفعل - في بداية العصر الحديث - قاسيا، وهكذا وجدنا فرانسيس بيكون ورينيه ديكارت يبدآن فلسفتهما بنقد الطريقة الأرسطية التي تقيدت بها العصور الوسطى تقيدا تاما، ويؤكدان أن التحرر من قبضة هذا الفيلسوف هو الخطوة الأولى في طريق بلوغ الحقيقة. وفي ميدان العلم خاض جاليليو معركة عنيفة ضد سلطة أرسطو؛ إذ إن هذه السلطة كانت تساند النظرة القديمة إلى العالم بوصفه متمركزا حول الأرض، كما كانت تقول بنظرية في الحركة مبنية على أسس ميتافيزيقية، وكان لا بد من هدمها لكي يرتكز علم الميكانيكا الحديث على أسس علمية سليمة. وهكذا أخذ جاليليو يتعقب آراء أرسطو في الطبيعة واحدا بعد الآخر، ويثبت - بمنهجه العلمي الدقيق - بطلانها، وبذلك كان تفكيره العلمي في واقع الأمر من أقوى العوامل التي أدت إلى هدم سلطة أرسطو في مطلع العصر الحديث.
وفي استطاعتنا أن نستخلص من هذا المثل - أعني تقديس العصور الوسطى لآراء أرسطو وتفنيد الفلاسفة والعلماء في بداية العصر الحديث لها - أهم عناصر السلطة من حيث هي عقبة تقف في وجه التفكير العلمي، وأهم الدعامات التي ترتكز عليها.
3 (2-1) القدم
أول عناصر السلطة هو أن يكون الرأي قديما؛ فالآراء الموروثة عن الأجداد يعتقد أن لها قيمة خاصة، وأنها تفوق الآراء التي يقول بها المعاصرون. ويرتكز هذا العنصر على الاعتقاد بأن الحكمة كلها والمعرفة كلها تكمن في القدماء، ومن هنا فهو مبني - بطريقة ضمنية - على نظرة إلى التاريخ تفترض أن هذا التاريخ يسير في طريق التدهور، وأن مراحله الماضية أعلى مستوى من مراحله الحاضرة.
ومن المؤكد أن في هذه النظرة إلى التاريخ نوعا من التمجيد الرومانسي أو الخيالي للماضي، وللأجيال التي كانت تعيش فيه، وهي - بلا شك - تقوم على فكرة لا تستند إلى أساس من الواقع؛ لأن القدماء كانوا بشرا مثلنا، معرضين للصواب والخطأ. وكل ما في الأمر أن الإنسان - إذا كان يضيق بحاضره أو يجد نفسه عاجزا عن إثبات وجوده في الحاضر - يصبغ الماضي بصبغة ذهبية، ويتخذ منه مهربا وملجأ يلوذ به. بل إننا نستطيع أن نقول - مع بيكون - إن الأجيال القديمة - التي نتصور أنها تمثل شيخوخة البشرية وحكمتها - هي في الواقع أجيال جديدة؛ ومن ثم فهي تمثل طفولة البشرية. أما الأجيال الحديثة - التي نصفها بالطفولة ونقص الحكمة والتجربة، وندعوها دائما إلى أن تأخذ الحكمة من أفواه القدماء المجربين - فإنها تمثل في الواقع أقدم أجيال البشرية، وتفسير هذه المفارقة أمر هين؛ إذ إن الجيل القديم عاش في وقت لم تكن البشرية قد اكتسبت فيه تجارب كافية، ومن هنا فإن خبرته وحكمته محدودة، على حين أن الجيل الحديث قد اكتسب خبرة من هم أقدم منه، وأضاف إليها خبرته الخاصة، ومن ثم فهو الأجدر بأن يعد - بمقياس الخبرة والتجربة - قديما. وليس هذا حكما ينبغي إطلاقه - دون تمييز - على كل فرد، بل هو حكم يقال على سبيل التعميم، ولا يمنع بطبيعة الحال من وجود استثناءات.
والذي يهمنا من هذا هو أن قدم الرأي لا ينبغي أن يعد دليلا على صوابه، وأن البشرية قد عاشت ألوف السنين على أخطاء لم تكن تجرؤ على مناقشتها؛ لأنها ترجع إلى عهود الأجداد الأوائل، ومع ذلك تبين لها خطؤها عندما ظهر مفكر قادر على تحدي سلطة «القديم»؛ فمنذ أقدم العصور والناس تعتقد أن الأرض ثابتة والكواكب والنجوم تدور حولها؛ أي إن الأرض مركز الكون، وكانت شهادة الحواس - التي ترى الأجرام السماوية تغير مواقعها من الأرض باستمرار - دليلا حاسما على أن هذا الرأي «القديم» يعبر عن حقيقة ثابتة، ومع ذلك فقد أتى كبرنيكوس - في القرن الخامس عشر - ليتحدى هذه السلطة الراسخة منذ القدم، وليقول بالفرض العكسي، ولم يمض جيل أو اثنان إلا وكان هذا الفرض مؤيدا بشواهد علمية قاطعة تثبت صحته، وتثبت أيضا أن قدم الرأي ليس دليلا على صوابه، وقل مثل هذا عن نظرية العناصر الأربعة - الماء والهواء والنار والتراب - التي قال بها القدماء وأيدتها العصور الوسطى الأوروبية والإسلامية، وظلت تعد من حقائق العلم الثابتة حتى أتى «لافوازييه» في القرن الثامن عشر فأثبت بطلانها، وتبين للجميع - بالدليل العلمي القاطع - أن «الهواء» ليس عنصرا، بل مجموعة من العناصر، وكذلك الحال في الماء الذي تبين أنه مؤلف من عنصرين ... إلخ.
والواقع أن الميل إلى الأخذ بسلطة القدماء يزداد في عصور الركود والانصراف عن التجديد، ولا يمكن القول أنه ميل طبيعي في العقل البشري. ومن هنا يمكن القول: إن هذا الخضوع لسلطة القدماء ليس - في ذاته - هو المؤدي إلى تخلف الفكر العلمي، بل إن هذا التخلف هو الذي يؤدي إليه إذا شئنا الدقة في التعبير؛ والدليل على ذلك أن التقيد بسلطة القديم كان هو القاعدة السائدة في العصور الوسطى؛ لأن العصر ذاته كان عصر تحجر وجمود، ومن هنا كان من الضروري التعويض عن هزال الحاضر بسلطة القديم. وعلى العكس من ذلك فإن العصور الحديثة قد حاربت هذا النوع من السلطة بكل ما أوتيت من قوة؛ لأنها كانت عصورا ديناميكية متحركة، يسودها الإحساس بالتفاؤل والثقة بقدرة الإنسان على التحكم في قوى الطبيعة. بل إن الإنسان المعاصر - في بلاد العالم المتقدمة - يكاد ينتقل إلى الطرف المضاد، فلدى الأجيال الجديدة إحساس واضح بأنها هي الأحكم والأوسع معرفة، وبأن الأجيال القديمة لم تكن تعرف من أمور الحياة شيئا، وهي تقابل آراء القدماء بالسخرية، ومن الصعب إقناعها إلا بآراء مستمدة من منطق العصر. وهكذا أصبح القديم - في نظر هذه الأجيال - مرفوضا لمجرد أنه قديم، وأصبح الجديد يستمد من جدته وحدها قدرته على إقناعها. ومن المؤكد أن السعي الدائم وراء «الموضات» - بالمعنى الفكري والأخلاقي أيضا لا بالمعنى المظهري وحده - إنما هو تعبير ملموس عن هذا السعي إلى التجديد الدائم، وعن عدم الثقة في كل ما يكتسب صفة «القدم». كذلك فإن المشكلة الحادة التي أصبحت تعرف في المجتمعات الصناعية باسم مشكلة «الفجوة بين الأجيال»، هي تعبير آخر عن عصر يشعر بأنه مختلف عن كل العصور السابقة إلى حد أن الأبناء فيه يعدون آباءهم أشخاصا ينتمون إلى جيل قديم يصعب التفاهم معه، ويستحيل السلوك في الحياة وفقا لمبادئه وقيمه.
هذا الموقف يعد - بطبيعة الحال - موقفا متطرفا؛ إذ إن من الخطأ أن تعتد الأجيال الجديدة برأيها إلى الحد الذي ترفض فيه مجرد الحوار مع الأجيال القديمة، مثلما أن من الخطأ أن تتصور الأجيال القديمة أنها تستطيع أن تفرض رأيها على الجيل الأحدث الذي يعيش ظروفا مختلفة، ويمر بتجارب ويكتسب خبرات لم تألفها الأجيال السابقة. ولكن وجود هذا الموقف يدل على أن من الممكن تصور حالة مضادة يكون فيها قدم الرأي سببا كافيا لرفضه. وهذا هو الموقف الذي يسود المجتمعات ذات الإيقاع سريع التغير، التي يعد فيها البحث عن الجديد مبدأ أساسيا من مبادئ الحياة، وعلى أية حال فحسبنا أن نضع أمامنا هذين النمطين اللذين يقدس أحدهما القديم لمجرد كونه قديم، ويبحث الآخر عن الجديد دون أي اكتراث بما سبقه، ولنبحث لأنفسنا عن الموقع الذي نختاره بين هذين الطرفين القصيين. (2-2) الانتشار
إذا كانت صفة القدم تعبر عن الامتداد الطولي في الزمان، فإن صفة الانتشار تعبر عن الامتداد العرضي بين الناس، فالرأي يكتسب سلطة أكبر إذا كان شائعا بين الناس، وكلما ازداد عدد القائلين به كان من الصعب مقاومته، والحجة التي توجه دائما إلى من يعترض على رأي شائع بين الناس هي: هل ستكون أنت أحكم وأعلم من كل هؤلاء؟
على أن العلماء المصلحين والمفكرين كانوا - عندما يواجهون بهذه الحجة - يقولون دائما: نعم، ولولا أن بعض العظماء من أفراد البشر تجاسروا على أن يقولوا «نعم» هذه - في وجه معارضة ألوف مؤلفة من الناس - لما تقدمت البشرية في مسيرتها، ولما اهتدت إلى حقائق أصدق أو شرائع أفضل أو قيم أسمى مما كان يسودها من قبل، وصحيح أن هؤلاء الأفراد يكونون قلة في البداية، ولكن الحقيقة التي يحملونها في صدورهم، والحماسة التي يدافعون بها عنها، تظل تتسع وتتسع حتى تفرض نفسها في النهاية على الجموع الكثيرة، ثم يأتي الوقت الذي تتجمد فيه الحقيقة الجديدة وتتحجر، أو يضيق بها تطور الزمن ، فيصبح من المتعين ظهور مصلح جديد وهكذا ...
والأمر الذي يحتم عدم التقيد بشيوع الرأي بوصفه مصدرا للسلطة، هو أن جموع الناس تبحث عادة عن الأسهل والمريح، وهي تتجمع سويا حول الرأي الواحد مثلما تتلاصق أسراب الطيور لتحمي نفسها من الصقيع، وكلما كان الرأي منتشرا ومألوفا كان في قبوله نوع من الحماية لصاحبه؛ إذ يعلم أنه ليس «الوحيد» الذي يقول به، بل يشعر بدفء الجموع الكبيرة وهي تشاركه إياه، ويطمئن إلى أنه يستظل تحت سقف «الكثرة الغالبة». أما إحساس المرء بأنه منفرد برأي جديد، وبأنه يقتحم أرضا لم تطأها قدم أخرى من قبل، ويتعين عليه أن يخوض معركة مع الكثرة الغالبة لكي يحمي فكرته الوليدة، أما هذا الإحساس فلا يقدر عليه إلا القليلون، وعلى يد هؤلاء حققت البشرية أعظم إنجازاتها.
ولو تأملنا الواقع المحيط بنا لوجدنا ما يؤيد هذا الرأي في كل مكان؛ فالقصة البوليسية الرخيصة تنتشر بين أعداد تزيد أضعافا مضاعفة عن أولئك الذين يقرءون الأدب الرفيع، والصحف «الصفراء» (أعني صحف الإثارة والفضائح والصور العارية) توزع أضعاف ما توزعه الصحف الجادة، والمغني الذي يردد أسخف الألحان وأتفه الكلمات يكسب في الأغنية الواحدة أضعاف ما كسبه «بيتهوفن» طوال حياته، والفيلم السينمائي الهابط - الذي يعري أكبر مساحة تسمح بها الرقابة من جسد بطلاته - قد يدوم عرضه سنوات، بينما لا يستطيع الفيلم الذي ينطوي على فكرة عميقة أن يكمل أسبوعه الأول والأخير. وهكذا تتوالى الشواهد التي تدل على أن الانتشار بعيد كل البعد عن أن يكون مقياسا للجودة، ومن ثم معيارا صالحا للسلطة.
على أن الأمر الذي ينبغي أن ننتبه إليه هو أن تحدي سلطة الانتشار لا يؤتي ثماره المرجوة إلا إذا كان من يقوم به على مستوى المهمة التي يأخذها على عاتقه؛ ذلك لأن هناك أناسا يمارسون عملية التحدي هذه من موقع السطحية، ومن منطلق التفاهة، ولا يقودهم في سلوكهم إلا مبدأ «خالف تعرف»؛ فهم يتصورون أن وقوفهم في وجه الرأي أو الذوق أو الاعتقاد الشائع كفيل بأن يجلب لهم الشهرة، دون أن يكون في وسعهم أن يقدموا بديلا عما يعترضون عليه، وهؤلاء أبعد الناس عما نعني؛ فتحدي السلطة الشائعة ينبغي ألا يتم إلا على أيدي أولئك الذين يملكون الدليل على بطلانها ويملكون البديل عنها، بل إننا نستطيع أن نصف أولئك السطحيين - الذين يلجئون إلى رفض ما هو شائع التماسا للشهرة - بأنهم خاضعون لسلطة أخرى، هي سلطة الرفض أو التجديد، على الرغم مما في هذا التعبير الأخير من مفارقة.
ولنضرب لذلك مثلا واحدا أظن أنه أصبح في عصرنا هذا مألوفا: ظهرت فكرة التمرد على الملابس وشكل الشعر - بين بعض الشبان في الغرب - بوصفها احتجاجا على سلطة المجتمع «المظهري» «المتأنق» الذي يخلو - داخليا - من العمق ومن الإحساس بنبض الحياة ومن التعاطف الإنساني، ولا يكترث إلا بتلبية مطالبه الاستهلاكية. وإلى هذا الحد نستطيع أن نفهم الدوافع التي أدت بهؤلاء الشبان إلى أن يرتدوا ثيابا مهلهلة رثة ويرسلوا شعورهم، وغير ذلك المظاهر التي نعرفها جيدا. ولكن العدوى تنتقل إلى شبان آخرين ينتمون إلى مجتمعات أخرى، ولا يعرفون شيئا عن الخلفية الفكرية والاجتماعية التي ظهرت في ظلها هذه الموجة، فإذا بالمظهر «الشبابي» الجديد يصبح ضرورة أساسية لهم، وتضيع الفكرة تماما حين تنتشر بينهم ملابس غالية الثمن إلى أبعد حد، ولكن مصمميها يتفننون لكي يعطوها «مظهر» القدم والهلهلة! وينفق الواحد منهم جزءا كبيرا من ميزانيته لكي «يصفف» شعره على النحو الذي «يبدو» معه مسترسلا، خارجا عن المظهر القديم. وهكذا فبينما كان الخروج عن سلطة المألوف - في البداية - أمرا مفهوما؛ لأنه على الأقل ينطوي على فلسفة معينة - هي رفض القيم السائدة في المجتمع الاستهلاكي - نجده يتحول على يد هؤلاء المقلدين إلى شيء غير معقول على الإطلاق؛ لأنه يتم في إطار القيم الاستهلاكية ذاتها، بل يشجع على المغالاة في هذه القيم. وبينما كان الرفض في البداية تعبيرا صادقا عن موقف أصيل، أصبح الرفض بعد ذلك تعبيرا عن «محاكاة»؛ أي إنه ناقض نفسه، وحول الرفض الأصلي إلى نمط عام يقلده الألوف بلا شخصية وبلا تفكير مستقل.
وهكذا يتعين علينا أن نفرق بوضوح بين من يخالف الرأي الشائع؛ لأن لديه شيئا جديدا، وبين من يخالفه لكي يشتهر بهذا المظهر فقط، دون أن يكون في واقع الأمر قادرا على الإتيان بأي جديد. (2-3) الشهرة
يكتسب الرأي سلطة كبرى في أذهان الناس إذا صدر عن شخص اشتهر بينهم بالخبرة والدراسة في ميدانه، والواقع أن الشهرة تجلب المزيد من الشهرة، تماما كما أن المال يجلب المزيد من المال، فيكفي أن يشتهر إنسان - لسبب قد لا يكون له علاقة مباشرة بكفاءته - حتى يحدث تأثير «تراكمي» لنفوذه وسلطته على الناس، بحيث تتبع الجماهير أخباره وتتلقف كلماته، وتزيد عليها تفسيرات وتأويلات تعطيها قيمة لا تكون جديرة بها أصلا.
ووجه الخطورة في هذا العنصر من عناصر السلطة يتمثل في النقاط التالية: (أ)
إذا كان الشخص المشهور ينتمي إلى عصر غير عصرنا، فمن الواجب أن ندرك أن شهرته - التي ربما كان لها ما يبررها في وقتها - لا ينبغي أن تنطبق على كل زمان، ولقد كان هذا هو الخطأ الذي ارتكبته العصور الوسطى في نظرتها إلى أرسطو؛ إذ إن شهرته في عصره ظلت ممتدة إلى عصور تالية، مع أن العالم أو الفيلسوف - مهما كان عملاقا في عصره - لا يستطيع أن يفي بمطالب كل عصر لاحق. ومن حسن الحظ أن هذا الخطر قد تضاءل في العصر الحديث، بعد أن اكتسب الإنسان حاسة تاريخية مرهفة، وأصبح يربط بين المشاهير وبين المرحلة التاريخية التي عاشوا فيها، فيعترف لهم بفضلهم في دفع الإنسانية إلى الأمام، ولكنه لا يمتد بشهرتهم وسلطتهم إلى أبعد مما يسمح به دورهم التاريخي، وهكذا فإن من غير المتصور أن يظهر في عصرنا الحديث «أرسطو» جديد، بعد أن أصبح «النقد» جزءا لا يتجزأ من تقديرنا للمشاهير. (ب)
أما إذا كان الشخص المشهور معاصرا لنا، فإن هناك خطرا من نوع جديد، يتمثل في أجهزة الإعلام الحديثة، التي تملك الوسائل الكفيلة «بتضخيم» الشهرة وإعطائها أبعادا تفوق ما تستحقه بكثير؛ ففي استطاعة أجهزة الإعلام أن تجعل شخصا معينا يدخل كل بيت، من خلال صفحات الجريدة أو البرنامج الإذاعي أو التليفزيون، وفي استطاعتها أن تكرر هذه التجربة وتلح عليها إلى الحد الذي تفرض معه شهرة هذا الشخص على الجميع، وهكذا يظهر نظام أشبه بنظام «نجوم السينما» في العلم ذاته؛ إذ تتكرر أسماء معينة، فلا تكاد تعترضنا مشكلة في ميدان معين حتى يقفز إلى أذهاننا على الفور اسم ذلك «النجم» الذي اشتهر بفضل وسائل الإعلام، وقد لا يكون أكثر الناس خبرة بهذا الميدان، وقد لا تكون شهرته إلا مصطنعة.
والأخطر من ذلك أن أجهزة الإعلام هذه قادرة على «نقل السلطة» من ميدان إلى آخر، وهذا هو المبدأ الذي تقوم عليه كثير من الإعلانات؛ إذ تظهر الممثلة السينمائية الجميلة مثلا في إعلان عن معجون أسنان، مع أن شهرتها في ميدانها الأصلي لا تبرر على الإطلاق أن تكون خبيرة في ميدان طب الأسنان، أو يظهر لاعب الكرة المشهور إلى جانب نوع من السيارات ربما لم يكن يعرف عنه شيئا طوال حياته، ومع ذلك فإن الشهرة «معدية». ومن المؤكد أن أمثال هذه الإعلانات المزيفة تحقق عائدا، وإلا لما تحمل المنتجون تلك النفقات الباهظة التي يتكلفها ظهور هؤلاء «المشهورين» في الإعلان. (2-4) الرغبة أو التمني
يميل الناس إلى تصديق ما يرغبون فيه أو ما يتمنون أن يحدث، وعلى العكس من ذلك فإنهم يحاربون بشدة ما يصدم رغباتهم أو يحبط أمانيهم، وهكذا كانت النظرية الفلكية الجديدة التي تجعل من الأرض مجرد كوكب في المجموعة الشمسية يدور حول مركز هذه المجموعة وهو الشمس، كانت هذه النظرية تلقى مقاومة شديدة في أيام عصر النهضة الأوروبية؛ لأنها تقضي على المكانة المميزة للإنسان، باعتباره أهم الكائنات التي تعيش في أهم كوكب في الكون، بل في المركز الذي تدور حوله كل الأجرام السماوية. وكان من أهم أسباب سلطة النظرية القديمة - التي ظلت كثير من الحقول ترفض التخلي عنها زمنا طويلا - أنها ترضي غرور الإنسان، وتستجيب لأمنية عزيزة من أمانيه. ومن المعروف أن رجال الكنيسة في أيام جاليليو كانوا يرفضون النظر في منظاره المقرب الجديد لكي يروا السماء - لأول مرة - بعين أقوى من العين البشرية العادية عشرات المرات؛ إذ كانوا يخشون أن تؤدي هذه النظرة إلى هدم عالم عزيز مألوف ارتاحوا إليه واكتسبوا مكانتهم فيه، وكانوا يجزعون من تلك المسئولية الفادحة التي سيتحملونها في ذلك العالم الجديد الموحش الذي تقول به نظرية كبرنيكوس، ذلك العالم الذي لا «يرث» فيه الإنسان مكانته لمجرد كونه إنسانا؛ أي أهم المخلوقات ومحورها وغايتها، بل يتعين عليه أن «يكتسبها» بعمله وجهده، وإلا ظل مهملا في عالم غير مكترث. (3) إنكار قدرة العقل
في مجال الفن والشعر والأدب يهيب الإنسان بقوى أخرى غير العقل قد يسميها الخيال أو الحدس، ويؤمن - عن حق - بأن هذه القوى هي التي توجهه في هذا المجال؛ لأن المنطق العقلي الدقيق يعجز عن الأخذ بيدنا حينما نكون بصدد إبداع عمل فني أو أدبي، ولكن المشكلة هي أن بعض المفكرين يعتقدون أن أمثال هذه القوى تصلح مرشدا لنا في ميدان المعرفة ذاته، وينكرون قدرة العقل في هذا الميدان، أو يجعلون له مكانة ثانوية، ومثل هذا التفكير كان - ولا يزال - عقبة في طريق تقدم العلم.
ولقد كانت أشهر هذه القوى التي حورب بها العقل - في عصور مختلفة وعلى أنحاء متباينة - هي قوة الحدس، وكلمة الحدس قد تفهم - في استخدامها العربي العادي - بمعنى مشابه لمعنى التخمين أو التكهن، ولكنها يمكن أن تتضح في أذهاننا إذا ما حددنا المجالات المختلفة التي يستخدم فيها هذا اللفظ استخداما فنيا دقيقا، وسوف نلاحظ أن معاني اللفظ - في كل هذه المجالات - تشترك جميعها في سمة أساسية، يكون فيها الحدس معرفة «مباشرة»، تتم بلا وسائط ولا خطوات متدرجة: (1)
فهناك حدس حسي، نقصد به إدراكنا العادي بحواسنا، فحين أدرك الآن أن الحائط الذي أراه أمامي أبيض اللون، يكون ذلك حدسا حسب المصطلح الفني؛ لأنني أدرك هذا الحائط إدراكا مباشرا، فأنا لم «أستنتج» أنه أبيض، ولم يقل لي أحد أنه كذلك، وإنما أراه بحواسي مباشرة. (2)
وهناك حدس في المجال العقلي، نقصد به وصول العقل مباشرة إلى النتيجة المطلوبة، وكل من درس مقررا بسيطا في الهندسة يعلم أن هناك طريقتين لحل تمرين هندسي؛ الأولى هي أن يفكر المرء في «معطيات» التمرين ويحللها واحدا واحدا، ويسير بخطوات متدرجة حتى يهتدي أخيرا إلى الحل. والثانية هي أن تأتي فكرة الحل أو تهبط على العقل من أول لمحة بلا تحليل وبغير تدرج، ولا تستخدم الخطوات المتدرجة إلا في طريقة «تدوينه» لهذا الحل المباشر فحسب؛ فهنا يكون الحدس نوعا من المعرفة التي لا نحتاج فيها إلى استدلال أو استنباط، بل تأتي مرة واحدة وبصورة مكتملة تغنينا عن أية خطوات وسطى. (3)
وهناك حدس في المجال العاطفي؛ وذلك حين يشعر المرء بالتعاطف أو التنافر مع أشخاص معينين من النظرة الأولى، دون أن يكون قد عرفهم أو سمع عنهم شيئا، ومثل هذا الحدس - الذي يشبه ما يسمونه «بالحاسة السادسة» عند المرأة - قد يكون صوابا أو خطأ، وقد تؤيده الخبرة والتجربة فيما بعد أو تكذبه، ولكن الذي يهمنا أنه - بدوره - شعور أو عاطفة مباشرة، يصدر الحكم فيها على الفور ودون خطوات متدرجة. (4)
وهناك حدس في المجال الصوفي؛ وذلك حين يؤكد المتصوف أن لديه معرفة بالله تختلف عن تلك المعرفة الاستدلالية المتدرجة التي نصل إليها عن طريق «البراهين» العقلية؛ فهو يشعر «بحضور» الله مباشرة فيه، وهو يصل إلى الفناء في الذات الإلهية في تلك اللحظات القليلة التي يستحيل وصفها بلغة الكلام، والتي لا يحس بها إلا من مر بالتجربة ذاتها. وهنا أيضا نجد نوعا من المعرفة المباشرة التي لا تستخدم براهين أو استدلالات، والتي توصلنا إلى الهدف مباشرة بطريق مخالف للطريق العقلي المتدرج. (5)
وأخيرا فهناك ذلك الحدس الفني الذي تحدثنا عنه في البداية، والذي يطلق عليه عادة اسم «الإلهام»، وأهم ما يميزه هو الظهور المفاجئ والمباشر لفكرة العمل الفني أو لموضوعه في ذهن الفنان.
هذه المعاني كلها تشترك في ثلاثة عناصر رئيسية يتميز بها الحدس، من حيث هو طريقة في معرفة الأشياء، عن غيره من طرق المعرفة: (أ)
فهو معرفة «مباشرة»، لا تحتاج إلى وسائط ولا تسير بالتدريج من خطوة إلى أخرى. (ب )
وهو ينقلنا مباشرة إلى «لب» الموضوع الذي نريد أن نعرفه أو إلى جوهره الباطن، بدلا من أن يكتفي بتقديم أوصاف خارجية أو سطحية لهذا الموضوع، أو يقتصر على معرفته من خلال مقارنته بغيره. (ج)
وهو في جوهره معرفة «فردية»؛ أي إنه يتاح لشخص بعينه، لا لأي شخص آخر. وهو يتطلب «تجربة» من نوع خاص، يصعب نقلها عن طريق الوصف إلى الآخرين (حتى في حالة الإدراك الحسي يستحيل نقل ما تراه العين إلى غير المبصر نقلا أمينا وكافيا)، ويصعب تلقينها أو تعليمها لهم، ويستحيل أن «نعممها» على الجميع.
على هذا الأساس كان هناك دائما من يتصور أن طريقة المعرفة المثلى لدى الإنسان ليست هي طريقة استخدام البراهين أو الأدلة العقلية، بل هي الحدس المباشر الذي يوصلنا إلى اللب الباطن للموضوع الذي نريد معرفته.
ذلك لأن العقل - في نظر هؤلاء - يعيبه أنه يسير دائما بخطوات متدرجة، ولا يستطيع أن يتقدم خطوة إلا بعد التأكد - بالبرهان - من صحة الخطوة السابقة، وهو فضلا عن ذلك «عام»؛ أي إنه لا يعطينا معرفة إلا بالصفات المشتركة بين الأشياء، وهي تلك الصفات التي يستطيع «الجميع» أن يدركوها، وهو يلجأ دائما إلى المقارنة وكشف العلاقات بين الظواهر، ومعنى ذلك - في رأي أصحاب هذا الاتجاه - أنه لا يكشف لنا إلا عن علاقات سطحية، ولا ينفذ بنا إلى الجوهر الباطن للأشياء.
وحين يصبح الحدس - عند أصحاب هذا الاتجاه - قوة لا مضادة للعقل، فهنا ينبغي علينا أن ننبه إلى الخطأ الذي يقعون فيه، ولكن من حسن الحظ أنهم ليسوا جميعا من خصوم العقل؛ فهناك مفكرون يدافعون عن الحدس من حيث هو قوة «مكملة» للعقل لا تتعارض معه، بل تتوج جهوده وتوصلها إلى نتائجها القصوى، وهذه نظرة إلى الحدس لا تشكل أية عقبة في طريق التفكير العلمي؛ ومن ثم فلن نركز عليها حديثنا الآن.
أما العقبة الحقيقية فتتمثل في أولئك الذين ينكرون دور العقل، أو يقللون من أهميته ويضيقون المجال الذي ينطبق عليه، وذلك لحساب تلك القوة الأخرى التي قد يسمونها بالحدس أو «الغريزة» أو «سورة الحياة» أو غير ذلك من الأسماء. ولقد وجدت أمثلة لهؤلاء المفكرين في مختلف عصور التاريخ، وكان رأيهم يختلف - في جزئياته - تبعا للعصر الذي يعيشون فيه، وتبعا للدور الذي يؤديه العقل - خصمهم الأول - في ذلك العصر، وما زلنا نجد لهم أمثلة في حياتنا المعاصرة، في كتابات أولئك الذين لا هم لهم إلا أن يحطوا من شأن العقل ويقللوا من قيمة نتائجه، ولا هدف لهم إلا أن يثبتوا قصور المعرفة البشرية وعجز العلم ذاته عن الوصول إلى حقيقة الأشياء.
ويتبع خصوم العقل هؤلاء أسلوبا متشابها: فهم يبدءون من مقدمة صحيحة، ثم يستنتجون منها نتيجة باطلة. أما المقدمة الصحيحة فهي أن العقل ما زال عاجزا عن كشف كثير من أسرار الكون، وأن هناك مشكلات كثيرة يعجز العقل عن حلها، ويتضح لنا فيها أن قدرته محدودة، وأما النتيجة الباطلة - التي يستنتجونها مما سبق - فهي أن العقل «بطبيعته» عاجز، وأنه سيظل إلى الأبد قوة محدودة قاصرة، ومن ثم فلا بد من الاعتماد على قوة أخرى غيره.
هذا الأسلوب الخادع في مهاجمة العقل ينطلي - للأسف - على الكثيرين؛ لأنهم حين يجدون المقدمة صحيحة - والشواهد تؤيدها بالفعل - يتصورون أن النتيجة مترتبة عليها حقا، ولا بد أن تكون بدورها صحيحة؛ ومن ثم فإنهم يفقدون ثقتهم بالعقل من حيث هو أداة لاكتساب المعرفة وبلوغ الحقيقة، ولكن الواقع أن الاستنتاج باطل من أساسه، وأن ما نلمسه حولنا من عجز العقل عن حل مشكلات كثيرة لا يثبت - على الإطلاق - أن العقل «في ذاته» قاصر.
ذلك لأن أصحاب هذه الحجة الباطلة ينكرون تماما دور التاريخ، سواء في الماضي أم في المستقبل. فلو قارنا حالة المعرفة البشرية منذ خمسمائة عام مثلا بما هي عليه الآن؛ لاتضح لنا أن العقل قد حقق إنجازات رائعة بحق، ولو قارنا نمط الحياة البشرية منذ مائة عام فقط بحالتها الراهنة؛ لتبين لنا أن العقل قد غير وجه حياتنا تغييرا تاما في هذه الفترة التي تعد - بالمقاييس التاريخية - فترة قصيرة. ومن المؤكد أن مراجعة سجل الإنجازات العقلية في الماضي تثبت لنا أن العقل حقق أشياء ضخمة بحق، وأنه ليس على الإطلاق تلك القوة المحدودة القاصرة التي يصوره بها الكثيرون. أما بالنسبة إلى المستقبل فإن الأمل في اتساع قدرة العقل هو أمل لا حدود له؛ فلو تخيلنا ما سيكون عليه العالم بعد خمسمائة سنة أخرى، مع عمل حساب التزايد المطرد في معدل نمو الإنجازات العقلية العلمية، فإن الصورة التي سنكونها عندئذ أبعد ما تكون عن صورة ذلك العقل العاجز الذي يتحدثون عنه. صحيح أن العقل ما زال يجهل الكثير، وما زال يعجز عن الكثير، ولكنه أفضل أداة نملكها لكي نعرف عالمنا ونسيطر على مشاكلنا، وبفضل هذه الأداة حققنا حتى الآن أشياء رائعة، وتغلبنا على مشكلات كنا نتصور في الماضي أنها لا تحل إلا بالسحر أو الخيال (بساط الريح أو الصندوق المتكلم من أقصى أطراف الأرض على سبيل المثال)، وهو يواصل سيره، فيخطئ حينا ويصيب حينا، ولكن الحصيلة العامة لمسيرته تمثل انتصارا رائعا للإنسان. وحسبنا أن نقارن بين القرون الأربعة التي استخدم فيها الإنسان عقله أداة لبلوغ المعرفة (من القرن السابع عشر حتى القرن العشرين) وبين القرون السبعة عشرة التي سبقت ذلك، والتي كانت أداة المعرفة المستخدمة فيها واحدة من تلك التي يدعو إليها خصوم العقل. حسبنا أن نجري هذه المقارنة لكي ندرك أن قضية إنكار قدرة العقل - لمجرد كونه لم يتوصل حتى الآن إلى كل شيء - هي في صميمها قضية خاسرة.
على أن خصوم العقل لا يتخذون جميعا هذا الموقف الفج، بل إن منهم من يحاولون أن يصبغوا الملكة التي يدافعون عنها ضد العقل - أعني الحدس - بصبغة أكثر تعمقا، ويضفون على مهاجمتهم للعقل طابعا أكثر منطقية. وبغض النظر عن التناقض الواضح في مهاجمة العقل بطريقة تعتمد على «منطق سليم» - أي على منهج «عقلي» - فإن رأي هؤلاء بدوره - وإن كان في مظهره أدعى إلى الاحترام من الرأي السابق - لا يقل عن غيره تهافتا.
والمثل الواضح على هذا هو موقف الفيلسوف الفرنسي «هنري برجسون» الذي مات في الأربعينيات من هذا القرن، والذي شهد انتصارات حاسمة للعقل منذ بداية القرن العشرين. فقد دافع برجسون بحماسة فائقة عن «الحدس»، الذي هو في نظره الملكة القادرة على النفاذ بنا إلى العمق الباطن للأشياء، فنعرف بذلك «ما هو فريد منها؛ ومن ثم ما يند فيها عن كل تعبير». أما العقل فلا يكشف لنا إلا عن السطح الظاهر للأشياء؛ والدليل على ذلك أنه يستخدم في التعبير عن قوانينه لغة الرياضيات، والرياضيات لا تتضمن إلا تجريدات شديدة العمومية. فالعقل إذن يقدم إلينا معرفة بأعم صفات الأشياء، وهو يجرد موضوعاته من مضمونها الحي الملموس؛ لكي يحولها إلى صيغ وأرقام ومعادلات عجفاء باردة. والفرق بين معرفة الحدس ومعرفة العقل أشبه بالفرق بين الإنسان النابض بالحياة وهيكله العظمي. ولكي نكون منصفين فإن برجسون لا ينكر العلم المعتمد على العقل، بل يراه غير كاف، ويضع إلى جواره ذلك النوع الآخر من المعرفة، الذي اعتقد أنه أعمق من المعرفة العقلية بكثير.
والمشكلة في هذا النوع من المفكرين هي أنهم يخلطون - على نحو مؤسف - بين مقتضيات الحياة الشخصية والتجارب الفنية والشعرية من جانب ومقتضيات المعرفة العلمية من جانب آخر. فكل ما يقوله برجسون صحيح، ولكن في مجال معين لا يتعداه؛ ذلك لأنني حين أكون بصدد تجربة شخصية - كتجربة صداقة أو حب - يكون الحدس عنصرا أساسيا في معرفتي بالآخر؛ لأني لا أريد أن أعرف عنه «معلومات» فحسب، بل أريد أن أحس به كإنسان، وأن أنفذ إلى ما هو عميق وفريد فيه. وأمثال هذه التجارب هي التي يتخذها الشعراء والفنانون موضوعات لأعمالهم الفنية. بل إن هؤلاء الأخيرين يمرون بتجارب كهذه حتى مع «الأشياء»؛ فالشجرة التي يصفها الشاعر هي شجرة يقيم معها علاقة حميمة خاصة، وليست على الإطلاق هي الشجرة التي يمر عليها عابر السبيل أو يصف العالم خصائصها العامة ويحدد فصيلتها النباتية ... إلخ. والمصور ينفذ بعينيه إلى أعماق الطبيعة التي يصورها في لوحاته، فيكتشف في الجماد صفات فريدة تخفى على العين التي لا تتعامل مع هذا الجماد إلا من حيث هو «أداة» فحسب .
وإذن فقد كان برجسون وغيره من أنصار الحدس يتحدثون بالفعل عن نوع خاص من المعرفة، نوع ينطبق على مجالات معينة، ويحتاج الإنسان إليه بالفعل في مواقف معينة من حياته. وإلى هذا الحد لا يملك أحد أن يعترض عليهم بشيء، ولكن المشكلة هي أنهم يقارنون بين هذا النوع وبين المعرفة العقلية في العلم، ويتهمون هذه الأخيرة بالقصور، اعتمادا على أن المعرفة الحدسية أعمق منها، ولو كانوا قد اقتصروا على تحديد المجال الذي يسري عليه كل من نوعي المعرفة هذين، لما كان لنا عليهم أي مأخذ.
ذلك لأن الإنسان يحتاج بالفعل إلى نوعي المعرفة هذين، كل في مجاله الخاص، ولكي ندلل على ذلك: يكفينا أن نتخيل ماذا كان يمكن أن تكون عليه حياة الإنسان لو أنه كان يقتصر - منذ فجر تاريخه - على ذلك النوع المحبب إلى نفوس أنصار الحدس. فلو كان الشكل الوحيد لعلاقة الإنسان بالإنسان أو لعلاقته بالطبيعة هو الصلة المباشرة الوثيقة التي تتعمق فيما هو فردي وتترك جانبا ما هو عام في الأشياء؛ لكان الإنسان قد مر بتجارب شخصية عميقة بغير شك، ولكان حسه الفني قد أصبح أشد إرهافا مما هو عليه الآن، ولكان أكثر رقة وشاعرية ... هذا كله محتمل، ولكن الإنسان كان سيقف عندئذ عاجزا عن «فهم» الظواهر التي تحدث حوله، وعن «السيطرة» عليها، وكانت حياته الذهنية والروحية - فضلا عن حياته المادية بالطبع - ستصبح عندئذ هزيلة خاوية، يملؤها فراغ الجهل وقصور العقل.
ولا شك أن لهذه الحجة وجها آخر ينبغي ألا نغفله هو الوجه العكسي ... فلو كانت حياة الإنسان قد خلت تماما من عنصر التجارب الشخصية واقتصرت على عنصر المعرفة العقلية العلمية؛ لفقد الإنسان تلك المتعة التي تبعثها المعرفة الشخصية والعلاقة الباطنة الحميمة، ولافتقرت الحياة إلى بعد من أبعادها الهامة التي تبعث فيها الدفء وتشيع فيها الحرارة.
ولكن الذي حدث فعلا هو أن الإنسان قد سار في الطريقين معا. واختيار الإنسان لهذا المسار المزدوج يعكس حكمة عميقة؛ إذ يدل على أنه قد وجد الجانبين ضروريين، ولم يحاول أن يستغني عن أحدهما لحساب الآخر. ومعنى ذلك أن اتهام العقل بالعجز عن أداء الوظيفة التي يؤديها الحدس - في مجال العلاقات الشخصية - هو اتهام لا مبرر له، وهو خلط بين ميدان وميدان؛ فالعلم المرتكز على العقل شكل ضروري من أشكال المعرفة، وكان لا بد أن يتخذ طابعه هذا حتى ينمو ويتطور، ومهاجمته باسم تلك التجربة «الفريدة التي لا يمكن التعبير عنها» هي خلق بين ما يصلح على مستوى العلاقات الشخصية، وما يصلح على مستوى المعرفة العامة. فالإنسان محتاج إلى أن يكون العاطفة والعقل، والخطأ لا يكون في تأكيد أي من هذين الجانبين، بل هو يبدأ منذ اللحظة التي نحاول فيها أن نطبق مبادئ أحد الجانبين على الآخر، أو ننقد أحد الجانبين باسم الآخر. (4) التعصب
التعصب هو اعتقاد باطل بأن المرء يحتكر لنفسه الحقيقة أو الفضيلة وبأن غيره يفتقرون إليها؛ ومن ثم فهم دائما مخطئون أو خاطئون. ومن هنا فإن التعصب - الذي يتخذ شكل تحمس زائد للرأي الذي يقول به الشخص نفسه أو للعقيدة التي يعتنقها - يتضمن في واقع الأمر بعدا آخر؛ فهو يمثل في الوقت نفسه موقفا معينا من الآخرين، فحين أكون متعصبا لا أكتفي بأن أنطوي على ذاتي وأنسب إليها كل الفضائل، بل ينبغي أيضا أن أستبعد فضائل الآخرين وأنكرها وأهاجمها، بل إنني في حالة التعصب لا أهتدي إلى ذاتي، ولا أكتشف مزاياي إلا من خلال إنكار مزايا الآخرين. وهذا هو الفرق بين التعصب وبين الاعتداد بالنفس الذي هو شعور مشروع؛ إذ إن المعتد بنفسه لا يبني تمجيده لنفسه حتما على أنقاض الآخرين، بل قد يعترف لهم بالفضل مع تأكيده لفضله هو أيضا، أما المتعصب فلا يؤكد ذاته إلا من خلال هدم الغير، ولا فارق عنده بين هذه العملية وتلك؛ لأنه يهدم غيره وليس في ذهنه إلا تأكيد ذاته، كما أنه لا يؤكد ذاته إلا مستهدفا الحط من الآخرين.
ولكن إذا قلنا: إن المتعصب يؤكد «ذاته» من خلال هدم آراء الآخرين، فما الذي نعنيه بكلمة «ذاته» هذه؟ هل هي «ذاته» من حيث هو فرد؟ هل يريد المتعصب أن يؤكد آراءه أو مواقفه الشخصية على حساب الآخرين؟ الواقع أن جوهر التعصب لا يكمن في اتخاذ مثل هذه المواقف الشخصية، بل يكمن في توحيد الفرد لنفسه مع رأي الجماعة التي ينتمي إليها، وإعلائه هذا الرأي فوق آراء أية جماعة أخرى. فالمتعصب - في واقع الأمر - يمحو شخصيته وفرديته، ويذيب عقله أو وجدانه في الجماعة التي ينتمي إليها، بحيث لا يحس بنفسه إلا من حيث هو جزء من هذه الجماعة، ولو كان يؤكد نفسه بوصفه فردا له شخصيته المميزة لما أصبح متعصبا.
4
فلنتأمل مثلا صارخا من أمثلة التعصب - تابعه العرب جميعا بكل جوارحهم خلال ما يقرب من عامين - هو ما حدث في لبنان من بداية عام 1975 حتى نهاية عام 1976، فهل كان واحد من أولئك الذين يقتلون أفراد الطائفة الأخرى «على الهوية» يفكر في نفسه بوصفه فردا، أو يفكر في ضحيته من حيث هو شخص له كيانه الخاص؟ الحقيقة أنه لم يكن ينظر إلى نفسه إلا من حيث هو ينتمي إلى «طائفة»، وكذلك كانت نظرته للضحية. وقد يكون كل منهما - على المستوى الشخصي - صديقا للآخر أو زميلا يتعامل معه منذ سنوات، ولكن هذا كله ينسى عندما يسيطر التعصب، وتصبح أهم صفاتي وأهم صفات الآخر هي نوع الجماعة التي أنتمي وينتمي إليها. والحق أن تعبير «القتل على الهوية» كان تعبيرا يعبر ببلاغة عن حالة التعصب بأسرها؛ فهو لا يعني فقط القتل تبعا لنوع «البطاقة» التي يحملها المرء والتي يتحدد فيها انتماؤه الطائفي، بل تعني أيضا قتل الآخر لأنه وضع نفسه «في هوية» مع الطائفة الأخرى، أي في انتماء إليها. فكل متعصب يعلو بنفسه بسبب «هويته» مع جماعته، ويقتل الآخر - بالجسد أو بالفكر - بسبب «هويته» مع جماعة أخرى.
ويترتب على ذلك أن المتعصب لا يفكر فيما يتعصب له، بل يقبله على ما هو عليه فحسب، وهنا تتمثل خطورة التعصب من حيث هو عقبة في وجه التفكير العلمي؛ فالتعصب يلغي التفكير الحر والقدرة على التساؤل والنقد، ويشجع قيم الخضوع والطاعة والاندماج، وهي قيم قد تصلح في أي مجال ما عدا مجال الفكر، وهذا يؤدي بنا إلى صفة أخرى أساسية في التعصب، هي أنه ليس موقفا تختاره بنفسك، بل موقف «تجد نفسك فيه»، ولو شاء المرء الدقة لقال: إن التعصب هو الذي يفرض نفسه على الإنسان، وهو أشبه بالجو الخانق الذي لا نملك مع ذلك إلا أن نتنفسه. فالتعصب يكره الآخرين من خلالي أو يقتلهم بواسطتي، وما أنا (أو أي فرد) بالنسبة إلى التعصب سوى أداة يتخذها لتحقيق هدفه المشئوم؛ ذلك لأنني حين أقع تحت قبضته لا أصبح شيئا ولا أسعى من أجل شيء إلا لكي ألبي نداءه.
ولكن لماذا ينتشر التعصب إلى هذا الحد؟ ولماذا يطل برأسه البغيض ويذكرنا بطبيعته البشعة بطريقة دامية حتى في صميم القرن العشرين؟ ذلك لأن التعصب يمثل حاجة لدى الإنسان إلى رأي يحتمي به، ويعفي نفسه من التفكير في ظله، والواقع أن الحماية هنا متبادلة؛ فالرأي الذي نتعصب له يحمينا؛ لأنه يؤدي إلى نوع من الهدوء أو الاستقرار النفسي، ويضع حدا لتلك المعركة القلقة التي تنشب في نفوسنا حين نستخدم عقولنا بطريقة نقدية، ولكننا من جهة أخرى نضمن الحماية لهذا الرأي ذاته عن طريق رفض كل رأي مخالف ومهاجمته بعنف والسعي إلى «تصفيته» بالمعنى الحاسم لهذا اللفظ. وإذن فكل من المتعصب ورأيه أو عقيدته يحمي الآخر، ولكن الواقع أن هذه حماية خادعة مضللة؛ فهي من نفس نوع الحماية التي يكفلها لنا الخمر أو المخدر؛ لأنها ترتكز أساسا على تخدير التفكير وإبطاله، ولأنها تضع أمامنا صورة باطلة للواقع لا ترتكز على دليل أو منطق، بل تستمد قوتها كلها من تحيزنا لها بلا تفكير.
وهذا ينطبق على كل شكل من أشكال التعصب؛ فالتعصب العنصري والتعصب القومي المتطرف والتعصب الديني؛ كل هؤلاء يشاركون في سمات واحدة: الانحياز إلى موقف الجماعة التي ننتمي إليها دون اختيار ودون تفكير، والاستعلاء على الآخرين والاعتقاد أنهم «أحط»، وإغلاق أبواب عقلك ونوافذه إغلاقا محكما حتى لا تنفذ إليه نسمة من الحرية؛ لأن هذه النسمة - مهما كانت خفيفة - يمكن أن تهدد موقفك الذي تتعصب له، وتهددك أنت نفسك بقدر ما وحدت نفسك مع ما تتعصب له.
وأعظم الأخطار التي يجلبها التعصب على العلم هو أنه يجعل الحقيقة ذاتية ومتعددة ومتناقضة، وهو ما يتعارض كلية وطبيعة الحقيقة العلمية، فكل متعصب يؤمن بحقيقته هو، ويؤكد - بلا مناقشة - خطأ الآخرين، ومنك حين تنتقل إلى هؤلاء الآخرين تجدهم يؤكدون هذا الشيء نفسه عن «حقيقتهم» الخاصة، ويؤكدون خطأ الأول. وهكذا تضيع الحقيقة - بالمعنى العقلي والعلمي - في هذا التشتت والتناقض، ولو كان العقل هو الحكم بين الناس لما تعددت «حقائقهم» أو تناقضت.
وعلى الرغم من وضوح هذه الفكرة فإن الإنسانية عاشت على ما تعتقد أنه «حقائق» ذاتية - تتعصب لها بلا تفكير - فترة أطول بكثير مما عاشت على حقائق موضوعية تتناقش فيها بالحجة والبرهان. بل إن عدد أولئك الذين يقتنعون بآراء ومواقف يتعصبون لها دون نقد أو اختيار - في عالمنا المعاصر - يفوق بكثير عدد أولئك الذين لا يقبلون الرأي إلا بعد اختياره بالعقل. ومن هنا فإن المعركة الطويلة من أجل مبدأ التسامح في الفكر والعقيدة مستمرة. وصحيح أنه يبدو - ظاهريا - أن التسامح قد تغلب على التعصب منذ أن أحرز العلم انتصاراته الكبرى في العصر الحديث، ولكن الحقيقة - للأسف - غير ذلك، فما زال التعصب كامنا في النفوس، حتى في تلك البيئات التي يبدو فيها أنه قد اقتلع من جذوره، وتكفي أية هزة قومية أو اجتماعية عنيفة لإيقاظه من سباته وتجديد قوته الطاغية، كما حدث أيام ألمانيا النازية في النصف الأول من هذا القرن، وكما يحدث بيننا في لبنان. وهذا وحده دليل على أن معركة العقل ضد التعصب لم تنته بعد، وعلى أن الإنسانية ما زالت في حاجة إلى «قرابين» كثيرة قبل استئصال آفة التعصب من النفوس.
على أن هذه معركة لا بد من خوضها؛ ذلك لأن التعصب هو - في واقع الأمر - عقبة متعددة الأطراف، تقضي قضاء تاما على كل إمكان للتفكير العلمي إذا ترك لها المجال لكي تنتشر وتسيطر. فبقدر ما يعد التعصب في ذاته شيئا بغيضا ذا ضرر فادح للعلم؛ نجد ضرره هذا لا يقتصر على ما تؤدي إليه روح التعصب وحدها، بل إنه يجمع في داخله كل العقبات التي تحدثنا عنها من قبل، والتي حالت - وما زالت تحول - دون انطلاق التفكير العلمي بلا قيود. فالتعصب ينطوي على خضوع تام لسلطة المبدأ الذي نتعصب له. وكل متعصب ينظر إلى طريقة تفكيره الخاص - أو على الأصح طريقة تفكير الجماعة التي ينتمي إليها - على أنها سلطة لا تقبل المناقشة، كما ينطوي التعصب على تفكير أسطوري؛ إذ إن الموضوع الذي نتحيز له - في حالة التعصب - يتحول إلى أسطورة، فيختفي طابعه الحقيقي ويحل محله طابع وهمي مختلق، فضلا عن أن المتعصب يتمسك برأسه بطريقة خلت من كل منطق. وهو بطبيعته يشجع التفكير اللاعقلي؛ لأنه هو الدعامة الوحيدة لموقفه. ومن هنا كان أساس النازية هو «أسطورة» الجنس الآري المتفوق، وكان أساس التفرقة العنصرية هو «أسطورة» الجنس الزنجي المنحط، إلى غير ذلك من الأساطير التي يستند إليها كل شكل من أشكال التعصب.
ومجمل القول: إن التعصب «عقبة مركبة» تعترض طريق التفكير العلمي، ومن هنا كانت المعركة التي ينبغي أن يشنها عليه هذا التفكير حاسمة؛ إذ إن العقل البشري لا يستطيع أن يجد حلا وسطا بين الاثنين، فإما العلم وإما التعصب، ولا بد من القضاء على أحدهما لكي يبقى الآخر. (5) الإعلام المضلل
الإعلام هو نقل المعلومات أو توصيلها، وهو يختلف عن التعليم في أن هذا الأخير يتخذ طابعا منتظما، ويتعلق بفئة هي في الغالب في مقتبل العمر، يعدها المجتمع لمواجهة الحياة ويلقنها قيمه المعنوية ومعارفه العلمية. أما الإعلام فليس له مثل هذا الطابع المنتظم، ولا يقتصر على فئة معينة من الناس، ولا يحتاج - في كثير من جوانبه - إلى استعداد للإفادة منه؛ فعلى حين أن الإعلام عن طريق الصحافة - وهو الشكل الوحيد للإعلام حتى القرن الماضي - كان يفترض معرفة بالقراءة، ومن ثم كان الجمهور الذي ينتفع به محدودا، فإن الإعلام عن طريق الوسائل المسموعة والمرئية (كالراديو والتليفزيون والسينما ) لا يحتاج من ناحية جمهوره إلى إعداد سابق؛ ومن ثم فمن الممكن أن يتأثر به أكبر عدد من الناس.
على أن هذا التمييز بين الإعلام والتعليم ظاهرة حديثة، بدأت عندما ظهرت وسائل للإعلام مستقلة عن نظم التعليم وأجهزتها، أما قبل ذلك فكان الحد الفاصل بين الإعلام والتعليم لا يكاد يكون ملحوظا؛ فلم تكن هناك وسائل للإعلام - غير التعليم المنظم - سوى التلقين الشفوي المباشر من شخص إلى آخر، كالحوار في الأسواق أو الخطابة في دور العبادة أو الساحات العامة، أو إلقاء الشعر على الجمهور بقصد التوجيه.
هذا النوع من الإعلام المباشر كان يؤدي - في العصور الغابرة - وظيفة مزدوجة؛ فمن الممكن - إذا ساده مبدأ الحوار - أن تنجم عنه نهضة عقلية عظيمة، وهو ما حدث بالفعل عند اليونانيين؛ حيث اقترن الإعلام عن طريق الحوار، وعن طريق الخطابة السياسية المقترنة هي الأخرى بالمناقشة والحوار بنظام ديمقراطي فريد من نوعه ساد حياة اليونانيين طوال فترة غير قصيرة من تاريخهم القديم. أما إذا ساده مبدأ التلقين من طرف واحد، والخضوع التام من الطرف الآخر، فإنه يؤدي إلى تقوية السلطة الفكرية عند القلة ذات الشأن من أهل العلم، ومن ثم يكون عائقا في وجه أية نهضة علمية حقيقية، وهذا ما حدث في العصور الوسطى، حين كانت وسيلة نقل المعرفة والمعلومات هي التلقين المباشر من رجال الدين لأتباعهم الذين لا يملكون إلا أن يسمعوا ويطيعوا، أو حين كان القادرون على إعلام الآخرين فئة ضئيلة يحج إليها طلاب المعرفة من كل أرجاء الأرض؛ لكي يتتلمذوا على أيديها، ويتشكلوا بطابعها وقالبها.
على أن ظهور الطباعة قد افتتح عهدا جديدا في نشر المعلومات، يمكن أن يوصف بأنه كان في اتجاهه العام أكثر «ديمقراطية» من أي عهد سابق؛ فعن طريق الطباعة أمكن المعرفة إلى أعداد أكبر بكثير وبنفقات أقل، وأتيحت للراغبين في العلم فرصة الاطلاع على كميات من الكتب تزيد بمراحل عما كان يتاح لطالب المعرفة في عصر المخطوطات. والأهم من ذلك كله أن المعلومات لم تعد مرتبطة بمركز معين يحتكر تقديمها ويفرض طابعه الخاص على من ينضمون إليه، بل إنها أصبحت متاحة للناس في بيوتهم وعلى نطاق واسع، وأصبح في الإمكان لأول مرة أن ينظر المرء إلى الكتاب على أنه حافز للتفكير المستقل، لا على أنه قيد على استقلال قارئه؛ إذ لم يعد الكتاب مرتبطا حتما بشخصية كاتبه، ولم يعد الناس مضطرين إلى تلقي التفسيرات من المؤلف نفسه، بل إن المعلومات المتضمنة أصبحت متوافرة بصورة موضوعية مستقلة عن الكاتب، بحيث يستطيع كل إنسان أن يتخذها منطلقا لتفكره الخاص. وهكذا كان عصر الطباعة يعني - من الناحية العملية - هدم مبدأ السلطة بوصفه أساسا للمعرفة، وبداية عهد جديد من الإعلام الواسع النطاق، المتحرر من قيود السلطة.
ولسنا في حاجة إلى سرد بقية القصة التي بدأت منذ عهد انتحار الطباعة حتى اليوم؛ فقد كان استخدام المطبعة في إخراج صحف تقدم إلى الناس - على أوسع نطاق - إعلاما أسهل فهما وأقرب إلى حياة الناس اليومية مما تقدمه الكتب، كانت تلك خطوة كبرى في طريق التقدم الإعلامي، وعندما ظهرت أولى وسائل الاتصال عن بعد - كالتلغراف ثم التليفون - ازداد الترابط الإعلامي بين الناس، واكتسب الإعلام مزيدا من الجماهيرية حين ارتبط بفن السينما، وبدأت تلوح في الأفق إمكانية جديدة، هي ربط العالم كله بشبكة من المعلومات التي تصل إلى أبعد أطرافه في أسرع وقت.
وقد تحققت هذه الإمكانية - إلى حد بعيد - بعد اختراع الإذاعة اللاسلكية والإذاعة المرئية، أي الراديو والتلفزيون، وسرعان ما أصبحت هذه الوسائل الجديدة أقوى وسائل الإعلام كلها، واكتسبت بالفعل طابعا عالميا متزايدا، يتمثل في وصول الإذاعات إلى أبعد أطراف الأرض، وإمكانيات البث التليفزيوني في مختلف أرجاء العالم عن طريق الأقمار الصناعية، وأصبح للتلفزيون - على وجه التحديد - دور إعلامي يفوق دور جميع الوسائط الأخرى؛ وذلك أولا لأن «الصورة» لغة عالمية تتخطى حواجز اللغات المحلية المستخدمة في الصحافة أو الإذاعة. وثانيا لأنه يدخل كل بيت، ولأن المتفرج يشاهده وهو في حالة استرخاء لا يبذل فيها مجهودا ذهنيا؛ ومن ثم يكون التأثير الإيحائي أيسر وأعمق.
على أن تحقق هذا الحلم كان يبدو مستحيلا منذ قرن واحد فقط كان لا بد أن يكون له تأثيره - إيجابا أو سلبا - على التفكير العلمي؛ فوسيلة الإعلام التي تقتحم كل بيت، والتي تخاطب أفراد الأسرة جميعا، والتي تقدم موادها في إطار من الترفيه أو التسلية، تستطيع أن تقوم بدور عظيم الأهمية في نشر قيم التفكير العلمي أو في هدمها، سواء أكان ذلك عن طريق ما تقدمه من مواد علمية مباشرة، أم عن طريق البرامج التي تبث فيها هذه القيم بصورة غير مباشرة وهو الأغلب.
والأمر الذي يدعو إلى الأسف هو أن الاتجاه الغالب - على ما تقدمه هذه الوسائل الإعلامية الواسعة الانتشار - لا يخدم قضية التفكير العلمي ولا يساعد على نشر قيمه بين الجماهير العريضة التي تتأثر بهذه الوسائل. وقد بدأت تجربة تشكيل عقول الناس وصبها في قوالب واحدة تخدم أغراض نظام معين في الحكم أيام العهد النازي في ألمانيا، ونجحت إلى حد كبير في شل القدرة على التفكير المستقل عند شعب عريق كالشعب الألماني، واستطاعت أن تجر الملايين منه طائعين مختارين - أو على الأصح مخدرين بالدعاية المنظمة - إلى مذبحة الحرب العالمية الثانية؛ لكي يرتكبوا أفعالا أصبحوا هم أنفسهم يعجبون - بمجرد أن زال عنهم سحر الدعاية وتخديرها - كيف رضوا لأنفسهم أن يرتكبوها. وكانت تلك أول تجربة «علمية» من أجل تشكيل عقول البشر ونزع قدرتها على التساؤل والمقاومة بالتدريج، حتى تستسلم آخر الأمر لكل ما يلقنها إياه نظام الحكم القائم.
ومنذ ذلك الحين ازدادت الدراسات العلمية المنظمة التي تستهدف البحث عن أقوى وسائل التأثر الإعلامي في الجماهير، واستخدم في إجرائها عدد غير قليل من العلوم الإنسانية، وخاصة بعض فروع علم النفس. وصحيح أن هذه الدراسات تتخذ مظهرا علميا وقورا، ولكنها تهدف في أغلب الأحيان إلى بحث أفضل الطرق لتزييف عقل الإنسان أو الانحراف بإرادته في اتجاهات مرسومة مقدما، ويندر أن نجد بينها بحثا يستهدف إيجاد أفضل الوسائل لزيادة الوعي وتقويم الأفكار المعوجة بين الناس عن طريق وسائط الإعلام.
وتسير عملية التزييف هذه - في الوقت الراهن - في طريقين ؛ الأول منهما تجاري، هدفه الأول والأخير ترويج السلع بين الناس، حتى لو لم يكونوا في حاجة ماسة إليها، وحتى لو كانت احتياجاتهم الحقيقية تتعلق بأشياء مختلفة عنها كل الاختلاف. وفي سبيل ذلك تقوم شركات الإعلان - التي تعتمد على العديد من العلماء والباحثين - بابتكار أكثر الطرق فعالية لخلق حاجات أو رغبات مصطنعة بين الناس، وللقضاء على قدرتهم على التمييز بين ما هو ضروري وما هو غير ضروري. وعادة تنتشر هذه الإعلانات - في البلاد التي تعتمد على الاقتصاد الحر - وسط برامج إذاعية أو تليفزيونية تتفق عليها الشركة المنتجة خصوصا لكي تروج سلعها في فترات معينة خلال العرض، ولا بد أن تكون هذه البرامج من نوع يشد المتفرج حتى تظل عيونه وآذانه وعقله مثبتة على الجهاز، وهكذا يؤدي هذا الأسلوب إلى ضرر مزدوج؛ لأن البرنامج المقدم نفسه حافل بالإثارة والعنف والجريمة والجنس الرخيص، وكلها أمور تؤثر في ملكات التفكير السليم لدى البشر، فضلا عن أن المادة الإعلانية نفسها تحرص - بطرق مدروسة - على تعهد عناصر الرغبة الرخيصة أو التافهة وتجاهل أي عنصر جاد في طبيعة البشر.
أما الطريق الثاني الذي تسير فيه عملية التزييف هذه فهو طريق سياسي؛ إذ إن نظم الحكم المختلفة تستعين بأجهزة الإعلام من أجل دعم مركزها بين شعبها أو بين الشعوب الأخرى، وتلجأ إلى أساليب تتنافى مع مقومات التفكير السليم؛ فتلح مثلا على نشر صورة زعيم معين وتضخيم أخباره وتكرارها بلا انقطاع، وتستخدم كل أنواع المغالطات من أجل تبرير تصرفاته، وهو أمر لم يكن يحدث في فترات التاريخ السابقة على الإطلاق، حين لم يكن الناس يرون زعماءهم أو يسمعونهم إلا نادرا، ومعظم العقول تستسلم بسهولة لهذه الدعاية الملحة المتكررة، ولكن العقول الواعية نفسها قد تظل تقاوم تأثير الدعاية، وتحتفظ بقدرتها على التفكير المستقل إلى حين، ثم لا تجد أمامها مفرا من الاستسلام آخر الأمر؛ لأن الدعاية «العلمية» الحديثة تعمل بحرص ودأب على إشاعة العقلية التي تصدق وتستسلم، وعلى هدم روح النقد ونشر روح الانقياد. وهكذا قد يجد المجتمع نفسه يؤيد نظما جائرة، ويصفق لزعماء يظلمونه؛ لأن الدعاية الحديثة أفقدته كل قدرة على التفكير السليم والرؤية الواضحة.
ولقد أتيحت لي ذات يوم فرصة لتجربة طريقة تكشف عن طبيعة الأساليب التي تستخدمها النظم السياسية مع شعوبها عن طريق الدعاية؛ إذ كان هناك مؤتمر حضره رؤساء مجموعة من الدول، وشاءت المصادفات أن أسافر بعد انتهاء المؤتمر مباشرة وأمر في طريقي بسرعة على أربع دول اشترك رؤساؤها في هذا المؤتمر، وقد حرصت على قراءة الصحف في هذه الدول الأربع، فإذا بي أجد الصحافة في كل دولة تصور المؤتمر وكأنه كان - من بدايته إلى نهايته - يدور حول محور رئيس دولتها نفسه؛ فهو الذي جذب انتباه الجميع، وهو الذي أقنع الجميع باقتراحاته، وهو الذي بذل أعظم جهد لإنجاح المؤتمر ... إلخ. وتكرر هذا الموقف بحذافيره في كل دولة من الدول الأربع؛ بحيث يظن شعب كل من هذه الدول أن رئيسه كان أبرز الجميع وأذكاهم وأقدرهم على الإقناع، على حين أن الباقين كانوا يقتدون به ويأخذون منه المشورة ... إلخ.
وهكذا فإن وسائل الإعلام الحديثة، التي كانت تبشر بعهد تنتشر فيه المعلومات على أوسع نطاق، وتزول فيه حواجز الزمان والمكان لكي تصبح فرص المعرفة والاستفادة متاحة للجميع؛ هذه الوسائل قد استغلت - في الأغلب - من أجل خلق عقول نمطية قابلة للإيحاء والاستغلال من أجل تحقيق أهداف فئة قليلة تتحكم في الإعلام، وليس معنى ذلك أن نتيجة انتشار هذه الوسائل كانت شرا كلها؛ إذ إن البشر - بغير شك - أصبحوا الآن أقدر بكثير على اكتساب المعلومات مما كانوا في العصور الماضية، ولكن الأمر المؤسف هو أن الإمكانات الهائلة لهذه الوسائل ذات الانتشار عظيم الاتساع قد استغلت في أغلب الأحيان للإضرار بقدرة الناس على التفكير السليم.
ولا يستطيع المرء أن يستثني من هذا الحكم أي نظام من النظم الرئيسية السائدة في عالم اليوم؛ فالمعسكر الاشتراكي يلجأ في أحيان كثيرة إلى حجب حقائق أساسية (كما يحدث في حالات الأزمات أو الكوارث) أو ذكرها بإيجاز شديد لم تكن في مصلحته، وكثيرا ما يكون الرأي الآخر فيه مرفوضا، بل تكون إمكانية ظهوره منعدمة أصلا؛ بحيث تضيع على الناس فرصة الحوار المثمر بين أطراف متعارضة. والحجة التي تقال في هذا الصدد هي أن هناك غاية أساسية أو هدفا أساسيا ينبغي أن يسخر كل شيء لخدمته، ولكن المشكلة هي أن بعض الناس ما زالوا يؤمنون بأن قيمة الحقيقة لا يعلو عليها شيء، وبأنها - في صميمها - لا تتعارض مع أية قضية شريفة.
أما المعسكر الرأسمالي فيتفنن في إخفاء ممارساته في هذا الميدان؛ إذ إن الأمور تبدو ظاهريا وكأن الإعلام الحر متاح للجميع، بل إنه يتخذ من هذا المظهر «الليبرالي» دعامة أساسية لدعايته، على أساس أنه يتفوق به على النظام المضاد تفوقا ساحقا، ولكن هذا ليس إلا المظهر الخارجي فحسب؛ إذ إن الإعلام عنده لا يعبر إلا عن مصالح فئة واحدة من الناس، هي الفئة القادرة على أن تمول الإعلام بإعلاناتها. ومن المعلوم أن الصحف الكبرى ومحطات الإذاعة والتليفزيون تعتمد في تمويلها - كليا أو بنسبة كبيرة - على أموال المعلنين، هذا فضلا عن أن هذه المؤسسات الإعلامية الرئيسية هي - في أغلب الأحيان - «شركات» تسير في أعمالها وفقا للمنطق الرأسمالي البحت، ولا يمكن أن تسمح بإعلام يؤدي إلى هدمها. وهكذا يفتقر هذا النظام بدوره إلى الإعلام الصادق، وإن كان في سيطرته على الإعلام يتبع أساليب أذكى وأبعد عن الطابع الصريح المباشر من تلك التي تتبعها النظم الاشتراكية.
ولقد تعمدنا أن نتحدث عن وضع الإعلام في النظامين العالميين الكبيرين، بعد الحديث عن خضوع الإعلام - بوجه عام - للأغراض التجارية أو السياسية؛ وذلك لكي نستخلص من هذا العرض السريع نتيجة ربما كانت مؤلمة، ولكنها للأسف ضرورية، وأعني بها أن الإعلام الذي اتخذ في عصرنا الحاضر أبعادا هائلة، وأصبح تأثيره فعالا على كل عقل، يتجه أكثر فأكثر إلى الابتعاد عن الموضوعية والنزاهة اللازمة لكل تفكير علمي؛ ومن ثم فإن هذه القوة الضخمة التي كان الناس يأملون منها أن تنشر الوعي وترعى القيم الفكرية الصحيحة؛ قد أصبحت تستخدم في معظم الأحيان بطريقة لا تساعد على تأكيد روح التفكير العلمي بين البشر.
ولو أمعن المرء النظر في الفلسفات المتحكمة في الإعلام المعاصر؛ لتبين له أنه لا يكاد يكون هناك اعتراف بالقيمة المطلقة «للحقيقة»، تلك الحقيقة التي تعلو على أي اعتبار آخر، سواء أكان ذلك مصلحة طبقة أو حزب أو حتى مصلحة مجتمع كامل؛ فالحقيقة أصبحت «موظفة»، بمعنى أنها وسيلة لغاية أخرى، ويكاد يختفي من الإعلام الحالي ذلك المبدأ الذي يتمسك بالحقيقة أولا، مهما كانت النتائج، ويحل محله مبدأ آخر يطبقه الجميع في النظام الاشتراكي وفي النظام الرأسمالي وفي العالم الثالث، هو أن الحادث الواحد ينبغي أن يعرض ويفسر وفقا لمصلحة الوضع القائم، وأن حقيقة الإنسان الرأسمالي بطلان في نظر الاشتراكي والعكس بالعكس.
من هنا كان الإعلام المضلل عقبة كبرى في وجه التفكير العلمي في عالمنا المعاصر؛ إذ إن التفكير العلمي لا يعترف إلا بحقيقة واحدة، لا تتلون أو يتغير تفسيرها وفقا للمصالح، وصحيح أن وسائط الإعلام تضلل عندما يكون الأمر متعلقا بمصالح سياسية أو اقتصادية، ولا تلجأ كثيرا إلى التضليل في بقية الميادين، ولكن هذا الميدان حيوي، والتزييف فيه يؤثر تأثيرا كبيرا على طريقة تفكير الإنسان؛ لأنه أولا يحول بين الناس وبين فهم أنفسهم ومجتمعهم بطريقة علمية، والأهم من ذلك أنه يعودهم الاستسلام للمغالطات ويسلبهم القدرة على مقاومتها؛ ومن ثم فإنه ينتزع من عقل الإنسان أهم ملكة يحتاج إليها لكي يفكر تفكيرا علميا، وأعني بها ملكة النقد والتساؤل.
ولست أود أن أختتم هذا الفصل من الكتاب من غير أن أشير - بإيجاز شديد - إلى الوضع الخاص لهذه العقبات التي تعترض طريق التفكير العلمي في عالمنا العربي بالذات؛ ذلك لأنه على الرغم من أن أمثلة كثيرة من تلك التي وردت عند الحديث عن هذه العقبات كانت متعلقة بالعالم العربي، فإن من المفيد أن نختم عرضنا لهذا الموضوع بإشارة خاصة إلى دور هذه العقبات في بلادنا، وحسبنا أن نعود بذاكرتنا إلى هذه العقبات واحدة بعد الأخرى؛ لكي نجد أن لها في عالمنا العربي دورا لا يستهان به، وأن معوقات التفكير العلمي في بلادنا كانت ولا تزال ذات سطوة هائلة على العقول.
فالأسطورة والخرافة تحتل في تفكير الناس - في بلادنا العربية - مكانة لا يزال من الصعب زعزعتها، وإني لأذكر - من تجربتي الخاصة - أنني في كل مرة كنت أتحدث فيها عن الحسد أو «العمل» (السحري) بوصفه خرافة، كنت ألقى مقاومة شديدة من عدد كبير من طلاب الجامعة، وهم في مجتمعنا فئة مميزة أتيح لها من فرص التعليم ما لم يتح للغالبية الساحقة من أبناء الشعب، وكانت القصص التي يوردها هؤلاء الطلاب - للتدليل بها على «صحة» الحسد وفعالية «العمل» - نماذج صارخة للتفكير المضاد للعلم، أو للتفكير الذي لم يسمع عن شيء اسمه العلم، بل إنني صادفت أكثر من حالة كان فيها أساتذة جامعيون يدافعون بحرارة عن «كرامات» إنسان طيب من أصدقائهم، يستطيع أن يحقق أمنياته بمجرد التفكير فيها، أو يعرف الحالة الصحية لقريب يسكن بلدا بعيدا دون أن يتصل به، أو يجعل السيارة تسير مسافة كبيرة وهي خالية من الوقود! فإذا كان هذا هو حال «الصفوة» (وأنا لا أعمم بطبيعة الحال) فماذا يكون حال البسطاء من الناس؟ وكيف نأمل في بناء مجتمع يساير العصر بعقول تعشش فيها أمثال هذه الخرافات؟
أما عقبة «السلطة» فلها في مجتمعنا العربي دور لا يستهان به، وربما كان من أسباب رسوخ فكرة السلطة أن مجتمعاتنا العربية - في أصلها - إما زراعية وإما قبلية، وفي الحالتين يكون المجتمع «تقليديا» ميالا إلى التقيد الحرفي بسلطة القديم والموروث والشائع والمشهور، وينظر إلى التجديد على أنه «بدعة»، وإلى تحدي التقاليد على أنه هرطقة وتجديد، وليس في وسع أحد أن ينكر أن الانهيار التام للسلطة - في المجتمعات الغربية الحديثة - قد ولد تفككا وانحلالا يشكو منه المفكرون في تلك البلاد ذاتها مر الشكوى؛ ومن ثم فإن وجود قدر معين من السلطة - في الأسرة مثلا - هو أمر مرغوب فيه، ولكني أخشى أن أقول: إن الخضوع للسلطة - في بعض المجالات - يفوق في مجتمعنا الحد اللازم من أجل تحقيق التماسك وتجنب الانحلال. فالسلطة في المجال الاجتماعي والسياسي والفكري ما زال لها في بلادنا دور يزيد عما هو مطلوب في عصر يتسم - سواء رضينا أم كرهنا - بالتجديد والتغير السريع الإيقاع. وهناك خوف حقيقي من أن تتحول فضيلة الترابط والتماسك - التي يبعثها وجود سلطة تفرض على الآخرين الخضوع لها - إلى رذيلة، أو على أحسن الفروض إلى سد منيع يقف حائلا دون اكتساب العقول لذلك القدر من المرونة والتحرر الذي لا بد منه لقيام نهضة علمية في أي شعب.
فإذا انتقلنا إلى عقبة «إنكار قدرة العقل» وجدنا هذه العقبة تصول وتجول في عالمنا العربي. ومن المؤسف أن تأثير هذه العقبة لا يرجع إلى أننا نتمسك بقوة أخرى - كالحدس مثلا - نعدها منافسة للعقل، أو نؤكد أهمية التجربة الشخصية المباشرة على حساب المعرفة العلمية الموضوعية اللاشخصية. بل إننا نتأثر بهذه العقبة بمعناها الفج؛ أعني بمعنى عدم الإيمان بأن العقل قادر على تحصيل العلم أو عدم الإيمان بقيمة العلم ذاته. وهناك فئة من الكتاب يجدون متعة كبرى في الحط من قدر هذا العقل الذي هو أعظم ملكاتنا، وهو الذي يميزنا عن سائر الكائنات، وهو الذي صنع للإنسان حضارة وتاريخا، وجعل له هذا المركز المميز للكون؛ هؤلاء الكتاب - في اتجاههم هذا - هم أشبه بضحايا مرض «تعذيب الذات
masochism » الذين يستمتعون كلما ألحقوا الأذى بأنفسهم، بل إننا لنجد منهم من يجهد «عقله» ويتفنن في إيراد «الأدلة» و«الشواهد» و«البراهين» - وكلها من صنع «العقل» نفسه - لكي يحط من شأن العقل! وكل ما يجنيه هؤلاء هو أن يسود بين الناس اعتقاد بأن الغموض والسر يحيط بكل شيء، وبأن الاستسلام والعجز عن الفهم والتفسير هو الحالة المثلى للإنسان، وهكذا تشيع الجهالة، ويصبح الإنسان أعزل أمام شتى أنواع الدجل والشعوذة الفكرية التي يتطوع الكثيرون بتقديمها بديلا عن التفكير العقلي المنظم. ولو شئنا أن نكون منصفين لأنفسنا أمناء على مستقبل أبنائنا؛ لطبقنا على أصحاب هذه الدعوات نفس الأحكام التي نطبقها على تجار المخدرات؛ لأنهم بالفعل لا يزيدون عن أن يكونوا مروجين للمخدرات والمسكرات الفكرية!
أما عقبة «التعصب» فقد كان من حسن حظ العرب أن دينهم وحضارتهم ظلت بمنأى عن هذا الداء الوبيل، بحيث أصبحت الأمة العربية تزهو على سائر الأمم بتسامحها وسعة صدرها. ولا يعني ذلك أن تاريخنا قد خلا خلوا تاما من التعصب؛ فقد ظهرت بالفعل حالات هنا أو هناك، ولكنها كانت خروجا عن التيار العام للتاريخ العربي، لم تكن تطل برأسها إلا في عهود الضعف وانفلات الزمام، ومع ذلك فإننا نعاني - في وقتنا الراهن - من لون آخر من ألوان التعصب، هو الاعتقاد الباطل بأن الموضوع الواحد لا يمكن أن يكون فيه إلا رأي واحد، وبأن كل ما عداه باطل، وإذا كان هذا الاعتقاد مفهوما في ميدان الحقائق العلمية فإنه غير مفهوم في ميدان الحياة السياسية والاجتماعية؛ حيث يعد الاختلاف في الرأي «رحمة» بكل ما تحمله هذه الكلمة من معنى، وحيث ينبغي أن تسود روح الحوار بين الأطراف المتعددة، حتى تتكشف الجوانب المختلفة لتلك الحقيقة المعقدة التي يشكلها الواقع السياسي والاجتماعي، ولكن ما أسرع ما تضيق صدورنا - في العالم العربي - بالمعارضة! وما أسهل اتهام أصحاب الرأي الآخر بالعمالة والخيانة وربما الكفر؛ لمجرد أنهم لا يسيرون في الركاب السلطاني للرأي الواحد، هذا هو نوع التعصب الذي تستفحل شروره في عالمنا العربي المعاصر، والذي يعد عقبة كبرى في طريق التفكير العلمي في ميدان من أهم ميادين الحياة، ألا وهو تنظيم المجتمع.
وأخيرا، فإن عقبة الإعلام المضلل تشكل - في مجتمعنا العربي - خطرا داهما على عقولنا وقدرتنا على التفكير الموضوعي؛ فأجهزة الإعلام عندنا لا تعبر - في معظم الأحيان - إلا عن ذلك «الرأي الواحد» الذي كنا نتحدث عنه في صدد العقبة السابقة، وهي لا تكتفي بالتضليل، بل تشجع التفاهة وترعاها بكل عناية، وهكذا نتصور أن وسائل الإعلام الجماهيرية - كالإذاعة والتلفزيون - أدوات للترفيه فحسب، وننسى دورها الجبار في نشر الثقافة الجادة وتشجيع القيم الفكرية الأصيلة، وخاصة بين أبناء شعب يحتاج إلى هذه القيم احتياجا شديدا لكي يعوض تخلفه الطويل.
وخلاصة القول: إن قدرتنا على أن نفكر في الأمور - سواء منها ما يتعلق بالعلم أو بحياة الإنسان ومجتمعه - تفكيرا علميا سليما مهددة تهديدا خطرا بتلك العقبات التي لا تزال تمارس تأثيرها الضار في عقل الإنسان العربي دون كابح أو ضابط. ولقد سبق لكاتب هذه السطور أن دعا مرارا إلى أن نحمي الأجيال الجديدة من أبنائنا - إن كنا يائسين من الأجيال القديمة - من هذه العقبات عن طريق إدخال المبادئ الأولية للتفكير العلمي - بطريقة شديدة التبسيط - في برامجنا التعليمية، بحيث ينتبه النشء منذ صغره إلى خطورة المظاهر التي يراها في المجتمع المحيط به للخرافة والسلطة المتطرفة وكراهية العقل ... إلخ. وهأنذا أنتهز الفرصة لأعيد ترديد هذه الدعوة، آملا أن يتأثر بكلماتي هذه مسئول ذو نفوذ، ومتمنيا أن يكون هذا المسئول من الاستنارة بحيث يدرك مدى أهمية الموضوع الذي أدعو إليه، وهي أمنية أرجو ألا تكون عزيزة المنال!
الفصل الثالث
المعالم الكبرى في طريق العلم
لست أود أن أقدم في هذا الفصل تاريخا للعلم؛ إذ إن هذا التاريخ من الاتساع ومن الشمول بحيث يتعين على من يتصدى له أن يعرض لتاريخ الحضارة البشرية كلها، ولتاريخ العقل الإنساني بأكمله، وتلك مهمة يستحيل إنجازها - بأدنى حد من الكفاءة - في مجلد واحد، فما بالك بفصل واحد في كتاب؟!
بل إن ما أود أن أقوم به ها هنا هو تقديم عرض موجز للمراحل الرئيسية في طريق العلم؛ أعني لنقاط التحول الكبرى خلال تاريخ العلم دون أي خوض في تفاصيل هذه المراحل، ومن شأن هذا العرض أن يقدم إلينا في الوقت ذاته لمحة عامة عن التطور الذي طرأ على معنى «العلم»؛ ذلك لأن العلم ظاهرة قديمة وظاهرة حديثة في آن واحد: إنه قديم إذا نظرت إليه بأوسع وأشمل معانيه؛ أي على أنه كل محاولة يبذلها العقل البشري لفهم نفسه والعالم المحيط به، ولكن هذا المعنى الواسع الشامل أخذ يزداد دقة على مر العصور، وأخذ نطاق العلم وأسلوب ممارسته يتحدد على نحو أدق من مرحلة إلى أخرى، حتى وصل في النهاية إلى وضعه الراهن. وهكذا سوف تكون مهمتنا في هذا الفصل مزدوجة؛ فهي من وجهة عرض موجز لأهم المعالم في تاريخ العلم، وفي الوقت ذاته فإن هذا العرض سيتيح لنا أن نرى كيف تشكل معنى العلم بالتدريج وعلى مر العصور، وكيف تخلص العلم بعناء وبطء شديد من المفاهيم غير الدقيقة التي كانت عائقا في وجه تقدمه، وكيف تبلورت مناهج وأساليب ممارسته حتى أصبحت - في عصرنا الحديث - أفضل نموذج للدقة والانضباط في استخدام العقل البشري. (1) العالم القديم
من الصعب أن يحدد المرء نقطة بداية لذلك النوع من النشاط الذي نطلق عليه اسم العلم؛ إذ إن كل سلوك كان يقوم به الإنسان - منذ عهوده البدائية السحيقة - قد أسهم - بغير شك - في تهذيب تفكيره وصقله على نحو يساعد على ظهور العلم في مرحلة لاحقة، ومثل هذه الظواهر البشرية لا تنطوي على مفاجآت أو على انبثاق مباغت بلا تمهيد، بل إن كل شيء فيها يتدرج ببطء شديد في البداية، ثم تتسارع خطاه حين يتم الاهتداء إلى الطريق الصحيح.
وهكذا فإن مما لا شك فيه أن التجارب الشديدة البطء - التي مرت بها الإنسانية في عصورها البدائية - قد أكسبتها خبرات أدى تراكمها في المدى الطويل إلى ظهور البوادر الأولى للتفكير العلمي، ولكن لما كانت هذه العصور البدائية تمثل مرحلة «ما قبل التاريخ»، فلن نستطيع - في مثل هذا العرض الموجز - أن نتخذ نقطة بدايتنا منها، وإنما سنبدأ من «المراحل التاريخية»؛ أعني من تلك الحضارات القديمة التي تركت لنا وثائق تعيننا على معرفة تاريخها، سواء اتخذت هذه الوثائق شكل كتابات مدونة أو آثار مادية تتيح للمرء أن يستنتج منها نوع الحياة ونوع الفكر السائدين لديها.
وكما نعلم فإن أقدم الحضارات الإنسانية قد ظهرت في الشرق؛ ففي هذه المنطقة من العالم التي نعيش فيها الآن، ظهرت منذ عدة آلاف من السنين حضارات مزدهرة في أودية الأنهار الكبرى كالنيل والفرات، وإلى الشرق منها في أنهار الهند والصين، وتدل الآثار التي خلفتها هذه الحضارات المجيدة على أنها كانت حضارات ناضجة كل النضج بالقياس إلى عصرها؛ ومن ثم فقد كان من الضروري أن ترتكز في نهضتها على أساس من العلم .
وإذا كانت هذه الحضارات الشرقية القديمة تبعد عنا في الزمان بما يتراوح بين سبعة وخمسة آلاف سنة؛ فقد ظهرت في العصر القديم أيضا - ولكن في وقت أقرب إلينا بكثير من ذلك العصر - حضارة أخرى عظيمة هي الحضارة اليونانية القديمة، التي يرجع تاريخها إلى ما يقرب من ألفين وخمسمائة عام، وهي بدورها حضارة كان من مظاهر ازدهارها وجود علم ناضج.
وهنا نجد أنفسنا إزاء السؤال الذي تثيره هذه المرحلة القديمة في تاريخ العلم، وأعني به: إذا كان من المحتم علينا أن نبدأ هذا التاريخ بمرحلة الحضارات القديمة، التي بقيت لدينا منها وثائق تعيننا على فهمها، فهل نتخذ نقطة بدايتنا من الحضارات الشرقية أم من الحضارة اليونانية الأحدث منها عهدا؟ وهل ظهرت الأصول الأولى للعلم في الشرق أم أن ما ظهر هناك كان بوادر أولى لا تستحق أن تعد بداية حقيقية للعلم الذي لم تظهر معالمه الحقيقية إلا فيما بعد عند قدماء الإغريق؟
هذا السؤال هو - في واقع الأمر - المحور الذي ينبغي أن تدور حوله مناقشتنا لتلك المرحلة الأولى في طريق العلم، وسوف نبدأ كلامنا بالإجابة التقليدية عن هذا السؤال، أعني تلك التي نجدها في معظم مراجع تاريخ العلم، وخاصة ما كان منها أقدم عهدا.
ففي الحضارات الشرقية القديمة تراكمت حصيلة ضخمة من المعارف ساعدت الإنسان في هذه الحضارات على تحقيق إنجازات كبرى، ما زالت آثارها تشهد بعظمتها حتى اليوم، ولكن هذه المعارف لم تكن سوى خبرات موروثة، ربما كانت راجعة في أصلها إلى أقدم العصور البدائية للإنسان، وقد ظلت تورث جيلا بعد جيل، وساعدت على إثراء حياته العقلية.
ذلك لأن هذه الشعوب التي عاشت في الشرق القديم كانت بارعة في الاستخدام «العلمي» للمعارف الموروثة، ولكنها لم تكن تملك نفس القدر من البراعة في التحليل العقلي «النظري» لهذه المعارف، كانت لديها خبرات تتيح لها أن تحقق إنجازات عملية هائلة ولكنها لم تتوصل إلى النظريات الكامنة وراء هذه الخبرات، ولم تخضعها للتحليل العلمي الدقيق. أما الحضارة التي توصلت إلى هذه المعرفة «النظرية»، والتي توافرت للإنسان فيها القدرة التحليلية التي تتيح له كشف «المبدأ العام» من وراء كل تطبيق عملي، فهي الحضارة اليونانية.
وهكذا يمكن تشبيه العلاقة بين حضارات الشرق القديم والحضارة اليونانية - فيما يتعلق بنشأة العلم - بالعلاقة بين المقاول والمهندس؛ فالمقاول هو - في معظم الأحيان - شخص اكتسب قدرا هائلا من الخبرات العملية، سواء عن طريق التلقين أو الممارسة، ولولا القوانين التي تسنها الدول في عصرنا الحديث لكان في استطاعة معظم المقاولين أن يشيدوا أبنية سليمة تؤدي كل الأغراض التي نتوقعها من البناء، أما المهندس فهو - إلى جانب إلمامه ببعض الخبرات العملية - يمتلك «العلم النظري» الذي يتيح له معرفة «أسس» عملية البناء، ويمكنه من التصرف بحرية والخروج عن القواعد المألوفة في حالة وقوع أي طارئ. ولو قارنا بين المقاول والمهندس من حيث النتائج العملية للجهد الذي يقومان به، لما كان الفارق بينهما كبيرا؛ لأن كلا منهما يستطيع - في الغالب - أن يشيد بناء متماسكا متينا. أما الاختلاف بينهما فهو في نوع المعرفة التي يعمل وفقها كل منهما، وهل هي معرفة تطبيقية مستمدة من خبرات متراكمة، أم معرفة نظرية تعتمد على التحليل والبراهين المقنعة للعقل؟
وهناك مثل مشهور يضرب في معظم المراجع التي تتناول هذا الموضوع لتوضيح الفارق بين هاتين الحضارتين في هذا الصدد؛ فقد اهتدى المصريون القدماء بالخبرة إلى أن مجموع المربعين المقامين على ضلعي المثلث القائم الزاوية يساوي المربع المقام على وتر هذا المثلث، وكانوا يستخدمون هذه الحقيقة بطريقة عملية في أعمال البناء؛ فعندما كانوا يريدون التأكد من أن الجدار الذي يبنونه عمودي على سطح الأرض، كانوا يصنعون مثلثا أبعاده 3 و4 و5 أو مضاعفاتها؛ حتى يضمنوا أن هذا المثلث سيكون قائم الزاوية، ومن ثم يكون الجدار عموديا بحق (لأن مربع 3 هو 9، ومربع 4 هو 16، ومجموعهما هو مربع 5، أي 25)، وقد ظلت هذه الحقيقة تستخدم عندهم بطريقة عملية تطبيقية، دون أن يحاولوا إثباتها بالدليل العقلي المقنع. بل إن الرغبة في إيجاد مثل هذا الدليل لم تتملكهم على الإطلاق؛ لأن كل ما يهدفون إليه هو الوصول إلى نتيجة عملية ناجحة ، وهذه النتيجة الناجحة تتحقق بتطبيق القاعدة فحسب، ولن يزيدها الاهتداء إلى الدليل العقلي نجاحا.
وفي مثل هذا الجو يستحيل أن يظهر العلم؛ لأن العلم هو في أساسه بحث عن المبادئ العامة، لا عن التطبيقات الجزئية، وهو سعي إلى القاعدة النظرية، وليس اكتفاء بتحقيق أهداف عملية؛ ولذلك فإن العلم لم يظهر - للمرة الأولى - إلا عند اليونانيين القدماء الذين كان يتملكهم حافز آخر - يضاف إلى حافز الإنجاز العملي - هو الرغبة في الاقتناع، ولم تكن عقولهم تهدأ إلا حين تهتدي إلى الدليل القاطع والبرهان المقنع.
هذه باختصار هي الصور التقليدية التي كان مؤرخو العلم يصورون بها العلاقة بين الحضارات الشرقية القديمة والحضارة اليونانية في موضوع نشأة العلم، ونود أن نبدي على هذه الصورة بضع ملاحظات نعتقد أنها على جانب كبير من الأهمية: (1)
فهذه الصورة لا تخلو من التحيز الحضاري؛ إذ إن الأوروبيين المحدثين هم أحفاد الحضارة اليونانية، وهم ينتسبون إليها انتسابا مباشرا، على حين أن الحضارات الشرقية القديمة لا تمت إليهم بصلة، ومن هنا فقد دأب المؤرخون الأوروبيون - وخاصة في عصر اشتداد الروح القومية خلال القرن التاسع عشر - على تمجيد الحضارة اليونانية - حضارة الأجداد - وتحدثوا طويلا عن «المعجزة اليونانية»؛ أي عن ذلك الإنجاز الهائل الذي حققه اليونانيون فجأة دون أية مقدمات تذكر، ودون أن يكونوا مدينين لأي شعب سابق، وعن ذلك الوليد الذي ظهر إلى الوجود يافعا هائل القوة ... وكلها تعبيرات لا يمكن أن تخلو من عنصر التحيز، لا سيما وأن أحفاد الحضارات الشرقية القديمة كانوا هم الشعوب الواقعة تحت قبضة الاستعمار الأوروبي في ذلك الحين، وكانوا يعاملون على أنهم شعوب «من الدرجة الثانية»؛ ومن ثم كان من الطبيعي أن تكون الحضارات التي انحدروا منها حضارات «من الدرجة الثانية» أيضا. (2)
وتفترض هذه الصورة التقليدية الشائعة انفصالا تاما بين ميدان الخبرة العملية وميدان البحث العلمي النظري، فهي ترتكز على الاعتقاد بأن شعبا معينا يستطيع أن يكدس خبرات موروثة لمدة آلاف السنين ويحقق بواسطتها إنجازات هائلة - كالهرم الأكبر مثلا - دون أن يكون قد توصل خلال ذلك إلى النظريات العلمية التي تكون أساسا لهذه الخبرات، ومثل هذا الاعتقاد ينطوي على مبالغة في الفصل بين الجوانب العملية والجوانب النظرية للمعرفة، وهو فصل لا تبرره تجربة البشرية ذاتها في مختلف العصور؛ فعندما تتراكم لدى مجتمع معين خبرات عملية طويلة، يكون من الطبيعي أن تقوده هذه الخبرات ذاتها إلى بعض النظريات العلمية على الأقل، وليست النظرية ذاتها إلا حصيلة لتطبيقات عديدة؛ فالعلاقة بين النظرية والتطبيق علاقة متبادلة، بحيث إن الممارسة العملية تمهد الطريق إلى كشف النظرية العلمية، كما أن الوصول إلى النظرية يفتح الباب أمام كشف تطبيقات جديدة مثمرة. أما القول بأن هناك شعبا لم يعرف طوال تاريخه إلا تطبيقات وخبرات عملية وشعبا آخر توصل لأول وهلة - ومن تلقاء ذاته - إلى الأسس النظرية للعلم، فإنه زعم يتنافى مع التجارب الفعلية للبشرية، فضلا عن تناقضه مع المنطق السليم. (3)
على أن هذه الصورة التقليدية قد أخذت تتغير ملامحها بالتدريج، وساعدت على ذلك عدة أمور: (أ)
أولها تقدم البحث العلمي والتاريخي ذاته؛ فقد أحرز العلم التاريخي - في ميدان الحضارات القديمة - تقدما هائلا في أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين، وما زال هذا التقدم مستمرا حتى يومنا هذا، وفي كل كشف جديد كان العلماء يلقون مزيدا من الضوء على حياة القدماء وفكرهم، حتى أصبحنا نعرف اليوم عن هؤلاء القدماء أكثر مما كانت الإنسانية تعرف عنهم في عهود قريبة منهم - من الناحية الزمنية - كل القرب، وكانت كل هذه الكشوف الجديدة في الميدان التاريخي تشير إلى حقيقة واحدة؛ هي أن التضاد بين الحضارة اليونانية والحضارات الشرقية القديمة ليس بالحدة التي كان يصور بها، وأن عوامل الاتصال بين اليونانيين والشرقيين القدماء كانت أقوى مما كنا نتصور، وكان كل كشف تاريخي جديد يؤكد - بشكل متزايد - أن اليونانيين كانوا مدينين بالكثير للسابقين عليهم من الشرقيين، لا سيما وأن الاتصالات بين هاتين المنطقتين لم تنقطع لحظة واحدة، سواء أكانت اتصالات سلمية عن طريق التجارة وتبادل الخبرات والسلع، أو اتصالات حربية في المعارك التي لم تتوقف بين اليونانيين وبين الشعوب الشرقية. (ب)
أدرك الباحثون أن الكلام عن «معجزة» يونانية ليس من العلم في شيء؛ فالقول إن اليونانيين قد أبدعوا فجأة - ودون سوابق أو مؤثرات خارجية - حضارة عبقرية في مختلف الميادين - ومنها العلم - هو قول يتنافى مع المبادئ العلمية التي تؤكد اتصال الحضارات وتأثير بعضها في بعض. وعلى حين أن لفظ «المعجزة» يبدو في ظاهره تفسيرا لظاهرة الانبثاق المفاجئ للحضارة اليونانية، فإنه في واقع الأمر ليس تفسيرا لأي شيء، بل إنه تعبير غير مباشر عن العجز عن التفسير؛ فحين نقول: إن ظهور العلم اليوناني كان جزءا من «المعجزة اليونانية» يكون المعنى الحقيقي لقولنا هذا هو أننا لا نعرف كيف نفسر ظهور العلم اليوناني.
ولا جدال في أن المكان الذي ظهرت فيه أولى المدارس الفلسفية والعلمية اليونانية، هو في ذاته دليل على الاتصال الوثيق بين الحضارة اليونانية والحضارات الشرقية السابقة؛ فلم تظهر المدرسة الفكرية الأولى في أرض اليونان ذاتها، وإنما ظهرت في مستوطنة «أيونية» التي أقامها اليونانيون على ساحل آسيا الصغرى (تركيا الحالية)؛ أي في أقرب أرض ناطقة باليونانية إلى بلاد الشرق ذوات الحضارات الأقدم عهدا، وهذا أمر طبيعي لأن من المحال أن تكون هذه المجموعة من الشعوب الشرقية قريبة من اليونانيين إلى هذا الحد، وأن تتبادل معها التجارة على نطاق واسع، وتدخل معها أحيانا أخرى في حروب طويلة، دون أن يحدث تفاعل بين الطرفين. (ج)
اقتنع العلماء بأن من المستحيل تجاهل شهادة اليونانيين القدماء أنفسهم، فقد شهد فيلسوفهم الأكبر «أفلاطون» - الذي كان في الوقت ذاته عالما رياضيا - بفضل الحضارة الفرعونية على العلم والفكر اليوناني، وأكد أن اليونانيين إنما هم «أطفال» بالقياس إلى تلك الحضارة القديمة العظيمة. وهناك روايات تاريخية كثيرة تحكي عن اتصال كبار فلاسفة اليونانيين وعلمائهم - ومنهم أفلاطون ذاته - بالمصريين القدماء وسفرهم إلى مصر وإقامتهم فيها طويلا لتلقي العلم.
والمشكلة الكبرى في هذا الصدد هي أن الأدلة المباشرة على هذا الاتصال العلمي قد فقدت؛ فعلى حين أن كثيرا من الإنجازات العلمية اليونانية قد ظلت باقية، فإن ما أنجزته الحضارات الشرقية - في باب العلم النظري أو الأساسي - لا يكاد يعرف عنه شيء بطريق مباشر، ومعظم ما نعرفه عنه غير مباشر؛ أي من خلال التطبيقات العملية لهذا العلم كما تتمثل في الآثار الباقية من هذه الحضارات، ومن الأسباب التي يعلل بها البعض ضياع العلم الشرقي القديم أن الفئة التي كانت تمارسه كانت فئة الكهنة التي حرصت على أن تحتفظ بمعلوماتها العلمية سرا دفينا، تتناقله هذه الفئة جيلا بعد جيل، دون أن تبوح به إلى غيرها، حتى تظل محتفظة لنفسها بالقوة والنفوذ والمهابة التي تولدها المعرفة العلمية، وحتى تضفي على نفسها - وعلى الآلهة التي تخدمها - هالة من القداسة أمام عامة الناس الذين لا يعرفون عن العلم شيئا، وفضلا عن ذلك فهناك كوارث طبيعية وحروب كثيرة وحرائق متعمدة أو غير متعمدة؛ أدت بدورها إلى ضياع ما يمكن أن يكون قد دون من هذا العلم في كتب. ونتيجة هذا كله هي أن معلوماتنا عن الأصول النظرية للعلم القديم تكاد تكون منعدمة، على حين أن معظم ما أنجزه اليونانيون ظل باقيا، مما ساعد على نسبة الفضل الأكبر في بدء ظهور العلم إلى اليونانيين، وجعل من المستحيل إجراء مقارنة بين العلم اليوناني والعلم الشرقي القديم، أو تبيان مقدار ما يدين به اليونانيون في علومهم للحضارات الكبرى التي سبقتهم.
تلك هي الملاحظات التي نود أن نعلق بها على التصور التقليدي الشائع للعلاقة بين العلم اليوناني وعلوم الحضارات الشرقية، وهي تؤدي بنا إلى القول بأن هذا التصور يفتقر إلى الدقة، وربما كان مرتكزا على أسس غير علمية، ولكن الصعوبة الكبرى التي تجعل من العسير رفضه كلية هي - كما قلنا - النقص الشديد في معلوماتنا عن الأصول النظرية للعلوم التي توصل إليها الشرقيون القدماء؛ ولذا لا يجد الباحثون في هذا الموضوع مفرا من الاحتفاظ بقدر من هذه الصورة، مع اقتناعهم - في قرارة أنفسهم - بافتقارها إلى الدقة.
وعلى أية حال، فإن نفس هذه الدوافع العملية التي تنسب إلى الشرقيين القدماء، هي التي يمكن أن تكون قد أدت إلى ظهور بدايات العلم النظري لديهم؛ فهناك ارتباط وثيق بين عملية البناء - بناء المساكن أو القصور أو المعابد - وبين ظهور علم الهندسة؛ إذ إن من الضروري حساب مساحة البناء من أجل معرفة كمية المواد اللازمة لبنائه وعدد العمال اللازمين لإنجازه، كما أن قوالب الحجارة لن تتلاصق إلا إذا كانت مستقيمة، ولا بد أن تكون جدران البناء كلها قائمة الزوايا لضمان سلامته. وهكذا ترتبط عملية البناء بمعان أساسية في علم الهندسة كالخط المستقيم والزاوية القائمة وحساب المساحات.
ومن ناحية أخرى، فقد كانت شعوب معظم الحضارات الشرقية القديمة شعوبا زراعية؛ لأن هذه الحضارات ظهرت - كما قلنا - على ضفاف أنهار كبرى، وكانت عملية الزراعة تتطلب - من أجل نجاحها - معلومات فلكية كثيرة؛ إذ إن من الضروري حساب المواسم الزراعية حتى يمكن زرع المحصول في الوقت المناسب، ولا بد من توقيت دقيق لعمليات وضع البذور وري الأرض وجني المحصول ... إلخ، فضلا عن ضرورة حساب مواعيد فيضان النهر والتغير في حالة الطقس. وهكذا كان من الضروري أن تعرف هذه الحضارات حساب الفصول والسنين، وكانت أدق التقويمات الفلكية هي التي عرفتها حضارات زراعية عريقة كالحضارة المصرية القديمة وحضارة بلاد ما بين النهرين.
وكان من العوامل الأخرى التي أدت إلى تقدم علم الفلك في هذه الحضارات أن كثيرا من شعوبها كانت تمارس التجارة، وتحتاج إلى الملاحة البحرية على نطاق واسع؛ ومن ثم كان الرصد الفلكي الدقيق ضروريا في عمليات توجيه السفن في أعالي البحار.
وأخيرا، فقد كان للمعتقدات والأديان الشعبية تأثير هام في نمو معارف علمية كثيرة، وحسبنا أن نذكر في هذا الصدد أهمية العقيدة الدينية عند الفراعنة في عمليات البناء الهائلة - التي تحققت تلبية لمطالب دينية - كالأهرامات والمعابد الضخمة، وكذلك الحاجة إلى تخليد الإنسان، والرغبة في قهر الإحساس بفنائه التي حفزتهم إلى اكتساب المقدرة الخارقة على التحنيط، والإيمان بالتنجيم ومعرفة الطالع من التطلع إلى النجوم، الذي أعطى بعض الناس - في تلك المرحلة القديمة - طاقة هائلة من الصبر أتاحت لهم أن يقوموا بملاحظات وعمليات رصد مرهقة، أضافت إلى رصيد البشرية في ميدان الفلك معلومات لها قيمة لا تقدر. ولنذكر في هذا الصدد أن الارتباط بين التنجيم وعلم الفلك قد ظل قائما في أوروبا ذاتها حتى مطلع العصر الحديث، وأن كبار علماء الفلك حتى القرن السابع عشر كانوا منجمين في الوقت ذاته، ولم يكونوا يجدون أي تعارض بين الملاحظة الفلكية المتأنية الدقيقة وبين البحث عن طالع حاكم، أو التنبؤ بنتيجة معركة حربية وشيكة الحدوث من خلال النجوم.
في كل هذه الحالات كانت هناك مقتضيات عملية حتمت على الحضارات الشرقية القديمة البحث في علوم معينة، وما دامت هذه الحضارات قد نجحت في تحقيق تلك المقتضيات العملية نجاحا رائعا، فلا بد أن نستنتج أن حصيلتها العلمية في هذه الميادين لم تكن ضئيلة. وإنه لمن الصعب أن يتصور المرء أن أولئك العباقرة الذين بنوا الأهرامات بتلك الدقة المذهلة في الحساب، بحيث لم يخطئوا إلا بمقدار بوصة واحدة في محيط قاعدة الهرم الأكبر البالغ
قدما،
1
والذين ابتدعوا فن الضرب والقسمة، لا يستحقون اسم «العلماء»، وأنهم لم يكونوا إلا أصحاب تجارب موروثة، شكلت مجموعة من القواعد والخبرات العملية التي استعانوا بها في تحقيق هذه الإنجازات. ومن الظلم أن نأبى اسم «العلم» على تلك المعلومات الفلكية الرائعة التي توصل إليها هؤلاء القدماء، وعلى الكشوف الرياضية الهامة التي كانت ضرورية من أجل إجراء الحسابات الفلكية وغيرها من الأغراض. ومن قصر النظر أن نتصور أن تلك المعلومات الكيميائية العظيمة - التي أتاحت للمصريين القدماء أن يصبغوا أنسجة ملابسهم وحوائط مبانيهم بألوان ما يزال بعضها زاهيا حتى اليوم، أو التي مكنتهم من تحنيط جثث ظلت سليمة لمدة تقرب من الأربعة آلاف عام - لا تستحق اسم «العلم التجريبي»، وقل مثل هذا عن مجالات كثيرة لا بد أن هذه الحضارات قد جمعت فيها بين الخبرة العملية والمعلومات النظرية، كالطب وصناعة العقاقير والهيدروليكا (الري والسدود والخزانات ... إلخ).
وإذن، فلم تكن نشأة العلم يونانية خالصة، ولم يبدأ اليونانيون في استكشاف ميادين العلم من فراغ كامل، بل إن الأرض كانت ممهدة لهم في بلاد الشرق التي كانت تجمعهم بها صلات تجارية وحربية وثقافية، والتي كانت أقرب البلاد جغرافيا إليهم، وإذا كانت الحلقة المباشرة - فيما يتعلق بانتقال العلوم الأساسية من البلاد الشرقية إلى اليونانيين - هي حلقة مفقودة، فإن المنطق والتاريخ والكشوف المتتابعة تؤكد لنا أنها لا بد كانت موجودة.
على أن هذا لا يعني على الإطلاق أننا ننكر فضل اليونانيين في ظهور العلم. والحق أن الاعتقاد بضرورة وجود أصل واحد للمعرفة العلمية وتصور واحد يرجع إليه الفضل في ظهورها ربما كان عادة أوروبية سيئة ينبغي التخلص منها؛ فإصرارنا على تأكيد أهمية الدور الذي أسهمت به حضارات الشرق القديم لا يعني أبدا أن اليونانيين كانوا مجرد ناقلين، أو أنهم لم يأتوا في ميدان العلم بجديد، وليس هناك على الإطلاق ما يمنع من وجود أصول متعددة أسهم كل منها في ظهور مفهوم معين من مفاهيم العلم، أو جانب معين من جوانبه، مع اعترافنا بأن لكل من هذه الأصول - في ميدانه الخاص - فضلا يستحيل إنكاره.
ذلك لأن الاعتقاد بأن للعلم أصلا واحدا، يفترض أنه كان هناك شيء محدد المعالم اسمه «العلم» ظهر منذ أقدم الحضارات الإنسانية، وهذا افتراض لا يقوم على أساس؛ إذ إن معنى العلم نفسه قد استغرق وقتا طويلا جدا كيما يتبلور. وربما كان عمر «العلم» - بمفهومنا الحالي لهذا اللفظ - لا يزيد على أربعمائة سنة، ولكن هذا لا يعني أن كل ما سبق ذلك لم يكن «علما»، بل لقد كان العلم في طريقه إلى التشكل والتحدد، وكان كل عصر يضيف إليه عناصر، ويحذف منه عناصر أخرى؛ فلقد كان من الطبيعي أن يختلط العلم - في مراحله الأولى - بعناصر غريبة عنه كالأساطير والشعر والعقائد القديمة والرغبات والأماني البشرية، وعلى رأسها رغبة الإنسان في أن يعيش في عالم يتسم بالنظام والجمال ويكون متعاطفا معه. ولم يكن من الممكن في تلك العهود القديمة أن يضع العقل البشري حدا فاصلا بين ما هو علم وما ليس بعلم. بل إن كل هذه العناصر كانت تمتزج في وحدة واحدة يستحيل التمييز فيها بين ما هو أصلي وما هو دخيل، وفي كل مرحلة جديدة من مراحل تقدم العلم كانت البشرية تتوصل إلى بعض العناصر الغريبة التي تشوه بناء العلم فتستبعدها، وتضيف عناصر أخرى كانت مفقودة في المراحل السابقة.
وليتذكر القارئ ما قلناه في مستهل هذا الفصل من أن العرض الذي سنقدمه لمراحل تطور العلم هو ذاته عرض لتطور «معنى» العلم، فإذا لم يكن العلم قد تحددت معالمه، وإذا لم يكن شكلا من أشكال النشاط العقلي الإنساني - خلال تاريخه الطويل - فلن يكون من حقنا عندئذ أن نقول: إن حضارة معينة هي التي يرجع إليها الفضل في ظهور العلم، بل إن كل ما يمكننا أن نقوله هو أن هذه الحضارة يرجع إليها الفضل في إضافة عنصر هام إلى مفهوم العلم، واستبعاد عناصر ضارة من هذا المفهوم. فإذا كان هذا هو الوضع الصحيح للمسألة فلن يكون هناك ما يحول دون نسبة الفضل في ظهور العلم إلى عدة حضارات متلاحقة، أدى كل منها دوره في تشكيل معنى العلم خلال مراحل التاريخ.
فما الذي أضافه اليونانيون إذن إلى العلم؟ وما هي العناصر التي كانت متداخلة فيه من قبل، والتي أدركوا أن من الواجب تحرير العلم وتخليصه منها؟
لو نظرنا إلى الإنجازات العملية التي حققها اليونانيون وإلى الآثار المادية التي خلفوها، لما وجدناها تمتاز كثيرا عن تلك التي تركتها لنا الحضارات الشرقية الأقدم منهم عهدا؛ فهم من هذه الناحية لم يكونوا أكثر تفوقا من غيرهم، ولكن أعظم إنجازاتهم كانت في الناحية النظرية؛ أي في المعارف العلمية بمعناها «العقلي» البحت؛ فقد كانت لدى اليونانيين قدرة هائلة على التعميم، جعلتهم لا يهتمون بالأمثلة الجزئية لأية ظاهرة، وإنما يركزون على أعم جوانبها، أو على قانونها العام؛ فهم - على سبيل المثال - لا يبحثون في خصائص ذلك المربع الذي يكونه سقف بيت معين أو حقل مزروع، بل كان ما يهمهم هو خصائص «المربع» بوجه عام؛ أي المربع في ذاته، بغض النظر عن الجزئيات التي يتحقق فيها، بل حتى ولو لم يكن متحققا في الواقع على الإطلاق.
وهكذا توصل اليونانيون إلى سمة عظيمة الأهمية من سمات العلم هي «العمومية والشمول»، وقد عبر أرسطو عن هذه السمة بوضوح في عبارته المشهورة: «لا علم إلا بما هو عام»، ولا شك في أن هذه السمة لا زالت ملازمة للعلم حتى يومنا هذا، وإن كنا نقبلها اليوم بتحفظات معينة لا يتسع المجال هنا للحديث عنها. فمنذ العصر اليوناني أصبحنا ندرك أن العلم لا يتعلق بدراسة حالات فردية لذاتها، وإنما ينبغي أن نجعل هذه الحالات وسيلة للانتقال إلى كشف الخصائص العامة «للنوع» بأكمله، أو للاهتداء إلى «القانون» الشامل الذي يسري على كل الأفراد. وعلى حين أن هذه السمة تبدو اليوم في نظرنا أمرا مألوفا، فإنها قد احتاجت إلى وقت طويل حتى استقرت دعائمها عند مفكري اليونان وعلمائهم، الذين أصروا عليها في كل ما كتبوا، ونجحوا في فرضها على الأذهان منذ ذلك الحين.
وإذا كان العلم يتصف بالعمومية، ويبحث في قوانين الأشياء لا في حالاتها الفردية، فإنه بطبيعته يتسم ب «التجريد» وهي سمة أخرى تفوق فيها اليونانيون إلى أقصى حد، وتمكنوا من جعلها جزءا لا يتجزأ من خصائص العلم منذ ذلك الحين. والحق أن اليونانيين كانوا من أقدر شعوب الأرض على التعمق في المجردات والبحث فيها بلا كلل، ولن نستطيع أن ندرك فضلهم في هذا الصدد إلا إذا تذكرنا أن الجانب الأكبر من البشر ما زالوا حتى اليوم يجدون عناء كبيرا في التفكير في الأمور المجردة مدة طويلة؛ فمعظم الناس يشعرون بالعناء إذا قضوا ساعة في قراءة كتاب فلسفي يتسم بشيء من العمق؛ لأنه يتعامل مع أفكار مجردة، ولا يتعامل مع أشياء ملموسة أو أشخاص محسوسين كما هي الحال في الروايات الأوروبية والمسرحيات الفنية. كذلك يجد الكثيرون حتى اليوم صعوبة في التعامل مع الأرقام، بل إن عددا كبيرا من الناس يأبون قراءة الكتاب إذا تصفحوه فوجدوا فيه أرقاما كثيرة، وما زالت دروس الرياضة تكون عقدة في نفوس الكثيرين ممن يعتقدون - عن خطأ في الغالب - أن عقولهم لم تخلق لهذا النوع من العلوم؛ فالتفكير المجرد يحتاج إلى جهد وعناء يصعب على كثير من الناس بذله حتى في عصرنا الحاضر، ولكن اليونانيين كانت لديهم - منذ ألفين وخمسمائة عام - قدرة خارقة على التعامل مع المجردات بلا كلل.
لذلك كانت أعظم الإنجازات العقلية التي توصل إليها اليونانيون هي تلك التي تمت في ميدان الفلسفة والرياضيات. والواقع أن الحد الفاصل بين الفكر الفلسفي والعلم الرياضي قد أزيل عند معظم الفلاسفة اليونانيين، بحيث كانوا ينظرون إلى الرياضة على أنها مرحلة من مراحل التفلسف، أو على أنها تدريب أو «ترويض» للذهن يهيئه للتعمق في الفلسفة.
بل إن مفهوم العلم ومفهوم الفلسفة كانا متداخلين ومتشابكين عندهم إلى أبعد حد، فلم يكن هناك نشاط واع مستقل اسمه «العلم»، وإنما كان هناك سعي عقلي واحد يتجه نحو ميادين متعددة، وينتج ما نسميه نحن فلسفة أو علما، تبعا لنوع الميدان الذي يتجه إليه، ولكنه كان عند اليونانيين «معرفة» أو «حبا للحكمة» فحسب.
ولما كان هدف هذه المعرفة أو الحكمة اليونانية هو معرفة ما هو عام، والوصول إلى القوانين المجردة للأشياء، فقد كان من الطبيعي أن يكون العلم اليوناني علما «نظريا» قبل كل شيء، وتلك في الحق هي الميزة الكبرى التي ينسبها مؤرخو الفكر الغربيون إلى الحضارة اليونانية، ويرون فيها الحد الفاصل بين الفكر اليوناني وكل تفكير سابق له؛ فعلى حين يفترض أن الاعتبارات العملية وحدها هي التي كانت تحرك الحضارات السابقة إلى جمع المعلومات العلمية، فإن اليونانيين بحثوا عن العلم من أجل العلم فحسب، ولإرضاء نزوع العقل إلى المعرفة، دون أن يكون لهم من وراء ذلك هدف عملي، ولقد كان تفوقهم في المعارف العقلية الخالصة - كالفلسفة والرياضيات - أكبر شاهد على ذلك، وكانت قدرتهم الفائقة على التجريد هي التي أتاحت لهم أن يستكشفوا أبعد الآفاق في هذين الميدانين.
ولكي يقتنع العقل - على المستوى النظري - فلا بد له من الوصول إلى «الأدلة» و«البراهين» القاطعة. ولقد كان هذا البحث عن «البرهان» مطلبا أساسيا في الفكر اليوناني، فلم يكن هذا الفكر يقبل أية قضية ما لم يقتنع بها عن طريق دليل يفرض نفسه على العقل فرضا، ولم يكن يكتفي بالنتائج النافعة أو السلوك العملي الناجح، بل كان يبحث دائما عن «الأسباب». ولكي ندرك الفارق بين وجهتي النظر هاتين، نقارن بين الفلاح المدرب وعالم الزراعة؛ فالفلاح الخبير يتبع أساليب معينة، معظمها مجرب أو موروث، تؤدي به إلى أن يجني محصولا ناجحا، ولكنه لا يحاول أن يتساءل: «لماذا» يؤدي اتباع هذه الأساليب إلى زيادة المحصول؟ بل ربما رأى ذلك سؤالا عقيما، ما دامت النتيجة المطلوبة - وهي المحصول الوفير - قد تحققت، أما العالم الزراعي فإن هدفه الأول هو البحث عن «السبب»، والنتيجة الناجحة ليست في نظره كافية، بل ليست هي الهدف المطلوب، وإنما الهدف الحقيقي هو «معرفة الأسباب»، ومن أجل سعيه إلى هذا الهدف كان عالما.
ولو تأملنا مراحل حياة الفرد لوجدنا أن مرحلة الوعي الفكري عنده مرتبطة ارتباطا وثيقا بهذا البحث عن الأسباب؛ فالسؤال «لماذا» هو الخطوة الأساسية في طريق اكتساب المعرفة خلال حياة كل إنسان. وإنا لنجد الطفل في السنوات الأولى لحياته يستجيب لدوافعه وحاجاته المباشرة دون محاولة للبحث عن سبب أي شيء، ولكنه في المرحلة التي يبدأ فيها وعيه في التفتح، والتي يود فيها أن «يعرف» نفسه والعالم المحيط به، يظل يردد السؤال «لماذا» بلا انقطاع، وقد يصل في ترديده إلى حد الإملال، كما أنه قد يسأل عن أسباب أشياء لا تحتاج إلى تعليل، ولكن المهم أن مرحلة الوعي عند الطفل مرتبطة بالسؤال عن الأسباب. ومثل هذا يقال عن الإنسانية كلها؛ فعندما تتخطى مرحلة الفعل ورد الفعل المباشر، ومرحلة الاستجابة للحاجات الأولية، وتبدأ مرحلة الوعي بالعالم ومحاولة تفسيره عقليا؛ تكون علامة نضجها هي أنها لا تأخذ الظواهر على ما هي عليه، ولا تكتفي باستخدامها لتحقيق أهدافها العملية، وإنما تبحث - قبل كل شيء - عن أسبابها؛ ولهذا السبب بعينه كانت الحضارة اليونانية تعد - في نظر كثير من المؤرخين - نقطة البداية الحقيقية للعلم.
ولنعد - في هذا الصدد - إلى ذلك المثل المشهور الذي ضربناه من قبل، والذي يرد ذكره في معظم الكتب التي تعالج هذا الموضوع، وهو مثل المثلث القائم الزاوية؛ فقد تمكن القدماء - كما قلنا - من الاستفادة من خصائص هذا المثلث في أغراض عملية، ولكن اليونانيين لم يقنعهم مثل هذا الاستخدام العملي، بل كان سعيهم يتجه إلى «البرهنة» (أي تقديم الأسباب في صورة متسلسلة منطقيا ومقنعة للذهن) على الخصائص المعروفة لهذا المثلث، وهي أن مربع الوتر يساوي مجموع مربعي الضلعين الآخرين، وكان هذا السعي إلى إيجاد «البرهان» والتوصل إلى «الأسباب» العقلية هو الذي جعل الهندسة عند اليونانيين تصبح علما، على حين أنها كانت قبل ذلك فنا يكتسب بالخبرة والممارسة فحسب.
هذه النظرية الهندسية الخاصة بالمثلث القائم الزاوية تنسب إلى الرياضي والفيلسوف اليوناني المشهور فيثاغورس، على أن قيمة فيثاغورس هذا - الذي يمكن اتخاذه نموذجا لما وصلت إليه الروح العلمية عند اليونانيين - لا تقتصر على هذه النظرية المعروفة، بل لقد انتقل في مجال آخر من حقيقة مشاهدة بسيطة إلى تقديم نظرية كاملة عن العالم، كان لها تأثيرها الأكبر في العصور اللاحقة، وإن كان هذا الجانب من تفكيره أقل شهرة من نظريته الهندسية المعروفة؛ فقد أدرك فيثاغورس وجود علاقة بين النغمة الصوتية وطول الوتر الذي تصدر عنه النغمة عندما يتذبذب، وهذا هو المبدأ الذي يسير عليه الموسيقيون عندما تسير أصابع يدهم اليسرى جيئة وذهابا على الأوتار في الآلات الوترية لكي تجعل للوتر - تبعا لموضع الإصبع - طولا معينا، هو الذي يحدد النغمة التي تصدر عنه.
هذه الحقيقة البسيطة لم تكن كافية لاستخلاص نتائج ذات أهمية كبيرة، بل إن الأهم منها هو أن هذه العلاقة بين النغمة الصوتية وطول الوتر يمكن التعبير عنها بنسب رياضية معينة؛ فإذا قصرت الوتر إلى نصفه تصدر نغمة «الجواب» (أي الصوت الثامن في السلم الموسيقي)، وإذا قسمت الوتر بنسبة 2 / 3 كانت النغمة هي الصوت الرابع. ومعنى ذلك أن الأصوات الرئيسية في السلم الموسيقي يعبر عنها بنسب رياضية ثابتة، أو بعبارة أخرى: إن التآلف والتناغم هو حقيقة رياضية؛ ومن ثم فإن ما نجده في الكون بأكمله من انسجام إيقاعي أشبه باللحن الموسيقي، ومن انضباط ودقة تعبر عنها القوانين الطبيعية الثابتة، يرتد آخر الأمر إلى الصيغ الرياضية المجردة، وكانت حصيلة هذا كله هي عبارة فيثاغورس المشهورة: «العالم عدد وتوافق أو نغم.»
في هذا الاتجاه الذي سار فيه فيثاغورس نهتدي إلى بذرة النظرة العلمية إلى العالم؛ إذ إنه أرجع الاختلاف في الكيفيات (أي في الأصوات) إلى مجرد اختلاف في الكم (أي في طول الأوتار)، وعمم هذه الحقيقة على الكون بأكمله حين جعل العالم كله «عددا وتوافقا»، أي مقادير كمية ونسبا أو علاقات بينها، كذلك فإنه في هذه العبارة يعبر عن سمة هامة من سمات التفكير العلمي، هي محاولة الكشف عما يوجد وراء المظهر السطحي للأشياء؛ فالأصوات - كما تدركها آذاننا - تثير فينا أحاسيس متباينة، ولكن من وراء هذا العالم «الظاهر» كله توجد حقيقة أساسية واحدة، هي النسب العددية التي يمكن بواسطتها التعبير عن أي اختلاف صوتي، وهنا نجد تلك التفرقة الحاسمة بين «مظهر الأشياء وحقيقتها»، وهي تفرقة كان لها دور كبير في الفكر اليوناني، ولولاها لأصبح التفكير العلمي مستحيلا؛ إذ إن جوهر هذا التفكير هو ألا ننبهر بالشكل الظاهر للأشياء ولا ننساق وراءه، وإنما نحاول البحث عما يكمن وراءه من حقائق أساسية.
ويترتب على هذه التفرقة بين المظهر والحقيقة إرجاع الأشياء المحسوسة إلى معان مجردة؛ لأن من طبيعة العلم أن يجرد الظواهر من مظهرها العادي الملموس، ويعبر عنها في صيغ مجردة من معادلات أو نسب أو علاقات رياضية. ذلك هو المثل الأعلى الذي يحاول العلم تحقيقه في جميع المجالات، فأقصى ما يحلم به العالم هو أن يتمكن من التعبير عن كل ما يحدث في الطبيعة بقوانين ذات صبغة رياضية.
وربما كنا قد أطلنا قليلا في التعقيب على هذه العبارة التي قالها «فيثاغورس»، ولكننا قد اتخذنا منها أنموذجا يكشف لنا عن طبيعة الإنجاز الذي تحقق على أيدي اليونانيين، ويضع أمامنا المثل الأعلى الذي كان الفكر اليوناني يتطلع إليه. ولا شك أن القارئ قد أدرك - من خلال ما قلناه عن هذا الإنجاز - أن اليونانيين القدماء قد تركوا في التراث العلمي البشري آثارا لا تمحى، وأنهم خطوا أولى الخطوات في ذلك الطريق الذي لم تستكشف البشرية بقية معالمه إلا بعد وقت طويل من انتهاء عهد الحضارة اليونانية القديمة بأسرها.
على أنه إذا كان اليونانيون قد خلفوا للبشرية عناصر أساسية ظلت ملازمة لمفهوم العلم في عصور تقدمه اللاحقة، وإذا كان التفكير العلمي مدينا لهم بأول تحديد دقيق لطبيعة ووظيفة هذا النوع من المعرفة الذي نسميه علما، فإن تصورهم للعلم كان في الوقت ذاته مشوبا بعيوب أساسية ظلت هي الأخرى تكون عائقا هاما في وجه نمو العلم، وربما كانت بعض آثارها الضارة لا تزال ملازمة للعلم - في بعض جوانبه - حتى يومنا هذا.
وبطبيعة الحال، لم يكن اليونانيون أنفسهم على وعي بوجود عناصر صحيحة وعناصر باطلة في تصورهم للعلم، فقد كان هذا التصور في نظرهم متكاملا، يؤلف وحدة واحدة اقتنع بها أصحابها اقتناعا تاما، ولكن التطور اللاحق للعلم قد عمل على تثبيت بعض جوانب هذا التصور، فأصبحت في نظرنا هي الجوانب الإيجابية، على حين أنه سعى إلى التخلص من جوانب أخرى هي التي نعدها سلبية، والحكم ما هو إيجابي أو سلبي يتم في هذه الحالة من خلال وجهة نظر العصور اللاحقة، بعد أن أتيح للإنسان أن يتبين ماذا فعل مضي الزمن في فكرة اليونانين عن العلم، وأي عناصرها استطاع أن يصمد خلال التاريخ، وأيها أثبت أنه عائق ينبغي التغلب عليه.
والواقع أن نفس العناصر التي اكتسب بفضلها العلم اليوناني سماته المميزة، هي التي انقلبت إلى عيوب بسبب تطرف اليونانيين في تأكيدها. فاليونانيون قد أسدوا إلى البشرية خدمة كبرى حين أكدوا أن المعرفة لكي تكون صحيحة يجب أن تنصب على الحقائق النظرية والعامة، ويجب أن ترتكز على براهين مقنعة، ولكنهم بالغوا في تأكيد هذه الصفات إلى حد ألحق الضرر بتصورهم للعلم، ولم تتمكن الإنسانية من إزالة هذا الضرر إلا بعد مضي وقت طويل جدا كان فيه العلم شبه متوقف، وكان من الممكن استثماره على نحو أفضل بكثير لو لم يكن الجانب السيئ من التصور اليوناني للعلم هو الذي ساد طوال هذه الفترة.
فعندما أكد المفكرون اليونانيون أن هدف العلم هو «النظرية» التي تسير الظواهر وفقا لها، وليس القدرة على استغلال هذه الظواهر والانتفاع بها في المجال التطبيقي، كانوا في الواقع يؤكدون سمة أساسية من سمات العلم، ولكنهم لم يكتفوا بذلك، بل تمسكوا بالتأكيد المضاد؛ وهو أن العلم لا علاقة له بمجال التطبيق، ولا صلة له بالعالم المادي بأكمله، وإنما الواجب أن يكون العلم «عقليا» فحسب. فالمثل الأعلى للعالم - في نظرهم - هو المفكر النظري الذي يستخلص الحقائق كلها بالتأمل النظري، أما محاولة تدعيم هذه الحقائق بمشاهدات أو ملاحظات أو تجارب نجريها على العالم المحيط بنا، فكانت في نظرهم خارجة عن العلم، بل إنها تحط من قدر العلم وتجعله مجرد «ظن» أو تخمين، بل إن أفلاطون - فيلسوف اليونان الأكبر الذي كان في الوقت نفسه ذا إلمام واسع بالرياضيات - قد عاب على أحد علماء الهندسة التجاءه إلى «رسم» أشكال هندسية لإيضاح حقائق هذا العلم، ورأى أن إعطاء علم رفيع كالهندسة صورة محسوسة يمكن رؤيتها بحاسة كالعين، هو إنزال لهذا العلم من مكانته العالية، فيصبح جزءا من عالم الأشياء المرئية والمحسوسة، بينما ينبغي - لكي يظل محتفظا بمكانته - ألا نستخدم فيه التفكير العقلي وحده، فتظل حقائق الهندسة «عقلية» على الدوام.
ويطول بنا الحديث لو حاولنا أن نتتبع مظاهر هذه النظرة العقلية الخالصة إلى العلم، ومدى تطرف اليونانيين في تأكيدها، كما أن المجال لا يتسع للتحدث طويلا عن الأسباب المحتملة لإصرار اليونانيين عليها، وحسبنا أن نقول: إن هذا التأكيد المتطرف للعلم النظري على حساب التطبيق العلمي ربما كان راجعا إلى أحد عاملين:
فمن الممكن أن يكون مرتبطا بنظرة إلى العالم المادي على أنه عالم ناقص، وإلى العالم الروحي والعقلي على أنه عالم الكمال، وهي نظرة ربما كانت قد تسربت إلى الفكر اليوناني عن طريق معتقدات شرقية قديمة كان لها تأثيرها في كثير من اليونانيين. ومن المعروف أن فيثاغورس نفسه كانت له «طريقة» - أشبه بالطريقة الصوفية - تأثرت طقوسها وشعائرها وتعاليمها بالعقائد الشرقية تأثرا بالغا، كما أن أفلاطون سار في اتجاه مماثل. هذا الازدواج بين عالم رفيع غير مادي وعالم وضيع هو العالم المادي يمكن أن يكون قد انعكس على نظرة اليونانيين إلى العلم، وأدى إلى الاعتقاد بأن العلم الجدير بهذا الاسم هو العلم العقلي، وأن مجرد اقتراب العلم من العالم الطبيعي، ومحاولته حل مشاكله، يقضي على كل ما هو رفيع في هذا العلم.
ومن الممكن أن يكون هذا التطرف في تأكيد العلم العقلي راجعا إلى التقسيم الذي كان سائدا في المجتمع اليوناني - الذي كان مجتمعا يسوده نظام الرق - بين المواطنين الأحرار وبين العبيد؛ ذلك لأن العبيد كانوا هم الذين يقومون بالأعمال الجسمية واليدوية الشاقة؛ أي إنهم هم الذين كانوا يتصلون - في عملهم اليومي - بالعلم المادي، وبذلك كانوا يوفرون لأسيادهم الأحرار الوقت والجهد الذي يسمح لهم بممارسة التفكير والجدل والحوار في المسائل النظرية الخالصة. وكان من الطبيعي في هذه الحالة أن تنعكس مكانة الإنسان على نوع العمل الذي يمارسه، بحيث يرتبط العالم المادي في أذهانهم بالوضع الاجتماعي المنحط، ويرتبط العالم العقلي بالوضع الاجتماعي الرفيع، وبحيث يؤكدون في النهاية أن الجهد اللائق بالإنسان الكريم والمثل الأعلى الذي ينبغي أن يسعى الإنسان إلى تحقيقه هو التأمل النظري الذي لا تشوبه من المادة شائبة، وأن الاقتراب من العالم المادي فيه حط من كرامة الإنسان.
وعلى أية حال فقد أدى ذلك إلى تجاهل اليونانيين لمبدأ تطبيق العلم في حل المشكلات الفعلية للعالم، وبالرغم من أن تفوقهم الهائل في التفكير النظري - في ميادين الفلسفة والرياضيات وما يتصل بها - يشهد بأن قدراتهم العقلية كانت ممتازة، فإنهم لم يكونوا ميالين أصلا إلى استخدام هذه القدرات لأغراض تطبيقية، فكانت نتيجة ذلك أنهم تركوا للعالم فكرا نظريا رائعا، ولكنهم لم يتقدموا خطوة تستحق الذكر في الميدان التطبيقي. ولقد عبر عن هذه الحقيقة العالم الإنجليزي الكبير «برنال» حين قال:
إن الروعة العقلية والفنية لليونانيين يمكن أن تبهرنا إلى حد يصعب علينا معه أن نتبين أن تأثير معرفتهم وذكائهم كان مرتبطا بالمظاهر أكثر مما كان مرتبطا بالحقائق العملية والمادية للحياة، فجمال المدن والمعابد والتماثيل والأواني اليوناني، ودقة منطق اليونانيين ورياضتهم وفلسفتهم، تخفي عنا حقيقة أن أسلوب الحياة في معظم شعوب البلاد المتحضرة كان - عند سقوط الإمبراطورية الرومانية - مماثلا إلى حد بعيد لما كان عليه قبل ذلك بألفي عام، عندما انهارت الحضارة البرونزية القديمة (عند المصريين القدماء والبابليين ... إلخ). ولو استثنيا بعض التحسينات الطفيفة في الري وشق الطرق وبعض الأساليب الجديدة في العمارة الضخمة وتخطيط المدن؛ فإن العلم اليوناني لم يطبق إلا على نطاق ضيق، وليس في هذا ما يدعو إلى الدهشة؛ إذ إن العلم - أولا - لم يكن يلقى اهتماما من المواطنين ميسوري الحال لأي هدف من هذا النوع، بل كان هؤلاء يحتقرون مثل هذه الأهداف - وثانيا - لأن العلم الذي توصلوا إليه كان محدودا ذا طابع كيفي إلى حد يستحيل معه استخدامه على نطاق عملي واسع، حتى لو استقر عزم العلماء على ذلك.
2
وهكذا تركت الحضارة اليونانية والرومانية العالم دون أن يتغير كثيرا عما كان عليه في الحضارات السابقة، من حيث الإنجازات العملية والتطبيقية، وإن كان اليونانيون قد هزوا عقل الإنسان هزا عنيفا، وأيقظوا فيه التطلع إلى معرفة القوانين المجردة والأسس النظرية التي بنيت عليها الخبرات المتراكمة منذ القدم، ولم ينجح اليونانيون - برغم امتياز عقولهم - في الجمع بين النظرية والتطبيق، فكان لهم بذلك علم قادر على تغيير عقل الإنسان، دون أن يكون قادرا على تغيير العالم.
وفي وسع القارئ أن يلمح - خلال الحديث السابق عن مبالغة اليونانيين في تأكيد الجانب النظري للعلم - نتيجتين سلبيتين كان من الضروري أن يؤدي إليها هذا الفصل القاطع بين عالم النظرية، الذي هو وحده الجدير باهتمام المفكر اليوناني، وعالم الواقع أو العالم المادي الذي وضعه الفكر اليوناني في مرتبة دنيا من حيث جدارته بأن يكون موضوعا للبحث العلمي. النتيجة الأولى هي التفرقة بين مراتب العلوم، والثانية هي العجز عن تطبيق النظريات الرياضية على البحث في عالم الطبيعة. فلنتحدث عن كل من هاتين النتيجتين على حدة.
ففي كتابات الفلاسفة اليونانيين نجد تفرقة واضحة بين علوم عليا وعلوم دنيا أو علوم شريفة وعلوم وضيعة، ويكون العلم شريفا كلما كان الموضوع الذي يبحثه أرفع، وكلما كان منهج بحثه أقرب إلى المنهج العقلي الصرف؛ فالفلك مثلا علم رفيع؛ لأنه يبحث في كائنات علوية هي الأفلاك، التي كانت في نظر الحضارات القديمة كلها كائنات سماوية رفيعة لها طبيعة تسمو على الطبيعة الأرضية. والرياضيات علم رفيع؛ لأننا لا نحتاج في ممارستها وتعلمها إلا إلى العقل وحده. ومثل هذه التفرقة بين مراتب العلوم كان من الضروري أن تأتي بنتائج سيئة على تطور التفكير العلمي؛ إذ إنها أدت إلى استبعاد موضوعات عظيمة الأهمية من مجال العلوم الجديرة بالاهتمام؛ فالكيمياء - مثلا - بوصفها علما يبحث في المواد وتفاعلاتها لم يكن من الممكن أن تظهر بين اليونانيين؛ لأن موضوعها غير جدير - في نظرهم - باهتمام العالم، ولأن طريقة بحثها ليست عقلية بحتة، بل تحتاج إلى تعامل مع المادة. ولو تصورنا أن أحدا قد اقترح على اليونانيين البحث في علم كالجيولوجيا؛ لقوبل منهم بسخرية مريرة، إذ إنه يبحث فيما يوجد في باطن الأرض وفي العالم الأدنى، على حين أن العالم لا يليق به إلا البحث في الأمور العليا، ولو تخيلنا أن عالما بالحشرات قد زار اليونان القديمة لما وجد منهم إلا الازدراء؛ لأن الحشرات التي يبحثها كائنات منحطة. وهكذا ألحق الفكر اليوناني ضررا بالغا بمفهوم العلم حين أصر على أن يضع العلوم في مراتب متسلسلة، منها الرفيع ومنها الوضيع، وكان لا بد من جهد كبير لكي يحقق الفكر البشري المساواة بين جميع علومه، ولا يرى أيا منها جديرا بالازدراء. بل إن العلمين «المحتقرين» السابقين يحتلان في عالم اليوم مكانة رفيعة؛ الأول حين يتوصل مثلا إلى كشف بترولي هام. والثاني حين يهتدي إلى وسيلة تخلص البشرية من آفة مثل دودة القطن أو ديدان البلهارسيا. وإذا كان هناك تسلسل في المراتب بين علوم اليوم، فإن المرء يكاد يشعر بأن الترتيب قد انعكس؛ لأن العلوم التي تبحث في الأشياء المادية - كالطبيعة والكيمياء وعلم الأحياء - هي التي أصبح لها مكان الصدارة، على حين أن العلوم العقلية تجاهد لكي تجد لنفسها مكانا إلى جانب العلوم الطبيعية.
أما النتيجة الثانية فهي أن الحرص على أن تظل العلوم العقلية محتفظة بنقائها، بعيدا عن أدران العالم المادي، قد أدى إلى انفصال العلوم الرياضية عن العلم الرياضي، فنمت الرياضيات على أيدي اليونانيين نموا ملحوظا، ولكنهم لم يحاولوا تطبيقها على مشكلات الطبيعة، واستخدامها أداة للتعبير عن قوانين العالم المادي. وهكذا كان العلم الطبيعي يعاني من الإهمال أولا، ومن الانصراف عن تطبيق الرياضيات في صياغة قوانينه ثانيا. وكانت نتيجة ذلك أن اتسمت نظرة اليونانيين إلى العالم الطبيعي بالتخلف الشديد، وأدى عدم تطبيق الرياضيات (الكمية) عليه إلى سيادة النظرة «الكيفية» إلى الأشياء؛ فحين يتحدثون عن خصائص العناصر الطبيعية يصفونها من خلال «كيفيات» فيقولون: إنها حارة أو باردة، خفيفة أو ثقيلة. أما التعبير «بالأرقام» عن درجة الحرارة أو الوزن فلم يخطر ببالهم؛ لأن الرياضة في نظرهم لها عالمها الرفيع الذي لا ينبغي أن يقترب من عالم الأشياء الأرضية. ولا شك أن هذه النظرة «الكيفية» إلى العلم الطبيعي كانت تعني تخلفا تاما في هذا العلم، فلا غرابة في ألا يبدأ بحث الطبيعة بحثا علميا دقيقا إلا بعد انقضاء عصر الحضارة اليونانية بقرون متعددة.
ولقد سبق أن ذكرنا ضمن المزايا التي اتسم بها العلم اليوناني بحثه عما هو «عام» في الظواهر، وقلنا: إن هذه سمة أساسية في كل علم؛ لأن العلم لا يهتم بالأفراد إلا بقدر ما يمثلون القاعدة أو القانون «العام»، ولكن اليونانيين كانوا مغالين في هذه الصفة بدورها؛ فقد بالغوا في التعميم إلى حد أنهم كانوا يطلقون كثيرا من الأحكام المتسرعة، وتجاهلوا السمات الفردية المميزة للظواهر إلى حد الاكتفاء بأوسع وأعم صفاتها، أعني تلك الصفات التي لا تفيد كثيرا في تقدم العلم.
وكان من نتيجة ذلك أن الحد الفاصل بين العلم والفلسفة لم يكن موجودا عند اليونانيين، وإنما كان هناك نوع واحد من «المعرفة» قد تختلف وسائله أحيانا، ولكنه يمثل في كل الحالات نشاطا عقليا واحدا . وإذا كانت الفلسفة تجد في هذا التوحيد بينها وبين العلوم أيام اليونانيين مصدرا للفخر والاعتزاز، فتتباهى بأنها «أم العلوم» التي خرج كل علم من حضنها عندما شب عن الطوق، فإن العلم يجد في هذا التوحيد ذاته سببا من أهم أسباب تخلفه؛ إذ إن البحث العلمي شيء والتفكير الفلسفي شيء آخر. وصحيح أن بين الاثنين عناصر مشتركة كالتفكير المنظم والاحتكام إلى المنطق السليم، ولكن الطريقين يفترقان في المنهج وفي الهدف. وكل محاولة للبحث في الموضوعات العلمية بالطريقة الفلسفية لا بد أن تؤدي إلى تأخر العلم، وهكذا فإن العلم يرد على تباهي الفلسفة فيقول: إنه يعترف بأمومتها، ولكنه لا ينسى أن هذه الأم كانت متسلطة على بنيها أكثر مما ينبغي، ولم تعترف باستقلالهم إلا رغما عنها، وفي وقت تأخر حلوله أكثر مما يجب.
وأخيرا فإني أود - قبل أن أختم هذا العرض لسمات التفكير العلمي في العصور القديمة - أن أشير إلى أمرين لهما أهمية خاصة:
أول هذين الأمرين هو أن الصورة التي قدمتها للتفكير القديم - وخاصة عند اليونانيين - لا تتناول سوى الإطار العام وحده، ولو كان المجال يتسع للمعالجة التفصيلية لأمكننا أن نشير إلى وجود حالات للتفكير العلمي اليوناني تخرج عن هذا الإطار الذي أشرنا إليه كما هي الحال في البحوث الطبيعية والبيولوجية ذات الطابع التجريبي عند أبقراط وجالينوس، أو في كشوف أرشميدس في ميدان الفيزياء، أو في ذلك المنهج العلمي الدقيق الذي يقترب كثيرا من المنهج الحديث، الذي كان يتبع في مدرسة الإسكندرية، وهي مدرسة يونانية متأخرة كانت أساليب البحث فيها مغايرة لمعظم ما قلناه عن اليونانيين، ولكننا حرصنا على أن نقدم الصورة المجملة دون خوض في التفاصيل، وعلى أن نعرض للقارئ القاعدة العامة دون تقديم للاستثناءات، رغم اعترافنا بأن بعضها كان عظيم الأهمية.
والأمر الثاني هو أن القارئ قد يجد في هذا العرض الذي قدمناه للفكر العلمي اليوناني - برغم اكتفائه بالإطار العام دون التفاصيل - شيئا من الإطالة، ولكن هذا أمر متعمد؛ إذ إن من مزايا المرحلة اليونانية أنها تركت طابعها - إيجابا أو سلبا - على كثير من المراحل التالية؛ ومن ثم فإن الاهتمام بتجربة الفكر العلمي عند اليونانيين يفيد في إلقاء الضوء على ما ورثته العصور اللاحقة عنهم من عناصر إيجابية، وما اضطرت إلى مكافحته من عناصر سلبية، فضلا عن أنه يعفينا من إعادة عرض تلك العناصر كلما عادت إلى الظهور في مرحلة تالية؛ فاليونانيون كانوا نقطة انطلاق عظيمة الأهمية، وهم الذين وضعوا جزءا كبيرا من الأساس، ولم يكن في وسع أي عصر تال أن يتجاهلهم، بل كان لا بد أن يذكرهم إما بالمدح وإما بالنقد، ومن هنا كان من الضروري أن تأتي معالجتنا لهذه المرحلة الأساسية مسهبة نسبيا إذا قسناها بغيرها من المراحل. (2) العصور الوسطى
لا بد لنا - عند معالجة معنى العلم في العصور الوسطى - من أن نفرق بين العصور الوسطى في أوروبا والعصور الوسطى في العالم الإسلامي؛ ففي تلك الفترة الزمنية الواحدة كان هناك تفاوت هائل في مستوى العلم بين هاتين المنطقتين من العالم، وعلى حين أن العلم الأوروبي هبط إلى الحضيض في هذه الفترة، فإن العلم الإسلامي وصل إلى قمته خلالها، وكان هو مركز الإشعاع في العالم كله. وكما نعلم جميعا فإن لفظ «العصور الوسطى» يرتبط في ذهن الأوروبيين بالتخلف والرجعية والتعصب والركود الفكري، على حين أنه يرتبط في أذهاننا بالمجد الغابر الذي نتغنى به ونحاول - دون جدوى في معظم الأحيان - أن نستعيد قدرا منه. ومن هنا فسوف نتحدث عن كل من هاتين الحضارتين الأوروبية والإسلامية على حدة.
كانت مرحلة العصور الوسطى في أوروبا طويلة الإشعاع حد غير عادي، وإذا كان المؤرخون يختلفون في تحديد نقطة نهايتها، فإن الرأي المرجح بينهم هو أنها تمتد من القرن الثالث الميلادي حتى القرن الرابع عشر، وطوال الألف ومائتي سنة التي دامتها هذه المرحلة لم يحرز العلم تقدما حاسما في أي مجال، ولم يظهر تغيير جديد في مفهوم العلم، بل لقد احتفظت هذه العصور بأسوأ عناصر المفهوم اليوناني للعلم، وعملت على تجميدها وتحويلها الإشعاع ما يشبه العقيدة التي لا تناقش.
ففي مجال المنهج العلمي كان أسلوب «الخضوع للسلطة»
3
هو الشائع في طريقة التفكير في هذه العصور؛ فقد ساد الاعتقاد بأن العلم بلغ قمته العليا عند أرسطو، وبأن ما قاله هو الكلمة الأخيرة في أي ميدان من ميادين العلم، وحدث تحالف وثيق بين معتقدات الكنيسة المسيحية وتعاليم أرسطو الفلسفية، بالرغم من أن هذه التعاليم الأخيرة قد ظهرت في إطار وثني، فكان من نتيجة هذا التحالف أن اكتسبت آراء أرسطو ما يشبه القداسة الدينية، وأصبح الاعتراض عليها نوعا من التجديف والضلال، ولم يكن العلم في صميمه إلا ترديدا لهذه الآراء، أما النقد والتجديد فكان يعرض صاحبه لأشد الأخطار.
أما أسلوب التفكير فكان هو الجدل اللفظي المقيم، وكان ذلك أمرا طبيعيا في عصر تستمد فيه عناصر المعرفة من الكتب القديمة لا من الطبيعة ذاتها، فقد برع مفكرو ذلك العصر في إقامة الحجج والبراهين اللفظية الخالصة، وتلاعبوا بالاستدلالات الشكلية والمغالطات التي تتخذ في ظاهرها صبغة منطقية، ولكنهم لم يتوصلوا إلى أي منهج في البحث يعين على معرفة مباشرة؛ فالألفاظ كانت عندهم حاجزا يحجب الواقع، والاستدلال الوحيد المعروف عندهم وهو قياس الجديد على القديم، أي على ما هو معروف من قبل، ومن هنا فإن كتبهم كانت كلها دعما لمعارف قديمة. أما الكشف الجديد فلم يكن من المتوقع أن يسعى إليه عصر يؤمن بأن المعرفة كلها قد اكتملت في عصر من العصور الماضية.
ولعل هذا الاهتمام المفرط بالحجج اللفظية الخالصة، والاعتقاد بأنك إذا استطعت أن تثبت «بالكلام البحت» شيئا، فلا بد أن يكون هذا الشيء متحققا. أقول: لعل هذا أن يكون سمة من السمات المميزة لمنهج الفكر في كل عصر متدهور، وكلنا نعلم أن الإغراق في الجدل اللفظي الأجوف، والاستعاضة عن الإنجاز الفعلي بالبلاغة اللفظية الرنانة، والاعتقاد بأن التعبير الكلامي عن أمنياتنا، وتصويرها كما لو كانت قد تحققت بالفعل، يغني عن بذل الجهد والكفاح من أجل تحقيق هذه الأمنيات في عالم الواقع. كلنا نعلم أن هذه صفات ملازمة لفكرنا العربي في مرحلة انحطاطه، وما زالت آثارها في طريقة تفكيرنا حتى اليوم، ومن المؤكد أن استمرار هذه الصفة فينا معناه أننا لم نتمكن بعد من أن نتجاوز - إلى غير رجعة - مرحلة العصور الوسطى - بالمعنى السيئ لهذا التعبير - في تفكيرنا.
أما من حيث مضمون الفكر العلمي في العصور الوسطى الأوروبية، فيلاحظ عليه - بوجه عام - أنه لم يكن معنيا بتلك العلوم التي تركز اهتمامها على فهم العالم من أجل تغييره والسيطرة عليه. ولقد كان هذا أمرا طبيعيا في عصر كان ينظر فيه إلى الحياة الدنيا بأسرها على أنها مرحلة عارضة زائلة، ولم تكن هذه النظرة تخلو من النفاق، إذ كان من المعروف أن أقطاب الكنيسة الأوروبية كانوا يستمتعون بحياتهم إلى أقصى حد، في الوقت الذي كانوا فيه يدعون عامة الناس إلى الزهد والعزوف عن متع الحياة. وعلى أية حال فإن سيادة هذه العقلية الزاهدة من شأنه أن يقلل من أهمية العلوم الباحثة في الطبيعة، وربما ترك قدرا من الاهتمام بالدراسات الأدبية واللغوية الخالصة، ولكن أعظم جهوده كانت موجهة إلى علم اللاهوت.
وهكذا كانت كتابات أرسطو كافية - في نظرهم - لتقديم تفسير كامل للطبيعة والعالم المحسوس بأسره، وكان العالم كله يفهم من خلال معان كيفية ذات أصل فلسفي بحت؛ كأن يقال مثلا: إن هذا الشيء موجود بالفعل أو بالقوة، أو أنه مادة أو صورة، وهذه المادة حارة أو باردة، ثقيلة أو خفيفة، دون أية محاولة لتطبيق الرياضيات - التي كانت قد أحرزت في العصر اليوناني تقدما كبيرا - على طريقة فهمنا للظواهر الطبيعية من أجل فهم قوانينها الكامنة.
ولقد كان التحالف بين العلم القديم وبين تعاليم الكنيسة مؤديا إلى تكوين صورة للعالم كله تمتزج فيها تصورات القدماء مع تفسيرات رجال اللاهوت، وكان أول ما يحرص عليه هؤلاء الأخيرون هو إدخال العناصر الدينية (كما كانوا يفهمونها) في فكرة الناس عن العالم. ومن هنا لم يكن من غير المألوف أن تجد في كتاب علمي صرف حديثا عن عناصر الطبيعة وعن عالم الملائكة والجن في آن واحد، وكان من الطبيعي أن يصور الكون بصورة ترضي رغبة الإنسان في أن يجد حوله عالما متاطفا معه، متجاوبا مع رغباته، محققا للقيم التي يتوق إليها. ولم يكن من غير المألوف أن يختلف بحث الإنسان عن حقائق الأشياء برغبته في أن يراها جميلة متناسقة متجاوبة مع ذوقه ومزاجه، فكان يغير من نظرته إلى العالم بالطريقة التي تحقق له هذه الرغبة، ويخلق بين السعي إلى الحقيقة والبحث عن التناسق والانسجام، ولا يجد غضاضة في أن يؤكد أن النجوم تسير في مسارات دائرية، لا لأنه رصد حركاتها وتأكد من ذلك، بل لأنه يؤمن بأن النجوم كائنات ذات طبيعة أثرية شبه إلهية، ومثل هذه الكائنات التي تتصف بكل هذا الكمال لا بد أن تسير وفقا لأكمل الأشكال وهو الدائرة. كما كان يتمسك في تفسيره للظواهر الأرضية والسماوية بأعداد معينة أحاطتها عقول الناس بقداسة خاصة منذ أقدم العصور، كالعدد عشرة أو سبعة، بغض النظر تماما عما تشهد به التجارب الفعلية بشأن هذه الظواهر.
ومجمل القول: إن العلم في العصور الوسطى الأوروبية قد تمسك بأضعف العناصر في التراث القديم؛ اليوناني والروماني، وأضاف إليها ذلك الجمود والتعصب الذي كانت تتطلبه كنيسة متسلطة لا تريد معارضة أو تجديدا. ومن الجائز أنه كانت هناك - تحت هذا السطح الخارجي - تيارات أخرى خفية ظلت تتراكم حتى خرج تأثيرها إلى النور في عصر النهضة الأوروبية، وهذا بالفعل ما يقول به بعض مؤرخي العلم، الذين يرفضون الاعتراف بأن الإنسان الأوروبي ظل متجمدا طوال ما يزيد عن الألف عام، ويؤكدون أن عوامل التغير كانت موجودة، وكل ما في الأمر أنها كانت بطيئة، تعمل في الخفاء، وأن أديرة الرهبان ذاتها قد شهدت تراكما في المعرفة العلمية ظهر تأثيره بوضوح في تلك النهضة السريعة التي حققتها أوروبا في مطلع العصر الحديث، وربما كان هذا الرأي على قدر من الصواب؛ إذ إن من الصعب أن نفسر سرعة التقدم الذي طرأ على العلم الأوروبي في القرن السابع عشر، والذي نقل أوروبا من التفكير في عالم أرسطو الذي لا يتحرك إلا لأنه يعشق «المحرك الأول»، إلى عالم نيوتن الذي يسوده قانون طبيعي واحد هو قانون الجاذبية الكونية. من الصعب أن نفسر ذلك إلا إذا قلنا بأن عوامل أخرى قد مهدت له، بالرغم من أن تأثيرها لم يكن في البداية ظاهرا.
على أن هذه العوامل المتراكمة لم تكن مجرد تطور ذاتي داخلي للمعرفة العلمية في أوروبا خلال العصر الوسيط، فهذه المعرفة - مهما تطورت - لم تكن تبشر بنتائج ذات قيمة كبيرة، وإنما كان هؤلاء العلماء في حاجة إلى دفعة قوية تأتيهم من مصدر خارجي؛ لكي تنير الطريق، وتكشف لهم عن أفضل السبل المتاحة للبحث العلمي في ذلك الحين، وقد تحقق ذلك بفضل تأثر الحلم الأوروبي بالعلم الإسلامي الذي كان يحتل المرتبة العليا في ذلك العصر.
كانت صورة العلم في العصور الوسطى الإسلامية مختلفة عن صورة الركود والجمود الأوروبي كل الاختلاف؛ ففي العالم الإسلامي كانت هناك حضارة فتية نشطة، تتسم بالإيجابية والتوسع والانفتاح على العالم، وتوائم نفسها مع هذا العالم المتغير الذي وجدت نفسها تتعامل معه، وكان ميدان العلم من أهم الميادين التي حققت فيه هذه الحضارة الوليدة أعظم أمجادها.
ولقد كان التقدم العلمي الذي عرفته الحضارة الإسلامية في عصر ازدهارها مثلا رائعا من أمثلة التفاعل الخصب بين الحضارات؛ فنقطة البداية في هذا العلم كانت ذلك التفتح الفكري الذي ألهم خلفاء المسلمين - في العصر العباسي بوجه خاص - وأن ينقلوا كل ما أتيح لهم من علوم القدماء وفلسفاتهم في ترجمات أمينة تعد من أروع الأعمال التي تحققت حتى ذلك العصر بالمقاييس الأكاديمية الخالصة؛ وذلك إذا أخذنا في اعتبارنا أن اللغة العربية لم تكن حتى ذلك الحين قد كونت لنفسها مصطلحات علمية تكفي للتعبير عن كل ما خلفه القدماء من معارف. وهكذا عرف المسلمون علوم اليونان والفرس والهنود، ولم يترددوا في استخدام كل الذخيرة الضخمة من المعلومات العلمية التي كدستها البشرية حتى ذلك الحين؛ من أجل تلبية حاجات المجتمع الإسلامي الذي كان ينمو ويزداد تعقدا يوما بعد يوم.
ولقد أسهم في هذه الحركة العلمية النشيطة علماء من أصل عربي وآخرون ينتمون إلى مختلف البلاد التي أصبحت تدين بالإسلام، ولكن الجميع كانوا يكتبون ويفكرون بالعربية، وكان الجو الذي يشيع في كتاباتهم إسلاميا بحتا، وكانوا ينظرون إلى أنفسهم - مهما بعدت بلادهم في أقصى أطراف آسيا الوسطى أو الأندلس - على أنهم ينتمون قلبا وروحا إلى تلك الحضارة التي انبعثت إشعاعاتها الأولى من قلب الجزيرة العربية.
ولقد رأى كثير من الكتاب الغربيين في العلم الإسلامي مجرد امتداد للعلم اليوناني، وأكدوا أن كل ما قام به المسلمون في مجال العلم كان يدور في ذلك الإطار الذي حدده اليونانيون قبيل ذلك بفترة لا تقل عن ألف عام، وأراد غير هؤلاء أن يكونوا أكثر إنصافا، فأكدوا أن التفكير العلمي الإسلامي - وإن ظل في إطاره العام يونانيا - قد أعاد النظر في التراث العلمي اليوناني من جديد، وبحث فيه بروح تقدمية فيها قدر من الاستقلال، ولكن المهم في كلتا الحالتين هو أن العلماء المسلمين - وفقا لرأي هؤلاء الكتاب - لم يخرجوا عن فلك التفكير العلمي اليوناني.
وقد يبدو ظاهريا أن لهؤلاء الكتاب بعض العذر في التقريب بين العلم الإسلامي وتراث اليونانيين؛ إذ إن الأسماء اليونانية - مثل أرسطو وأبقراط وجالينوس - كانت تتردد كثيرا في المؤلفات العلمية الإسلامية، كما أن الإطار الفكري لهذه المؤلفات كان يحتفظ بقدر غير قليل من مفهوم العلم عند اليونانيين؛ إذ نجد عند فلاسفة الإسلام نظرة متدرجة إلى العلوم، تعلي من قدر العلم النظري البحت وتقلل من شأن العلم التطبيقي، وتجعل مكانة أي علم مرتبطة بمكانة الموضوع الذي يبحث فيه. ولكن كتابات الفلاسفة كانت تسير في طريق وممارسة العلماء كانت تسير في طريق آخر مختلف كل الاختلاف؛ إذ إن الاهتمام بالعلم التجريبي وباستخدام البحث العلمي من أجل فهم قوانين الطبيعة المحيطة بنا، كان هو الهدف الرئيسي من أعمال علماء مشهورين مثل جابر بن حيان في الكيمياء، والحسن بن الهيثم في البصريات (علم الضوء)، والبيروني في الفلك والرياضيات، والرازي وابن سيناء وابن النفيس في الطب، ومن الصعب - إذا كان المرء منصفا - أن يصدق الحكم القائل بأن الإطار الذي كان يدور فيه هؤلاء العلماء الكبار كان إطارا يونانيا صرفا، وأنهم لم يضيفوا إلى الحضارة الإنسانية إضافات أصيلة تنبع من طبيعة البيئة الثقافية التي عاشوا فيها.
وعلى أية حال، فإن الاعتراف يزداد الآن - بين مؤرخي العلم الغربيين أنفسهم - بأن العلم الإسلامي لم يكن مجرد جسر عبر عليه العلم اليوناني لكي ينتقل إلى أوروبا الحديثة، أعني مجرد أداة توصيل بين الحضارة الأوروبية القديمة والحضارة الأوروبية الحديثة. وكما حدث في حالة العلاقة بين اليونانيين - في مبدأ ظهور علمهم وفكرهم الفلسفي - وبين الحضارات الشرقية السابقة عليهم، حين أخذ الغربيون يتنبهون في الآونة الأخيرة على نحو متزايد إلى أن اليونانيين مدينون للشرق القديم بأكثر مما كانوا يظنون من قبل، فكذلك حدث في حالة العلاقة بين العلم الإسلامي والعلم اليوناني أن بدأ مؤرخو العلم الغربيون يدركون على نحو متزايد أهمية الإضافة التي أضافها المسلمون إلى العلوم التي ورثوها عن الحضارات السابقة عليهم؛ أي إنهم في الحالتين أصبحوا أكثر واقعية وأقل مبالغة في تقدير دور «المعجزة اليونانية»، وأميل إلى الاعتراف للشعوب الشرقية بحقها في أن تفخر بالدور الذي أسهمت به من أجل دفع عجلة العلم إلى الأمام.
والواقع أن أعظم ما يمكن أن يفخر به العلم الإسلامي - في عصر ازدهاره - هو أنه أضاف بالتدريج إلى مفهوم العلم معنى جديدا لم يكن يلقى اهتماما بين اليونانيين، وهو استخدام العلم من أجل كشف أسرار العالم الطبيعي وتمكين الإنسان من السيطرة عليه؛ فقد عرف اليونانيون الرياضيات وتفوقوا فيها، ولكنهم لم يعرفوا كيف يستخدمونها لحل المشكلات الواقعية التي تواجه الإنسان. وفي مقابل ذلك كان المسلمون بارعين في استخدام الأرقام ووضع أسس علم الحساب الذي يمكن تطبيقه في حياة الناس اليومية، وكان اختراعهم للجبر، وتفوقهم في الهندسة التحليلية وابتكارهم لحساب المثلثات، إيذانا بعصر جديد تستخدم فيه الرياضة للتعبير عن قوانين العالم الطبيعي، وتطبق فيه مبادئها من أجل حل مشكلات المساحة الأرضية، وحساب المواقيت وصناعة الأجهزة الآلية. وكذلك كانت كشوفهم الفلكية مرشدا هاما للملاحين والجغرافيين، وساعدت على فهم أفضل للعالم الذي نعيش فيه، أما بحوثهم الطبية والصيدلانية فكانت ذات دلالة تطبيقية لا تخطئها العين.
ولقد كان هذا الاتجاه الذي يجمع بين النظرية والتطبيق أمرا طبيعيا في حضارة قامت على أساس الجمع بين الدنيا والدين، وارتكزت على شعار: «اعمل لدنياك كأنك تعيش أبدا، واعمل لآخرتك كأنك تموت غدا.» وبالفعل كان العلم الإسلامي ينطوي على جانبي الدنيوية والأزلية في آن واحد، ويستهدف خدمة الحياة الإنسانية في هذا العالم الأرضي في إطار ترتكز أصوله على النظر في عالم السماء والأرض واستخلاص العبرة من نظامه المحكم وقوانينه الأزلية. وهكذا كان العلماء يقومون ببحوثهم مؤمنين بأن العلم ركن أساسي من أركان العقيدة، ولم تكن فكرة التعارض بين العلم والإيمان الديني تخطر ببال أحد منهم، بل إن كل من أثاروا هذه الفكرة لم يكونوا من العلماء، ولم تكن لديهم أدنى فكرة عن الطبيعة الحقيقية للبحث العلمي وعن أهدافه الإنسانية الرفيعة.
ومن المعترف به أن العلم الإسلامي قد احتفظ ببعض العناصر السلبية التي ترجع إلى اليونانيين؛ ففكرة «الأمزجة» التي أكدتها كتابات الأطباء اليونانيين ظلت قائمة في الطب الإسلامي، وسلم بها ابن سينا في كتابه المشهور «القانون». كذلك كانت فكرة «العناصر الأربعة» (الماء والهواء والنار والتراب) - الموروثة عن الفلاسفة اليونانيين الأوائل - تتردد كثيرا في كتابات العلماء الإسلاميين، وترتب على ذلك ضياع وقت وجهد غير قليلين في أبحاث علمية تعد عقيمة بمقاييسنا الحديثة؛ كالتنجيم وقراءة الطالع، وكالبحث عن «حجر الفلاسفة» وتحويل المعادن الخسيسة إلى ذهب. ولكن ينبغي أن نعلم أن الحكم بإدانة هذا النوع من الأبحاث هو حكم صادر من وجهة نظر حديثة؛ فنحن نصف هذه الأبحاث الآن بأنها غير علمية لأن التطور التالي للعلم - في عصرنا الحديث - قد تجاوزها، أما من وجهة نظر العصر نفسه فلم يكن هناك حد فاصل بين هذه الأبحاث العقيمة والأبحاث العلمية الأخرى ذات النتائج الإيجابية؛ ولذلك فمن الصعب أن نعد هذا خطأ ندين من أجله العلم الإسلامي، وحسبنا أن نذكر أن العلم الأوروبي ظل حتى القرن السابع عشر - وربما حتى القرن الثامن عشر في بعض الحالات - يحتفظ بآثار من هذه الأخطاء القديمة ، وأن كبار علماء العصر الحديث - وعلى رأسهم كبلر - كانوا يمارسون التنجيم، ولم يكونوا يجدون أي تعارض بين أبحاثهم الفلكية الأصلية وقراءتهم طالع الملوك والأمراء من رصد النجوم. أما فكرة العناصر الأربعة فقد ظلت معترفا بها في أوروبا حتى القرن الثامن عشر، ولم تهدم إلا على يد الكيميائي الفرنسي المشهور «لافوازييه».
تلك إذن أخطاء ينبغي ألا تحسب على العلم الإسلامي، وفي مقابل ذلك فقد كانت لهذا العلم إنجازات تعلمت أوروبا منها الشيء الكثير؛ فقد وضحت على يد العلماء الإسلاميين أصول المنهج التجريبي بما يقتضيه من ملاحظات دقيقة دائبة، ومن تسجيل منظم لهذه الملاحظات، ثم وضع الفروض لتفسيرها وإجراء التجارب للتحقق من صحة هذه الفروض، وكان الطب الإسلامي نموذجا اقتدى به الأطباء الأوروبيون في دقة الملاحظة ووصف الأعراض وتشخيصها وعلاجها بالعقاقير أو بالجراحة أو بممارسة العلاج الطبيعي، كما كان أول أمثلة المستشفيات - بمعناها الحديث - هو «البيمارستان» الإسلامي، بل بدأ لديهم الاهتمام بالطب النفسي والعلاقة المتبادلة بين الجسم والنفس في بعض الأمراض. وما الطب إلا مثل واحد من أمثلة هذه العقلية المتقدمة التي أزالت الحد الفاصل بين النظرية والتطبيق، وجمعت في مركب واحد بين التأمل العقلي والفعل العملي، وأعطت بذلك للإنسانية عامة وللحضارة الأوروبية الحديثة بوجه خاص درسا رائعا في منهج البحث العلمي الأصيل.
هذا العلم الإسلامي - الذي ارتكز على دعائم قوية من المنهج التجريبي ومن الحقائق الرياضية الدقيقة - كان واحدا من أهم العوامل التي أدت إلى ظهور النهضة الأوروبية الحديثة؛ فمنذ القرن الثاني عشر الميلادي أخذت المؤلفات العربية الكبرى تترجم على نطاق واسع إلى اللغة اللاتينية، لغة العلم في أوروبا خلال العصر الوسيط، ولم يكن من المصادفات أن ينظر عدد غير قليل من الباحثين الأوروبيين إلى هذا القرن بالذات على أنه نقطة البداية الحقيقية في النهضة الأوروبية، أو نقطة التحول من العصور الوسطى المظلمة إلى المرحلة الممهدة لظهور العصر الحديث. ولم يكن من المصادفات أيضا أن تكون الجامعات ومعاهد العلم الأوروبية القريبة جغرافيا من مراكز الثقافة العربية - في جنوب إيطاليا وصقلية وفرنسا - هي مراكز الإشعاع الأولى لهذه النهضة، وكما ذكرنا من قبل فقد شاع في وقت ما بين الكتاب الغربيين حكم جائر مؤداه أن المرحلة الإسلامية في العلم إنما كانت همزة وصل بين الحضارة اليونانية والحضارة الأوروبية الحديثة، وأن فضل العلماء المسلمين ينحصر في المحافظة على التراث العلمي القديم ونقله بأمانة إلى أوروبا لتبدأ به نهضتها الحديثة، على أن هذا الحكم لا يلقى في أيامنا هذه تأييدا حتى من الكتاب الأوروبيين أنفسهم، ولعله كان أثرا من آثار نعرة العنصرية الأوروبية المتعالية في القرن التاسع عشر؛ ذلك لأن إسهام العلم الإسلامي كان جديدا من نواح كثيرة، وكان أهم ما فيه هو ذلك التجديد الرائع في مناهج البحث العلمي وأساليبه. وذلك الفهم واسع الأفق للعلم على أنه معرفة نظرية تستهدف أغراضا عملية تطبيقية، وهي أمور لم تكن واضحة في العلم اليوناني القديم إلا خلال فترة قصيرة من عمره هي تلك الفترة التي انتقل فيها ذلك العلم إلى الإسكندرية، ولكن تأثير هذه الفترة كان ضئيلا؛ لأن التقدم العلمي فيها كان مصحوبا بتدهور عام في الحضارة اليونانية بأسرها. وهكذا كان للعصر الإسلامي دوره الذي لا ينكر في إضافة معان جديدة إلى مفهوم العلم ذاته.
ولا شك أن القارئ العربي والإسلامي المعاصر حين يذكر هذه الحقائق، يشعر بالأسى إذ يجد تلك النهضة العلمية التي قام بها أجداده قد توقفت منذ قرون عديدة، مع أنها لو كانت قد استكملت لكانت هذه المنطقة من العالم رائدة في ميدان العلم الحديث، وقد يعلل المرء ذلك بالانحلال الداخلي الاجتماعي والسياسي، الذي طرأ على العالم الإسلامي بعد عصره الذهبي في العلم والحضارة، وقد يعلله بأسباب خارجية، كالغزو التركي ثم الأطماع الأوروبية في هذه المنطقة الحيوية. وأيا كان السبب في التدهور اللاحق، فإن من أبرز مظاهر هذا التدهور أن العالم العربي قد أغلق على نفسه الأبواب في عصور انحلاله وتصور أنه يستطيع الاكتفاء بذكرى أمجاده الماضية، ونسي ذلك الدرس العظيم الذي قدمته له الحضارة الإسلامية وهي في أوج عظمتها، وأعني به أن التفاعل بين الثقافات هو الدافع الأول إلى تقدم العقل البشري، فلم يخجل المسلمون في عصرهم الذهبي من استيعاب علوم الثقافات الأخرى الأقدم منهم عهدا، بل كان في ذلك نقطة انطلاق لهم إلى فهم العالم، ولم يخجل الأوروبيون من ترجمة أمهات الكتب الإسلامية وتدريسها - بوصفها كتبا مقررة - في أعظم جامعاتهم خلال مطلع العصر الحديث. والأهم من ذلك أن نفس العقول المتزمتة التي تدعونا إلى الابتعاد عن الثقافات «الدخيلة» في عصرنا الحاضر لا تجد في مسلك الأوروبي إزاء العلم الإسلامي ما يعيبهم، ولا تعير الغرب بأنه قد تنكر لتراثه أو لأصوله، وانسلخ عن هويته الأصلية عندما اغترف بكلتا يديه من علوم المسلمين، فهي إذن تعترف بقيمة تفاعل الثقافات عندما نكون نحن الذين نعطي، وتنكرها حين نكون نحن الآخذين، مع أن هذا التفاعل واحد في كلتا الحالتين، وهو مصدر نفع للبشرية أينما حدث. (3) العصر الحديث
تضافرت عوامل متعددة أدت إلى الانتقال بأوروبا من أسلوب التفكير السائد في العصور الوسطى إلى أسلوب التفكير العلمي الحديث، وكان بعض هذه العوامل داخليا، يتعلق ببناء المجتمع الأوروبي ذاته، وبعضه الآخر خارجيا، كالتأثير الإيجابي الذي مارسته الحضارة الإسلامية على العقل الأوروبي، وليس من مهمتنا في هذا الكتاب أن نتحدث عن هذه العوامل إجمالا أو تفصيلا، بل إن ما يهمنا هو حصيلتها النهائية؛ وأعني بها التغيير الذي طرأ على مفهوم العلم ذاته، أعني العناصر التي أسقطها العصر الحديث من مفهوم العلم في العصور السابقة، وتلك التي أضافها إلى هذا المفهوم.
ومن الأمور التي تسترعي انتباه الباحث في هذه الفترة أن المفهوم الحديث للعلم لم يتشكل على أيدي العلماء وحدهم، بل لقد أسهم فيه الفلاسفة بدور عظيم الأهمية، ولعل القول بأن الفلسفة مرآة للعصر لا يصدق على أية فترة بقدر ما يصدق على هذا العصر الأول من عصور العلم الأوروبي الحديث؛ إذ كانت لفلاسفة ذلك العصر رؤية واضحة تمام الوضوح لمتطلبات العلم، وكانت بصيرتهم النفاذة تدرك ما يحتاج إليه العقل البشري من مناهج للبحث وطرق للتفكير حتى ينتقل إلى عصر جديد .
ومن الغريب حقا أنه في نفس الوقت الذي كان فيه فلاسفة ذلك العصر يدعون إلى قيام نوع جديد من العلم، كان العلم ذاته يخطو خطواته الحاسمة بعيدا عن الفلسفة، وقد تبدو في هذا مفارقة صارخة، إذ يخيل إلينا لأول وهلة أن تحمس الفلاسفة للعلم كان لا بد أن يؤدي إلى مزيد من التحالف والتداخل بين الفلسفة والعلم، ولكن حقيقة الأمر هي أن عملية انفصال العلم عن الفلسفة لم تكن في بدايتها عملية واعية؛ فقد ظهر نوع جديد من المعرفة، يستخدم أساليب فكرية مختلفة عن تلك التي دأبت الفلسفة على استخدامها حتى ذلك الحين، ولكن هذا النوع - برغم تميزه الواضح هذا - كان لا يزال يسمى «فلسفة»؛ إذ إن الكثير من علماء ذلك العصر - ومنهم نيوتن ذاته - أطلقوا اسم «الفلسفة التجريبية» أو «الفلسفة الطبيعية» على عناوين أبحاثهم الرئيسية، ولكن المهم في الأثر أن التميز بين طريقتي البحث الفلسفية والعلمية أصبح ظاهرا للعيان، وأن فئة «العلماء» - المستقلين عن الفلاسفة في تفكيرهم استقلالا تاما - أصبحت فئة معروفة، يزداد نفوذها يوما بعد يوم، ولم يكن الفلاسفة أنفسهم يقفون حائلا في وجه هذا الاستقلال، بل كانوا يشجعون عليه، وينظرون إلى أنفسهم على أنهم دعاة مخلصون للعلم، وكان ذلك وضعا جديدا للعلاقة بين الفيلسوف والعالم لم تعرفه العصور السابقة؛ إذ أصبح الفيلسوف ينظر إلى نفسه، لا على أنه هو ذاته الذي يأخذ على عاتقه مهمة توسيع نطاق المعرفة البشرية في كافة المجالات ودفعها إلى الأمام، بل على أنه هو الذي يضع «الأساس» الفكري للعمل الذي يقوم به أشخاص آخرون مستقلون عنه؛ أي إنه ليس هو «خالق» المعرفة بل هو «منظرها» فحسب.
ولقد كان الفيلسوف الإنجليزي الكبير «فرانسيس بيكون»
Francis Bacon
أعظم دعاة هذه النظرة الجديدة التي يستقل فيها العلم عن الفلسفة استقلالا تاما؛ فهو يسخر من ادعاءات فلاسفة العصور القديمة والوسطى الذين كانوا يتصورون أن باستطاعتهم حل مشكلات العالم الكبرى بالتأمل النظري وحده، ويهاجم مفكري الأبراج العاجية الذين يعتقدون أنهم قادرون على فهم الطبيعة وما وراء الطبيعة باستخدام مجموعة من الاستدلالات اللفظية التي يتلاعبون بها ببراعة، ويظنون أن ما توصلهم إليه هذه الألاعيب اللفظية لا بد أن يكون حقيقة واقعة. وفي مقابل ذلك يدعونا بيكون إلى إجراء حوار مباشر مع الطبيعة، واستخدام حواسنا وعقولنا في ملاحظة وقائعها وتسجيلها بأمانة، وينادي بضرورة إزالة هذا الحاجز اللفظي الخداع الذي وضعه القدماء بيننا وبين حقائق العالم، ويؤكد أن المعرفة الصحيحة إنما تكون في طرح الأسئلة المباشرة على الطبيعة، بدلا من التقوقع داخل عالم الألفاظ. وهكذا حدد بيكون سمة من أهم سمات التفكير العلمي الحديث؛ وهي الاعتماد على ملاحظة الظواهر ومشاهدتها تجريبيا، بدلا من الاكتفاء «بالكلام» عنها.
ومن السمات الأخرى التي أكد بيكون أهميتها في كل تفكير علمي، أن هذا التفكير لا يسارع إلى التعميم، كما كانت تفعل الفلسفات القديمة، ولا ينساق وراء الطموح الزائد الذي يصور لكل فيلسوف أنه قادر على تقديم إجابات عن الأسئلة الكبرى ذات الطابع العام؛ مثل أصل العالم ومصيره وغاياته ... إلخ. بل إن التفكير العلمي - في رأيه - أشد تواضعا من ذلك بكثير؛ فهو يضع لنفسه أهدافا محدودة، وينتقل بثقة من حقيقة جزئية إلى حقيقة جزئية أخرى، ولا يعمم نتائج أبحاثه إلا بحذر شديد، وبقدر ما تسمح الحقائق الموجودة فحسب، ومن مجموع هذه الحقائق الجزئية يعلو بناء المعرفة بالتدريج على أيدي الأعداد الكبيرة من العلماء، الذين يتقاسمون فيما بينهم - خلال الجيل الواحد - المشكلات المطلوب حلها، والذين يبدأ كل جيل جديد منهم من حيث انتهى الجيل السابق، وتلك كلها قد تبدو اليوم - في عصرنا الذي أصبح فيه التخصص أساسا للعمل العلمي - بديهيات مسلما بها، ولكنها في عصر بيكون كانت شيئا جديدا بالقياس إلى أساليب الفلاسفة السابقين، الذين كان كل واحد منهم يتصور أنه يحتكر لنفسه الحقيقة كاملة، ويعتقد أن المعرفة البشرية كلها يمكن أن تتكشف لعقل واحد.
ولقد كان من الصفات الهامة التي أضافها بيكون إلى مفهوم العلم قابلية كل علم للتطبيق، وتلك صفة رأيناها ماثلة من قبل في العلم الإسلامي بوضوح، غير أن بيكون هو الذي يرجع إليه الفضل في نشرها في العالم الغربي على أوسع نطاق؛ فعلى حين أن العلم القديم كان معرفة لأجل المعرفة، نجد بيكون يؤكد أن العلم الذي لا يقبل التطبيق العلمي بصورة من الصور لا يستحق أن يسمى علما، وربما كان هذا موقفا متطرفا، ولكنه كان ضروريا لمواجهة التطرف المضاد في العلم النظري البحت، كما عرفه الفلاسفة اليونانيون الذين كانوا يزدرون أية معرفة تقترب من مجال الواقع المادي وتدخل نطاق التطبيق. وهكذا هيأ بيكون أذهان الناس لقبول عدد كبير من العلوم التي تتصل بموضوعات «أرضية» «مادية»، ووصل به الأمر إلى الدعوة إلى بحث «التغذية» وكيفية صنع الطعام وحفظه على أسس علمية، وهو أمر كان خليقا بأن يلقى من اليونانيين سخرية مريرة. فهدف العلم عند بيكون هو أن يجعل الإنسان سيدا للطبيعة ومسيطرا عليها. وإذا كان كارل ماركس هو الذي قال لأول مرة بعبارات صريحة في القرن التاسع عشر: «لقد اقتصر الفكر حتى الآن على تفسير العالم على أنحاء شتى، ولكن المهم هو تغييره.» فمن المؤكد أن هذه العبارة تصلح شعارا لفلسفة بيكون كلها؛ وذلك لسببين؛ أولهما أنه كان بدوره ناقدا شديدا للاتجاه النظري الخالص عند الفلاسفة السابقين. وثانيهما أنه كان يدعو بكل حماسة إلى أن تكون المعرفة - فلسفية كانت أم علمية - وسيلة لتغيير العالم وتحقيق سيطرة الإنسان عليه، وكانت دعوة بيكون هذه هي - في واقع الأمر - الأساس الفكري الذي ارتكزت عليه حركة التقارب بين العلم والتكنولوجيا في القرون التالية.
على أن بيكون - بالرغم من كل ما أضافه إلى مفهوم العلم من معان هامة كان لها أبلغ الأثر في التطور التالي للمعرفة العلمية - لم يركز اهتمامه إلا على جانب واحد من جوانب العلم، وهو الجانب التجريبي المبني على مشاهدة الظواهر وتسجيلها واستخلاص أسبابها عن طريق الملاحظة الدقيقة والتجربة، وهذا - بغير شك - جانب عظيم الأهمية، وخاصة إذا نظرنا إليه في ضوء الفترة التاريخية التي عاشها بيكون، والتي لم تكن تعرف قبل ذلك إلا العلم المدون في الكتب، ولم تكن تستخلص المعرفة إلا من أفواه الحكماء الأقدمين . وهكذا كان بيكون - شأنه شأن كل رائد يستكشف ميدانا جديدا - متحمسا أشد التحمس لذلك التصور الذي كونه لنفسه عن العلم، والذي يرتكز على الملاحظة والتجربة المباشرة، ولكن هذا لم يكن - كما قلنا - سوى جانب واحد من جوانب العلم؛ إذ إن العلم يحتاج إلى الصياغة الرياضية الدقيقة، إلى جانب احتياجه إلى الملاحظة والتجربة، والرياضة علم عقلي لا شأن له بملاحظات الحواس وتجاربها.
ولقد كان الفيلسوف الفرنسي «ديكارت»
Descartes
هو الذي أكد أهمية هذا الجانب الآخر - أعني الجانب الرياضي العقلي - للعمل العلمي، وتطرف بدوره في هذا الاتجاه حتى تصور أن مهمة العالم - في مختلف المجالات - لا تختلف عن مهمة الباحث في الهندسة؛ إذ يستنبط بدقة النتائج التي تترتب على مقدمات واضحة كل الوضوح، يضعها العقل وهو موقن بأنها تصلح أساسا متينا لكل معرفة تالية، وكان المبرر الذي ارتكز عليه ديكارت في تأكيده هذا، هو أن العلم الرياضي أدق العلوم، بل هو نموذج الدقة في كل تفكير، فإذا شئنا أن تصل معارفنا - في أي ميدان من الميادين - إلى مستوى الدقة الجديرة باسم العلم، كان لا بد لنا أن نتبع هذا النموذج الذي اعتاد الباحثون في الرياضيات أن يتبعوه منذ أقدم العصور، والذي تمكنوا بفضله من أن يجعلوا علمهم مثلا أعلى لليقين العقلي.
وهكذا فإن هذين الفيلسوفين اللذين ظهرا في مطلع العصر الحديث، قد نبها الأذهان إلى الجانبين اللذين أصبح العلم الحديث يرتكز عليهما خلال تطوراته التالية؛ وأعني بهما الملاحظة الأمينة للواقع من جهة، والقدرة على صياغة قوانين هذا الواقع بطريقة رياضية من جهة أخرى. ومن الجدير بالذكر أن العلماء الكبار في ذلك العصر - وعلى رأسهم العالم الإيطالي العظيم «جاليليو
Galileo » - قد توصلوا - دون أن يكونوا قد اتصلوا بهؤلاء الفلاسفة اتصالا مباشرا - إلى الطبيعة الحقيقية لطريقة البحث العلمي؛ إذ كان جاليليو - في إثباته لقانون مثل سقوط الأجسام - يجري التجارب ويتحقق منها أولا، ثم يعبر عن النتيجة التي يتوصل إليها بقانون يتخذ شكل معادلة رياضية أو نسبة حسابية ... إلخ. وهكذا جمع هؤلاء العلماء بين نتائج تفكير الفيلسوفين الكبيرين في ذلك العصر بطريقة تلقائية، وتمكنوا من تحقيق الاتزان بين الجناحين اللذين لا يستطيع العلم التحليق إلا بهما معا، وأعني بهما الملاحظة والتجربة من جهة، والصيغة الرياضية من جهة أخرى.
وأخيرا فإن من العناصر الهامة التي أضيفت إلى مفهوم العلم منذ أوائل العصر الحديث: ذلك الطابع الجماعي للعلم، الذي أشرنا من قبل إلى أن بيكون كان من أول من نبهوا إليه، فعلماء العصر الحديث لم يكونوا مؤمنين بأن العلم جهد فردي، بل كانت تسود عملهم منذ بدايته «روح الفريق»، ومنذ أن أصبح العلم نشاطا مستقلا عن الفلسفة، أخذ عدد المشتغلين به يتزايد بالتدريج؛ لأن الباحثين عن الحقيقة أدركوا أنهم توصلوا إلى نوع آخر من المعرفة قابل للنمو والتوسع من جيل إلى جيل، وليس مجرد محاولات فردية تلمع خلال حياة صاحبها ثم تنطفئ لكي تبدأ محاولة أخرى من جديد. وكان العلماء في البداية يحققون أهدافهم في تبادل المعرفة عن طريق الرسائل، ولكن سرعان ما اتضح أن الرسائل المتبادلة أسلوب بطيء لا يسمح بنشر المعرفة وإخضاعها لنقد العقول الأخرى وتحليلها؛ إذ لم تكن ظروف ذلك العصر تسمح للعلماء إلا بتبادل رسالة أو رسالتين في العام كله. ومن جهة أخرى فقد كان عدد الأبحاث العلمية يتزايد باستمرار، ومن هنا بدأ التفكير - لأول مرة في تاريخ البشرية - في إنشاء جمعيات علمية يتبادل فيها العلماء أبحاثهم وآراءهم، ويقسمون العمل العلمي فيما بينهم وفقا لخطط مرسومة.
ومن الوجهة التاريخية الخالصة، يمكن القول: إن أول جمعية علمية هي التي أنشئت في فلورنسة بإيطاليا عام 1657 باسم
Academia de Cimento (وتعني: أكاديمية التجربة العلمية)، ولكن البداية الحقيقية للجمعيات العلمية بكل مقوماتها الحديثة كانت هي الجمعية الملكية في لندن (
Royal Society ) عام 1662، ومنذ ذلك الحين تعاقبت الجمعيات بسرعة، فأنشئت الأكاديمية الفرنسية في باريس عام 1666، ثم أكاديمية سان بطرسبورج الروسية عام 1729 وأكاديمية برلين عام 1744.
وبفضل هذه الجمعيات العلمية الرائدة لم يتحقق مبدأ العمل الجماعي والتخطيط المنظم في العلم فحسب، بل إن إنشاءها قد دعم مبدأ رعاية الدولة للعلماء وإنفاقها على أبحاثهم. ومن المؤكد أن العلم أفاد كثيرا من هذا المبدأ، لا سيما وأن نفقات البحث العلمي كانت في تزايد مستمر، كما أن الدول بدورها اكتسبت فوائد هامة من رعايتها للعلماء، إذ كانت تجد في نجاح علمائها مبعثا للفخر المعنوي، كما كانت تكلفهم بإجراء البحوث التي تفيدها في تحقيق أهدافها الاقتصادية والعسكرية، وسوف نرى فيما بعد أن هذا المبدأ ذاته قد أصبح في عصرنا الحاضر سلاحا خطيرا ذا حدين.
الفصل الرابع
العلم والتكنولوجيا
في رحلة التفكير العلمي التي نتتبعها ها هنا بإيجاز عبر عصور التاريخ البشري لن نستطيع أن ننتقل إلى العصر الحاضر إلا إذا قدمنا إلى القارئ صفحات قليلة عن العلاقة بين العلم والتكنولوجيا طوال عصور المعرفة البشرية؛ ذلك لأن التداخل بين هذين الضربين من النشاط هو في أساسه ظاهرة جديدة، يتميز بها عصرنا هذا بالذات عن غيره من العصور، بحيث لا نكون مبالغين إذا قلنا إنها هي السمة الأساسية المميزة للعلم في مرحلته الراهنة. ومن هنا كان لزاما أن نلقي الضوء - في لمحة سريعة - على معنى التكنولوجيا وصلتها بالعلم منذ مراحله الأولى حتى عصرنا الحاضر.
إن لكلمة التكنولوجيا - عند كثير من الناس - رنينا حديثا يجعلهم يظنون أن العالم لم يعرف التكنولوجيا إلا في عصر قريب، وأن التكنولوجيا هي المخترعات الحديثة الراقية التي غيرت معالم الحياة البشرية في العصر الحديث وخاصة في القرن العشرين، ولكن واقع الأمر هو أن الشيء الوحيد الحديث في هذا الموضوع كله هو اللفظ ذاته، أما الظاهرة نفسها فهي قديمة قدم الإنسان، ومن الخطأ أن نربط بين التكنولوجيا وبين المخترعات الحديثة؛ لأن هذه المخترعات لا تعدو أن تكون آخر المراحل في تطور طويل بدأ منذ فجر الوعي البشري.
وأول معنى يطرأ على ذهن الإنسان حين يحاول تعريف التكنولوجيا هو معنى التطبيق العملي، فالحلم معرفة نظرية، والتكنولوجيا تطبيق لهذه المعرفة النظرية في مجال العمل البشري، ولكن على أي شيء ينصب التطبيق؟ إذا كنا نقصد أنه تطبيق للمعرفة العلمية النظرية، فإن هذا بدوره معنى حديث؛ إذ إن التكنولوجيا - كما سنرى - لم تكن مرتكزة على العلم طوال الجزء الأكبر من تاريخها، والأصح أن نقول: إنها تطبيقية بمعنى أنها تنتمي إلى الميدان العملي - ميدان الفعل وبذل الجهد - فهي شيء يرتبط باليد أكثر مما يرتبط بالمخ أو الرأس، وإن كانت الصلة بين اليد والرأس قد أصبحت وثيقة كل الوثوق في عصرنا الحاضر.
والمعنى الثاني الذي تثيره كلمة التكنولوجيا هو أنها وسيلة تستخدم في العمل البشري، فمنذ أقدم عصور التاريخ البشري كان الإنسان يستعين بأدوات تساعده في عمله، وهي أدوات تستحق اسم التكنولوجيا، فتهذيب قطعة من الحجر أو المعدن وربطها بقطعة خشبية من جذع شجرة واستخدامها فأسا لقطع الأشجار أو لتقليب الأرض هو نوع من التكنولوجيا، واستخدام النار في الطهي أو في التدفئة أو في صهر المعادن كان كشفا تكنولوجيا عظيم الأهمية بالنسبة إلى عصره، بل إن أهميته بالنسبة إلى العصر البدائي الذي ظهر فيه، تفوق بكثير أهمية الطاقة الذرية بالنسبة إلى عصرنا الحاضر، واختراع العجلة لتيسير عملية نقل البضائع أو انتقال الأشخاص أو محاربة الأعداء، كان في عصره انقلابا تكنولوجيا لا يقل أهمية عن اختراع الطائرات في أيامنا هذه.
وإذن فكل ما كان الإنسان يستعين به للقيام بأعماله - بالإضافة إلى أعضائه وقواه الجسمية - يستحق أن يسمى تكنولوجيا. ولكن ما علاقة هذه الوسائل التي يضيفها الإنسان إلى جسمه - لكي تساعده على إنجاز أعماله - بالجسم البشري ذاته؟ إنها قطعا امتداد له، ولكن بأي معنى تعد امتدادا للجسم؟ هل هي مناظرة لهذا الجسم أم مكملة له؟ لا جدال في أن الوسائل التي يستعين بها الإنسان في أداء عمله تكمل ما لديه من قدرات؛ فالفأس لا تماثل اليد أو الذراع البشرية، ولكنها تكملها وتساعدها على أداء عملها بمزيد من الكفاءة. والعجلة بعيدة كل البعد في شكلها وطابعها العام عن أرجل الإنسان، ولكنها تحل محل هذه الأرجل في الانتقال من مكان إلى آخر، وتحقق هذا الهدف بمزيد من الفعالية. والنار لا نظير لها عند الإنسان أصلا، ولكنها بدورها تعين الإنسان على أداء أعمال يعجز عن أدائها بقواه الجسمية وحدها . وهكذا نصل إلى عنصر آخر في معنى التكنولوجيا؛ هو أنها الوسائل التي يستعين بها الإنسان لتكملة ما ينقصه من القوى والقدرات.
وما دمنا قد تحدثنا عن تكملة النقص في قدرات الإنسان، فمن الواجب أن ننبه إلى أن هذا النقص يتغير في طبيعته ومداه تبعا لظروف كل عصر. ومعنى ذلك أن العامل الاجتماعي له دور في تحديد مستوى التكنولوجيا المطلوبة، وأوضح دليل على ذلك أنه في العصور التي لم تكن فيها الآلات الميكانيكية ضرورية - نظرا إلى وجود قوة عمل العبيد أو الأرقاء الذين كانوا يقومون بدور «الآلات البشرية» - لم تظهر تكنولوجيا الآلات، مع أن المعرفة العلمية في ذلك العصر كانت قادرة على توصيل الإنسان إلى صنع بعض أنواع الآلات على الأقل؛ فأرشميدس - العالم اليوناني المشهور - قد صنع بعض أنواع الآلات التي تسير بطريقة أوتوماتيكية، ولكنه كان يعاملها على أنها «لعب» يلهو بها الإنسان، بل كان يخجل من الإشارة إليها في أبحاثه؛ لأن ظروف المجتمع في العصر الذي كان يعيش فيه لم تكن تتطلب وجود آلات. وهكذا فإنه مع معرفته بطريقة إنتاج الآلات لم يحاول أن يستعين بها في ميدان العمل البشري الجاد. وفي العصر الذي احتاج فيه المجتمع إلى الآلة في ميدان العمل، ظهرت الآلة بالفعل، وإذا كان القارئ يجد صعوبة في الاقتناع بهذه الحقيقة، أو يجد الموضوع معقدا إلى درجة يصعب على العقل استيعابها، فليتذكر أن هناك مثلا بسيطا نستخدمه كلنا في لغتنا العربية، وأعني به: «الحاجة أم الاختراع.» وهذا المثل يتضمن كل ما قلناه من قبل في هذا الموضوع؛ فهو يدل في عبارة موجزة على أن هناك ارتباطا وثيقا بين مستوى التكنولوجيا في أي عصر وبين حاجات المجتمع، وعلى أن الاختراع لا يظهر إلا إذا كانت الظروف الاجتماعية مهيأة لظهوره؛ أي إنه يعبر عن العنصر الرابع والأخير في معنى التكنولوجيا؛ أي البعد الاجتماعي، وأعني به أن التكنولوجيا تظهر لكي تسد نقصا يشعر به المجتمع في مرحلة معينة من مراحل تطوره.
وبالجمع بين هذه العناصر كلها نستطيع أن نعرف التكنولوجيا بأنها الأدوات أو الوسائل التي تستخدم لأغراض عملية تطبيقية، والتي يستعين بها الإنسان في عمله لإكمال قواه وقدراته، وتلبية تلك الحاجات التي تظهر في إطار ظروفه الاجتماعية ومرحلته التاريخية الخاصة.
1
وما دمنا قد تحدثنا عن وجود صلة وثيقة بين مستوى التكنولوجيا في أي عصر وحاجات المجتمع في ذلك العصر، فمن واجبنا أن نتساءل: هل يعد العلم واحدا من العوامل التي تحدد حاجات المجتمع؟ إن المجتمع قد يحتاج إلى اختراع تكنولوجي معين لكي يحل مشكلة تتعلق بالزراعة أو بحرفة يدوية أو بالصناعة، ولكن هل يدخل العلم دائما ضمن العناصر التي تتحكم في تحديد هذه المشكلة، وفي توجيه التكنولوجيا إلى حلها؟ وبعبارة أوضح: هل كان العلم مرتبطا بالتكنولوجيا في جميع عصورها؟
إن أبسط نظرة يلقيها المرء على التطور التكنولوجي للإنسان عبر العصور المختلفة تقنعه بأن الاتصال الوثيق بين العلم والتكنولوجيا ظاهرة حديثة العهد، وإذا كنا قد ذكرنا من قبل أن التكنولوجيا ظاهرة موغلة في القدم، وأنها تمتد بقدر ما يمتد تاريخ الإنسان، فينبغي أن ندرك أنها كانت طوال الجزء الأكبر من هذا التاريخ تسير على نحو مستقل عن العلم، وتتطور دون أن تكون معتمدة عليه.
فكل ما توصل إليه الإنسان من كشوف واختراعات تكنولوجية في العصور القديمة، قد تحقق بمعزل عن العلم، ونحن نعلم أن عصور ما قبل التاريخ تقسم إلى مراحل كبرى كالعصر الحجري والبرونزي والعصر الحديدي، وهذه المراحل تعبر في الواقع عن مستوى التكنولوجيا في كل عصر؛ ففي العصر الحجري كانت أهم الأدوات المستخدمة لمساعدة الإنسان في عمله مصنوعة من الحجر، وهلم جرا ... ومن المؤكد أن الانتقال من عصر إلى آخر يعبر عن تطور تكنولوجي هائل بمقاييس العصور القديمة؛ إذ إن قدرة الإنسان على استخدام معدن كالحديد مثلا تعني تقدما كبيرا في استخدام النار لأغراض الصناعة وفي استخراج الخام من الأرض وفي تشكيل الحديد المصهور ... إلخ، ولكن هذه التطورات كلها لم تكن تدين للعلم بشيء؛ فالذين قاموا بها لم يكونوا علماء، ولم يكونوا قد درسوا نظريات علمية معينة ثم طبقوها فأتاح لهم تطبيقها التوصل إلى اختراع جديد، بل كان هؤلاء صناعا مهرة، توارثوا خبراتهم جيلا بعد جيل، وأضافوا إليها من تجاربهم الخاصة فتطورت صنعتهم ببطء شديد مما جعل الانتقال من عصر إلى آخر يستغرق آلاف السنين، وخلال ذلك لم يكن المبدأ المتحكم في عملهم هو الدراسة، بل كان مبدأ المحاولة والخطأ والتجربة العشوائية في كثير من الأحيان؛ بحيث إن المحاولة التي تصيب، والتجربة التي تنجح بالعلاقة، تتناقل من جيل إلى جيل، وهكذا فإن كشوفا حاسمة في تاريخ البشرية كالنار والخزف والنسيج والعجلة والسفينة تم تحقيقها على نحو مستقل تماما عن العلم.
2
وينطبق ذلك أيضا على العصر اليوناني القديم الذي طورت فيه التكنولوجيا في بعض الميادين، ولكنها ظلت منفصلة عن العلم. بل إن هذا الانفصال قد ازداد حدة نظرا إلى ذلك الفهم الخاص للعلم الذي ذكرنا من قبل أن اليونانيين كانوا يتمسكون به، وهو أن العلم جهد نظري يستهدف إرضاء حب الاستطلاع لدى العقل الإنساني، ولا يتجه إلى تحقيق أية أغراض عملية. وبالمثل فإن العصور الوسطى الأوروبية والإسلامية - بل وأوائل العصر الحديث - قد شهدت كشوفا تكنولوجية هامة لم تكن مبنية على أساس علمي، فاختراع البارود الذي كان له تأثير حاسم في الحروب، والطباعة التي غيرت مجرى العلم والثقافة، والعدسات المكبرة والمقربة التي كشفت للإنسان أبعاد الكون الشاسع وتفاصيل الحياة الدقيقة؛ كل هذه الكشوف تمت على أيدي صناع مهرة، لا يسترشدون في عملهم بنظرية علمية، بل يستعينون بما توارثوه من خبرات، وبما يضيفونه إليها باجتهادهم وحدسهم الشخصي، وبما يستشعرونه من حاجة المجتمع الملحة إلى هذه الاختراعات.
ولو شئنا الدقة لقلنا: إن التكنولوجيا هي التي كانت تؤثر في العلم طوال هذه الفترة، فكل مرحلة هامة من مراحل الكشف كان يسبقها تقدم تكنولوجي يمهد لها الطريق. وصحيح أن هذا التقدم التكنولوجي لم يحدث لأسباب متعلقة بالعلم، وأن الصناع الذين حققوه لم تكن في أذهانهم أدنى فكرة عما يمكن أن يترتب على عملهم من تأثير علمي لاحق، ولكن العلماء كانوا يتأثرون - عن وعي أو بغير وعي - بالكشوف التكنولوجية، ويتخذون منها منطلقا لأبحاثهم النظرية، والدليل على ذلك أن العلم اليوناني - كما ذكرنا من قبل - يدين بالكثير لتلك الخبرات التكنولوجية التي تراكمت لدى الحضارات الشرقية القديمة، والتي أعطت العالم النظري حافزا قويا للتأمل والتفكير، ولولا هذا التراكم الضخم من المعارف العملية لما استطاع العلم اليوناني النظري أن يحقق إنجازاته هذه في تلك الفترة الوجيزة. ومثل هذا يمكن أن يقال عن الفترة التي بدأ فيها ظهور العلم الأوروبي الحديث في عصر النهضة؛ إذ إن العصور الوسطى الأوروبية لم تكن فترة خاملة من الوجهة التكنولوجية، بل ظهرت فيها مجموعة من الاختراعات ذات الأهمية الحاسمة التي كان لها دور كبير في الانبثاق المفاجئ والتقدم المتلاحق للعلم الأوروبي خلال فترة وجيزة.
فمن المؤكد مثلا أن تطوير الساعة بحيث تصبح جهازا ميكانيكيا (بدلا من الساعة الرملية أو الشمسية أو المائية) يدل على الوقت بدقة، كان له دور كبير في علوم كثيرة يستحيل إجراء ملاحظاتها أو تجاربها إلا باستخدام توقيت دقيق، كذلك فإن طواحين الهواء والماء - التي أحرزت تقدما ملحوظا في العصور الوسطى - قد ساعدت على ظهور علم الميكانيكا الذي كان أهم العلوم وأدقها في المرحلة الأولى من تاريخ العلم الحديث. أما كشف العدسات فقد كان تأثيره العلمي حاسما؛ إذ إن التلسكوب الذي استخدمه جاليليو كان أداة عظيمة الأهمية في أبحاثه العلمية النظرية في ميدان الفلك والطبيعة، وبالمثل فإن ظهور الميكروسكوب الذي تم على أيدي صناع بارعين في صقل العدسات - لم تكن لديهم خبرة علمية كافية - قد ساعد علماء آخرين على كشف عالم الأحياء الصغيرة الدقيقة، بحيث يمكن القول دون مبالغة إن ظهور علم الأحياء بوصفه دراسة ذات منهج علمي راسخ يرجع إلى هذا الكشف التكنولوجي قبل كل شيء.
وإذن فطوال الجزء الأكبر من تاريخ البشرية لم تكن التكنولوجيا تدين للعلم بشيء، بل كان العلم هو المدين لها بالكثير، حتى في تلك الفترات التي كان يتصور فيها أنه علم نظري خالص منبثق عن العقل وحده. ويمكن القول: إن هذا الوضع قد استمر حتى عصر الثورة الصناعية في القرن الثامن عشر، بل ظل قائما في مجالات معينة طوال جزء كبير من القرن التاسع عشر.
ولكن شيئا جديدا كان قد بدأ يظهر في هذا المجال منذ بداية العصر الحديث في العلم الأوروبي، أعني منذ القرن السادس عشر أو السابع عشر، ولم يأت هذا الشيء الجديد بنتائج واضحة في البداية، ولكنه كان نقطة البدء في تطور أصبح له في عصرنا الحاضر أهمية عظمى في حياة الإنسان، هذا الشيء الجديد هو التفكير في استخدام العلم للأغراض التكنولوجية، بحيث لا تترك الكشوف التكنولوجية لبراعة الشخصية أو تدريبه الفعال، وإنما تعتمد على نظرية علمية مؤكدة. ولقد ذكرنا من قبل أن الفيلسوف الإنجليزي «فرانسيس بيكون» كان رائدا في هذا الميدان، دعا إلى نوع جديد من العلم، لا يكون هدفه إرضاء الطموح النظري للعقل البشري، بل يكون هدفه تحقيق سيطرة الإنسان على الطبيعة، وتسخير قواها لخدمته وإسعاد حياته. وصحيح أن دعوة بيكون هذه - التي ظهرت في أواخر القرن السادس عشر وأوائل السابع عشر - لم تؤت ثمارها كاملة إلا بعد قرنين أو أكثر من وفاته، ولكنها نقطة الانطلاق نحو عصر جديد، ونحو فهم جديد لوظيفة العلم وعلاقته بالتكنولوجيا.
ولقد كانت دعوة بيكون هذه هي التي حفزت الإنجليز على إنشاء الجمعية الملكية للعلوم على النحو الذي أوضحناه من قبل، ومما يثبت أن تأثير بيكون كان حاسما في هذا المجال أن الأهداف التي وضعتها هذه الجمعية لنفسها تكاد تكون صورة طبق الأصل مما سبق أن دعا إليه بيكون في كتاباته. وكان الجانب العلمي أو التطبيقي يحتل مكانة بارزة وسط الأبحاث التي قام بها أعضاء هذه الجمعية منذ مراحلها الأولى؛ فقد لاحظ بعض الباحثين أن الجمعية قد أجرت خلال سنواتها الأربع الأولى بحوثا تستهدف حل حوالي ثلاثمائة مشكلة، ومن بين هذه المشكلات مائتان لها تطبيقات عملية في صناعة التعدين والملاحة البحرية،
3
وهما صناعتان أساسيتان في الحياة الاقتصادية لذلك العصر؛ إذ إن التعدين هو أساس الصناعة، والملاحة البحرية هي وسيلة التجارة وتصريف المنتجات.
ولكن الأمر الذي ينبغي تأكيده هو أن المسألة لم تكن مجرد عبقرية شخصية من بيكون - وإن كان لهذا العنصر أهميته التي لا تنكر - بل إن بيكون كان يعيش في جو جديد استطاع أن يكتشف فيه اتجاهات المستقبل قبل أن تظهر معالمها بوضوح، وأن يتخذ من الدعوة إليها رسالة لحياته الفكرية. وكان هذا الجو هو انهيار الإقطاع في أوروبا، وظهور مجتمع تجاري ثم رأسمالي له احتياجات تكنولوجية هائلة تعجز عن الوفاء بها أساليب الصناع القديمة مهما كانت براعتهم، وهكذا كان من الضروري أن يدعو بيكون إلى إعطاء التقدم التكنولوجي دفعة قوية إلى الأمام عن طريق ربطه بالبحث العلمي، ولم يكن من الممكن أن تظهر ثمار هذه الدعوة دفعة واحدة، بل كانت في حاجة إلى فترة تمهيدية تتراكم فيها المعرفة العلمية، وتقترب فيها من مجال التطبيق التكنولوجي بالتدريج، ولكن المرء حين يتأمل جيدا دلالة دعوة بيكون هذه - الذي أطلق عليه البعض عن حق لقب «فيلسوف الثورة الصناعية» قبل ظهور هذه الثورة بمائتي عام - وكذلك اتجاه الأبحاث التي كانت تتولاها الجمعية الملكية في لندن؛ سيقتنع بأن ظهور الثورة الصناعية في إنجلترا بالذات وريادتها للعالم في الميدان الصناعي حتى أواسط القرن التاسع عشر لم يكن على الإطلاق من قبيل المصادفات.
وكما قلنا: فقد كان لا بد من مضي فترة انتقالية منذ دعوة بيكون حتى الوقت الذي تحقق فيه التلاحم الوثيق بين العلم والتكنولوجيا، وخلال هذه الفترة ظهر نوع جديد من التخصص يحتل موقعا وسطا بين العالم والصانع، هو مهنة «المهندس
Engineer » التي لم تكن معروفة من قبل؛ فالمهندس لم يظهر إلا في العصر الحديث، وهو يجمع في مهنته بين المعرفة النظرية وبين فهم التطبيقات العملية والقدرة على تنفيذها. وربما كانت مهمة المهندس تطويرا لعمل الصناع المهرة، بعد أن اتضح أن البراعة الشخصية والخبرات المتوارثة لم تعد تكفي لمواجهة المتطلبات العملية للعصر الجديد، وأن من الضروري إدخال المعارف العلمية في الميدان التكنولوجي. وكان في وسع المهندس أن يسدي إلى البحث العلمي خدمات جليلة؛ إذ كان لديه من الفهم العلمي ما يتيح له أن يحول الخطة العقلية التي يرسمها العالم في ذهنه إلى تجربة تجرى في مختبر، وبذلك ساعد على تقدم العلم التجريبي مساعدة فعالة.
وعلى يد هؤلاء المهندسين حدثت في عصر الثورة الصناعية تلك التحولات الكبرى التي غيرت وجه العالم الحديث؛ فحلت الطاقة البخارية محل الطاقة المائية أو طاقة الحيوانات (الخيل مثلا)، واستخدم الفحم وقودا للمصانع على نطاق واسع، وأصبحت عمليات الغزل والنسيج تتم في مصانع ضخمة لا في ورش فردية صغيرة، وبدأت الإنسانية تجني ثمار الجمع بين العلم والخبرة العملية التطبيقية.
ومنذ ذلك الحين أخذ ذلك الاتجاه إلى الجمع بين العلم والتكنولوجيا يزداد قوة بالتدريج، بعد أن ظهرت فائدته العملية بوضوح قاطع؛ إذ إن التطور الذي كان يستغرق مئات السنين على أيدي صناع مهرة أصبح يستغرق سنوات قليلة عندما يتدخل فيه العلم ويحل محل الخبرات المتوارثة التي لا تتجدد إلا ببطء شديد، واكتسب الإنتاج في مختلف الميادين قوة دافعة هائلة بفضل الاتحاد الذي ازداد وثوقا بين النظريات الأساسية وتطبيقاتها العملية. بل لقد أصبح ميدانا العلم والتكنولوجيا يستخدمان أساليب مشتركة ولغة واحدة، وظهر نوع جديد من البحث العلمي أخذ يكتسب أهمية متزايدة، ويحتل موقعا وسطا بين العلم النظري والصناعة هو «البحث التطبيقي» الذي يأخذ على عاتقه مهمة تحويل الكشوف النظرية الجديدة إلى مشروعات قابلة للتطبيق عمليا. وليس معنى هذا أن البحوث «الأساسية» - أعني تلك البحوث التي تكون الأساس النظري للتقدم العلمي، وتزود العلماء بفهم جديد لقوانين الطبيعة - لم تعد لها أهمية؛ إذ إن أحدا لا ينكر أن هذه البحوث هي دعامة كل تقدم علمي حقيقي - بل كل تقدم تكنولوجي - في أي مجتمع، ولكن المهم في الأمر أن نسبة الأبحاث التطبيقية إلى مجموع الأبحاث العلمية أخذت تزداد باطراد.
ولكن الأمر الذي يلفت النظر في عصرنا الحالي هو أن البحوث الأساسية - التي لها طبيعة نظرية خالصة - تتحول في أقصر وقت إلى تطبيقات إنتاجية؛ فالمسافة الزمنية بين ظهور البحث النظري واكتشاف تطبيقاته العملية قد قلت إلى أبعد حد في عصرنا الحالي، وقد أجرى بعض العلماء مقارنة بين الفترات الزمنية التي كان يستغرقها الوصول من الكشف العلمي النظري إلى التطبيق في ميدان الإنتاج منذ عصر الثورة الصناعية حتى اليوم، فتبين لهم ما يلي: «احتاج الإنسان إلى 112 سنة (أي من عام 1727 إلى 1839) لتطبيق المبدأ النظري الذي يبني عليه التصوير الفوتوغرافي، وإلى 56 سنة (أي من 1820 حتى 1876) لكي يتوصل من النظريات العلمية الخالصة إلى اختراع التليفون، وإلى 35 سنة (من 1867 إلى 1902) لظهور الاتصال اللاسلكي، وإلى 15 سنة (من 1925 إلى 1940) للرادار، و12 سنة (من 1922 إلى 1934) للتلفزيون، و6 سنوات (من 1939 حتى 1945) للقنبلة الذرية، وخمس سنوات (1948-1953) للترانزيستور، وثلاث سنوات (1959-1961) لإنتاج الدوائر المتكاملة.»
4
ومن المؤكد أن طول أو قصر المدة الزمنية التي يحتاج إليها الانتقال من الأساس النظري لكشف معين إلى ظهور الاختراع الفعلي، يتوقف على عوامل متعددة من بينها مدى الحاجة الاجتماعية إلى هذا الاختراع، ومقدار الوقت والجهد والمال الذي يبذل من أجل التوصل إليه؛ فمشروع إنتاج القنبلة الذرية - مثلا - كان مشروعا حيويا خلال فترة حرب قاسية، بل كان مسألة حياة أو موت، وكان يمثل سباقا رهيبا مع الزمن حتى لا يظهر هذا السلاح الفتاك عند النازيين فيصبح أداة لتحقيق أحلام دكتاتور مجنون مثل هتلر، ومن هنا كرست له موارد أغنى دول العالم، وأعطيت له أولوية مطلقة على ما عداه من المشروعات، وتفرغ له أعظم علماء الطبيعة في القرن العشرين، ولكن من الصحيح - رغم هذا كله - أن الشقة تضيق تدريجيا بين العلم النظري والتكنولوجيا التطبيقية كلما اقتربنا من العصر الحاضر.
بل إن المشكلة في أيامنا هذه قد أصبحت - في بعض الأحيان - هي مشكلة التسرع في التطبيق التكنولوجي قبل القيام بأبحاث علمية كافية. وقد ذاعت في العالم - في السنوات الأخيرة - فضيحة العقاقير الطبية التي أنتجت على نطاق تجاري قبل أن تمر مدة كافية لإجراء التجارب والبحوث التي تكشف عن أضرارها في المدى الطويل، وكان من نتيجة هذا التسرع في الإنتاج ولادة مئات من الأطفال المشوهين، أو عدد كبير من التوائم غير المرغوب فيهم، ومثل هذا ينطبق على كثير من مبيدات الآفات الزراعية التي تبين وجود أضرار جانبية خطيرة لها.
وعلى أية حال، فإن ما يهمنا من هذا كله هو أن العصر الحالي يشهد تداخلا وثيقا بين العلم والتكنولوجيا، زالت معه الحواجز الزمنية التي كانت تفصل بينهما في القرن الماضي، وظهرت في ظله أنواع جديدة من البحوث العلمية التي تجمع بين الأسس النظرية والجوانب التطبيقية في آن واحد. ونتيجة هذا هي أن العلم أصبح هو الأساس المؤكد لكل تحول تكنولوجي، وأن ما يقوم به الصانع المخترع أصبح يقوم به الآن عالم تطبيقي متخصص.
ولا شك أن التأثير الذي يسير في الاتجاه المضاد له بدوره أهميته الحاسمة: فكما أصبحت التكنولوجيا في عصرنا الحاضر متقدمة إلى حد مذهل بفضل ارتكازها على أساس من البحث العلمي، فكذلك أحرز العلم قدرا كبيرا من نجاحه السريع بفضل مساندة التكنولوجيا؛ إذ إن التكنولوجيا هي التي تعطيه أجهزة أدق وأدوات أفضل للبحث وطرقا أكثر فعالية لاختزان المعلومات واستعادتها بسرعة فائقة، وبالاختصار فإن هذا الامتزاج والتأثير المتبادل بين العلم والتكنولوجيا هو المصدر الأول لقوة الإنسان المعاصر.
هذا التحالف الوثيق بين العلم والتكنولوجيا - الذي رأينا أنه مصدر قوة الإنسان المعاصر - كان وما يزال يثير ردود أفعال متباينة بين المفكرين. وعلى الرغم من أننا نميل إلى تأكيد الرأي السابق، وأعني به أن البشرية قد أحرزت كسبا هائلا منذ أن عرفت كيف تربط بين العلم والتكنولوجيا، وتمكنت بذلك من أن تنهض بحياتها كما وكيفا على نحو كان من المستحيل تصوره أو حتى تخيله في أي عصر؛ على الرغم من ذلك فإن من واجبنا أن نعرض بإيجاز - قبل أن نختتم هذا الفصل - للآراء المختلفة التي يعرب فيها المفكرون عن تفاؤلهم أو تشاؤمهم إزاء هذه القوة الضخمة التي اكتسبها الإنسان الحديث بعد أن عرف كيف يزاوج بين العلم والتكنولوجيا: (1)
فهناك رأي متشائم عرضه بعض المفكرين، وخاصة أولئك الذين تغلب عندهم النزعة الأدبية، يذهبون فيه إلى أن هذا التزاوج بين العلم والتكنولوجيا سيخلق آلات ذات قدرات تزداد تعاظما على الدوام، حتى يأتي الوقت الذي يفلت فيه زمامها من يد الإنسان فتنقلب عليه وربما قضت عليه أو جعلته عبدا لها. ويبالغ نفر من هؤلاء المفكرين في تشاؤمهم فيتصورون مجيء يوم تكتسب فيه تلك الآلات التي يخلقها الإنسان نوعا من الوعي بذاتها، وحين تشعر بقدرتها التي تفوق بكثير قدرة الإنسان الذي أبدعها؛ تدرك أن الإنسان كائن يمكن الاستغناء عنه، وتحقق هذا الهدف بالفعل، ويسود عهد الآلة الصماء التي تحكم العالم بقوة «الحديد والنار» بالمعنى الحقيقي لهذا التعبير المشهور. (2)
وهناك رأي آخر يتطرف في الاتجاه المضاد، فيذهب إلى أن الآلة هي التي ستحرر الإنسان من كل أشكال العبودية، وتأخذ بيده في طريق المستقبل الذي يحلم به. وأصحاب هذا الرأي يتصورون أن تقدم التكنولوجيا هو - في ذاته - ضمان ضد كل أنواع القهر، سواء أكان ذلك هو قهر الطبيعة للإنسان، أم قهر الإنسان للإنسان. وهكذا يدعو هؤلاء المتفائلون إلى إطلاق العنان للتقدم التكنولوجي بلا قيود، ويرون في التطور الذاتي التلقائي للآلة مبشرا بعهد جديد يحقق للإنسان الوفرة ويعفيه من كل جهد. (3)
أما الرأي الثالث فيخالف الرأيين السابقين في تأكيده أن الآلات - مهما ارتقت - إنما هي أداة طيعة في خدمة الإنسان، وستظل كذلك على الدوام، وأصحابه يعيبون على المتشائمين والمتفائلين من تجاهلهم لدور الإنسان في توجيه مسار التكنولوجيا، وإنكارهم لذلك البعد الاجتماعي الذي يتحكم في طريقة استخدام الإنسان للآلة، سواء لمصلحته أو ضد مصلحته؛ فالتكنولوجيا المنبثقة عن العلم والمتداخلة معه هي - قبل كل شيء - ناتج إنساني اجتماعي، ولن يصبح لها ذلك الاستقلال الذاتي المزعوم إلا في ضوء نظرة خيالية مغرقة في التشاؤم أو التفاؤل، لا تقيم وزنا لتأثير المجتمع في نوع الإنجازات العلمية التي تحقق فيه، ولا تدرك أن العلم والتكنولوجيا إنما هما حصيلة جهد مجتمع كامل وثمرة معارفه وأنشطته كلها، وأن نوع المجتمع الذي يظهر فيه العلم هو الذي يحدد ما إذا كان هذا العلم سيسير في اتجاه عدواني أم في اتجاه يستهدف إسعاد الإنسان.
وغني عن البيان أن الرأي الثالث هو الذي يعد - في نظرنا - تعبيرا عن الوضع الحقيقي للتكنولوجيا في العالم المعاصر، وفي ضوء هذا الرأي يستطيع المرء أن ينقد الرأيين السابقين بسهولة.
ولنبدأ أولا بالرأي المتشائم؛ فقد يبدو للوهلة الأولى أن القائلين بهذا الرأي هم من السذج أو ضعاف النفوس الذين يرتعدون خوفا من تقدم التكنولوجيا الحديثة، ولكن الحقيقة على خلاف ذلك؛ فهم في الواقع يمتدون بخيالهم إلى المستقبل الذي يستشفون معالمه من خلال تلك البوادر التي بدأت تظهر في الحاضر، وهم يؤمنون بأن العقل البشري الذي انتقل في مائة سنة من الآلات الحديدية الضخمة القبيحة ذات الفعالية المحدودة إلى العقول الإلكترونية الصغيرة عظيمة الكفاءة، قادر على أن يصل بالآلة - بعد مائة سنة أخرى مثلا - إلى مستوى قد يصبح مهددا بالفعل، وإذا كان في تفكيرهم ضعف فهو لا ينصب على تصورهم لمستقبل التكنولوجيا بل على تصورهم لعلاقة هذه التكنولوجيا شديدة التقدم بالإنسان.
ذلك لأن هؤلاء المتشائمين ينظرون إلى التكنولوجيا بوصفها قوة لها استقلالها الذاتي وتطورها الخاص الذي يسير في طريقه غير عابئ بالإنسان، ومن هنا يشيع بينهم الخوف من أن يأتي وقت تستولي فيه الآلات - بعد أن يزداد تطورها وتشعر بقدرتها الفائقة - على العالم وتبيد الإنسان على أساس أنه كائن لم يعد له داع، بحيث تسود العالم أجهزة باردة جامدة لا تعرف العواطف أو المشاعر. أي إن وجهة نظرهم هي أن ذلك الجهد الهائل الذي ظل الإنسان يبذله طوال تاريخه لكي يحقق سيطرته على الطبيعة، سوف يصل إلى الحد الذي ينقلب فيه على الإنسان؛ بحيث يصبح الإنسان ذاته عبدا للقوى التي أطلقها على أمل أن يستعبد بها الطبيعة، وكأن الطبيعة هنا تنتقم لنفسها من قهر الإنسان لها طوال عصره الحديث، وهذا الاتجاه الفكري الذي يسير فيه هؤلاء المتشائمون ينطوي كله على الاعتقاد أو على الافتراض الضمني القائل أن هذه الآلات تحكم نفسها بنفسها، وتسير تلقائيا في طريقها الخاص، وهو اعتقاد يتجاهل البعد الإنساني في التكنولوجيا، ويتأمل التطور التكنولوجي بنظرة أحادية الجانب.
وحين يبدي هؤلاء المتشائمون جزعهم من أن يأتي اليوم الذي تستعبد فيه الآلة مبدعها - وهو الإنسان - فإنه وهكذا فإن التحليل في الواقع يعبرون - دون أن يشعروا - عن نظرة متشائمة إلى طبيعة الإنسان نفسه؛ ذلك لأنهم يسقطون وحشية الإنسان وهمجيته وعدوانيته على الآلة التي هي بطبيعتها سلبية محايدة، والتي لا تفعل إلا ما نأمرها به، وقد يكون هذا الإسقاط تعبيرا عن ضمير مثقل بالشرور والذنوب، وقد يكون محاولة للتهرب من مسئوليتنا عن الفوضى التي نشيعها في العالم نتيجة لإخفاق نظمنا الاجتماعية الفاسدة، بحيث نلقي باللائمة على الآلة بدلا من أن نلوم أنفسنا. وأيا كان الأمر، فنحن في كل حالة نبدي فيها تشاؤما بمستقبل الإنسان وطريقة توجيهه لمجتمعه، نتستر على عيوب نظمنا الاجتماعية باتهام العلم والتكنولوجيا، مع أنهما بريئان من كل ما ندينهما به.
الحقيقة لموقف هؤلاء المتشائمين ليس هو أن الإنسان سيصبح عبدا للتكنولوجيا التي اخترعها، بل إن التكنولوجيا ستصبح شيئا مخيفا؛ لأنها ستكون عبدا خاضعا لإنسان تسود العدوانية سلوكه.
ولسنا في حاجة إلى التوقف طويلا عند رأي المتفائلين؛ إذ إن هذا الرأي - بقدر ما يعتمد على «التطور الذاتي للتكنولوجيا» من أجل حل جميع مشكلات الإنسان - ليس إلا الوجه الآخر للعملة بالنسبة إلى الرأي المتشائم، وكل ما قلناه من قبل في نقد هذا الرأي الأخير ينطبق عليه، ولكن من الجانب المضاد بطبيعة الحال؛ فليس من حقنا أن نغرق في التفاؤل إلى حد الاعتقاد بأن الآلة قادرة على تحقيق السعادة للبشر، أو تخليصه من الشقاء والمعاناة «بجهودها الخاصة» أو «بتطورها التلقائي»؛ إذ إننا بذلك نعفي أنفسنا من مسئولية إصلاح أوضاعنا، ونلقي بهذه المسئولية على الآلة، مع أن الإنسان وحده هو القادر على حل المشكلات التي أوقع نفسه فيها، مستعينا في ذلك - طبعا - بالتقدم التكنولوجي.
ولقد لخص أحد الرواد العظام للتكنولوجيا في عصرنا الحاضر - وهو نوربرت فوربرت فينر
N. F. Wiener
5
مكتشف السيبرنطيقا - الحدود التي لا ينبغي أن يتعداها إيماننا بقدرات الآلة أو خوفنا من طغيانها بقوله: «أعط ما للإنسان للإنسان، وما للعقل الإلكتروني للعقل الإلكتروني.» وكان يعني بذلك أن الإنسان يظل له دوره الهام والأساسي في عصر التقدم التكنولوجي المذهل، وأن أرقى أنواع الآلات تظل على الدوام أداة طيعة في يد صانعها، وتتجه - إن خيرا وإن شرا - في نفس الطريق الذي يريدها الإنسان أن تسلكه.
الفصل الخامس
لمحة عن العلم المعاصر
(1) الأساس النظري
كان العلم الأوروبي عند مطلع العمر الحديث علما ميكانيكيا في المحل الأول؛ فالميكانيكا نفسها كانت أهم العلوم وأدقها، وبفضلها تحققت مجموعة كبيرة من كشوف القرنين السابع عشر والثامن عشر، والأهم من ذلك أن نموذج المعرفة ذاته كان هو النموذج الآلي؛ أعني أنك تستطيع أن تفهم الظواهر على أفضل نحو إذا استطعت أن تنظمها في نسق تكون فيه كل منها مؤدية إلى الأخرى بطريقة آلية خالصة، بل إن الكون كله كان في نظر فلاسفة العصر الحديث آلة ضخمة تسير في عملها بانتظام الساعة الدقيقة، وعلاقة الله بالعالم أشبه بعلاقة الصانع بصنعته؛ بمعنى أن العالم قد صنع متقنا منذ البداية، ويظل يسير في طريقه بعد ذلك بنفس الدقة والانتظام اللذين صنع بهما.
وكانت أهم العوامل المؤدية إلى دعم هذه النظرة الآلية إلى العلم: إمكاناتها التطبيقية الهائلة التي بلغت قمة نجاحها بظهور الآلة البخارية وبداية عصر جديد من عصور الإنتاج البشري، وكان من الطبيعي أن يواكب هذا النجاح إيمان بأن فكرة الآلية تنطبق على كل شيء حتى على الأجسام الحية، بل وعلى الإنسان نفسه. وفي القرن الثامن عشر كان فلاسفة عصر التنوير الفرنسيين من أقوى دعاة هذا الفهم الجديد للعلم، ومن هنا كانت حملتهم على كل أشكال التفكير الغيبي والميتافيزيقي، ودعوتهم إلى فهم كل الظواهر بنفس المنهج الذي ثبت نجاحه في العلم. وظل هذا الاتجاه مستمرا طوال الجزء الأكبر من القرن التاسع عشر، وكان الناطق باسمه هو الفيلسوف الفرنسي «أوجست كونت»
Auguste Conte
الذي نادى بفلسفة ترتكز على التجربة الدقيقة، ولا تعترف إلا بالمعرفة المستمدة من الملاحظات والتجارب العلمية، وأكد أن المرحلة العلمية التجريبية هي أعلى المراحل التي يصل إليها العقل البشري عند نضوجه، وأنها هي التي ينبغي أن تحل محل كل ألوان التفكير الأسطوري واللاهوتي والميتافيزيقي التي سادت في العصور الغابرة.
وقد أدى ظهور نظرية التطور على يد دارون - في أواسط القرن التاسع عشر - إلى إعطاء هذا الاتجاه الآلي دفعة قوية؛ إذ إن هذه النظرية فسرت تطور الأنواع الحية وتنوع صفاتها بمضي الزمن تفسيرا آليا بحتا، لا دخل فيه إلا للعوامل الطبيعية الخاصة بالتكيف مع البيئة، وكان معنى ذلك أن مبدأ الآلية لا يسري على الظواهر الطبيعية فحسب، بل ينطبق على الأحياء بدورهم، وقد عبر الطبيب الفرنسي المشهور «كلود برنار»
Claude Bernard
أدق تعبير عن تلك المرحلة التي أعلن فيها انتصار النظرة الآلية إلى العالم انتصارا مطلقا بتطبيقها على ظاهرة الحياة، لا على الظواهر الطبيعية غير الحية فحسب؛ وذلك في نص مشهور يقول فيه: «هناك بديهية تجريبية ينبغي التسليم بها؛ هي أن شروط وجود أية ظاهرة يمكن تحديدها بطريقة قاطعة، وأن هذا يسري على مجال الكائنات الحية مثلما يسري على الأجسام الجامدة. على أن هناك أناسا ينادون بمذهب يطلقون عليه اسم النزعة الحيوية، وباسم هذا المذهب يقولون بأفكار شديدة البطلان في هذا الموضوع؛ إذ يعتقدون أن دراسة ظواهر المادة الحية لا يمكن أن تكون لها أدنى صلة بدراسة ظواهر المادة غير الحية. وهم يتصورون أن للحياة تأثيرا غامضا خارقا للطبيعة، يمارس فاعليته بطريقة عشوائية، متحررا من كل حتمية. أما أولئك الذين يبذلون جهودهم من أجل تفسير الظواهر الحيوية عن طريق عوامل كيميائية وفيزيائية محددة، فإنهم يصفونهم بأنهم ماديون ... وتلك كلها أفكار باطلة ...»
1
وظل هذا الاتجاه العلمي الآلي في صعود خلال النصف الثاني من القرن التاسع عشر، بل لقد بلغ في تلك الفترة قمة نجاحه عندما تلاحقت النظرية والتطبيقات العملية التي غيرت وجه الحياة في العالم؛ كاختراع التليفون والتلغراف والتصوير الفوتوغرافي والسينما والسيارة والطائرة، وكانت نتيجة ذلك هي سيادة نوع من الإيمان المتطرف بالعلم، وصل إلى حد الاعتقاد بأن العلم الدقيق هو الشكل الوحيد الذي ينبغي للإنسان أن يعترف به من بين سائر أشكال المعرفة، وبأن الحقيقة في جميع مجالاتها - يستوي في ذلك أعماق الإنسان الباطنة وأطراف الكون الخارجية - لا تتكشف إلا عن طريق منهج تجريبي، وأن المعرفة العلمية الدقيقة بأسباب الظواهر هي وحدها القادرة على أن تأخذ بيد البشرية في الطريق الموصل إلى السعادة والكمال، وإذا لم تكن هذه النزعة العلمية المتطرفة قد تجاهلت أنواع المعرفة التي يقدمها إلينا الفن أو الشعر أو الأدب أو الاستبصار الأخلاقي، فإنها كانت تدعو إلى قيام هذه الأنواع كلها على أسس تجريبية، وبنائها على وقائع تخضع للملاحظة والتحقيق التجريبي.
على أنه في نفس الوقت الذي بلغ فيه هذا الاتجاه الآلي في العلم أوج النجاح في أواخر القرن التاسع عشر، بدأت الصورة تتغير بسرعة، وظهرت عوامل متعددة أدت إلى تزعزع هذا الاعتقاد بأن المعرفة التجريبية - المرتكزة على وقائع يمكن ملاحظتها وحسابها بدقة كاملة - هي النمط النموذجي لكل أنواع المعرفة الأخرى، أو هي وحدها التي تصلح منهجا للبحث العلمي؛ فقد ظهرت في علم الفيزياء كشوف شككت العلماء في أن يكون عالم الجزئيات المادية الدقيقة - أعني عالم ما دون الذرة - خاضعا لمسار حتمي دقيق يمكن التنبؤ به مقدما، وتبين أن المادة تتبدد على شكل طاقة، وكان معنى ذلك التشكيك في مبدأ أساسي من مبادئ النظرية الآلية في العلم؛ وأعني به الاعتقاد بأنه لا شيء يتحول إلى العدم أو يظهر من العدم. ويمكن القول إن الصورة الجديدة للعالم - كما تتضح من خلال الكشوف العلمية الحاسمة في فترة الانتقال من القرن التاسع عشر إلى القرن العشرين - أصبحت بعيدة كل البعد عن ذلك العالم الذي هو أشبه بآلة ضخمة تتحرك كل أجزائها وفقا لقوانين ميكانيكية بحيث يمكن التنبؤ بمسارها وتغيراتها بدقة كاملة، ومخالفة للاعتقاد القديم بأن أساس العالم مادة ملموسة تتخذ أشكالا متباينة من خلال حركتها. فالعالم - كما كشفت عنه الفيزياء الحديثة - هو عالم من القوى والطاقات التي تتبادل التأثير، وهو في أدق جزيئاته مجموعة من الشحنات التي يستحيل التنبؤ بمسارها مقدما.
هذه التطورات الحاسمة لم يكن معناها فقدان الثقة في العلم أو فتح الباب على مصراعيه أمام الاتجاهات المعادية له؛ فمثل هذه النتيجة - التي استخلصها البعض بالفعل في أول عهد النظريات الفيزيائية الجديدة - ليست صحيحة على الإطلاق، بل إن الصحيح هو أن العلم قد اكتسب من تطوراته هذه قوة دافعة أدت به إلى المزيد من التقدم، وكان اكتشاف التعقيد المتزايد لتركيب المادة ولقوانين الطبيعة - بوجه عام - حافزا للعلماء كيما يتوصلوا إلى كشوف تطبيقية أعقد من كل ما عرفته البشرية حتى ذلك الحين، وإذا كنا نفخر في عصرنا الحاضر باكتشاف الطاقة الذرية والحقول الإلكترونية وارتياد الفضاء، فمن المؤكد أن هذه الكشوف كان من المستحيل إنجازها في الوقت الذي كانت تسود فيه النظرة الآلية المباشرة إلى العالم، وهي لم تصبح ممكنة إلا منذ اللحظة التي اكتشفنا فيها التعقد المتزايد للطبيعة والتأثيرات المتبادلة لمكوناتها، فكان هذا الاكتشاف هو الأساس النظري الذي مهد لظهور مخترعات ونواتج علمية تماثل في تعقدها قوانين الطبيعة التي بنيت عليها. (2) الوضع الحالي للعلم
في القرن العشرين حدثت ثورة كمية وكيفية هائلة في المجال العلمي، بمعنى أن نطاق العلم قد اتسع إلى حد هائل، كما أن إنجازاته قد اكتسبت صفات جديدة وأصبحت أهميتها تفوق بكثير كل ما كان الحلم يحققه في أي عصر سابق، بل إن هذا التغير جعل العلم هو الحقيقة الأساسية في عالم اليوم، وهو المحور الذي تدور حوله كل المظاهر الأخرى لحياة البشر.
ولو نظرنا إلى الأمر من الزاوية الكمية الخالصة؛ لتبين لنا أن معدل نمو العلم قد تسارع بصورة مذهلة خلال القرن العشرين؛ إذ تقول الإحصاءات: إن كمية المعرفة البشرية تتضاعف - في وقتنا الحالي - خلال فترة تتراوح بين عشر سنوات وخمس عشرة سنة، وهو ما كان يستغرق في العصور الماضية مئات السنين، وسيظل هذا المعدل في ازدياد مستمر، بحيث إن الإنسان سيحتاج من أجل مضاعفة معرفته بالعلم عند نهاية هذا القرن إلى فترة لا تزيد عن خمس سنوات. وبطبيعة الحال فإن تعبير «مضاعفة كمية المعرفة البشرية» قد يبدو تعبيرا مضللا؛ لأن في المعرفة البشرية أمورا لا تقاس بالكم، فضلا عن أن بحثا واحدا قد يكون أعظم أهمية في تقرير مصير العلم من عشرات الأبحاث، ولكن من الممكن - مع ذلك - تحديد مستوى المعرفة في ميدان العلوم الطبيعية - بصورة مجملة - عن طريق عدد الأبحاث التي تجرى فيه.
كذلك فإن عدد العلماء يتزايد بمعدل مذهل؛ فأشد الإحصاءات تحفظا تقول: إن عدد العلماء الذين يعيشون الآن يساوي ثلاثة أرباع مجموع العلماء الذين عاشوا على هذه الأرض منذ بدء التاريخ البشري. وهناك إحصاءات تقول إن العددين متساويان. ولو افترضنا - تخيلا - أن الزيادة في عدد العلماء قد استمرت بنفس معدلها الحالي فسيكون معنى ذلك أن كل رجل وامرأة وطفل لا بد أن يصبح عالما في أواسط القرن المقبل. وكذلك يقدر هواة الإحصاءات أنه لو استمرت زيادة الإنتاج في البحوث العلمية بنفس معدلها الحالي، فإن وزن المجلات العلمية الموجودة في العالم سيصبح - بعد مائة سنة - أثقل من الكرة الأرضية ذاتها. ولو استمر الإنفاق على الأبحاث العلمية في الدول المتقدمة يتزايد بمعدله الحالي، فإن هذه الدول ستنفق - بعد فترة لا تزيد عن خمسين سنة - كل دخلها القومي على البحث العلمي والتكنولوجيا، دون أن يتبقى منه شيء للتعليم أو الصحة أو الغذاء أو الجيش.
هذه كلها بطبيعة الحال إحصاءات فرضية؛ لأن حياة البشرية ستصبح مستحيلة لو أصبح كل رجل وامرأة وطفل فيها عالما، ولم يعد هناك صناع أو زراع أو موظفون؛ ومن المستحيل أن تترك المطبوعات العلمية لتتراكم حتى تسد علينا منافذ الحياة، أو أن ننفق على البحث العلمي وحده ونترك سائر القطاعات الحيوية بغير إنفاق. فكل ما تدل عليه هذه الإحصاءات هو أن معدل النمو في العلم يتزايد في القرن العشرين بسرعة مخيفة، وأنه سيكون من المحتم وضع حد لهذه الزيادة، وتخفيف حدتها في المستقبل، حتى تصبح حياة الإنسان ممكنة، وإن كان هذا لا يعني بأي حال إيقاف تقدم العلم؛ لأن العدد الحالي من العلماء - حتى لو استمر دون زيادة - كاف لإحداث تغيرات هائلة في العلم، لا سيما وأن الظروف التي يعمل فيها العلماء والأدوات التي يستخدمونها سوف يرتفع مستواها وتتضاعف قدراتها على الدوام.
ومن جهة أخرى فهذه الإحصاءات تنطبق على البلاد المتقدمة وحدها، وهي وحدها كافية لكي يدرك القارئ إلى أي حد ستظل الهوة بيننا وبين العالم المتقدم تتسع باستمرار، إذا لم يتغير موقفنا من العلم ومن البحث العلمي تغييرا جذريا؛ ففي الوقت الذي أصبحت فيه البلاد المتقدمة تشعر بخوف حقيقي من جراء النمو السريع للبحث العلمي، وتفكر في وسائل إيقاف هذا التسارع المذهل، نعاني نحن من نوع عكسي من الخوف على مستقبلنا في عالم يقرر مصيره العلم الذي لا نبدي به اهتماما كبيرا، وأبسط ما يمكننا أن نلاحظه - في هذا الصدد - هو أن النجاح في العلم (كما هو في ميدان المال) يولد مزيدا من النجاح، وأن الاتساع المتزايد في قاعدة البحث العلمي وازدياد جذورها تعمقا يعطي الجيل القادم فرصا أعظم لمضاعفة الإنجازات العلمية، مما يؤدي في النهاية إلى تقدم يستحيل أن يتنبأ العقل بأبعاده. أما في حالة البلاد المتخلفة علميا فإن الفشل يؤدي إلى مزيد من الفشل؛ لأن العلماء الذين يشعرون بخيبة الأمل والإحباط، والذين يفتقرون إلى وسائل البحث الجاد وإمكاناته، ويمشون في جو لا يشجع عليه، سيتركون من ورائهم جيلا أكثر إحباطا وأقل مقدرة، وسيصبح هذا الجيل الأضعف هو المسئول يوما ما، وهلم جرا.
فإذا حاولنا أن نقدم عرضا لأهم إنجازات هذا العلم المعاصر؛ لكي نتبين منها الملامح المميزة له من العلم في العصور الماضية، فإن مهمتنا تبدو في هذا الصدد شديدة الصعوبة؛ ذلك لأن هذه الإنجازات تبلغ من الكثرة والتشعب حدا يجعل من العسير تقديم عرض يتسم بأي قدر من الشمول لها، كما يجعل من الصعب الاختيار بينها إذا كان الهدف هو عرض نماذج منها. وعلى أية حال فسوف نكتفي بالكلام عن مجموعة من الإنجازات التي يكاد يكون هناك إجماع في الرأي على أهميتها العظمى في حياة الإنسان المعاصر، مع تأكيد حقيقة أساسية هي أن هناك إنجازات أخرى لا تقل عنها أهمية في نظر الكثيرين.
أول هذه الإنجازات هو كشف إمكانات الطاقة الذرية، ولقد كان اكتشاف الطاقة الكامنة في الذرة حصيلة مجموعة كبيرة من التطورات الأساسية في علم الفيزياء، من أهمها اهتداء «أينشتين» إلى معادلته المشهورة بين المادة والطاقة ، ولسنا نود أن نتحدث الآن عن الأهمية النظرية لهذا الكشف الكبير الذي أزال الحد الفاصل بين ما كان يعتقد أنه «مادة صلبة» وبين الطاقة التي هي مجرد قوة غير ملموسة، ولكن ما يهمنا هو أن معادلة أينشتين ظلت حقيقة «نظرية» في حاجة إلى التحقيق العلمي والتجريبي، وكانت الظروف العالمية - الخارجة عن نطاق العلم - هي وحدها التي هيأت الفرصة لهذا التحقيق العملي، وهي التي جعلت أول وأهم تطبيقات هذه المعادلة يحدث في الميدان العسكري.
فقد كان من المعروف - قبل الحرب العالمية الثانية - أن العلماء الألمان قد قطعوا شوطا بعيدا في محاولة استغلال المعرفة النظرية المتعلقة بالتركيب الداخلي للذرة، وكان من الحقائق المسلم بها أن هذه المحاولات سوف تسير أولا - وقبل كل شيء - في الاتجاه العسكري، وكان هناك خوف حقيقي من أن يكتسب هؤلاء العلماء - في عهد هتلر - القدرة على الاستغلال الحربي لتلك الطاقة الهائلة التي تتولد عن انشطار الذرة، وتضاعف هذا الخوف باقتراب نذر حرب عالمية جديدة، وبالمسلك العدواني المغرور الذي كان هتلر يسلكه مع الدول المحيطة به في الفترة السابقة على تلك الحرب. وكان أول من تنبه إلى هذا الخطر مجموعة من العلماء معظمهم ممن هاجروا إلى الولايات المتحدة فرارا من الاضطهاد في العهد النازي. وهكذا اجتمعت كلمة هؤلاء العلماء - وعلى رأسهم أينشتين نفسه - على أن يكتبوا إلى الرئيس روزفلت - رئيس الولايات المتحدة في ذلك الحين - داعين إياه إلى أن يخصص لهم الأموال والاستعدادات اللازمة؛ حتى يتسنى لهم الوصول إلى هذا السلاح الجديد قبل أن يتوصل إليه حاكم طاغ يمكن أن يسيطر به على العالم ويفرض عليه قيمه وأفكاره المعادية للإنسان.
وبالفعل قدمت الدولة إلى مجموعة العلماء المشتغلين في هذا المشروع - الذي عرف باسم «مشروع مانهاتان»
Manhattan Project - كل ما يحتاجون إليه من مساعدات ووسائل للبحث، واستطاع العلماء الأمريكيون أن يجروا في عام 1945 في صحراء نيفادا أول تجربة ذرية في التاريخ. ولم تمض إلا مدة قصيرة حتى وضع السلاح الرهيب الجديد موضع التطبيق الفعلي، فألقيت أول قنبلة ذرية على هيروشيما في اليابان في 8 أغسطس 1945، وأعقبتها بعد أيام قلائل القنبلة الثانية على نجازاكي؛ مما عجل بالاستسلام النهائي لليابان، آخر دولة ظلت في الحرب.
وسوف نتحدث فيما بعد عن الدلالة الإنسانية للسلاح الذري بوجه عام - ولقنبلتي هيروشيما ونجازاكي - وهما القنبلتان الذريتان الوحيدتان اللتان استخدمتا في حرب حقيقية حتى اليوم - بوجه خاص، ولكن ما يهمنا في هذا الصدد هو الإشارة إلى أن نجاح «مشروع مانهاتان» كان معناه دخول الإنسانية عصرا جديدا هو ما أصبح يعرف بعد ذلك باسم العصر الذري. وصحيح أن الإنسانية قد أعلنت عن دخولها هذا العصر بطريقة تدعو إلى الأسى من خلال دوي يصم الآذان، وكرة هائلة من النار تصهر حرارتها الحديد، وصراخ عشرات الألوف من الأطفال والنساء والضحايا الذين لا يعرفون لماذا يحدث ذلك كله، ولكن المهم في الأمر أن العلم الإنساني وصل بهذا الانفجار إلى نقطة تحول حاسمة في تاريخه، وأن إحدى قمم المعرفة البشرية قد بلغت من خلال الحضيض الذي تردت إليه الإنسانية في أبشع وأسرع حادثة قتل جماعي في التاريخ.
ومنذ ذلك الحين أصبحت الذرة من أبرز المعالم المميزة لعصرنا، فتطورت الأسلحة في الميدان العسكري، من القنابل الذرية إلى القنابل الهيدروجينية التي هي أشد فتكا بكثير، ووصلت هذه القنابل الآن إلى درجة من القدرة التدميرية أصبح العلماء معها يصنفون قنبلة هيروشيما بأنها «لعبة أطفال». ولم تعد هذه القنابل الآن سلاحا عسكريا فحسب، بل أصبحت سلاحا استراتيجيا في المحل الأول؛ وذلك حين لم تعد تحتكرها دولة واحدة، وحين تطورت وسائل نقلها وأصبحت قادرة على الوصول إلى أي مكان في العالم. وهكذا نشأ ميزان الرعب النووي بين الدولتين الكبيرتين؛ الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتي، وترتبت على ذلك المناورات السياسية والعسكرية التي شهدتها فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية، وكل محاولات الردع والاحتواء والأحلاف العسكرية، ثم التعايش السلمي والوفاق ...
وفي الجانب الآخر كان العلماء يشتغلون بجد من أجل كشف الوسائل التي يمكن بها تسخير هذه الطاقة الهائلة الجديدة للأغراض السلمية، وبالرغم من كل ما تم إحرازه في هذا الميدان من تقدم، فإن الحقيقة المؤسفة التي ينبغي الاعتراف بها، والتي تنطوي على إدانة خطيرة للإنسان المعاصر، هي أن القدرة على استخدام الذرة في المجالات السلمية ما زالت في مستوى أقل بكثير من القدرة على استخدامها في الأغراض العسكرية؛ أي إن الإنسان ما زال يثبت أنه أقدر على استخدام عقله وعبقريته من أجل الموت، منه على استخدامه من أجل الحياة. ومع ذلك فلا بد أن نسجل أن أعدادا من الإنجازات الهامة قد تحققت في هذا الميدان؛ إذ إن الذرة استخدمت في العلاج الطبي بنجاح غير قليل، وخاصة في حالة بعض الأمراض المستعصية، كما أمكن بفضلها إنجاز مشروعات هندسية كبرى؛ كشق الترع أو حفر الأنفاق أو هدم عوائق صخرية ضخمة، والأهم من ذلك أن شوطا كبيرا قد قطع في طريق استخدام الطاقة الذرية كمصدر للوقود، وما زالت الأبحاث جارية لكي تستطلع كل إمكانات هذه الطاقة الهائلة.
وفي نفس الوقت الذي دوى فيه صوت الانفجار الذري في هيروشيما لكي يعلن على الملأ بداية عصر الذرة، كان هناك عالم هادئ يعلن بأبحاثه - في تواضع شديد - قيام علم جديد أطلق عليه اسم «السيبرنطيقا»
Cynernetics ، وكان ظهور هذا العلم الجديد هو بدوره واحدا من المعالم البارزة لعصرنا الحاضر، بل قد يثبت على المدى الطويل أن تأثيره في مستقبل الإنسانية أهم بمراحل من تأثير الانشطار النووي؛ هذا العالم هو «نوربرت فينر»
Norbert Wiener
الذي كانت أبحاثه هي الأساس الأول لاختراع العقول الإلكترونية.
2
كانت فكرة هذا العالم هي تطبيق ما يحدث في الإنسان - بوصفه جهازا حيا متكاملا - على الآلات من أجل بلوغ مرحلة جديدة في تطورها مختلفة عن كل ما استخدمت فيه الآلات من قبل. وعلى هذا الأساس فقد درس الوظائف التي يقوم بها الجهاز العصبي للإنسان، والتي يتمكن الإنسان بواسطتها من أن يصحح مسار أفعاله ويعيد توجيهها وفقا لما يواجهه من مواقف، وأن يأمر نفسه ويطيعها ويختبر نتائج سلوكه ويعدلها. وحين أمكن تطبيق نتائج هذه الدراسات في صنع جيل جديد من الآلات، كانت تلك آلات من نوع لم يألفه الإنسان من قبل؛ فهي ليست تلك الآلات التي تحتاج إلى إشراف دائم للإنسان، ولا تعمل إلا وفقا لأوامره، ولا تسير إلا في خط واحد يرسمه لها مقدما، بل إنها كانت آلات تصحح مسارها بنفسها، وتتبادل مع نفسها الأوامر وتنفيذ الأوامر، وتقوم بأعمال إنتاجية أعقد وأكمل بكثير مما كانت تقوم به الأجيال السابقة من الآلات، سواء منها البخارية والكهربائية، وهكذا كانت فكرة تلك الآلات تتضمن في داخلها «عقلا» حاسبا يراقب عملها ويعدله ويصححه، ويعيد توجيه سيرها وفقا لما يجريه من حسابات.
وقد نجحت هذه الآلات في إحداث تحول هائل في ميدان الإنتاج المادي؛ إذ إن كفاءتها كانت أعلى بكثير من كل أنواع الآلات السابقة، فضلا عن أنها توفر نسبة كبيرة من الأيدي العاملة؛ أي كانت تحقيقا فعليا لحلم بشري قديم، هو حلم الآلة التي تقوم بكل أعمال الإنسان وتعفيه من مشقة العمل، وهذا بالفعل ما حدث إلى حد بعيد في عصر الآلية الذاتية
Automation .
ولكن الإنجاز الأكبر لهذا المبدأ الهام الذي قامت عليه هذه الآلات الجديدة كان تطبيقها في ميدان العمل العقلي باختراع نوع جديد من الآلات هو «العقول الإلكترونية»، وكان ذلك شيئا جديدا كل الجدة في التاريخ البشري؛ إذ إن كل ما كان يستعين به الإنسان قبل ذلك من وسائل وأدوات - ابتداء من الفأس ودواب الحمل حتى الآلة البخارية والكهربائية - كانت توفر على الإنسان طاقته «الجسمية»، فتقوم بدلا منه بالعمل المرهق، أو تنقله بطريقة أسرع، أو تنتج له سلعة بوفرة. أما الميدان العقلي فقد كان الإنسان وحده هو الذي يتحمل أعباءه، ويؤمن بأن شيئا لن يستطيع أن يمد إليه يد المساعدة في هذا الميدان بالذات. ومن هنا فإن ظهور العقول الإلكترونية يعد مرحلة جديدة في حياة الإنسان العقلية، وخطوة جبارة في طريق التقدم العلمي، فضلا عن أنه فتح آفاقا هائلة أمام المعرفة البشرية في مختلف ميادينها.
والواقع أن هذا الكشف الجديد قد أتى في وقته المناسب تماما؛ ذلك لأن العصر الحاضر هو - باعتراف الكثيرين - عصر «الانفجار المعرفي» أو «انفجار المعلومات»؛ فكمية المعلومات في أي ميدان من ميادين البحث - مهما كان مقدار تخصصه - تتسع إلى حد يستحيل على العقل البشري - مهما كان مدى قوة ذاكرته - أن يستوعبه، وفي البلاد المتقدمة علميا يتعين على الباحث قبل أن يشرع في عمل علمي جديد أن يكون ملما بأحدث ما تم التوصل إليه في ميدانه حتى يفيد من جهود الآخرين، ويبدأ من حيث انتهوا، وحتى لا يكرر عملا سبق لغيره القيام به في مكان ما.
ولكن وسائل الاطلاع العادية - كالبحث عن أحدث الكتب والمجلات العلمية في المكتبات - لا تجدي في هذا العصر الذي تتدفق فيه الأبحاث الجديدة ويتزايد عددها بلا انقطاع، وهنا تأتي العقول الإلكترونية لتقوم بدور «الذاكرة الصناعية»؛ فهي تحفظ المعلومات المتعلقة بالكتب والمقالات الهامة في كل موضوع فرعي، وتزود الباحث على الفور بقائمة كاملة من المراجع التي يتعين عليه قراءتها في الميدان الذي اختاره، أو تقدم إليه المعلومات المطلوبة مباشرة وتعفيه من جهود شاقة تدوم «سنوات» دون أن تصل أبدا إلى المستوى المطلوب.
وبطبيعة الحال فقد تناولنا دور العقول الإلكترونية في مساعدة العقل البشري بوصفه نموذجا لما تؤديه التكنولوجيا الجديدة من خدمات أساسية في ميدان العلم، ومن المعروف أن الدور الذي تقوم به هذه العقول في الميدان العلمي أوسع من ذلك؛ فهي ليست «ذاكرة صناعية» فحسب، بل إنها تؤدي عمليات ذهنية يعجز عنها العقل البشري، أو لا يؤديها إن استطاع إلا في سنوات عديدة، فهي تقوم بأدق العمليات الحسابية وأعقدها بسرعة هائلة، وهي عظيمة الكفاءة في المجالات التي تتحدد فيها العوامل وتتنوع إلى الحد الذي يقف أمامه العقل الإنساني عاجزا؛ فحين تتعدد المتغيرات في موقف معين، كما هي الحال في الحسابات المتعلقة بتوجيه سفينة فضائية إلى كوكب بعيد، يكون في استطاعة العقل الإلكتروني أن يحسب بسهولة اتجاه المسار الصحيح من خلال عمل حساب مجموعة من العوامل الشديدة التعقيد، مثل سرعة السفينة وسرعة دوران الأرض والجاذبية وحركة الكوكب وجاذبيته، إلى آخر ذلك من العوامل التي يستحيل على العقل البشري أن يجمعها كلها في عملية واحدة .
والأمر الذي ينبغي أن نشير إليه أخيرا فيما يتعلق بالدور الذي تقوم به العقول الإلكترونية في العصر الحاضر، هو أن هذه العقول إذا كانت هي ذاتها نتاجا لتفكير وتطبيق علمي رفيع، فإنها من جانبها تعمل على زيادة ارتفاع مستويات التفكير العلمي في البلاد التي تستخدمها على نطاق واسع؛ ذلك لأنها إذا كانت تعفي العالم كما قلنا من عمليات شاقة تتعلق بجمع المواد العلمية لأبحاثه وتعريفه بجهود الآخرين، وإذا كانت تقوم بدلا منه بالربط بين العوامل التي تزداد تعددا وتعقيدا كلما ارتقى البحث العلمي، فإنها تتيح للعالم بذلك أن يتوغل في أبحاثه إلى مستويات أعمق، وتمكنه من أن يستكشف أبعادا للطبيعة كان من المستحيل أن يصل إليها في المرحلة التي كان يكتفي فيها باستخدام تفكيره العقلي الخاص. ومن هنا فإن التفكير العلمي ذاته يزداد دقة وتعمقا، وتظل الحركة المتبادلة مستمرة بين العقل البشري والعقل الإلكتروني؛ فالعقل البشري اخترع العقل الإلكتروني نتيجة لبلوغه مستوى عاليا من التقدم، والعقل الإلكتروني يعود فيساعد العقل البشري على إحراز المزيد من التقدم. وهذا التقدم الجديد يؤدي إلى تطوير العقول الإلكترونية بحيث تؤدي وظائف أوسع وأعقد. وهذه العقول الإلكترونية المطورة ترتفع بعقول العلماء إلى مستويات جديدة. وهكذا تستمر الحركة الحلزونية في صعودها، فاتحة بذلك آفاقا لم تكن البشرية تحلم بها في وقت من الأوقات. ومن هنا فقد أصبح عدد العقول الإلكترونية المستخدمة في بلد ما مؤشرا هاما، لا لتقدمه الصناعي والتكنولوجي فحسب، بل لتقدمه النظري أيضا ولارتفاع مستوى التفكير العلمي بين باحثيه.
ونستطيع أن نستطرد قليلا في وظيفة «الذاكرة الصناعية» التي تقوم بها العقول الإلكترونية؛ لأن لهذا الموضوع أهمية خاصة في عالمنا العربي على وجه التحديد؛ فالعقل البشري لا يستخدم قدراته على الوجه الأكمل إذا ما نظرنا إليه في ضوء أساليب البحث التقليدية التي لا تزال سائدة في بلادنا. وحسبنا أن نتأمل طريقة عمل أي باحث لندرك أن الجزء الأكبر من وقته وجهده يضيع في أعمال روتينية مملة ليس فيها خلق أو إبداع؛ كالبحث عن المادة العلمية اللازمة وسط ركام المؤلفات الهائل، وجمع قوائم المراجع، وترتيب المادة المعطاة، وكتابة الملخصات وعمل الحسابات، واستذكار قدر كبير من المعلومات واستيعابها، وهذه كلها أعمال لا تحتاج إلى إبداع أو ابتكار. ويمكن القول: إن تبديد طاقة العقل فيها هو أشبه بما كان يفعله الإنسان في العصور السابقة، حين كان يبدد الجزء الأكبر من طاقته الجسمية في العمل اليدوي قبل اختراع الآلات، كما أنه أشبه بالطاقة التي يبددها العدد الأكبر من النساء - حتى في وقتنا الراهن - في القيام بالأعمال المنزلية المملة المتكررة ... وكما أن الإنسان الذي كان يستخدم طاقة جسمه في العمل اليدوي لم يكن يتبقى له فضل من الطاقة يستخدمه في أي غرض أهم، وكما أن المرأة التي تقضي معظم ساعات يومها في أداء الأعمال المنزلية والروتينية لا تستطيع أن تبدي اهتماما بأية قضية فكرية جادة، أو أن تتذوق الفن الرفيع أو أن تمارس عملا عقليا يحتاج إلى تعمق، كذلك يؤدي انشغال عقل العالم بالأعمال الآلية إلى تبديد قدر كبير من طاقته الذهنية التي يحتاج إليها من أجل كشف فكرة جديدة أو ابتكار تطبيق غير معروف.
وهذا بعينه هو ما تفعله العقول الإلكترونية؛ إذ تنقل العقل البشري من مرحلة استخدامه «البدائي» في الأعمال الروتينية إلى مرحلة الانتفاع بقدراته إلى أقصى حد في الخلق والإبداع، وحين تفعل العقول الإلكترونية هذا فهي إنما تؤكد مرة أخرى ذلك التضاد - الذي لم نعترف به في بلادنا للأسف الشديد - بين ملكة الذاكرة وملكة الإبداع الذهني.
فما زال عدد غير قليل من علمائنا يتصور أن العلم هو الاستيعاب، وما زال منهم من يتفاخر في مجالسه باتساع معلوماته وتشعب معارفه، ويستعرض على الملأ قوة ذاكرته فيبهر الحاضرين بتلك الكمية الهائلة من المعلومات التي يضمها ذهنه، ويثبت لهم أنه «موسوعة متحركة» قادرة على استعادة واستظهار قدر غير عادي من الحوادث والوقائع، ولكن هذا كله لا يعدو أن يكون عملية استعراضية جوفاء، بل إن ملء الذهن بالمعلومات المكدسة كثيرا ما يكون على حساب قدرة هذا الذهن على الإبداع، وكأن التكدس والحشو الذي امتلأ به الذهن يمنعه من الحركة الطليقة، ويخلق لديه نزوعا إلى ترديد ما سبق له أن قرأه أو سمعه، وهو نزوع مضاد لكل إبداع. فالذهن المزدحم بالمعلومات - المنشغل دائما بما يأتيه من المصادر الأخرى - لا تعود لديه قدرة أو طاقة على كشف الجديد، بل يجد متعته الكبرى في «إفراغ» محتوياته أمام الناس في كل مناسبة، وهو عمل قد يبهر البعض، ولكنه لا يدل على أصالة أو ابتكار، وهكذا يبدو أن هناك تناسبا عكسيا بين استخدام المرء لذاكرته واستخدامه لملكاته الخلاقة، وهذا التناسب العكسي يسير - في عصر العقول الإلكترونية التي تتولى عن الإنسان أعمال الذاكرة الآلية - في صالح ملكات الإبداع بغير حدود.
ومن المستحيل أن نصحح هذا الوضع في بلادنا إلا إذا بدأنا منذ البداية، أعني أن نعيد بناء نظمنا التعليمية التي تعتمد الآن اعتمادا يكاد يكون تاما على تنمية الحفظ واستيعاب المعلومات؛ فنحن لا نحتاج إلى هذه الملكة - في عصر العقول الإلكترونية - إلا احتياجا ضئيلا، وأهداف نظمنا التربوية يجب أن تتحول تحولا جذريا؛ من تعهد ملكة الذاكرة وتنميتها وحشوها بالمعارف، إلى رعاية الملكات الابتكارية والإبداعية والقدرة على مواجهة المواقف الجديدة غير المتوقعة بذكاء وحسن تصرف، وهذا تحول سيكون علينا أن نواجهه - عاجلا أو آجلا - ما دمنا نعيش في عصر العقول الإلكترونية.
أما الإنجاز الثالث الذي نود أن نقول كلمة موجزة عنه - في هذا الحديث عن إنجازات العلم المعاصر - فهو غزو الفضاء، ومن المؤكد أن هذا الإنجاز كان ولا يزال وثيق الارتباط بالإنجازين السابقين؛ إذ إن العقول الإلكترونية قد لعبت دورا عظيم الأهمية في صناعة الصواريخ الفضائية وحساب مساراتها وتوجيهها، أما الطاقة الذرية واستخدامها في ميدان التسلح، فكانت بدورها من العوامل الفعالة المؤدية إلى إعطاء قوة دافعة لبرامج غزو الفضاء؛ إذ إن من الأهداف الرئيسية لظهور هذه البرامج وتطويرها - في فترة الحرب الباردة - أن تكون المركبات أدوات لحمل الأسلحة الذرية إلى قلب البلاد المعادية.
ولكن لنعد في قصة غزو الفضاء إلى الوراء قليلا؛ فمن المعروف أن الألمان - منذ فترة ما قبل الحرب العالمية الثانية - كانوا يسيرون بخطى واسعة في الأبحاث المتعلقة بتكنولوجيا الدفع الصاروخي، وأنهم وجهوا هذه الأبحاث في اتجاهات عسكرية أساسا، وتمكنوا خلال الحرب ذاتها من استخدام صاروخ
V
2 (ف
2 )، وكان المشرف على هذه الأبحاث هو عالم الصواريخ المشهور فون براون
Von Braun
الذي أصبح له بعد ذلك شأن هام في برنامج الفضاء الأمريكي.
ومن المؤسف أن البداية الحقيقة لهذا الإنجاز التكنولوجي الهام كانت بداية حربية، كما أن أهم تطوراته اللاحقة كانت متعلقة بالأغراض العسكرية؛ فقد أدرك الاتحاد السوفيتي أهمية هذا الكشف الجديد، وسار في أبحاثه بطريقة مستقلة، وكانت لديه دوافع قوية للإسراع في هذه الأبحاث؛ إذ كانت الاستراتيجية الأمريكية في فترة الحرب الباردة تعتمد على تطويق الاتحاد السوفيتي بسلسلة من القواعد العسكرية القريبة من حدوده، والتي تجعل الأراضي السوفيتية كلها في متناول الطائرات الأمريكية، بينما الأرض الأمريكية بعيدة تماما عن كل أسلحته المعروفة حتى ذلك الحين، ومن هنا فقد كان من أهم أهداف برنامج الصواريخ السوفيتية التخلص من عملية التطويق هذه، والاهتداء إلى وسيلة توصل التهديد أو الرد على التهديد إلى قلب الأراضي الأمريكية من وراء ظهر القواعد التي تطوقه.
وهكذا كان الاتحاد السوفيتي هو الذي افتتح عصر السفن الفضائية التي تطلقها صواريخ قوية من قواعد أرضية؛ لتدور حول الأرض بسرعة لم تألفها البشرية من قبل، أو لتستكشف الفضاء البعيد عن الأرض بفضل السرعة التي تتيح لها الإفلات من الجاذبية الأرضية. ولقد كان إطلاق القمر الصناعي السوفيتي الأول، «سبوتنيك 1» في 4 أكتوبر 1957 جزءا من برنامج علمي دولي كانت بلاد كثيرة تعد أنفسها للإسهام فيه منذ وقت طويل، هو برنامج «السنة الجيوفيزيقية الدولية» التي اختير لها عام 1957، وكان إطلاق القمر الصناعي هذا بالفعل أبرز أحداث هذا البرنامج العلمي، ولكن المغزى العسكري لهذا الحدث الهام لم يغب عن أحد؛ إذ كان معناه أن قوة دفع هائلة جديدة قد اكتشفت، وأن في استطاعة الصاروخ - الذي يدفع القمر الصناعي في مدار حول الأرض - أن يحمل سلاحا نوويا ويعبر به القارات؛ ليصيب أي مكان على سطح الأرض، مما كان يعني ضرورة إدخال تغيير حاسم على استراتيجية الدول الكبرى.
ولقد كانت الولايات المتحدة هي ثالثة الدول في ترتيب الدخول في عصر الصواريخ، وكان للعلماء النازيين - الذين آثروا أن يستأنفوا نشاطهم في الولايات المتحدة ومنهم فون براون نفسه - دور عظيم الأهمية في تعويض التخلف الذي كان يبدو - في أول سنوات عصر الفضاء - أن الولايات المتحدة تعاني منه، وسرعان ما وضع - منذ عهد الرئيس كيندي - برنامج طموح هدفه إنزال أول إنسان على القمر في عام 1969، وبالفعل نفذ هذا البرنامج بدقة، وأسفر عن هذا الإنجاز الرائع الذي يراه البعض أعظم الإنجازات العلمية في القرن العشرين، وهو سير رائد الفضاء الأمريكي «نيل أرمسترونج» على القمر في نفس الموعد المحدد في ذلك البرنامج.
وخلال ذلك كله كانت أهداف برامج الفضاء تتفاوت بين الأغراض العلمية كاستكشاف الموارد الأرضية أو التنبؤ بالأحوال الجوية، والأغراض الإعلامية كأقمار الاتصالات التليفزيونية، والأغراض العسكرية كأقمار التجسس، ولكن الأمر المؤكد هو أن نقطة البداية في برامج الدولتين الكبيرتين كانت عسكرية، وإن كانت الأهداف العلمية قد أخذت تكتسب أهمية متزايدة، بل لقد بدا في وقت من الأوقات أن هناك اندماجا بين هذه الأهداف كلها؛ إذ إن العودة بعينات من صخور القمر أو إجراء تجارب على سطح المريخ، هي حقا أغراض علمية في المحل الأول، ولكنها تعطي الدولة التي تحققها مكانة وهيبة، وتنبئ بارتفاع مستواها التكنولوجي إلى الحد الذي يخدم أغراضها الاستراتيجية خدمة كبرى.
ومع ذلك فالأمر المؤكد هو أن هذا الإنجاز التكنولوجي العظيم - الذي بدأ مستهدفا أغراضا عسكرية في المحل الأول - ستكون له في المستقبل نتائج علمية بالغة الأهمية، بل إن البعض يربط بين مستقبل البشرية وبين غزو الفضاء؛ إذ إن أرضنا هذه بدأت تضيق بمن عليها، وقد لا يكون من محض المصادفات أن يبدأ عصر الفضاء في نفس الوقت الذي أخذت البشرية تحس فيه بالخطر من نفاد موارد الأرض. وباقتراب الوقت الذي يتعين فيه على الإنسان أن يتخذ قرارات حاسمة بشأن التزايد السكاني المخيف، فمن الجائز أن يكون غزو الفضاء هو الحل الأمثل لهذه المشكلات، ومن الجائز أن يكون اتفاق التوقيت هذا مثلا آخر من أمثلة تلك القدرة العجيبة التي يستطيع بها العقل الإنساني أن يهتدي إلى حل لمشكلاته في اللحظة المناسبة.
وعلى أية حال فإن من يعتقد أن في هذا إسرافا في الخيال، عليه أن يتذكر أننا ما زلنا في المراحل الأولى لعصر استكشاف الفضاء؛ فعمر هذا العصر بكل إنجازاته لم يصل - حتى كتابة هذه السطور - إلى عشرين عاما بعد، والفترة التي انقضت منذ «سبوتنيك» السوفيتي الذي لم يكن وزنه يزيد عن ثلاثين رطلا حتى إرسال رجلين إلى القمر، ومعهما ثالث في السفينة الأم التي تزن عدة أطنان؛ لم تزد عن اثني عشر عاما، فإذا كان هذا التطور الهائل قد تحقق في تلك الفترة الوجيزة، فهل يستطيع أحد أن يتخيل ما يمكن أن يتم إنجازه بعد مائة عام أو بعد خمسمائة عام، مع ملاحظة الزيادة المطردة في معدل التقدم؟ وهل يكون من الخيال المسرف أن نتخيل مستعمرات بشرية في كواكب بعيدة وسفن فضاء تستكشف أبعد أطراف المجموعة الشمسية، ومحاولات للخروج من هذه المجموعة إلى النجوم البعيدة، بل محاولات للخروج من «المجرة» التي ننتمي إليها إلى مجرات أخرى؟
وبطبيعة الحال فإن المسافات الهائلة التي ينبغي عبورها في هذه المحاولات تكاد تجعل من المستحيل علينا - في ضوء معرفتنا الحالية - أن نتصور كيف يستطيع الإنسان أن يقضي مئات السنين في سفينة فضائية تسير به نحو نجم يبعد عنا مسافة تقدر بالسنين الضوئية، ولكن من المؤكد أن سرعات السفن الفضائية ستزداد دواما، بل إن البعض لا يستبعد مجيء يوم تقترب فيه هذه السفن من سرعة الضوء، وحتى لو تحقق هذا فستظل هناك مشكلات لا حصر لها متعلقة بكميات الغذاء والهواء اللازمة لهذه الرحلات التي تدوم قرونا، ومتعلقة بعمر الإنسان الذي لا يتجاوز حتى الآن القرن الواحد على أحسن الفروض.
ولكن لنذكر مرة أخرى ما حققه عصر الفضاء خلال عشرين عاما فقط، ولنتصور أن البشرية لن تحاول الانتحار عن طريق حرب عالمية ثالثة ، وأنها ستظل تتقدم بمعدل يزداد سرعة باطراد طوال قرن آخر أو عدة قرون أخرى، فهل ستكون هذه الأحلام عندئذ بعيدة عن التحقيق؟ إن الكلام عن الصعود إلى القمر كان يعد - منذ ربع قرن فقط - ضربا من الجنون، أو من الخيال الشعري (والأمران كما نعلم متقاربان) فهل نستكثر على إنسان القمر الحادي والعشرين أو الثاني والعشرين أن يصل إلى آفاق الكون البعيدة؟
في هذا العرض العاجل اخترنا ثلاثة أمثلة لإنجازات العلم المعاصر؛ هي الطاقة النووية والعقول الإلكترونية وغزو الفضاء، ومن المستحيل أن يقتصر المرء على أمثلة كهذه إذا شاء أن يقدم صورة شاملة لما حققه العلم في العصر الحاضر؛ بحيث إن أي اختيار لا بد أن يغفل إنجازات عظيمة الأهمية، ولكن الواقع أننا لم نختر هذه الأمثلة إلا لأنها هي الأشهر على مستوى المعلومات العامة، وكم من كشوف أخرى صامتة أو لا تحيط بها ضجة كبيرة، كان لها في حياة الإنسان تأثير لا يقل عن تأثير النماذج السابقة.
وعلى أية حال، فإن هذه الأمثلة تكفي للكشف عن الطبيعة الثورية للعلم المعاصر الذي أحدث تحولا حقيقيا في حياة البشر، وأصبح هو الحقيقة الأساسية في العالم الذي نعيش فيه، وحسبنا أن نقارن بين أسلوب الحياة في مثل هذه الأيام منذ مائة عام، وبين أسلوب حياتنا الحالي؛ لكي نقتنع بأننا لن نفهم عالمنا هذا إلا في ضوء التقدم العلمي الذي نعيش فيه ونتمتع بإنجازاته دون أن نشعر؛ ذلك لأن العلم - الذي لم يعد ظاهرة هامشية على الإطلاق - يكتسب أبعادا اجتماعية تزداد أهميتها يوما بعد يوم، وفي كل لحظة يزداد الإنسان اقتناعا بأن مصيره - سواء أكان يسير نحو الأفضل أو نحو الأسوأ - مرتبط بالعلم، فما هي هذه الأبعاد الاجتماعية؟ وما تأثيرها الفعلي والممكن على الإنسان؟
الفصل السادس
الأبعاد الاجتماعية للعلم المعاصر
(1) العلم والمجتمع
ليس العلم ظاهرة منعزلة، تنمو بقدرتها الذاتية وتسير بقوة دفعها الخاصة وتخضع لمنطقها الداخلي البحت، بل إن تفاعل العلم مع المجتمع حقيقة لا ينكرها أحد؛ فحتى أشد مؤرخي العلم ميلا إلى التفسير «الفردي» لتطور العلم، لا يستطيعون أن ينكروا وجود تأثير متبادل بين العلم وبين أوضاع المجتمع الذي يظهر فيه، حتى ليكاد يصح القول بأن كل مجتمع ينال من العلم بقدر ما يريد. ولا شك أن العرض الموجز الذي قدمناه من قبل للمراحل الرئيسية لتطور العلم وللنمو التدريجي لمعناه ومفهومه، يتضمن أدلة وشواهد متعددة على الارتباط الوثيق بين حالة العلم في أي عصر وبين أهم العناصر في الحياة الاجتماعية لذلك العصر؛ بحيث يكون العلم جزءا من كل، ويكون وجها واحدا لحياة متكاملة يحياها المجتمع.
فالتاريخ يقدم أمثلة كثيرة تثبت أن المجتمع يحدد - بقدر معقول من الدقة - نوع العلم الذي يحتاج إليه، وهذا لا يتنافى على الإطلاق مع تأكيد أهمية العبقرية الفردية للعالم، ودوره الأساسي في الكشف العلمي، فلا أحد يزعم أن العالم مجرد «أداة» يستعين بها المجتمع لتلبية حاجاته، أو أن الكشوف العلمية يمكن أن تتم على أيدي أناس لم تتوافر لهم عبقرية كبيرة، ما دامت تظهر في المجتمع المناسب وفي الوقت المناسب. بل إن هذه أحكام باطلة تبخس العالم الكبير حقه، وتصوره كما لو كان وسيلة في أيدي قوة غيبية تتحكم فيه تحكما تاما، حتى لو كان المرء يطلق على هذه القوة الغيبية اسما يبدو في ظاهره علميا، هو «حاجة المجتمع».
وحقيقة الأمر هي أن الكشف العلمي يحتاج إلى تضافر العاملين معا؛ حاجة اجتماعية وعبقرية ذهنية، وكل ما في الأمر أنه عندما تتوافر الحاجة الاجتماعية لا يكون من الصعب ظهور العبقرية الذهنية؛ ذلك لأن أفراد البشرية - الذين يعدون بالملايين - لا يخلون في كل عصر من عباقرة، ولكن المهم أن يأتي العبقري في وقته، وأن يلبي حاجات عمره، ومن المؤكد أن هناك حالات ظهر فيها عباقرة في غير أوانهم؛ أعني في وقت لم يكن المجتمع فيه مهيأ لقبول كشوفهم، فكانت النتيجة أن لمعت عبقريتهم فجأة ثم انطفأت فجأة كالشهاب البارق، دون أن يتركوا وراءهم تأثيرا باقيا. وهذه ظاهرة ضربنا لها من قبل مثلا واضحا؛ هو تلك الآلات التي اخترعها العالم اليوناني المشهور «أرشميدس»، ولكنه خجل من إظهارها على الملأ، ونظر إليها كما لو كانت «لعبا» للتسلية. ولو كان هذا العبقري يعيش في عصرنا الحديث لأدرك على التو أهمية هذا التنظيم الميكانيكي لعناصر الطبيعة في ميدان التطبيق العملي، ولتوصل إلى ضرورة استخدام مبدأ الآلية من أجل توفير جهد الإنسان ووقته، ولكنه كان يعيش في عصر توجد فيه «آلات آدمية» - هم العبيد - فما الداعي إلى التفكير في آلات طبيعية مادية؟
وفي الميدان النظري البحت، نستطيع أن نضرب مثلا آخر ينتمي إلى صميم عالمنا العربي، وهو حالة ابن خلدون؛ فهذا العالم العبقري قد توصل - في «مقدمته» المشهورة - إلى المقومات الرئيسية للدراسة العلمية للمجتمع البشري؛ أي لعلم الاجتماع (الذي أسماه «علم العمران»)، وكثير من آرائه قد ترددت - فيما بعد - بطريقة تكاد تتشابه حتى في التفاصيل عند أولئك الذين اعتبرهم الأوروبيون روادا لعلم الاجتماع، ولكن الكشف الرائع الذي توصل إليه ابن خلدون لم يجد مجتمعا يستجيب له؛ فلم يظهر في مجتمعه من ينبه إلى أهميته، ولم يتابع آراءه وتعاليمه تلاميذ يكملون رسالته، ولم تستمر حركة العلم الجديد الذي توصل إليه في مسيرتها، بل توقف كل شيء، وظهرت عبقريته كما لو كانت شعلة ساطعة انطفأت بسرعة، ولم يتنبه إليه الناس إلا عند «إعادة اكتشافه» بعد عصره بقرون عديدة، كل ذلك لأن الفترة التي ظهر فيها ابن خلدون والتي أعقبت ظهوره كانت فترة بداية الانهيار في الحضارة الإسلامية، وبداية عهد الغزوات الأجنبية وما ترتب عليها من انحلال داخلي فيها.
وما هذه إلا أمثلة نود أن نثبت بها أن الكشوف العلمية المستقرة في أي عصر هي حصيلة التفاعل بين عاملين؛ بيئة اجتماعية مهيأة لها، وعبقرية فردية تظهر في الوقت المناسب. والفارق الوحيد في تأثير هذين العاملين يرجع إلى أن أحدهما جماعي والآخر فردي؛ فحين تتوافر الحاجة الاجتماعية لا يكون من الصعب على المجتمع أن يفرز - من بين الملايين من أفراده - العبقرية القادرة على تلبية هذه الحاجة. أما حين تتوافر العبقرية الفردية وحدها دون أن تتهيأ الظروف الاجتماعية المواتية، فإن التاريخ قد يطويها في زوايا النسيان، أو قد يقول عنها - إذا أراد إنصافها - إنها عبقرية ظهرت في غير أوانها. (2) الوضع الاجتماعي للعلم المعاصر
في ضوء التمهيد السابق، يستطيع القارئ أن يستنتج أن البحث في الوضع الاجتماعي للعلم المعاصر ينبغي أن يسير في كلا الاتجاهين؛ فليس يكفي أن نشير إلى أهمية العلم في مجتمعنا الحالي - بما فيه من سمات مميزة - في تحديد معالم العلم المعاصر وإعطائه طابعه الذي أصبح مألوفا لدينا.
إن العلم قد اكتسب - منذ أوائل القرن العشرين - أهمية تفوق أهمية أي إنجاز آخر طوال تاريخ البشرية؛ فصحيح أن الإنسانية تفخر - عن حق - بفلسفاتها وآدابها وفنونها، وتعترف بما تدين به لهذه الإنجازات من فضل في تشكيل عقل الإنسان وروحه، ولكن المكانة التي اكتسبها العلم في هذا القرن، والتأثير الذي استطاع أن يمارسه في حياة البشر (بغض النظر عن كون هذا التأثير إيجابيا أم سلبيا، فهذه مسألة سنعرض لها فيما بعد) يجعل العلم بغير شك هو الحقيقة الكبرى في عصرنا الحاضر، ومن ثم في كل العصور. ولا يعني هذا أننا لا نفخر بمذاهبنا الفكرية أو أعمالنا الأدبية والفنية، ولكنه يعني أن فخرنا بالعلم أعظم، وأن التغير الذي أدخله العلم على حياتنا أقوى من أي تغير لحقها بفضل أي إنجاز آخر.
والأهم من ذلك - بالنسبة إلى مكانة العلم في العصر الحاضر - أن العلم هو الإنجاز الذي يمكننا أن نسميه «مصيريا» بحق في هذا العصر، فلأول مرة في تاريخ تجربة الإنسان الطويلة على هذه الأرض، يدرك أن العلم هو الذي سيحدد مصيره سلبا أو إيجابا؛ إذ تعيش البشرية في خوف دائم من أن تدمر حياتها وحضارتها حرب نووية أو بيولوجية تعتمد اعتمادا كليا على العلم، وتعمل الدول لهذه الحقيقة ألف حساب في استراتيجياتها وسياساتها الأساسية، وفي طريقة إنفاقها لمواردها. ومن جهة أخرى فإن الأمل الأكبر لدى البشرية - في مستقبل أفضل وفي حل مشكلاتها الغذائية والصحية المستعصية بل في استمرار قدرتها على البقاء والنماء - هو الآن معقود على العلم.
وقد انعكس ذلك بوضوح في اتساع نطاق الاهتمام بالعلم إلى حد هائل؛ ففي القرن الماضي كان العلم من شأن «المتخصصين» وحدهم، ولم تكن مشكلاته تناقش إلا في المجامع العلمية وفي المؤسسات المتخصصة، أما اليوم فقد أصبح الجميع يتابعون تطور العلم باهتمام، وأصبحت أخباره تحتل مكان الصدارة في وسائل الإعلام الجماهيري؛ فكيف نعلل هذه الظاهرة التي تبدو فيها مفارقة صارخة؛ أعني الاتساع الهائل في نطاق الاهتمام بالعلم، في نفس الوقت الذي أصبح فيه العلم يزداد غموضا وتعقيدا على الدوام، وابتعدت فيه لغته الرمزية المتخصصة عن إفهام العقول العادية ابتعادا تاما؟ لا شك أن التعليل الوحيد لذلك هو الطابع المصيري للعلم المعاصر؛ فمهما كانت صعوبة هذا العلم، فإننا جميعا نتساءل: هل يمكن تجنب كارثة حرب عالمية ثالثة؟ ونحن نعلم أن هذا السؤال المصيري - الذي يرتبط ارتباطا وثيقا بمستقبل كل منا وبمستقبل أجيالنا الجديدة - يعتمد على مجموعة من العوامل، من أهمها العلم، كذلك نعلم أن مشكلات الحياة اليومية وهمومها - أعني مشكلات كالغذاء والإسكان والمواصلات والطاقة والبيئة - سيتوقف حلها إلى حد بعيد على الطريقة التي يوجه بها الإنسان أبحاثه العلمية في المرحلة المقبلة.
فلنتأمل إذن بعضا من هذه المشكلات؛ حتى تتكون لدينا صورة متكاملة عن ذلك الوضع الفريد للعلم في مجتمعنا المعاصر: (2-1) مشكلة الغذاء والسكان
ليس المرء في حاجة إلى أرقام أو جداول إحصائية لكي يقرر أن العالم يعاني - منذ الآن - من أزمة مستحكمة في الغذاء؛ ففي العالم أغلبية من السكان لا تحصل من الغذاء على الحد الأدنى اللازم لكي يحيا الإنسان حياة سليمة، وفيه أقلية متخمة يعاني كثير من أفرادها من الملل والأمراض الناتجة عن الإفراط في المأكل، وإذا كان النقص في كمية الطعام التي تحصل عليها الأغلبية الفقيرة خطرا، فإن النقص في نوعيته أخطر؛ فالغذاء اللازم لبناء الجسم لا يتوافر إلا بنسب ضئيلة لدى شعوب كاملة، وهو يهدد الأجيال الجديدة في مناطق شاسعة من الأرض بنمو جسمي وعقلي غير مكتمل.
ومن المؤكد أن هناك ارتباطا وثيقا بين مشكلتي الغذاء والسكان؛ فالازدياد الرهيب في عدد السكان يؤدي إلى تضاعف الطلب على الغذاء، على حين أن موارد العالم من الغذاء محدودة، وبطبيعة الحال فإن أحدا لا يردد اليوم آراء «مالثوس» الذي دق ناقوس الخطر في القرن التاسع عشر، مؤكدا أن العالم مهدد بمجاعة لأن السكان يتضاعفون بسرعة تفوق بكثير سرعة زيادة الموارد الغذائية؛ ففي الوقت الذي ردد فيه «مالثوس» هذا الكلام، كان سكان العالم ما زالوا قليلين، وكانت هناك موارد هائلة لم تستغل بعد في العالم، ولم يكن هناك بالفعل ما يبرر تشاؤمه المفرط، ولكن نذر الخطر أصبحت أوضح في عصرنا الحاضر، الذي تضاعف فيه عدد سكان العالم أكثر من مرة بالنسبة إلى القرن الماضي. والأخطر من ذلك أن الفترة التي يتضاعف فيها هذا العدد تقل باستمرار؛ ففي نهاية هذا القرن يتوقع العلماء أن تحمل هذه الأرض ضعف عدد من يعيشون فيها اليوم، وبعد عشرين عاما من القرن الجديد سيتضاعف العدد مرة أخرى، فهل ستكفي موارد الأرض من الغذاء لإعاشة هذه الأعداد المهولة؟
ولعل مما يزيد من قوة الارتباط بين مشكلة الغذاء ومشكلة السكان: أن البلاد التي تعاني من نقص واضح في التغذية، هي تلك التي يزداد عدد سكانها بمعدلات سريعة، على حين أن البلاد التي تتمتع بمستوى جيد في الغذاء هي عادة بلاد تقل نسبة الزيادة في سكانها، وربما استقر عدد سكانها عند مستوى معين منذ مدة طويلة؛ فالازدحام السكاني وارتفاع نسبة المواليد مرتبطان ارتباطا وثيقا بسوء التغذية.
ولكن هل يعني ذلك أن البشرية ستقف عاجزة عن إيجاد حل، وستنتظر المجاعة المحتومة دون أن تحرك ساكنا؟ وهل المخرج الوحيد من هذه الأزمة المرتقبة - والتي ظهرت بوادرها بوضوح منذ الآن - هو أن تتوقف الزيادة في سكان العالم، وخاصة في البلاد الفقيرة؟ لا شك أن هذا الحل لا يتناول إلا جانبا واحدا من جوانب الموضوع، وهو يفترض أن عددا كبيرا من الأوضاع الجائرة في العالم لن يطرأ عليه أي تغيير، ولا يمكن المساس به؛ ومن ثم يلجأ إلى تغيير وضع واحد فقط، هو عدد السكان.
ومن سمات هذا الحل أنه يلقي اللوم كله على البلاد التي تعاني من أزمة الطعام؛ فهو يبرئ جميع المذنبين، ويرمي بكل ثقل الإدانة على الضحية. إن معناه ببساطة هو أن هذه البلاد مسئولة عن المجاعة التي تعاني منها؛ لأن فيها من السكان عددا زائدا، وأنها هي أيضا المسئولة عن الحل؛ وذلك بأن تخفض عدد هؤلاء السكان إلى الحد الذي تصبح فيه مواردها كافية لإطعامهم.
على أن هذا الحل يغفل عددا هائلا من العناصر الأخرى التي تنتمي إلى صميم هذا الموضوع، والتي يرجع الكثير منها إلى عوامل خارجة تماما عن إرادة البلاد الفقيرة؛ فهو يتجاهل - مثلا - أن هناك بالفعل بلادا غنية - كالولايات المتحدة - تدفع للمزارعين إعانات طائلة من ميزانيتها السنوية كيلا يزرعوا حقولهم؛ لأن زراعة هذه الحقول وإنتاج كميات وفيرة من المحاصيل يؤدي إلى انخفاض السعر العالمي لهذا المحصول؛ ولذلك ينبغي أن يظل إنتاجه في حدود معينة لا يتعداها، بغض النظر عن وجود أناس جائعين في مناطق أخرى من العالم. وهو يغفل أن زيادة السكان ترتبط بعوامل من بينها الأمية والتخلف الاقتصادي والاجتماعي، وأن هذه العوامل ترجع أساسا إلى خضوع كثير من البلاد الفقيرة لدول استعمارية كانت حريصة على استمرار تخلفها حتى تضمن استسلامها لها، وأن ذيول هذه السياسة ظلت باقية حتى بعد تخلص هذه الدول من قبضة الاستعمار المباشر.
ولكن قد يكون الأهم من ذلك، من وجهة النظر التي نركز عليها في هذا الكتاب، هو أن هذا الحل - الذي يحصر المشكلة في حدود العلاقة بين الموارد الغذائية وعدد السكان - يتجاهل الإمكانات الهائلة للعلم في إيجاد حلول أفضل لهذه المشكلة المعقدة؛ فلدى العلم - في هذا المجال - قدرات هائلة لم يستغل معظمها بعد؛ كالبحث في وسائل استزراع المناطق الصحراوية الشاسعة، وإسقاط المطر الصناعي، واستخلاص المواد ذات القيمة الغذائية الحالية من طحالب البحار والمحيطات - وهي مورد لا ينفد - وتحويل مخلفات بعض الصناعات إلى مواد غذائية، فضلا عن أن الأرض الصالحة للزراعة في العالم أوسع بكثير من الأرض المزروعة بالفعل، كما أن إمكانات مضاعفة غلة الأراضي الزراعية بأساليب علمية حديثة قائمة على الدوام.
وبعبارة أخرى، فإن العلم لم يقل بعد كلمته النهائية في هذه المشكلة، ولم يعلن يأسه من حل مشكلة الغذاء بأساليبه الخاصة حتى نفكر نحن في حلها عن طريق الإقلال من عدد السكان، وكل ما في الأمر أن العلم يقف - في أغلب الأحيان - مكتوف الأيدي؛ لأن طاقاته وموارده موجهة نحو تحقيق أهداف أخرى بعيدة كل البعد عن هذا الهدف الإنساني. ففي ظل مناخ عالمي يسوده العداء المتبادل بين الدول، وتكتسب فيه كل دولة نفوذها عن طريق القوة الغاشمة، لا يمكن أن تتهيأ الظروف التي تجعل المجتمعات تخصص طاقاتها العلمية من أجل البحث عن موارد غذائية جديدة للملايين الجائعة، بل إن الغذاء نفسه يتحول إلى سلاح في هذا الجو الذي يسود العلاقات الدولية في أيامنا هذه، وقد يكون أحيانا معادلا في تأثيره لأشد الأسلحة فتكا؛ فمن المرغوب فيه - بالنسبة إلى بعض الدول القوية - أن يظل هذا التفاوت بين الجوع والشبع، وبين الندرة والوفرة في الغذاء قائما؛ لأنه يتيح للدول التي تملك من الغذاء ما يفيض عن حاجتها أن تضغط بسلاح التجويع على الدول التي لا تملك من الغذاء إلا القليل؛ حتى تضمن خضوعها وتأمن من تمردها، وفي مثل هذا الجو لا يكون هناك - أصلا - استعداد لحشد الطاقات العلمية في حملة مركزة تستهدف القضاء على الجوع، من نوع تلك الحملة التي أدت في سنوات قلائل إلى صعود إنسان إلى سطح القمر.
وعلى ذلك، فليس في وسع أحد أن يجزم بأن مشكلة الغذاء ترتبط بمشكلة السكان وحدها، وأن كمية الغذاء وعدد السكان يتناسبان تناسبا عكسيا، أو يمثلان كفتي ميزان لا يمكن أن ترجح إحداهما إلا إذا خفت الأخرى، فواقع الأمر هو أن هذا لا يمثل إلا جانبا واحدا من جوانب المشكلة، وأن للمشكلة جوانب أخرى كثيرة؛ من أهمها: نوع العلاقات السائدة بين الدول، وطريقة توجيه الموارد العلمية، وإمكان أو عدم إمكان إيجاد أسلوب إنساني في التعامل بين الجماعات البشرية.
ومع كل هذا، فإنني لست من المؤمنين بسياسة ترك التزايد السكاني يتضاعف دون ضوابط. وإذا كنت فيما سبق قد حرصت على تأكيد وجود عوامل أخرى تؤثر في أزمة الغذاء إلى جانب عامل السكان، وأن من الخطأ الفادح أن نتصور وجود علاقة ثنائية - لا تشترك فيها أية اطراف أخرى - بين كمية الغذاء وعدد السكان، إذا كنت قد حرصت على هذا التأكيد، فإن حرصي هذا لا ينفي إيماني بأن تضاعف أعداد السكان دون ضوابط - وخاصة في البلاد الفقيرة والمتخلفة - هو أمر ينبغي تلافيه.
ولهذا الرأي أسباب ومبررات متعددة، قد لا يكون بعضها متصلا بمشكلة الغذاء على الإطلاق؛ فمن الواجب الحد من التزايد السريع للسكان في هذه البلاد، لأسباب تتعلق أساسا بمستوى الخدمات الصحية والتعليمية والاجتماعية التي يمكن أن تقدم إلى الأجيال الجديدة في المجتمعات النامية. وربما كان الأهم - حتى من هذا كله - الأسباب النفسية والتربوية العائلية؛ فمن الصعب على الأسرة التي تعيش في الربع الأخير من القرن العشرين أن تبدي عناية كافية بعدد كبير من الأبناء، وأن توجههم نفسيا وتؤهلهم لحياة ناجحة في المستقبل، وبطبيعة الحال فإن هذه الصعوبة تتضاعف إذا كان المستوى الاقتصادي لهذه الأسرة هابطا. ولكني أعتقد أنه حتى في المستويات الاقتصادية المرتفعة يندر أن يجد أبناء الأسر الكبيرة العدد نفس الرعاية النفسية والاهتمام الشخصي والإرشاد التربوي الذي يجده أبناء الأسر ذات الأعداد القليلة.
بل إن الإنجاب أصبح في ظل العلم الحديث أمرا يمكن التحكم فيه دون عناء، ومن هنا لم يكن هناك مبرر على الإطلاق لكي نترك الحبل على الغارب في مسائل الإنجاب، وكأن هذا شيء يستحيل التدخل فيه، ثم نجهد أنفسنا بعد ذلك في محاولة الحد من الأضرار المترتبة على تزايد النسل الذي كان يمكن ضبطه بجهود أقل بكثير من تلك التي نبذلها من أجل تلافي نتائجه.
ولقد لاحظت في جميع المناقشات التي تدور - سواء في بلادنا العربية وفي خارجها - أن كل من يناقش هذا الموضوع يسلم تسليما تاما باستحالة فرض قيود إجبارية على أعداد الأبناء، حتى لو كان ممن يؤمنون إيمانا قاطعا بأن زيادة السكان هي وحدها سبب نقص التغذية وسوء الخدمات وهبوط مستوى المعيشة في البلاد المتخلفة، والحجج التي تقال في هذا الصدد هي أن هناك أسبابا نفسية أو اجتماعية - وربما دينية في بعض المجتمعات - عميقة الجذور، تمنع من إجبار الناس، بقوة القانون مثلا، على التوقف في النسل عند حدود معينة. وأنا أسلم بأن الوضع الحالي هو كذلك بالفعل، ولكني أعتقد أن هذا الوضع السكاني يستحيل أن يستمر إلى ما لا نهاية، وأن المستقبل سيشهد تغييرا جذريا في موقفنا من هذه المشكلة.
ذلك لأننا لو استقرأنا تاريخ المجتمعات البشرية لوجدنا أن الإنسان ظل يفرض على نفسه مزيدا من القيود لكي ينال مزيدا من الحريات، وهذا تعبير يبدو متناقضا؛ إذ كيف تفرض القيود من أجل ضمان الحريات؟ ولكن من السهل أن يفهم القارئ ما أعني إذا ما فسره في ضوء مثال مألوف في حياتنا اليومية، وهو إشارات المرور: فنحن نفرض على أنفسنا أن نتقيد بإشارات المرور؛ لكي ننال بذلك مزيدا من الحرية في حركة المرور، والدليل على ذلك أن تعطل إحدى الإشارات - الذي يبدو في الظاهر وكأنه يعطي السائق أو السائر «حرية» السير كما يشاء - يؤدي في واقع الأمر إلى إلغاء هذه الحرية بما يسببه من تكدس وفوضى في المرور. وهكذا الحال في أمور البشر جميعا؛ إذ ننتقل من حالة «الحرية» العشوائية أو المتخبطة التي كانت تسود في البداية، إلى نوع من التنظيم أو التقييد الذي يحقق لنا مزيدا من الحرية.
وخلال تاريخ الإنسان الطويل كانت هناك أمور يعتقد أنها ينبغي ألا تمس، ومع ذلك فقد تناولها التنظيم والضبط في الوقت المناسب، فليس في استطاعة الإنسان - مثلا - أن يسير عاريا في الطريق حتى ولو كان يشعر براحة كبيرة في هذا العمل؛ لأنه يؤذي مشاعر الآخرين بهذا السلوك، وليس في استطاعته أن يقول للناس أي شيء يريد قوله؛ لأنه قد يحاكم بتهمة القذف العلني، وليس في استطاعته أن يربح إلى غير حد؛ لأنه - حتى في الدول الرأسمالية - خاضع للضرائب، وقس على ذلك آلاف الأمثلة التي تثبت أن مفهوم الحرية القديم - بمعنى الانطلاق بغير قيود - يخلي مكانه على نحو متزايد لمفهوم آخر هو التنظيم والتقييد الذي يؤدي إلى مزيد من الحرية الحقيقية.
وفي اعتقادي أن إنجاب الأطفال سيصبح يوما ما داخلا في نطاق هذه الفئة من الأفعال التي ينبغي أن تخضع للتقييد والتنظيم الذي يستهدف - في نهاية الأمر - صالح البشرية كلها وصالح الأجيال الجديدة بوجه خاص، وسيأتي اليوم الذي ينظر فيه المجتمع البشري إلى مسألة إنجاب كائن جديد على أنها مسئولية يجب أن تمارس بحساب، وفي إطار ضوابط وضمانات معينة؛ لأنها تلقي عبئا على مجتمع كامل، ولأن هذا المجتمع سيصبح بالفعل مسئولا عن هذا الكائن؛ تثقيفه وتعليمه ورعايته؛ ومن ثم فلا بد أن تكون للمجتمع كلمة تقال في هذا الموضوع. أما العقبات التي يمكن أن تظهر في حالة تعليق مثل هذا التنظيم - كاحتمال إنجاب العدد المقرر من جنس واحد فقط، أو كالإنجاب من عدة زوجات، أو وفاة الأبناء في كارثة مفاجئة، إلى آخر هذه الحالات المحتملة - فما هي في الواقع إلا استثناءات يمكن معالجتها بسهولة في إطار التنظيم الشامل.
ولعل القارئ يدهش إذ يجد أنني اتخذت في البداية موقف المهاجم لمن يرون في تحديد النسل الوسيلة الوحيدة لتخفيف أزمة الطعام في العالم الفقير، ثم اتخذت في النهاية موقف المدافع عن مبدأ تحديد النسل حتى بقوة القانون، ولكني لا أرى أي تعارض بين هذا وذاك؛ إذ إن العالم - حتى لو وصل إلى مرحلة التنظيم العلمي لعلاقاته الاجتماعية والسياسية بحيث يكرس من موارده ما يكفي لحل مشكلة الطعام عن طريق البحث العلمي المركز - سيجد أن من مصلحته إيقاف تكاثر السكان عند حدود معينة، بل سيأتي وقت يكون لزاما عليه فيه أن يفعل ذلك، بحيث يلغي هذه «الحرية» المزعومة في مسألة تمس المجتمع ككل، ويفرض من الضوابط على النسل ما فرضه من قبل على شتى مظاهر حياة الإنسان. فنحن قد أصبحنا «كائنات اجتماعية» منضبطة، مندرجة في تنظيمات وخاضعة لقوانين لا حصر لها، وفي كل يوم يتسع نطاق التنظيم الاجتماعي لأمور كانت من قبل تترك للسلوك التلقائي العفوي، فلماذا يشذ إنجاب كائنات جديدة عن هذا الاتجاه العام للسلوك البشري، مع أنه من أخطر مظاهر السلوك البشري في عواقبه ونتائجه، وهو قد أصبح في الوقت نفسه - بفضل العلم الحديث - من أسهلها تنظيما؟ (2-2) مشكلة البيئة
قبل الستينيات من هذا القرن كان الكلام عن «مشكلة البيئة» لا يتعدى جدران عدد محدود من المجامع العلمية الشديدة التخصص، وفي الستينيات ذاتها - وخلال فترة وجيزة - أصبحت هذه المشكلة واحدة من أكثر المشكلات تداولا على ألسنة الناس وفي أجهزة الإعلام وفي الهيئات الدولية الكبرى، وأنشئت لها معاهد متخصصة وكراسي أستاذية في الجامعات، وظهرت لها مجلات خاصة، ومئات الكتب بشتى اللغات، بل لقد أنشئت لها وكالة أو هيئة دولية متخصصة منبثقة عن هيئة الأمم المتحدة، فما الذي أدى إلى هذا الانتقال السريع من التجاهل التام لمشكلة البيئة إلى الوعي الزائد بها؟
من المؤكد أن المشكلة ذاتها كانت موجودة قبل ظهور هذا الوعي المفاجئ بوقت طويل؛ ذلك أن التقدم العلمي والتكنولوجي كان لا بد أن يترك آثاره العميقة على بيئة الإنسان، ومنذ بداية العصر الصناعي أصبح تدخل الإنسان في البيئة حقيقة أساسية من حقائق هذا العصر؛ لأن لفظ «الصناعة» ذاته يعني تغيير عناصر البيئة بجهد الإنسان. كانت المشكلة موجودة بالفعل منذ وقت طويل، ولكن التنبيه إلى خطورتها وإلى أبعادها المتعددة هو الذي تأخر في الظهور.
أما هذا الظهور المتأخر للوعي بمشكلة البيئة فربما كان راجعا إلى مجموعة من العوامل، أهمها التوسع الهائل في التصنيع والزيادة الضخمة في الإنتاج بعد الحرب العالمية الثانية، وهو توسع وصل إلى حد إدخال تغيرات أساسية في البيئة الطبيعية التي أخضعت لمتطلبات الصناعة إلى حد قضى على كثير من معالمها الأصلية، ولكن لعل العامل الأهم من ذلك - في ظهور مشكلة البيئة على المسرح الدولي بصورة مباغتة - هو ظهور وعي جديد - في غمرة هذا السباق المحموم على الإنتاج الضخم بين الدول الصناعية الكبرى - بضرورة الحفاظ على توازن البيئة التي يعيش فيها الإنسان وغيره من الأحياء، فقد أدرك الكثيرون في المجتمعات الصناعية أن تلاعب الإنسان ببيئته قد زاد عن حده، وأن الجري اللاهث وراء التصنيع أدى إلى نسيان الطبيعة الأم، بل أدى إلى تلويثها بمختلف النواتج المتخلفة عن عمليات التصنيع.
ولقد كانت مشكلة تلوث البيئة - نتيجة لنفايات المصانع - هي المشكلة الصارخة التي أثارت الاهتمام العالمي بموضوع البيئة؛ ذلك لأن المصانع تطرد من مداخنها الضخمة كميات هائلة من الغازات التي تلوث جو مدن بأكملها، وتعرض حياة الإنسان - وخاصة الأطفال الذين لا يستنشقون هواء نقيا - لأخطار جسيمة، وفضلا عن ذلك فإن الأنهار تتلوث بما يلقى فيها من مخلفات المصانع، وتهدد الحياة المائية فيها بالخطر، فضلا عن أخطار تلويث مياه الشرب. بل إن البحار ذاتها - بكل مساحاتها الشاسعة - تتعرض بدورها للتلوث بسبب مخلفات المصانع القريبة منها والسفن التي تسير فيها والموانئ المطلة عليها.
وهكذا يبدو أن هذا الوعي القوي بمشكلة البيئة قد ظهر في بداية الأمر بوصفه رد فعل على التوسع الضخم في الإنتاج الصناعي، والتسابق بين الدول وبين الشركات المنتجة في إغراق الأسواق بسلع جديدة، دون أي تفكير في الأعراض الجانبية التي تصاب بها البيئة الطبيعية نتيجة لهذه المنافسة الرهيبة على الإنتاج، وكان الهدف الأساسي لتلك الحملة العالمية الداعية إلى حماية البيئة، هو أولا تجنب الأخطار المباشرة للتلوث، التي أصبحت أخطارا ملموسة في البلاد المتقدمة، وهو ثانيا تحقيق نوع من التوازن بين مطالب الإنسان ومطالب الطبيعة؛ فالإنسان يريد تحوير الطبيعة لكي تلائم أغراض الإنتاج الصناعي، والطبيعة تريد أن تحفظ وتصان، وكان على المهتمين بشئون البيئة أن يحاولوا الاهتداء إلى الوسائل الكفيلة بالتوفيق بين هذين المطلبين، بعد أن أفرط الإنسان في الاهتمام بالمطلب الأول إلى حد يهدد بضياع المعالم الأصلية للطبيعة.
بل إن التقدم في تكنولوجيا الزراعة ذاتها - التي هي ألصق بالبيئة الطبيعية من الصناعية بطبيعة الحال - قد أدى إلى مشكلات بيئية خطرة؛ فاستخدام مبيدات الآفات على نطاق واسع أدى إلى تلوث المزروعات وتعرض مستهلكيها لأخطار التسمم، فضلا عن أن إلقاء مياه الصرف في الأنهار والترع قد لوثها بدورها، وهدد كل أشكال الحياة المائية بالخطر .
ولا يقتصر هذا الخطر على التلوث وحده، بل إن هناك خطرا آخر يتمثل فيما يسمى «باختلال التوازن البيئي»، فعناصر الطبيعة المختلفة قد تعايشت على مدى مئات الألوف من السنين بحيث يعتمد بعضها على بعض في توازن دقيق، وتدخل الإنسان للقضاء على أحد هذه العناصر يمكن أن يؤدي إلى نتائج غير متوقعة في عناصر أخرى تبدو بعيدة عنه؛ وذلك لأن التوازن بينها قد اختل، وكلنا نذكر إلى أي حد أعجب الناس في العالم بأسره بتجربة الصين الرائدة حين قضت - في أيام قلائل - على العصافير التي كانت تتكاثر بالملايين، وكانت تهدد محاصيل الحبوب تهديدا خطيرا يؤثر في ثروة الأمة الزراعية، ولكن هذا القضاء المبرم على العصافير قد تبين - بعد سنوات قلائل - أنه ألحق الضرر بالتربة الزراعية؛ لأن العصافير كانت تأكل ديدانها التي تفرز سموما، فلما اختفت العصافير تكاثرت هذه الديدان إلى حد كان له تأثيره الضار على خصوبة التربة. وهكذا فإن تدخل الإنسان في التوازن الدقيق الذي تكونه البيئة الطبيعية قد أدى في نهاية الأمر إلى ضرر غير متوقع.
وعلى أية حال، فسواء نظرنا إلى المشكلة من زاوية التلوث، أم من زاوية الإخلال بالتوازن الطبيعي، فإنها في معظم حالاتها تعد نتيجة مباشرة للتقدم العلمي والتكنولوجي السريع في عصرنا الحاضر، وهي تدعونا بإلحاح إلى محاولة الحد من بعض الأضرار الجانبية التي يجلبها هذا التقدم معه، لا سيما بعد أن استفحلت هذه الأضرار الجانبية في الآونة الأخيرة بصورة تدعو إلى القلق، ولكن ظهور الوعي بالمشكلة، وانعقاد عشرات المؤتمرات والندوات المتعلقة بها، ونشر مئات الأبحاث عنها؛ أدى إلى اتساع نطاق الاهتمام بموضوع البيئة إلى حد يفوق بكثير مسألة مكافحة التلوث، فظهرت أبعاد اجتماعية وجمالية للمشكلة، تناولت بالتحليل بيئة الإنسان الحديث بوجه عام، بغض النظر عن أضرار التصنيع الواسع النطاق.
ذلك لأن التفكير المتعمق في مشكلات البيئة يبين أن هذه المشكلات يصعب حلها من جذورها ما دام الهدف من النشاط الاقتصادي هو التنافس على الربح، ففي ظل هدف كهذا تكون الحلول جزئية فقط، ولا يؤخذ بها إلا بقدر ما يمكن إدماجها في إطار اقتصاد السوق، أما إذا تعارضت مع هذا الاقتصاد فإنها تهمل. ولما كان هذا الاقتصاد ميالا بطبيعته إلى التوسع والوصول إلى الحدود القصوى الممكنة للإنتاج فإن الحلول الجذرية لمشكلات البيئة فيه تكاد تكون مستحيلة. وهكذا يرتبط موضوع البيئة بنوع القيم الاجتماعية والاقتصادية السائدة، ويتضح أن إيجاد حل حقيقي يحفظ للإنسان توازن بيئته، يحتاج إلى تغيير أساسي في قيم المجتمع، لا تعود فيه مرتكزة على التنافس بل على التعاون والتعايش؛ أي إن المسألة ترتد في واقع الأمر إلى نوع الأنظمة التي يختارها الإنسان لمجتمعه. ومن هنا اعتقد البعض - عن حق في رأيي - أن مشكلات البيئة لا تجد حلولها الحقيقية إلا على مستوى عالمي شامل.
والواقع أن مسار العلاقة بين الإنسان والبيئة كان موازيا - إلى حد بعيد - للعلاقة بين الإنسان وناتج عمله؛ فقد تصور الإنسان في وقت ما أن ما ينتجه يفلت زمامه من يده، ويخضع لقوى مجهولة تسير في طريقها الخاص دون أن يستطيع أحد أن يوقفه أو يعيد توجيهه، وكان ينظر إلى التلوث الناجم عن هذا التقدم على أنه الضريبة الحتمية التي ينبغي أن يدفعها الإنسان كلما ازداد سيطرة على الطبيعة؛ أي إن ثمن التقدم العلمي والتكنولوجي هو إفساد البيئة الطبيعية التي يستظل بها الإنسان. ولكن التفكير بدأ يتجه في السنوات الأخيرة اتجاها مخالفا؛ هو أن قدرة الإنسان على فهم قوانين الطبيعة واستغلالها لصالحه لا ينبغي على الإطلاق أن تؤدي إلى تشويه الإنسان لبيئته الطبيعية؛ فالعلم والتكنولوجيا هما - قبل كل شيء - وسائل اصطنعها الإنسان لكي يبني لنفسه حياة أفضل؛ ومن ثم كان من الضروري توظيفها من أجل صيانة البيئة الطبيعية لا تلويثها.
ويمكن القول إن الوعي العالمي بمشكلات البيئة قد ظهر متأخرا، ولكنه نما بسرعة هائلة، بحيث أصبح الإنسان - بعد مضي سنوات قلائل - حريصا على دراسة تأثير أي نشاط يقوم به في بيئته الطبيعية، وأخذ يضع من القوانين ويتخذ من الاحتياطات ما يعتقد أنه كفيل بصيانة هذه البيئة من أخطار التدخل الزائد في توازنها الطبيعي. ولكن لا يمكن القول إننا اقتربنا من المرحلة التي نستطيع فيها التوفيق بين تحقيق التقدم الاقتصادي الواسع النطاق، والمحافظة على نقاء الطبيعة وضمان سعادة متكاملة للإنسان في عالم يتطلع إلى الإنتاج الوفير.
ولكن ما موقف المنطقة التي نعيش فيها من مشكلات البيئة؟ من الواضح أن هذه المشكلات قد ظهرت أصلا في بلاد صناعية متقدمة، والاهتمام الذي أبدي بها، والضجة التي أثيرت حولها، والاتجاه المفاجئ إلى دراستها علميا وتطبيقيا، إنما كان في هذه البلاد. ولما كانت بلادنا في عمومها مفتقرة إلى التصنيع الثقيل على نطاق واسع، فيبدو أن مشكلات البيئة لا تمسها مساسا مباشرا. كذلك فإن عملية استهلاك الموارد الطبيعية إلى حد الاستنفاد لم تحدث بعد في معظم بلاد العالم الثالث؛ ومن ثم فإن الخوف من أخطار النفايات الصناعية ليس له حتى الآن ما يبرره.
ومع ذلك فإن هذا لا يعني على الإطلاق أن تقف بلادنا مكتوفة الأيدي حتى يجيء الوقت الذي تداهمها فيه أخطار التلوث أو انعدام التوازن البيئي؛ فمن الواجب أن نفيد من تجربة البلاد الأخرى التي سبقتنا في مجال التصنيع وفي التكنولوجيا الزراعية المتقدمة، ولنتذكر أن من أهم عوامل التلوث البيئي ازدحام المدن، وأن حركة الانتقال إلى حياة المدن تسير في بلاد العالم الثالث بسرعة وبغير تخطيط؛ مما يساعد على ظهور كثير من المشكلات المتعلقة بالبيئة.
وهنا ينبغي علينا أن نعود إلى الكلام عن جانب آخر من جوانب مشكلة البيئة أصبح في الآونة الأخيرة يشغل قدرا كبيرا من اهتمام المشتغلين بهذا الموضوع، وأعني به الجانب الجمالي للبيئة. فليست المشكلة الوحيدة المتعلقة بعلاقة الإنسان ببيئته الطبيعية هي المشكلة المادية الناجمة من تدخله الزائد في الطبيعة وسوء استخدامه لطاقاتها ومواردها، بل إن البيئة الجمالية بدورها ينبغي أن تكون موضوعا لاهتمامنا وعنايتنا. فالطفل الذي ينشأ في بيئة تتسم بالقبح، ولا يرى حوله مظهرا من مظاهر الجمال أو الذوق أو التناسق والانسجام، يكون قد افتقد عنصرا هاما من عناصر إنسانيته. وفي وسعنا أن نقول: إن هذا القبح يمكن أن ينتج عن الثراء المفرط، أو عن الفقر المدقع؛ ففي البلاد ذات الاقتصاد المتقدم والإنتاج الوفير، يكون السعي إلى الضخامة في البناء متعارضا - في أحيان كثيرة - مع البحث عن الجمال؛ وعند حدوث هذا التعارض فإن الطرف الذي يضحى به - في الغالب - هو الجمال. وهكذا فإن كثيرا من المدن الصناعية الكبرى - التي تنتج ثروات اقتصادية هائلة ويتعامل أهلها بأموال طائلة - تفتقر إلى الجمال الذي قد نجده بدرجة تفوقها بكثير في بلدة صغيرة بسيطة البناء متواضعة الموارد، ولكن القبح يوجد أيضا على الطرف الآخر في السلم الاقتصادي، وهو أمر طبيعي تماما؛ ففي البلاد الفقيرة لا يكون هناك مجال للاهتمام بالجمال، وحيث تسود الأزمات الاقتصادية ويتكدس الناس في بيوت متهالكة وتضيق الأرض بمن عليها لا تتوقع من أحد أن يحرص على وجود لمسات جمالية في البيئة، أو على ترك مساحات خضراء واسعة لتنقية الهواء وتنقية النفوس معا، ما دامت لقمة العيش هي الشغل الشاغل للجميع.
هذا العامل الجمالي يمثل العنصر الأهم من عناصر مشكلة البيئة في بلاد العالم الثالث، ومن حسن حظ كثير من هذه الدول أن لديها تراثا حضاريا عريقا ما زالت آثاره قائمة في أرجائها على نطاق واسع، وهذه الآثار - فضلا عن الطابع التقليدي العريق للعمران في هذه البلاد - يمكن أن تكون عنصرا أساسيا في المحافظة على الجانب الجمالي للبيئة، وما يستتبعه ذلك من إعلاء للجوانب المعنوية في حياة الإنسان. ومن هنا كان حرص الكثيرين على صيانة الآثار العريقة في البلاد الفقيرة؛ لكي يكون فيها تعويض عما تعجز هذه البلاد عن تحقيقه بمواردها الاقتصادية المحدودة.
غير أن ضرورات التنمية وإدخال الأساليب التكنولوجية الحديثة في الحياة كثيرا ما تتعارض مع الحرص على الطابع الجمالي التقليدي للبيئة في البلاد النامية. بل إنه ليبدو - في بعض الأحيان - أن أصوات أولئك «الزوار الأجانب» الذين ينصحون أهل هذه البلاد بالمحافظة على الطابع التقليدي لبيئتهم، وبعدم الانسياق وراء إغراءات الحياة العصرية، هي في حقيقتها دعوة (مقصودة أو صادرة عن نية حسنة) إلى أن تظل هذه البلاد «متحفا» أثريا يستمتع به المتفرجون وحدهم. وهكذا تبدو هذه النظرة «المتحفية» إلى البيئة - في بعض الأحيان - عائقا في وجه تطور المجتمع نحو الأخذ بأساليب التقدم الحديثة. وعلى أية حال فإن التحدي الحقيقي أمام بلادنا النامية - فيما يتعلق بالمشكلة التي نتحدث عنها ها هنا - هو في الوصول إلى الصيغة الملائمة التي توفق بين المحافظة على الهوية الأصيلة للبيئة من جهة، واللحاق بموكب التقدم العلمي والتكنولوجي من جهة أخرى. (2-3) مشكلة الموارد الطبيعية
لهذه المشكلة وجه نعرفه في بلادنا العربية حق المعرفة، هو الوجه المتعلق بأزمة الطاقة؛ فمصادر الطاقة - وعلى رأسها البترول - أصبحت في وقتنا الراهن موضوعا من أهم الموضوعات التي تبحثها المؤتمرات العلمية والتجمعات السياسية، والتي تتغير بسببها الاستراتيجيات وتتشكل الأحلاف وتنشب النزاعات وتحاك المؤامرات. والمشكلة التي يواجهها العالم - والتي أصبح على وعي تام بها في أيامنا هذه - هي أن مصادر الطاقة التقليدية - وخاصة البترول - محدودة، وأن التقدم التكنولوجي يدفع العالم رغما عنه إلى التوسع في استهلاكها؛ ومن ثم فإنه سيواجه في وقت غير بعيد بموقف يجد فيه بتروله قد نفد؛ فيعجز عن استغلال كافة موارده الطبيعية الأخرى.
على أن الأمر المؤكد هو أن العلم لا يقف مكتوف الأيدي أمام هذا الاحتمال المخيف؛ فالبحث لا يتوقف لحظة واحدة عن مصادر بديلة للطاقة، وعلى رأسها الطاقة الذرية التي قطعت الدول المتقدمة شوطا بعيدا في استخدامها، وكذلك الطاقة الشمسية التي استغلت بدورها ولكن على نطاق أضيق. كما أن ثمة تفكيرا جادا في استغلال طاقة الحرارة الأرضية، وطاقة المد والجزر على نطاق عالمي واسع، ولكن المشكلة في هذه الطاقات البديلة هي أنها لم تصبح بعد اقتصادية إلى الحد الذي يبرر استخدامها على نطاق واسع، وكل الآمال تتركز - بطبيعة الحال - على خفض تكاليف إنتاجها إلى حدود معقولة بحيث تصبح بديلا عن الطاقة البترولية حينما تنفد.
ولكن البترول والطاقة - بوجه عام - ليست إلا وجها واحدا من أوجه مشكلة الموارد الطبيعية التي تواجه العالم اليوم؛ فهذا العالم يستهلك موارده الأخرى - من الحديد والنحاس والقصدير ... إلخ - بمعدل متزايد؛ لكي يلبي أغراض الصناعة التي تتوسع بلا انقطاع، ومطالب الاستهلاك التي اعتادها الإنسان حتى أصبحت جزءا لا يتجزأ من حياته. وإذا كانت بعض الموارد الطبيعية قابلة للتجديد - كالأخشاب مثلا التي يمكن أن تتجدد بظهور أشجار جديدة - فإن الموارد المعدنية التي تستهلك لا يمكن تعويضها؛ ومن ثم فإن رصيد العالم منها يتضاءل يوما بعد يوم.
وقد دق عدد كبير من الباحثين ناقوس الخطر، معلنا أن الموارد الحالية من المعادن الهامة التي تقوم عليها الصناعات الرئيسية - ومن ثم تقوم عليها الحضارة العصرية بأسرها - لا بد أن تنتهي في وقت قصير إذا سارت الزيادة في معدلات الاستهلاك سيرتها الحالية؛ فبعض المعادن لا يقدر للمخزون منه أن يدوم أكثر من ربع قرن، وبعضها قد يدوم أكثر من ذلك، ولكن الأمر المؤكد هو أنه إذا انقضى على البشرية قرن آخر ظلت فيه صناعاتها تستهلك الموارد الطبيعية على النمط السائد الآن، فإن معظم الموارد الأساسية سيكون عندئذ قد نفد.
وفي مقابل ذلك يذهب بعض المتفائلين إلى أن الصورة ليست قاتمة إلى هذا الحد، فمن المحال أن يظل العقل الإنساني ينتظر - في حالة من السلبية - نقصان رصيده من موارد الطبيعة يوما بعد يوم، حتى ينتهي الأمر بالبشرية إلى العودة مرة أخرى إلى الكهوف بعد أن تنضب آخر ذرة من معادنها ومن طاقاتها. والرأي الذي يدافع عنه هؤلاء هو أن التقدم العلمي كفيل بأن يكشف للإنسان آفاقا جديدة لا تخطر له الآن على بال، فإذا توصل الإنسان إلى الوسائل الفعالة لاستخراج الثروات الطبيعية الكامنة في أعماق المحيطات، فمن المؤكد أنه سيهتدي فيها إلى احتياطي من الموارد يبلغ أضعاف ما قدره المتشائمون، وإذا استطاع أن يتوغل في باطن الأرض ذاتها - التي يمكن القول أن كل كشوفنا تكمن على السطح الأعلى من قشرتها الخارجية - فسوف يجد على الأرجح موارد معدنية هائلة مدفونة في الأعماق البعيدة للأرض، وإذا أصبح الاتصال بين الكواكب والنجوم الواقعة في الفضاء القريب من الأرض حقيقة واقعة، وأمكن تحقيقه بطريقة منتظمة، فسوف يستخلص الإنسان من هذه العوالم الجديدة موارد تعوضه عن كل ما يفقده على سطح الأرض.
ومع ذلك فإن هذا الرد - الذي يعتمد على إنجازات علمية بعيدة المدى - لا يبدو كافيا في نظر الكثيرين، الذين يرون أن المشكلة ستواجه العالم في وقت أقرب من ذلك الذي تتحقق فيه آمال هؤلاء المتفائلين؛ فهناك احتمال قوي في أن يواجه الإنسان بنقص أساسي في موارده الطبيعية «قبل» أن يكون العلم قد تمكن من التوصل إلى بدائل أو كشف مصادر جديدة لها، وعندئذ يكون لزاما علينا أن نفكر - منذ الآن - فيما ينبغي عمله قبل أن يتحقق هذا الاحتمال المخيف.
والأمر الذي يركز عليه كثير من المفكرين الواعين بخطورة هذه المشكلة، هو أن الأجيال الحاضرة ينبغي أن تفكر في مصير الأجيال القادمة، ولا تترك لها العالم فقيرا في الموارد، لكي تحل هي مشكلاتها بنفسها، وهنا تتدخل مشكلة أساسية من مشكلات القيم؛ فهل ينبغي علينا - نحن الذين نعيش في الجيل الحاضر - أن نراعي حقوق جيلنا هذا وحده؟ أم أن الجيل الناشئ والأجيال التي لم تولد بعد لها - بدورها - حقوق ينبغي مراعاتها عند استهلاك موارد العالم الطبيعية؟
1
الواقع أن الإجابة عن هذا السؤال ليست يسيرة إلى الحد الذي تبدو عليه للوهلة الأولى.
فمن الواضح - في نظر الكثيرين - أن الأجيال البشرية ينبغي أن تتخلى عن أنانيتها، وعن رغبتها في ضمان أعلى مستوى ممكن لمعيشتها، وعليها أن تفكر في مصير الأجيال التي ستعقبها، فلا تبدد موارد الطبيعة إلى الحد الذي لا يترك لهذه الأجيال اللاحقة ما تستطيع أن تستهلكه.
ومن المؤكد أن معدل الاستهلاك في الدول الغنية يزداد بدرجة تنذر بخطر حقيقي في المستقبل، إذ يصل هذا الاستهلاك أحيانا إلى حد التبديد السفيه، وهنا يكون من الطبيعي أن يثور الضمير الإنساني على هذا التبديد غير المسئول، الذي لا يحدث من أجل إشباع ضرورات حيوية، بل يحدث لإرضاء رغبات أنانية ونزوات استهلاكية مجنونة لا يلبي معظمها حاجات أصيلة لدى الإنسان. فإذا كان هذا الاستهلاك الزائد عن الحاجة يتم على حساب الضرورات الأساسية التي ستحتاج إليها الأجيال المقبلة، أليس من حق المرء أن يعترض ويطالب بالتريث والتفكير في الآخرين، لا سيما إذا كان هؤلاء الآخرون هم أبناؤنا وأحفادنا؟
على أن أنصار الرأي المضاد يسوقون حججا تبدو في نظر الكثيرين معقولة: فمن الواجب - في نظرهم - أن نترك الأجيال المقبلة تواجه مشكلاتها بنفسها، ولو افترضنا أن الجيل الحالي قد قلل استهلاكه - بقدر ما يستطيع - مراعاة لمطالب الأجيال القادمة، فإن هذا لن يكون حلا للمشكلة؛ وذلك لسببين: الأول أن المستهلكين الحقيقيين في هذا العالم هم قلة من الدول التي تشكل نسبة ضئيلة من مجموع سكان العالم، أما الأغلبية الساحقة فتعيش على مستوى الكفاف. ولو اختفت الأنانية من العالم، وساده تنظيم عاقل يراعي مصالح الغير، فسوف يكون أول ما ينبغي على هذا التنظيم عمله هو رفع المستوى الاستهلاكي للأغلبية البائسة من شعوب العالم إلى مستوى معقول، وعندئذ سنواجه المشكلة بنفس حدتها الحالية وربما بمزيد من الحدة؛ إذ إن رفع مستوى ألوف الملايين من فقراء العالم إلى حد معقول سيؤدي إلى استهلاك لموارد العالم بمعدل قد يفوق المعدل السائد بين الدول الغنية المبذرة في الوقت الراهن. وأما السبب الثاني فهو أننا مهما قترنا على أنفسنا الآن، أو حتى بعد جيل أو جيلين، فسوف نضطر - عاجلا أو آجلا - إلى مواجهة المشكلة بكل حدتها يوما ما، إذ إن ترشيد الاستهلاك - حتى لو تحقق على نطاق عالمي - لن يمنع من حدوث أزمات في الموارد الطبيعية في المستقبل، وكل ما سيؤدي إليه هو إرجاء المشكلة إلى حين.
ولا شك أن هذه الحجة الثانية يمكن أن يرد عليها بأن إرجاء المشكلة يعني إعلاء فرصة أطول للعلم كيما يتوصل إلى حلول جديدة غير مألوفة لمشكلة الموارد الطبيعية، بدلا من أن يضطر العالم إلى مواجهة هذه المشكلة قبل أن يكون العلم قد أعد نفسه لحلها، كما أن ضمان مستوى معقول للغالبية الفقيرة من سكان الأرض قد يساعد سكان هذه المناطق على بذل المزيد من الجهد من أجل استخراج كل ما هو كامن في أقاليمهم من ثروات.
ولكن الذي يهمنا من هذه المقابلة بين الآراء المتعارضة في مشكلة الموارد الطبيعية هو أولا أن المشكلة ليست بالبساطة التي تبدو عليها للوهلة الأولى، بل إنها من التعقيد بحيث تستدعي قدرا غير قليل من التفكير المتعمق، الذي يوازن بين الحجج والردود عليها، ويدرك أن للموضوع أبعادا متعددة. ويهمنا ثانيا في هذا الموضوع أن نؤكد ارتباطه بمشكلات أخلاقية، كمشكلة أنانية الأجيال، وبمشكلات اجتماعية كمشكلة التقريب بين مستويات المجتمعات البشرية. ولكن ربما كانت أهم المشكلات العقلية التي يثيرها هذا الموضوع هي تلك المشكلة الأساسية المتعلقة بالقيم، وأعني بها قيمة الحياة الاستهلاكية التي تعيشها المجتمعات الصناعية الحديثة.
ذلك لأن المجتمعات المتقدمة أصبحت - في عصرنا الحاضر - تنظر إلى التوسع في الاستهلاك كما لو كان غاية في ذاته، وتعده قيمة أساسية من قيم الحياة ينبغي أن تؤخذ على ما هي عليه دون مناقشة، بل إن الإنسان الحديث أصبح ينظر إلى أي نظام اجتماعي على أنه جهاز ضخم وظيفته الأولى والأساسية هي توفير مطالبه الاستهلاكية، وأصبح يحكم عليه - إيجابا أو سلبا - في ضوء قدرته أو عدم قدرته على تحقيق هذه المطالب.
ولقد أصبح هذا الأسلوب من التفكير متغلغلا فينا إلى حد أننا لم نعد قادرين على مناقشته، بل أصبحنا نعده جزءا من طبيعة الأشياء، ونظاما من أنظمة الكون. ولكن حقيقة الأمر أن هذا كله اتجاه حديث، ينتمي إلى قيم المجتمع الصناعي الغربي، وهي القيم التي استطاعت - بفضل تفوق هذا المجتمع - أن تنتشر وتعم أجزاء كبيرة من العالم المعاصر. والدليل على أن هذا الاتجاه الاستهلاكي ينتمي إلى الإنسان الحديث وحده، هو أن العصور الماضية كانت تفكر في الأمر بطريقة مغايرة تماما؛ فعند اليونانيين القدماء كان الفكر الفلسفي والأخلاقي - وخاصة عند سقراط وأفلاطون وأرسطو والرواقيين - يتجه إلى تعويد الإنسان السيطرة على رغباته والتحكم فيها، ولم يقل أحد عندئذ أن وظيفة النظام الاجتماعي هي أن يوفر للإنسان أكبر قدر من أدوات الاستهلاك. وفي العصور الوسطى كانت معظم الرغبات الاستهلاكية - التي هي محور حياتنا الحاضرة - تعد رغبات شريرة، وكان هدف النظام الاجتماعي والفكري هو إخماد صوت هذه الرغبات ، وكان الإنسان الأمثل هو ذلك الذي يعزف عن تحقيق مطالب الترف والرفاهية.
ولست أود أن يفهم القارئ مما أقوله أنني أدعو إلى الزهد أو أحمل على الحياة الحديثة لأنها مترفة؛ إذ إن الأمر المؤكد هو أن دعاة الزهد المتطرف كانوا يكبتون كثيرا من الرغبات الإنسانية المشروعة، ويقمعون مطالب حيوية للإنسان، وقد أثبتت الأيام أن كثيرا من دعاة الكبت والقمع هؤلاء يعيشون حياة مضادة تماما لتلك التي يدعون الناس إليها. ومن جهة أخرى فإن الإنسان قد أحرز في العصر الحديث تقدما لا شك فيه حين استطاع أن يتحرر من هذا الكبت، واقتنع بأن إرضاء رغباته الطبيعية لا يتعين أن يكون في ذاته أمرا شريرا.
ولكن ما أود أن أثبته - من هذه المقارنة - هو أن النمط الحالي للحياة الاستهلاكية ليس أمرا مسلما به كما نتصور الآن، وأن الإنسان كان يعيش في عصور أخرى في ظل قيم مضادة لتلك التي يسلم بها الآن، حتى لو لم يكن قد تمسك دائما بهذه القيم، فإذا أدركنا هذه الحقيقة؛ أمكننا أن نتأمل بنظرة نقدية طبيعة الحياة الاستهلاكية التي يتصور الإنسان الحديث أنها أقصى أمنياته.
وحين نقوم بهذا النقد ستظهر بوضوح أمامنا عيوب هذا التطلع الاستهلاكي المخيف الذي يتملك الإنسان في المجتمعات المتقدمة، ويحلم به الإنسان في المجتمعات غير المتقدمة، وحقيقة الأمر هي أن المشكلة لا تكمن - على وجه الدقة - في الاستهلاك أو عدم الاستهلاك، بل إن أساس الموضوع كله هو «نوع» الاستهلاك، فنحن قد تطرفنا في الاتجاه المضاد لما كان يدعو إليه أجدادنا من زهد وعزوف عن المطالب المادية، حتى أصبحنا محاطين بشبكة محكمة من الوسائل الإعلامية التي تدعونا بذكاء شديد إلى استهلاك أشياء تافهة. وهكذا يجد المرء - أينما ذهب - إعلانات ضخمة تدعو إلى صنوف من المأكولات أو المشروبات، وتغريه بمظهرها الحسي الفج، وتصور الشفاه الظامئة وهي تتلهف على الزجاجة المثلجة، أو الأسنان الشرهة وهي تنقض على قطعة اللحم، حتى ليشعر المرء بأن الزمن قد دار دورة كاملة منذ عهد الترفع على المحسوسات حتى عهد الإغراق السوقي فيها.
ولنقل مثل هذا عن أساليب استثارة الرغبات الحسية الأخرى - كالجنس - التي أصبحت تحفل بها إعلانات الأفلام والملاهي وتزين أغلفة المجلات ... إنها بدورها مظهر لقيم معينة، قد يكون لها جانب إيجابي هو أن الإنسان لم يعد مكبوتا، ولكن لها جوانب سلبية واضحة، هو أنها تجعل للحياة الإنسانية أهدافا حسية مباشرة، وتسيء إلى الرغبات الإنسانية الطبيعية ذاتها؛ إذ تجعلها موضوعا للمتاجرة والربح، وتنزع عنها طابع الخصوصية - الحالي هو أساسي فيها - لتحيلها إلى سلعة عامة يتداولها الجميع.
والأعجب من ذلك أن السعي المحموم إلى الاستغلال التجاري للرغبات الإنسانية قد دفع هؤلاء المستغلين إلى خلق «رغبات صناعية» لا تلبي حاجات طبيعية لدى الإنسان، ولكن الإلحاح المستمر عليها - بالدعاية والإعلان - يقنع الناس على نحو متزايد بأنها رغبات أساسية. وهكذا يخلق لدى الإنسان - في المجتمعات المتقدمة أو في المجتمعات الثرية (وهما ليسا دائما شيئا واحدا) - إحساس بضرورة تغيير طراز سيارته أو ثلاجته أو ملابسه أو حتى ساعته كلما جد في هذا الميدان جديد، لا لأن ما لديه قد استهلك، بل لأن عقله قد تشكل بالطريقة التي يريدها المنتجون، والتي تضمن لهم أكبر قدر من الربح، وكم من الملايين تنفق سنويا من أجل تلبية هذه الرغبات المصطنعة التي هي - في أغلب الأحيان - رغبات غير ضرورية، بل إن بعضها قد يجلب - على المدى الطويل - ضررا. فإذا: كاختراع فرشاة أسنان تتحرك بالكهرباء بدلا من حركة اليد، أو أجهزة آلية لتغيير سرعة السيارة بدلا من جهاز التغيير اليدوي، أو جهاز للتحكم عن بعد في ضبط التليفزيون حتى لا يقوم الإنسان من مكانه ... وكلها مخترعات تبدو في ظاهرها مريحة، ولكنها في حقيقتها تعود الإنسان الخمول الزائد، وتحرمه من ممارسة أقل قدر من الجهد الجسمي الذي هو في أشد الحاجة إلى بذله؛ كيلا يتعرض لأمراض الترف «والحضارة».
وربما قيل - دفاعا عن نمط الحياة الاستهلاكية هذا: إن عصرنا يستطيع أن يملك ترف الاستهلاك لأنه عصر إنتاج فائض، على حين أن فلسفة الزهد كانت تشيع في عصور الحرمان والإنتاج الشحيح، ولكن هذه حجة هزيلة؛ إذ إن عصرنا بدوره مليء بمظاهر الحرمان التي تصل إلى حد المجاعة في بعض البلاد الفقيرة، وإلى حد سوء التغذية ونقص الملبس والمسكن بين النسبة الغالبة من البشر. بل إن الدول الغنية ذاتها لا تخلو من الحرمان، وإن كانت تسعى جاهدة إلى التستر عليه. وهكذا فإننا إذا كنا نملك إنتاجا فائضا - وهو أمر لا ينطبق على الجميع - فمن المؤكد أننا لم نحسن استخدامه، وإن الأنظمة الاجتماعية التي يعيش الإنسان الحديث في ظلها لم تصل بعد - في معظم الأحيان - إلى مستوى العدالة؛ ومن ثم فإنها تدعو إلى الترف الزائد في إطار من الحرمان.
ويستطيع المرء أن يذهب إلى أبعد من القول بأن الإغراق في الاستهلاك لا يلبي حاجات أساسية لدى الإنسان، وأنه مظهر من مظاهر الظلم والافتقار إلى عدالة التوزيع في العالم المعاصر؛ ذلك لأن الاستهلاك الزائد يشوه بالفعل كيان الإنسان وفكره، وينتهي بالمرء إلى السطحية والابتذال؛ فعبادة الاستهلاك قد أدت - في هذا العصر - إلى تكوين نمط من البشر الذين يتصورون أن قيمة المرء إنما تقاس بما يملك، وبما يحيط به نفسه من مقتنيات. ويبدو أن القوة السطحية التي نكتسبها من تلك الأجهزة المعقدة التي تزودنا بها التكنولوجيا الحديثة تخدعنا؛ فتوهمنا بأننا أصبحنا بالفعل «أقوى» و«أفضل» مما كنا عليه من قبل، مع أن كل ما نقتنيه إنما هو قشرة خارجية لا تجعلنا أفضل «من الداخل» على الإطلاق، ولقد ميز الفلاسفة - منذ وقت طويل - بين ما يكونه المرء وما يملكه. ويبدو أن مروجي السلع الاستهلاكية لا يهدفون إلا إلى نشر عبادة «التملك»، وذلك على حساب الكيان الحقيقي للإنسان.
ومثل هذه الأوهام ليست فردية فحسب، بل إن هناك شعوبا ومجتمعات تقع كلها - باستثناء قلة من المفكرين فيها - فريسة الاعتقاد الباطل بأن القيم العليا للحياة إنما تنحصر في توافر وسائل الترف ومظاهر الرخاء، ولكن حقيقة الأمر أن هناك قيما أعلى من هذه بكثير، هي قيم الثقافة والمعرفة وتحقيق الذات، فإذا كان علينا أن نفاضل بين مجتمعين، يحرص الأول منهما على أن يوفر لأكبر عدد من أفراده السيارات الفاخرة وأحدث الأجهزة الإلكترونية التي تجعل الحياة اليومية أيسر وأمتع، على حين أن المجتمع الآخر يحرص على أن يوفر لأكبر عدد من أفراده تعليما ذا مستوى عال وثقافة رفيعة، وينشر بينهم تذوق الفنون والآداب على أوسع نطاق، فأي هذين المجتمعين ينبغي أن يعد محققا لآمال الإنسان؟ لا جدال في أن الجمع بين الأمرين هو الحالة المثلى، ولكنه لا يبدو ممكنا في ظروف العالم الراهنة. ومن هنا فإن المرء لا يملك إلا أن يفاضل بين هذا وذاك، ويمكن القول، بنظرة واقعية: إن عددا كبيرا من الناس يفضلون النوع الأول، ولكن هذا إنما يرجع إلى تأصل قيم الرخاء المادي في النفوس. ومن المؤكد أن ما كان يدعو إليه مصلحو البشرية وقادتها الروحيون - منذ أقدم العصور حتى اليوم - إنما هو أن يكون للإنسان هدف أسمى من ذلك الرخاء المادي الذي يعده الكثيرون في عالمنا هذا أقصى أمانيهم.
وإذا كنا قد نظرنا إلى هذا الموضوع - حتى الآن - من وجهة النظر المثالية - أعني من حيث ما ينبغي أن يكون - فإن هناك عوامل أخرى واقعية ينبغي أن تؤخذ بعين الاعتبار، وتؤدي إلى هذه النتيجة نفسها، وأعني بها ضرورة الحد من الاتجاه الاستهلاكي المتطرف الذي تسير فيه بعض المجتمعات المتقدمة صناعيا، وتقود نحوه كثيرا من دول العالم الأخرى التي تتخذ منها قدوة لها. فقد دأب الإنسان الغربي - منذ مطلع العصر الحديث - على أن يتخذ من «السيطرة على الطبيعة» هدفا لكل نشاط يقوم به في ميدان العلم والمعرفة بوجه عام. ولقد كان لهذا الهدف - كما رأينا من قبل - ما يبرره في الظروف التي ظهر فيها؛ إذ إنه كان شعار عصر جديد يريد أن يفهم العالم ويتحكم في الطبيعة عن طريق معرفة قوانينها، بل إن كبار الفلاسفة الذين دار تفكيرهم حول محور هذا الشعار - مثل «بيكون» و«ديكارت» في أوائل القرن السابع عشر - كانت تدفعهم نزعة إنسانية قوية، هي الرغبة في استعادة مملكة الإنسان على الأرض، وتحريره من عبودية العمل الشاق الذي يضني جسمه ويضعف نفسه ولا يدع له فرصة لكي يمارس أفضل ما لديه من ملكات. كانت تلك هي نقطة البداية، وهي الدافع الذي حفز الرواد الأوائل إلى المناداة بشعار «السيطرة على الطبيعة» عن طريق العلم، واتخاذ المعرفة سبيلا إلى اكتساب القوة المقدرة.
ولكن استمرار التقدم العلمي والتكنولوجي، ووصوله إلى مستويات هائلة في الآونة الأخيرة، أصبح يهدد نفس المثل العليا التي كان ينادي بها هؤلاء الرواد، فمنذ وقت ليس بالقريب كنا نستمع إلى أصوات تحذرنا من أن وسائلنا التي نستخدمها في السيطرة على الطبيعة، قد سيطرت هي ذاتها علينا وخلقت لدينا نوعا جديدا من العبودية. وبالفعل أكد الكثيرون أن الآلة قد خيبت الآمال التي عقدت عليها، وجعلت الإنسان عبدا لإنسان آخر (هو الذي يملك الآلة) أو للآلة نفسها. كما أن نفس القوة الجديدة التي خلقت الثراء والوفرة قد خلقت البؤس والفاقة وولدت القبح ونشرت الظلم، وقسمت العالم إلى دول مترفة ودول محرومة، وكررت هذا التقسيم ذاته في كل مجتمع على حدة.
وفي عمرنا الراهن أدى التطرف في تطبيق شعار «السيطرة على الطبيعة» إلى انتشار رغبات جامحة في الاستهلاك الذي يصل إلى حد التبديد، وإلى سعي إلى النمو مقصود لذاته، والوقوع في جنون التوسع والانتشار في جميع المجالات، وأخذ يظهر للكثيرين بوضوح أن هذا النمو الجنوني لو استمر بهذا المعدل لأدى إلى دمار العالم، أو إلى استنفاد موارده المحدودة، التي لا يمكن تجديد الكثير منها أو تعويضه. وهكذا بدأ عدد كبير من المفكرين - في الدول المتقدمة - يرفعون أصواتهم محذرين من استمرار الاندفاع الجنوني نحو الاستهلاك، لا سيما وأن الكثير مما نستهلكه لا يزيد من قدرنا أو يثري إنسانيتنا. وبدأ هؤلاء المفكرون يشككون في جدوى فكرة «السيطرة على الطبيعة» بالمعنى الذي استخدمت به منذ أوائل العصر الحديث، ويدعون إلى الاستعاضة عنها بفكر «التعاون مع الطبيعة».
والموقف الذي يدافع عنه هؤلاء المفكرون هو أن العلاقة بين الإنسان والطبيعة ينبغي ألا تظل علاقة قهر وسيطرة، ومحاولة من الإنسان لكي يستنفد أكبر قدر من مواردها ويستغلها لإرضاء رغباته، بل عليه أن يساير الطبيعة ويتعاون معها حتى لا يقضي على مواردها وعلى نفسه أيضا. وحين يسود شعار «التعاون مع الطبيعة»، يكون معنى ذلك حرص الإنسان على عدم الإخلال بالتوازن الطبيعي والبيئي، وتصرفه بحكمة ورشد في موارده، وخاصة تلك التي تستهلك مرة واحدة ولا تتجدد. وهذا يقتضي من الإنسان الحديث مراجعة شاملة لأهدافه في الحياة، يحدد فيها نوع الغايات التي ينبغي أن يسعى إليها ويضع على أساسها خطط المستقبل.
ولا شك أن من هذه الغايات: تغليب الكيف على الكم، بمعنى أن يحرص الإنسان على «نوع» أرفع من الحياة، بدلا من حرصه الحالي على الجمع والتكديس وزيادة «مقدار» ما يملك من أدوات الاستهلاك. وفي استطاعة الإنسان - إذا فكر في الأمر بتعمق - أن يهتدي إلى وسائل تعينه على رفع المستوى «الكيفي» لحياته دون حاجة إلى تبديد أو تبذير لموارد الطبيعة، بل إنه سيدرك حينئذ أن جريه الحالي وراء «الكم» ورغبته العارمة في «الاقتناء» تؤدي - في كثير من الأحيان - إلى أن تزيد حياته خواء وفراغا، وتهبط بمستواها «النوعي».
ومن الغايات الأخرى التي ينبغي أن يستهدفها الإنسان - في تخطيطه للمستقبل - رعاية مصالح الأجيال التي سوف ترثه على هذه الأرض، وهو أمر لا يستطيع الإنسان الحالي أن يدعي أنه يشغل أقل قدر من اهتمامه. ولقد أشار بعض المفكرين - في هذا الصدد - إلى مثال بسيط ومألوف، هو «السيارة الخاصة»؛ ففي العالم المتقدم صناعيا، وفي كثير من الدول الغنية غير المتقدمة صناعيا، وعند قطاعات غير قليلة من سكان الدول الفقيرة، تسود الآن فكرة استخدام «السيارة الخاصة» وسيلة للتنقل، ولكن هل فكر أحد في كمية الموارد التي تتبدد في هذه الوسيلة؟ هل فكر أحد في كمية الحديد والصلب والبترول وعدد غير قليل من الموارد الأخرى التي تستهلكها سيارة خاصة واحدة يستخدمها شخص واحد أو أسرة صغيرة لكي تلقى بعد سنوات قليلة وسط أكوام من الحطام؟ وهل يحتمل عالم المستقبل - الذي سيتضاعف عدد سكانه عدة مرات - مثل هذا الترف؟ وهل ستظل موارده قادرة على تلبية هذه الرغبة الاستهلاكية المكلفة؟ وكم ستكون نسبة القادرين على استخدامها بالقياس إلى المجموع الكلي للسكان؟ وهل يمكن أن يستمر العالم يسير على أساس هذا التفاوت الصارخ بين أفراد البشر؟ وماذا سيتبقى للأجيال التي ستعيش من بعدنا إذا أصر الناس على تبديد مواردهم في هذه الكتل الضخمة من الحديد والبترول والمطاط المتحرك؟ لهذه الأسباب كلها أكد بعض المفكرين أن «عصر السيارة الخاصة» يجب أن ينتهي إذا أراد الإنسان أن يكون رشيدا في تعامله مع الطبيعة، وما هذا إلا مثل من أمثلة التغيير الذي يجب أن ندخله على عاداتنا الاستهلاكية إذا أردنا أن نترك للأجيال القادمة عالما يمكنها أن تعيش فيه.
وأيا كان الأمر، فمن المؤكد أن في العالم الآن اتجاهات كثيرة تحتاج إلى تغيير أو مراجعة جذرية، ولما كانت كثير من العادات الاستهلاكية التي ينبغي تغييرها مرتبطة برغبات يصعب على الإنسان - بعد اعتياده عليها - أن يتخلص منها، فإن الأمر سيحتاج إلى مراجعة كاملة لنظم التعليم والتوجيه في المجتمع البشري، وربما احتاج - كما يؤكد الكثيرون - إلى التفكير جديا في إقامة نوع من الحكومة العالمية التي تشرف على شئون العالم وفي ذهنها مصالح الجميع، لا مصالح فئات أو دول معينة فحسب، وبغير هذا قد يكون تحقيق هدف «التعاون مع الطبيعة» أمرا عسير المنال. (2-4) مشكلة الوراثة والتحكم في صفات الإنسان
على الرغم من أن التقدم في الفيزياء والكيمياء - وفي الأبحاث التطبيقية التي نجمت عنها - يبدو أنه أبرز السمات للعلم المعاصر؛ لأنه قد أدى بالفعل إلى تغير وجه الحياة على هذه الأرض، فإن كثيرا من العلماء يؤكدون أن أخطر التطورات في عصرنا الحاضر هي تلك التي تحدث في علم يتقدم بلا ضجيج أو دعاية أو أخبار تنشر على الصفحات الأولى للجرائد، هو علم الحياة (البيولوجيا)، ويؤكد هؤلاء العلماء أنه إذا كان عصرنا هذا قد شهد تغيرات حاسمة في الحياة بفضل الفيزياء والكيمياء، فقد بدأت تظهر فيه بوادر تدل على أن العلم الذي سيحدث تغييرات جذرية في العالم خلال القرن المقبل - وربما قبل ذلك - هو علم الحياة.
إن العلوم الطبية - التي ترتبط ارتباطا أساسيا بعلم الحياة - قد أحرزت - كما هو معروف - تقدما هائلا منذ النصف الثاني من القرن التاسع عشر، وأدى هذا التقدم إلى زيادة كبيرة في متوسط عمر الإنسان على مستوى العالم كله، وفي الدول المتقدمة بوجه خاص، كما أدى إلى انخفاض هائل في نسبة الوفيات بين المواليد. وهكذا ازدادت فرص الحياة أمام الإنسان على طرفي العمر؛ أي في أوله وفي آخره. ومن المؤكد أن هذا التقدم قد واجه الإنسان بمشكلات كبرى؛ إذ إن زيادة متوسط العمر قد أبرزت - بصورة حادة - مشكلة الشيخوخة وموقف المجتمع منها؛ حيث يعجز هذا المجتمع حتى الآن عن إيجاد حل حاسم لهذه المشكلة ولا سيما في الدول المتقدمة؛ ففي هذه الدول يزداد بصورة مطردة عدد المسنين الذين يظلون طويلا على قيد الحياة، وفيها أيضا يعجز نظام الأسرة عن استيعاب هؤلاء المسنين؛ إذ إن الأبناء - الذين يعيشون في مجتمع تسوده الاعتبارات العلمية ويبحث كل فرد فيه عن مصلحته الخاصة - يضيقون ذرعا بوالديهم، ولا يجد هؤلاء مفرا من الالتجاء إلى حلول لم يثبت نجاحها حتى الآن كبيوت الكبار مثلا. كذلك فإن الانخفاض الكبير في نسبة الوفيات بين المواليد قد أدى إلى تضاعف نسبة الزيادة السكانية في العالم، وخاصة في الدول الفقيرة التي كان ارتفاع نسبة الوفيات فيها من قبل يحدث توازنا مع زيادة النسل. ولكن بالرغم عن هذه المشكلات فمن المؤكد أن التقدم في العلوم الطبية كان من أعظم الإنجازات الإنسانية التي حققها العلم الحديث خلال القرن الماضي.
ومن ناحية أخرى فقد كانت العلوم البيولوجية أحد الأسس الهامة التي بني عليها اختراع العقول الإلكترونية؛ فالسيبرنطيقا - كما ذكرنا من قبل - كانت منذ بدايتها تطبيقا للمبادئ البيولوجية وللأسس التي يعمل بها الجهاز العصبي على الآلات، ولما كانت الثورة الإلكترونية هي إحدى الدعامات الرئيسية التي يرتكز عليها عصرنا الحاضر، ففي وسعنا أن نجد في هذا مثالا لإنجاز آخر ضخم حققته العلوم البيولوجية في النصف الثاني من القرن العشرين.
ولكن بالرغم من أهمية كل هذه الإنجازات، فليست هي ما قصدناه حين قلنا: إن الانقلاب الذي حدث في علم الحياة يعد - في نظر الكثيرين - أهم من أي حدث علمي آخر عرفه الإنسان في هذا القرن، وأنه يحمل في طياته بذور تغيرات مذهلة بالنسبة إلى المستقبل، وإنما الذي نعنيه هو تلك الكشوف التي تمت في السنوات الأخيرة في ميدان الوراثة البشرية، والمحاولات التي لا يكف علماء البيولوجيا عن بذلها من أجل الكشف عن أسرار المخ البشري.
فمنذ عدد قليل من السنوات، توصل علماء البيولوجيا إلى كشف خصائص الخلايا الوراثية «الجينات» ومعرفة تركيبها الكيميائي، واهتدوا إلى أول الخيط الذي يؤدي إلى كشف شفرة الوراثة. وعلى الرغم من أن هذا الكشف لم يعرف خارج نطاق الدوائر العلمية المتخصصة إلا في نطاق ضيق في بداية الأمر، فقد كان من السهل إدراك النتائج الهائلة التي يمكن أن يسفر عنها، مما جعل الكثيرين يعدونه نقطة بداية لعصر جديد قد لا تتضح معالمه كلها في الوقت الراهن، ولكن من المؤكد أنها ستظهر في وقت ليس بالبعيد.
ذلك لأن معنى هذا الكشف هو أن العلم بدأ يسير في الطريق المؤدي إلى معرفة العوامل الوراثية بدقة؛ ومن ثم معرفة سر من أهم أسرار الحياة، ولو سار العلم في هذا الطريق شوطا بعيدا؛ لاستطاع أن يتحكم بطريقة إرادية في الوراثة البشرية، بحيث يغير من خصائص الجينات تغييرا متعمدا، فتكون النتيجة تغيير صفات المواليد الجدد، وعلى حين أن الإنسان قد ظل حتى الآن يقبل خصائص الأجيال الجديدة من ذريته على ما هي عليه، فإن التطور البيولوجي الذي نتحدث عنه قد وضع العلم في أول الطريق المؤدي إلى توسيع نطاق سيطرة الإنسان؛ بحيث تمتد إلى إدخال تغييرات أساسية على مواليده الجدد. وكما أن الصناعة قد مدت سلطان الإنسان على إنتاجه الاقتصادي بحيث لم يعد مقتصرا على ما تجود به الأرض في الزراعة، بل أصبح الاقتصادي يحور مواد الطبيعة ويشكلها وفقا لإرادته. كذلك يبدو أن العلم قد أمسك الآن بأول الخيط المؤدي إلى إحداث تغير مماثل في الكائنات البشرية التي تتألف منها أجياله الجديدة، بحيث تصبح علاقة العصور التي سيتحقق فيها هذا الإنجاز الضخم بالعصور السابقة أشبه بعلاقة العصر الصناعي بعصور الزراعة والرعي والالتقاط.
كذلك تؤدي الأبحاث التي تجرى في ميدان دراسة المخ البشري إلى نتائج مماثلة؛ ذلك لأن هذا العضو شديد التعقيد ظل غامضا حتى عهد قريب، ولم تكن معلوماتنا عنه تمثل إلا قدرا ضئيلا جدا مما ينبغي على الاقتصادي معرفته عن أهم أجزاء جسمه جميعا، ولكن المعرفة العلمية في هذا المجال تضاعفت إلى حد هائل في السنوات الأخيرة، وبدأ العلماء يقتربون من اليوم الذي يستطيعون فيه أن يعرفوا آلية العمليات التي تتم في المخ، ونوع التغيرات الفيزيائية والكيميائية التي تحدث فيه عندما يؤدي وظائفه المختلفة، وطبيعة مراكز القدرات الذهنية المختلفة وكيفية التحكم فيها، إلى آخر هذه الأسرار التي ظلت مستغلقة على البشر حتى وقت قريب. ومن المؤكد أن التقدم في علم السيبرنطيقا والخلايا الإلكترونية كان له دور كبير في هذا الصدد؛ أي إن العلم مثلما استعان بمعلوماته المتوافرة عن الجهاز العصبي البشري - وضمنه المخ - في استحداث علم السيبرنطيقا، قد استعان بهذا العلم بدوره - بعد تطويره - لكي يلقي مزيدا من الضوء على طبيعة العمليات التي تحدث عندما يؤدي المخ البشري وظائفه العصبية والنفسية والعقلية، ونتيجة هذه الكشوف ستكون فائقة الأهمية؛ إذ إنها ستتيح للعلم - يوما ما - أن يتحكم في تركيب المخ البشري، ويزيد أو ينقص قدرات معينة فيه إلى حد لم تعرفه البشرية من قبل.
على المرء بقدر ما يغتبط لقدرة العلم على الامتداد بسيطرة الاقتصادي، بحيث تسري حتى على طبيعته الداخلية الخاصة بعد أن قطع شوطا بعيدا في السيطرة على الطبيعة الخارجية، لا يملك إلا أن يشعر بالجزع من جراء الاحتمالات المخيفة التي تثيرها هذه الكشوف، وخاصة إذا تصورنا أن هذه الاحتمالات قد تحققت في إطار التنظيمات الحالية للمجتمعات البشرية، ففي يد من سيترك هذا التحكم في حياة الاقتصادي وفي خصائصه الوراثية؟ وما إنتاجه الأهداف التي ينبغي أن تراعى في إدخال هذه التعديلات الخطيرة؟ ومن الذي سيحدد هذه الأهداف؟ بل إن السؤال الذي يسبق هذه الأسئلة هو: هل يجوز التفكير أصلا في تعديل قدرات الاقتصادي؟ وإلى أي مدى يعد مثل هذا التدخل أمرا مشروعا؟ وهل يكون من حقنا أن نتخذ من الإنسان - وهو أرفع الكائنات مكانة - موضوعا للتجارب وللتشكيل المتعمد في المختبرات؟
إن الخيال العلمي كان - منذ وقت بعيد - يجزع أشد الجزع لمثل هذا التلاعب في الطبيعة البشرية، ويصوره بصورة شديدة التشاؤم في قصة مثل قصة «فرانكشتين» ذلك الكائن المخيف الناتج عن تلاعب العلم في المخ البشري. ومن النادر أن نجد - منذ ذلك الحين - قصة تصور نتيجة تدخل العلم في قدرات الإنسان الطبيعية بصورة تبعث على التفاؤل والأمل. والواقع أن هذا التشاؤم له ما يبرره؛ إذ إننا لو تخيلنا أن العلم قد اكتسب قدرات كهذه في ظل الأوضاع الاجتماعية والسياسية الحالية، فإن الاحتمالات تكون مخيفة حقا.
فمن الممكن أن تستغل الدول ذات الأنظمة العدوانية كشفا علميا كهذا لكي تزيد من قسوة مواطنيها أو من قدراتهم على سحق خصومهم بلا رحمة. ومن المؤكد أن مثل هذا الكشف لو ترك لسياسيين من النوع الذي اتخذ قرار استخدام القنبلة الذرية في هيروشيما؛ لاستغلوه أبشع استغلال. كذلك لو تخيلنا أن هذه القدرة الفائقة للعلم على تشكيل صفات البشر قد وضعت في يد مجتمع يحكمه أصحاب الأطماع الاقتصادية والمصالح التجارية؛ لكان من الجائز أن يستغلوها في تكوين أجيال بشرية تحمل بلا شكوى وبلا كلل في مصانعهم أو تستهلك منتجاتهم طائعة، وربما تعمدوا أن تكون هذه الأجيال في معظمها نمطية لا تنوع فيها.
وهكذا فإن هذه القدرة الهائلة على التحكم في طبيعة الإنسان ينبغي أن تقترن بها قدرة مماثلة على التحكم في التنظيمات الاجتماعية البشرية. ومن المؤكد أننا في حاجة إلى نوع جديد من السلطة، ومفهوم جديد للعلاقات بين البشر، حتى يمكننا أن نأمن عدم استغلال هذه الكشوف ضد مصلحة الإنسان. وإذا كنا حتى الآن نعد هذه الاحتمالات بعيدة، فإن العلماء يقولون غير ذلك؛ إذ إن العلم قد اجتاز بالفعل بداية الطريق الذي سيؤدي به - عاجلا أو آجلا - إلى جعل هذه الاحتمالات حقيقة واقعة.
ومع ذلك فإن احتمال توصل الإنسان إلى نوع من التنظيم الاجتماعي الذي يجعله أهلا لمواجهة عصر التحكم في القدرات البشرية هذا، يبدو أضعف من احتمال وصول العلم إلى هذا العصر ذاته، وتلك ظاهرة تبدو محيرة بحق؛ إذ إن تغيير التنظيمات الاجتماعية والسياسية أمر يدخل في نطاق قدرتنا، ولا يتضمن عناصر خفية أو مجهولة أو مستحيلة التحقيق، على حين أن الوصول بالكشف العلمي إلى غايته ينطوي على قدر كبير من الصعوبة، ويدخل جزء كبير منه في باب المجهول الذي لم تتحدد معالمه بعد، ولكن طغيان المصالح وسيطرة الأنانية يجعل التغيير الواقع في نطاق سيطرتنا أصعب وأبعد منالا من ذلك الذي يخرج عن هذا النطاق.
وعلى أية حال فإن المستقبل يحمل في طياته مفاجآت كثيرة في هذا الميدان، لا تقل عن تلك التي حملها إلينا العلم في ميدان الفضاء خلال الأعوام العشرين الماضية، والمأمول أن يثبت العقل البشري أنه قد بلغ من النضج ما يسمح له بالتحكم في ذاته بنفس الكفاءة التي تحكم بها في العالم المحيط به. (2-5) مشكلة التسلح
هي بغير شك أخطر المشكلات التي يواجهنا بها العلم المعاصر، وهي التي يتوقف عليها حل كثير من المشكلات التي عرضناها من قبل إن لم يكن جميعها، وهي تتميز بطابع فريد عن غيرها من المشكلات التي تواجهها الإنسانية؛ إذ إنها «مصيرية» بكل ما تحمله هذه الكلمة من معنى؛ لأن من طبيعة الأسلحة المعاصرة أنها قادرة على إفناء العالم كله - حقيقة لا مجازا - في لحظات.
ولقد كان الوضع الطبيعي والمعقول هو أن يرتبط العلم بالسلم لا بالحرب؛ إذ إن العلم نتاج العقل، والعقل لا يعترف بلغة العنف في فض المنازعات، بل يحكم المنطق السليم في أي خلاف، وكان هذا بالفعل ما تصوره المفكرون الفلاسفة في عصر التفاؤل والاستنارة الفكرية في القرن الثامن عشر، حين أكد العقل - من خلال العلم - انتصاره على الخرافة والتعصب وضيق الأفق، فقد كان الحلم الذي يراودهم - وعلى رأسهم الفيلسوف الألماني الكبير إيمانويل كانت - هو أن يؤدي انتشار العلم إلى إقرار «سلام دائم»؛ وذلك على أساس أن المعقولية التي يشيعها العلم لا بد أن تؤدي بالإنسان إلى نبذ الحرب من حيث هي وسيلة لفض النزاعات، والاحتكام إلى العقل القادر على إيجاد وسيلة سلمية لحل كل خلاف.
ولكن هؤلاء الفلاسفة كانوا - بغير شك - متفائلين إلى حد السذاجة، ومن الممكن التفكير في أسباب كثيرة ربما كانت هي التي أدت بهم إلى الوقوع في هذا الخطأ، فربما كانوا مخطئين حين تصوروا أن العقل - في حالة العلم - هو وحده يتحكم فيما ينتجه، وتجاهلوا بذلك عنصر المصالح والأحقاد والأطماع، وتدخل الحكام - من غير العلماء - في احتمال استخدام العقل من أجل نشر الجنون، واستغلال العلم - وهو أعظم أداة في يد العقل لإعلاء الحياة - من أجل الخراب والموت، إذ كان هذا الاحتمال هو الذي تحقق بالفعل طوال الجزء الأكبر من تاريخ البشرية.
فقد ارتبط العلم بالحرب منذ أقدم العصور؛ إذ كانت عبقرية العلماء تستخدم في زيادة قدرة الإنسان على القتال والقضاء على الخصوم، بقدر ما كانت تستخدم في فهم قوانين الطبيعة. ومنذ عهد «أرشميدس» نجد العلم يتجه إلى خدمة الأغراض العسكرية، بل يبدو أن استخدامه في الحرب كان يفوق في أهميته - في كثير من الأحيان - استخدامه في السلم؛ فمن المعروف - على سبيل المثال - أن عالما كبيرا مثل «جاليليو» قد نال رضاء الحاكم عنه، لا لأنه اكتشف قانون القصور الذاتي أو قانون سقوط الأجسام أو صحح معلوماتنا الفلكية، بل لأنه أقنعه بأن كشوفه في الميكانيكا وعلم المقذوفات قادرة على تحسين الأسلحة وزيادة دقة تصويبها إلى حد بعيد، ويكاد يكون من المؤكد أن أبحاثه في ميدان الأسلحة هي التي أتاحت له فرصة القيام بأبحاثه الأخرى - الأهم بكثير - في ميدان الطبيعة والفلك، وقد حدث ذلك من قبل لعبقري النهضة الإيطالية ليوناردو دافنشي، ولعدد كبير من العلماء فيما بعد.
بل إن كثيرا من الكشوف العلمية السلمية قد ظهرت «في ظل» أبحاث ذات أهداف حربية، مما دفع بالكثيرين إلى القول بأن العبقرية البشرية تتجلى في الميادين العسكرية أكثر مما تجلى في الميادين السلمية، وأن الإنسان أقدر على استخدام العلم من أجل الموت منه على استخدامه لخدمة الحياة. ولكن حقيقة الأمر بالإنسان أن التطور السريع للبحث العلمي أيام الحرب يرجع إلى عوامل من بينها الإحساس وتركيزه لقواه البشرية وموارده المادية في سبل إيجاد حل سريع للمشكلات التي تعترض جهده الحربي، وكل هذه عوامل لا وجود لها في فترات السلم.
على أنه مهما كانت طبيعة العلاقة بين الكشوف السلمية والكشوف الحربية في القرون الماضية، فإن تطورا هاما وحاسما قد طرأ على هذه العلاقة في القرن العشرين، الذي بدأه الإنسان وما زال للخيل والفرسان دور في حروبه، وانتهى به الأمر - في عصرنا الحاضر - إلى حرب الأزرار الإلكترونية والصواريخ العابرة للقارات وأشعة الليزر والقذائف النووية. ففي القرن العشرين قفزت أداة الحرب ووسائل القتل والدمار قفزة هائلة إلى الأمام، وبقدر ما نجح العلم في إطالة عمر الإنسان عن طريق كشوفه الطبية والبيولوجية، وفي تحقيق الرخاء والرفاه لحياته عن طريق المخترعات التكنولوجية، نجح أيضا (إن كان اسم «النجاح» يصلح للانطباق على هذه الحالة) في اختراع أفتك وأشرس أدوات القتل الجماعي ونشر البؤس والتعاسة بين البشر.
ولقد كان الارتباط بين العلم وبين تطوير الأسلحة من الوثوق إلى حد أن أطلق البعض على الحرب العالمية الأولى اسم حرب الكيميائيين (إشارة إلى دور الكيمياء في صناعة المتفجرات وتطوير الوقود ثم الغازات السامة في هذه الحرب)، وعلى الحرب العالمية الثانية اسم حرب الفيزيائيين (إشارة إلى دور الفيزياء في صنع القنبلة الذرية والرادار وغيرهما). أما الحرب الثالثة فستكون - إذا وقعت - حرب علماء الصواريخ والفضاء والإلكترونيات؛ أي إن دور العلماء في هذه الحروب يفوق في أهميته دور الجيوش المحاربة، بل أصبح العلم متغلغلا في عمل الجندي المحارب ذاته.
وليس من السهل أن يحدد المرء النقطة التي بدأ عندها التحول من أسلحة الدمار المحدود إلى أسلحة الدمار الشامل. إن الحرب العالمية الثانية - التي استخدمت في جميع جبهاتها (باستثناء المرحلة الأخيرة من جبهة الشرق الأقصى) أسلحة تقليدية - أدت إلى قتل عشرات الملايين من العسكريين والمدنيين، منهم ثلاثون مليونا من الاتحاد السوفيتي وحده. ولكن من المؤكد أن اختراع القنبلة الذرية واستخدامها في هيروشيما ثم نجازاكي في أغسطس 1945 يمثل نقطة تحول حاسمة في تاريخ التسلح المرتكز على كشوف علمية.
ولقد كانت دوافع العلماء الذين بدءوا هذا المشروع إنسانية خالصة؛ إذ كان الهدف الأصلي للمشتغلين في هذا المشروع - كما ذكرنا في الفصل السابق - هو الحيلولة دون قيام هتلر بفرض مبادئه الإرهابية والعنصرية على العالم عن طريق هذا السلاح الرهيب، ولكن الذي حدث بالفعل هو أن هزيمة هتلر قد تمت دون الحاجة إلى استخدام هذا السلاح، وقبل أن يتمكن العلماء الألمان من تطويره. وإذا كانت اليابان قد ظلت تحارب بعد ألمانيا فقد كان العالم كله يعرف أن أيامها معدودة، وأنها أخذت تنسحب من موقع تلو الآخر، لم يكن في إمكانها مواجهة الحلفاء الذين تفرغوا لها بعد هزيمة حلفائها الألمان. ومن هنا فقد كان العلماء الذين شاركوا في صنع القنبلة هم أشد الناس ذهولا حين فوجئوا بنبأ إلقاء القنبلتين الذريتين - الأوليين والأخيرتين حتى الآن - على المدينتين اليابانيتين، وكان الدمار الذي أحدثته القنبلتان، وعدد الأرواح التي أزهقت ومعظمها من المدنيين، وكذلك عدد المصابين بحروق وإشعاعات وتشويهات؛ كان ذلك كله شيئا يفوق في بشاعته كل ما عرفناه من مجازر الحروب. ولم يجد هؤلاء العلماء مبررا معقولا لاستخدام اكتشافهم على هذا النحو الوحشي، وإذا كان أصحاب القرار السياسي قد أكدوا أن القنبلتين أنقذتا أرواح ألوف كثيرة من الجنود الأمريكيين الذين كانوا سيقتلون لو لم تستسلم اليابان، فإن تقديرات الخبراء كانت تذهب كلها إلى أن اليابان كانت في حكم المهزومة، وكانت تفاوض سرا للاستسلام قبل إلقاء القنبلتين، فما الداعي إذن لكل هذه الآلام البشرية التي لحقت بمدنيين أبرياء؟ الواقع أن عددا من المحللين السياسيين قد ذهبوا إلى أن المقصود من إلقاء القنبلتين لم يكن الإسراع بهزيمة اليابان، بل كان قبل ذلك تأكيد سيادة الولايات المتحدة بوصفها الدولة العالمية الكبرى بعد الحرب العالمية الثانية، وإرهاب العالم وخاصة الاتحاد السوفيتي الذي كان قد بدأ يؤلف «معسكرا اشتراكيا» بعد هذه الحرب؛ حتى لا تحاول أية دولة - أو أي نظام مضاد - منافسة القوة العسكرية والاقتصادية الهائلة للولايات المتحدة.
على أن أمثال هذه المبررات - إذا كانت تقنع بعض السياسيين ممن لا يفكرون إلا من خلال مصالحهم - لا يمكن أن تقنع علماء يضعون نصب أعينهم - قبل كل شيء - الأهداف الإنسانية. ومن هنا فقد انتابت العلماء الذين شاركوا في صنع القنبلة الذرية «أزمة ضمير» حادة، وشعروا بأن جهودهم قد أدت إلى إدخال الإنسانية عصرا جديدا، هو عصر أسلحة «الدمار الشامل»، التي لا تفرق بين الجنود المحاربين وبين النساء والأطفال، التي تهدد الحياة على سطح هذا الكوكب بالفناء التام.
ولقد كانت أزمة الضمير هذه هي التي دفعت عددا غير قليل من هؤلاء العلماء - ومنهم أينشتين نفسه - إلى أن يكرسوا بقية حياتهم من أجل الدعوة إلى السلام. بل إن منهم من أصبح محاطا بالشبهات، مثل روبرت أوبنهيمر
R. Oppenheimer
الذي وصل به الندم حدا جعل سلطات الأمن في بلاده تراقبه عن كثب، ثم تبعده عن مواقع المسئولية في عمله، من أن يعمل على تسريب أسرار الأسلحة الجديدة إلى المعسكر الآخر. وكان من هؤلاء العلماء فريق قام بالفعل بنقل هذه الأسرار إلى الطرف المعادي للولايات المتحدة، لا من أجل المال، بل لدوافع يعتقد أنها إنسانية؛ إذ إن امتلاك طرفي النزاع الدولي للقنبلة الذرية هو الكفيل بإيجاد حالة من التوازن يمتنع فيها كل من الطرفين عن استخدامها خوفا من الآخر. ومن المؤكد أن عمل هؤلاء العلماء يعد - بالمقاييس الأخلاقية الخالصة - عملا إنسانيا جليلا، ولكنه بمقاييس القوانين العادية خيانة للوطن.
ومنذ ذلك الحين طرأ تطور هائل على القوة التدميرية للأسلحة النووية، حتى أصبحت قنبلتا هيروشيما ونجازاكي أشبه «بلعب الأطفال» بالقياس إلى القنابل الهيدروجينية الحالية، كما طورت الصواريخ بحيث تستطيع أن تحمل رءوسا نووية وتصيب أي مكان في العالم، سواء من قواعد ثابتة أم من قواعد متحركة (كالغواصات النووية). وكانت هذه التطورات كلها مرتبطة ارتباطا أساسيا بالعلم؛ إذ إن علماء فترة «الحرب الباردة» لم يكونوا على نفس القدر من الحساسية الذي كان عليه رواد القنبلة الذرية، ربما لأن هؤلاء الأخيرين كانوا قد خرجوا لتوهم من أهوال الحرب العالمية الثانية، وربما لأن أسلحة الدمار الشامل قد أصبحت بعد ذلك شيئا مألوفا، تحسب قدرته التدميرية بحسابات رياضية باردة لا تؤخذ فيها آلام الإنسانية بعين الاعتبار.
ونتيجة ذلك كله هي أن العالم يعيش الآن على طرفي «توازن الرعب» الذي تقوم فيه الدولتان العظيمتان؛ أمريكا والاتحاد السوفيتي، بتكديس كميات من الأسلحة تكفي لقتل العالم كله «عدة مرات» (ولست أدري لماذا؟!)
وتقف فيها الصواريخ ذات الرءوس النووية على أهبة الاستعداد في انتظار ضغطة زر من رئيس الدولة، وتراقب فيه كل دولة الأخرى مراقبة دائمة في انتظار أية إشارة تنبئ بخروج الصواريخ منها؛ لكي تضرب «الضربة الانتقامية» قبل وصول الصواريخ المعادية إليها، ولو قدر للبشرية أن تعيش قرنا آخر أو قرنين، فمن المؤكد أنه سوف تسخر ما شاءت لها السخرية من حالة الرعب المتبادل التي يعيش فيها إنسان اليوم في أرقى دول العالم، وهي حالة «بدائية» بكل ما تحمله الكلمة من معنى، حتى وإن كانت تستخدم فيها أرقى وأحدث تطورات العلم.
ولقد حاول البعض أن يخففوا من تأثير الاتجاه إلى تسخير العلم للأغراض العسكرية، فذهب برونوفسكي
Bronowski
إلى أن هذا الاتجاه - وإن يكن سببيا بغير شك - يتضاءل إلى جانب الإنجازات الإيجابية للعلم في نفس الميدان الذي ننتقد العلم من أجله؛ أعني ميدان الحياة والموت، فحين نتحدث عن الأبحاث العلمية التي تستهدف الموت، ينبغي أن نتذكر في الوقت نفسه ما صنعه العلم من أجل الحياة؛ «فعدد الأشخاص الذين قتلوا في بريطانيا خلال الأعوام الستة للحرب العالمية الثانية نتيجة للقنابل والقنابل الطائرة وصواريخ ف
2
الألمانية كان ستين ألفا، وقد فقد هؤلاء الناس - في المتوسط - نصف أعمارهم. وبقسمة بسيطة يتضح أن تأثير هذا على سكان بريطانيا البالغ عددهم خمسين مليونا معناه إنقاص متوسط العمر بنسبة تقل عن عشر الواحد في المائة؛ أي إن متوسط عمر كل فرد نقص حوالي أسبوعين. فلنضع هذا في جانب الخسارة. أما في جانب المكسب فنحن نعلم أن متوسط العمر قد زاد في إنجلترا خلال الأعوام المائة الأخيرة بمقدار عشرين عاما ... أي إن لدينا أسبوعين مقابل عشرين عاما من الحياة.»
2
على أن المغالطة هنا واضحة؛ إذ إن الأرقام لم تتناول سوى الضحايا المدنيين، وتجاهلت الضحايا العسكريين في نفس البلد، فضلا عن أن المقارنة كان يجب أن تكون بين خسائر كل الحروب التي نشبت خلال مائة عام، والتي نجمت عن التقدم العلمي والتكنولوجي، ولكن الأهم من ذلك أن كوارث البشرية ليست مسألة أرقام وإحصاءات، بل إن التسلح - سواء استخدم بالفعل أم ظل يهدد «الآخرين» في كل لحظة - يخلق دمارا نفسيا وخوفا مستمرا من الفناء، ويولد انحرافات نفسية وخلقية لم يعرفها العالم إلا في عصرنا هذا، ويبدد موارد الإنسان وجهده بلا طائل.
لذلك فإن هذا الجنون المدمر الذي يسيطر على عالم اليوم بفضل التسليح، قد أعطى لأعداء العلم فرصة هائلة لمهاجمته؛ إذ إن العلم هو الذي يتيح للدول المتقدمة تطوير أسلحتها؛ ومن ثم فإنهم يستنتجون من ذلك أن العلم «هو المذنب»، ولكن حقيقة الأمر هي أن العلم إذا كان هو أساس الأبحاث المؤدية إلى تطوير أسلحة الدمار، فمن المؤكد أنه خاضع لتحكم قوى أخرى خارجة عنه، هي القوى التي تخطر له وتحدد اتجاهاته، إن سلما أو حربا، وتمول أبحاثه وتوظف المشتغلين فيه، وهي القوى التي تتخذ القرار وتنفذه بعد أن يتم الكشف، وهذه القوى سياسية في المحل الأول، تتحكم في اتجاهاتها الأطماع والمصالح ولا تصدر قراراتها بعد استشارة العلماء إلا نادرا، والمثل الواضح على ذلك هو القنبلتان الذريتان الأوليان أيضا؛ فقد كان من رأي العلماء الذين اخترعوها أن تجرى تجربة دولية أمام مندوبين من مختلف بلاد العالم لإطلاعهم على مدى القوة التدميرية للقنبلة، ويطلب إلى اليابان أن تستلم على هذا الأساس، ولكن الحاكم السياسي - وهو الرئيس «ترومان» في ذلك الوقت - كان له رأي آخر، وحين اتخذ قراره باستخدام القنبلتين ضد أهداف مدنية كان يسير في اتجاه مضاد تماما لما يريده العلماء.
إن العلم لا يحمل في ذاته اتجاهات عدوانية، وإذا كان يعادي شيئا فهذا الشيء هو الجهل والشعور بالعجز أمام قوى الطبيعة، ولكن طبيعة البحث العلمي - في عصرنا هذا - قد طرأ عليها من التعقيد ما يجعل العالم مضطرا إلى الإذعان لسلطة أقوى منه، فالأجهزة العلمية أصبحت باهظة التكاليف، وأدوات البحث - من كتب ومراجع - لا بد أن توفرها الدولة، ومن هنا أصبح العالم مجرد ترس في آلة ضخمة هي الدولة، أو هي الشركة الكبيرة إن كان في بلد يسوده النشاط الاقتصادي الخاص. وهكذا أصبحت الاعتبارات السياسية أو الاقتصادية هي التي تتحكم في عمله العلمي، وهي التي ترسم له الخطة، وتحدد اتجاهات بحثه، وتتخذ القرار النهائي بشأن التصرف فيه.
ولو نظرنا إلى الموضوع من وجهة نظر علمية خالصة لبدا ذلك الجهد الذي تبذله دول العالم اليوم في ميدان التسلح أمرا متنافيا مع كل الأهداف التي يسعى إليها أي عالم يحترم مهنته ويفهم وظيفتها فهما صحيحا؛ ذلك لأن هناك أموالا طائلة تتبدد من أجل إنتاج أسلحة تظل مخزونة بضع سنوات، ثم يظهر ما هو أحدث منها، فتهمل أو تباع إلى دول أخرى أقل تقدما وأقل ذكاء. وهذه الأموال كافية لتحقيق كثير من الأحلام التي يتمنى العلماء لو كرسوا لها حياتهم. بل إن المشروعات التي يمكن إنجازها - فيما لو خصصت هذه الأموال الطائلة للأغراض السليمة - كفيلة بتغيير مجرى الحياة على وجه الأرض، وبالقضاء على مظاهر الجوع والفقر والجهل والمرض. ومثل هذا يقال عن الموارد الطبيعية - من معادن ومصادر للطاقة - التي تبددها مشروعات التسليح، والتي يحتاج إليها الإنسان في عالمنا المعاصر احتياجا شديدا، وربما كان الأهم من ذلك أن العمل في الميدان العسكري يستقطب - في البلاد الصناعية الكبرى - عددا من أفضل العقول التي كان يمكن أن تقدم إلى البشرية أجل الخدمات لو اتجهت في طريق بناء بدلا من أن تخدم أمراض التسلح الهدامة. كل هذا التبديد يحدث من أجل هدف لا تجني منه الإنسانية سوى الخسارة؛ فلو استخدمت الأسلحة الهائلة المكدسة لكان من ذلك فناء الحياة على سطح هذه الأرض في دقائق معدودات، ولو لم تستخدم وظلت مخزونة لكان معنى ذلك تبديد أفضل الموارد والطاقات المادية البشرية - في عالم يعاني من عدد هائل من المشاكل - في صنع منتجات لن يستخدمها أحد.
وإذن، فلو ترك الأمر للعلماء لكان موقفهم - قطعا - في جانب الاستخدام السلمي لموارد مجتمعاتهم، ولا بد أن هناك قوى أخرى، على رأسها ذلك «التحالف الصناعي العسكري» الذي أشار إليه إيزنهاور نفسه - أعني رئيس أكبر دولة صانعة للأسلحة في العالم، وقائد أكبر جهاز عسكري في الحرب العالمية الثانية - وأكد أنه يقف من وراء هذا السباق الجنوني في التسلح.
على أن هذا يعفي العالم من المسئولية؛ فبقدر ما أصبح عمل العالم - في أيامنا هذه - يؤثر على مصير البشرية تأثيرا مباشرا، أصبح هذا العالم مطالبا بأن يكون لديه مزيد من الوعي بنتائج عمله. ولا شك أن هذا الوعي أمر عسير في الوقت الراهن بالذات؛ إذ إن العلم يزداد تفرعا وتخصصا على الدوام، بينما الوعي يحتاج إلى نظرة شاملة وأفق واسع؛ أي إن تطور العلم نحو التخصص المتزايد يسير في اتجاه مضاد لذلك الوعي الاجتماعي والسياسي الذي أصبح العالم مطالبا به؛ حتى لا يقع فريسة لسوء الاستغلال. ولكن عددا غير قليل من أقطاب العلم في عصرنا هذا تمكنوا من الجمع بين التفوق في تخصصهم، والقدرة على تكوين نظرة متكاملة تجمع بين حاجات العلم وحاجات الإنسان في المجتمع المعاصر، وهؤلاء الأقطاب هم الذين ترتفع أصواتهم في كل مناسبة، منادية باستخدامه لأهداف إنسانية، ومؤكدة أن العلم قادر - لو استخدم من أجل بناء حياة الإنسان لا هدمها - على أن يحيل الصحراء إلى جنة، ويطعم الملايين العديدة من الأفواه الجائعة، ويخلص المرضى من آلامهم، ويكفل للمحرومين إنتاجا سخيا فائضا، ويرعى عقل الإنسان في كل مكان بثقافة عالية وفن رفيع. وصحيح أن أصواتهم هذه ليست لها الكلمة الأخيرة، ولكن كلمتهم مع ذلك مؤثرة، ولو اتسعت قاعدة الوعي بين العلماء لأصبح لديهم من القوة ما يمكنهم - على الأقل - من موازنة حماقات السياسيين.
ومع ذلك فإن للموضوع من الخطورة ما يتجاوز نطاق اهتمام العلماء، فالمشكلة تتعلق بمصير النوع البشري كله، وهذه مسألة أخطر عن أن تترك في أيدي العلماء، حتى ولو كان وعيهم عميقا، وأخطر بالطبع من أن تترك في أيدي السياسيين أو أصحاب المصالح الاقتصادية، فعلى أي نحو إذن ينبغي على البشرية أن تواجه مثل هذه المشكلة الحاسمة؟ هذا ما سنحاول مناقشته في الجزء الأخير من هذا الفصل. (3) العلم والقيم الإنسانية
تشير المشكلات السابقة كلها - بصورة واضحة كل الوضوح - إلى حقيقة أساسية هي أن التقدم العلمي المعاصر يسير في طريق تفجير النظم الاجتماعية التي ظل الإنسان يعيش في ظلها حتى اليوم. فمشكلة الغذاء والسكان لا تحل إلا على نطاق عالمي لم يتوافر الإطار اللازم له حتى الآن، ومشكلة البيئة سوف تخرج من أيدينا إن لم نواجهها بإجراءات تتجاوز نطاق أية دولة على حدة، ومشكلة الموارد الطبيعية تقتضي منا نوعا من التفكير في الحاضر وفي المستقبل يخرج عن إطار «الأنانية» و«المصلحة» و«حب الاستهلاك» التي تسود المجتمعات البشرية الحالية، ومشكلة الوراثة والتحكم في الإنسان تبدو في نظرنا شيئا سخيفا إذا تصورناها في إطار النظم السائدة الآن في العالم، وأساليب التفكير التي تحكم العلاقات بين الدول أو بين فئات المجتمع الواحد. وأخيرا فإن مشكلة التسلح - وهي أخطر المشكلات جميعا - تضع أمامنا الخيار واضحا: فإما أن نمضي قدما في طريق تطوير أسلحة الدمار الشامل في ظل نظام المنافسة والعداوة الحالي، فنقع جميعا في الهاوية، وإما أن نعيد النظرة في أهدافنا ونستغل قدراتنا العلمية المتزايدة من أجل تحقيق رخاء لم تحلم به البشرية في أي عصر من عصورها، وهذا يقتضي تغييرا أساسيا في طبيعة النظم التي تسود المجتمع الإنساني. وباختصار فإن التقدم العلمي الذي نشهد بوادره القوية في هذه الأيام، سيضعنا أمام «طريق السلامة» و«طريق الندامة» كما يقول التعبير الشعبي البليغ، وليس لنا من خيار سوى السير في الطريق الأول؛ لأننا لو اخترنا الثاني فلن نكون هناك لكي نندم!
ولكن ما الذي يستطيع العلماء أن يفعلوه في موقف كهذا؟ وما الذي يعجزون عن القيام به؟ الواقع أن الآراء تختلف في هذا الموضوع بين أولئك الذين يؤمنون بأن العلم الذي يستطيع أن يحل كافة المشكلات التي خلقها تقدمه السريع، وأولئك الذين ينادون بضرورة الاستعانة بمصادر أخرى غير العلم؛ لكي نعيد ذلك التوازن الذي أخل به العلم، وكل من هذين الرأيين يستند إلى حجج معقولة، وإن كنت أعتقد - كما سأبين فيما بعد - أن الفرق بينهما ليس كبيرا إلى الحد الذي يبدو عليه للوهلة الأولى.
أما الرأي الأول الذي يذهب إلى أن العلم هو الكفيل بإصلاح ما أفسده التقدم العلمي ذاته، فيمكن أن يبدو في ظاهره متناقضا؛ إذ إن التقدم العلمي إذا كان قد خلق مشكلات معينة، فمن غير المعقول - على ما يبدو - أن تعالج هذه المشكلات عن طريق العلم نفسه؛ لأن هذا مجال لا ينفع فيه المثل القائل: «وداوني بالتي كانت هي الداء.» ولكن هذا التناقض الظاهري يختفي بسهولة إذا أدركنا أن معنى العلم ليس واحدا في الحالتين؛ فالعلم المتقدم - الذي خلق مشكلات عديدة - هو العلم الطبيعي، أما العلم الذي يمكنه أن يحل هذه المشكلات فهو العلم الإنساني.
ولقد لاحظ مفكرون أن تقدم العلم - في الآونة الأخيرة - يفتقر إلى التوازن، فهناك ميادين أحرز فيها تقدما هائلا هي التي تتعلق بالعالم الطبيعي، على حين أن هناك ميادين أخرى لا يزال العلم يحبو في أولها، وهي الميادين الخاصة بالإنسان، ومن المستحيل أن يكون هذا التفاوت الشديد في التقدم راجعا إلى مدى أهمية الميدان الذي يبحثه العلم بالنسبة إلينا؛ ذلك لأن أحدا لا يستطيع أن يزعم أن التنبؤ باليوم والدقيقة والثانية التي سيحدث فيها الكسوف التالي للشمس أهم في نظرنا من الاهتداء إلى علاج لمرض السرطان، أو أن إرسال قذيفة إلى مكان محدد على سطح القمر يهمنا أكثر من معالجة انحرافات الشباب، أو أن كشف التركيب الداخلي للذرة أهم من الاهتداء إلى أساليب تحقق الاستقرار للاقتصاد القومي. فمن حيث الأهمية يبدو لنا أن الموضوعات التي تمس الإنسان مباشرة هي الأهم، ومع ذلك فإن العلم ما زال في هذه الموضوعات أشد تخلفا منه في الموضوعات الأخرى التي قد يكون بعضها متعلقا بظواهر بعيدة عنا كل البعد.
والتعليل الشائع لهذا التقدم غير المتوازن مستمد من طبيعة الميادين التي يبحثها العلم، فهناك ميادين أبسط من غيرها؛ بمعنى أن الأسباب فيها موحدة الاتجاه، لا تنطوي على تعقيد أو تعدد، وتلك هي التي يحرز العلم فيها أعظم قدر من النجاح. أما الظواهر البشرية فإن الأسباب فيها شديدة التعقيد إلى حد لا يبدو معه أنها تؤدي دائما إلى نفس النتائج، أو على الأصح: إن حصر الأسباب التي تتحكم في الظاهرة البشرية الواحدة (كانحراف أحد الأحداث مثلا) هو من الصعوبة بحيث يصعب إخضاع كل جوانب الظاهرة للتحليل العلمي الدقيق، ويظل فيها على الدوام «جانب مجهول» أو «لا يمكن التنبؤ به»، مما يجعل العلم عاجزا عن أن يحرز في مجال الظواهر البشرية نفس القدر من النجاح الذي يحرزه في مجال الظواهر الطبيعية.
ومع اعترافنا بصحة هذا التعليل، فلا بد لنا أن نضيف إليه تعليلا آخر مستمدا من طبيعة الأوضاع السائدة في العالم المعاصر؛ ذلك لأن التقدم العلمي يتوقف أيضا على الأهداف والمصالح السياسية والاجتماعية. فإطلاق قذيفة بها رواد فضاء إلى القمر والعودة بهم إلى الأرض سالمين، هو على الأرجح أمر لا يقل تعقيدا عن الاهتداء إلى علاج لمرض السرطان، ولكن العلم ينجح في تحقيق الهدف الأول ويتعثر حتى الآن في تحقيق الهدف الثاني؛ لأن المجتمع ذاته رسم سياسة معينة ووضع تخطيطا خاصا يؤدي إلى هذا النجاح؛ وذلك نظرا إلى وجود مصالح استراتيجية أو دعائية يحققها الوصول إلى القمر، على حين أن مرض السرطان لا يحقق نفس الأهداف.
ولا شك أن هذا الجانب المتعلق بأهداف المجتمع ومصالحه يمكن أن يعلل قدرا كبيرا من انعدام التوازن الذي يتصف به نمو العلم في مرحلته الحالية. وهكذا يعلق الكثيرون آمالا عريضة على قدرة العلم على اقتحام تلك الميادين التي ظل حتى الآن يعالجها معالجة هامشية، ويؤكدون أن العلم لو استطاع تحقيق التوازن المفقود لأمكنه حل جميع المشكلات المترتبة على تقدمه السريع، بل لما عاد هذا التقدم يخلق أية مشكلات للمجتمع الإنساني. فلنتصور مثلا أن طريقة تنظيمنا للمجتمع قد وصلت إلى نفس القدر من الدقة التي وصلت إليه قدرتنا على صنع العقول الإلكترونية أو تحليل جزيئات المادة، عندئذ تختفي المشكلات التي أشرنا إليها من قبل تلقائيا؛ إذ إن هذه المشكلات لم تتوالد نتيجة لحدوث تطورات سريعة في فهمنا للعالم الطبيعي، على حين أن المجتمعات البشرية لا تزال تسودها تنظيمات ارتجالية عشوائية يحكمها منطق المصالح، ولا تحل خلافاتها إلا عن طريق استخدام القوة العسكرية الغاشمة أو التهديد بها؛ أي إننا في مجال التنظيمات نثبت أننا لم نتجاوز مستوى الحيوان كثيرا، في الوقت الذي يضع فيه العلم الطبيعي في يدنا قوة هائلة ويكسبنا مقدرة فائقة على السيطرة على الطبيعة.
وهكذا يمكن القول: إن تفكير الإنسان في أهدافه العامة وفي طريقة تنظيم مجتمعه ما زال يمر بالمرحلة «قبل العلمية»، ولو بلغ تحكمه في هذا المجال نفس مستوى تحكمه في الظواهر الطبيعية؛ لاختفى القدر الأكبر من المصاعب التي يعاني منها عالم اليوم.
على أن أصحاب الرأي الآخر يرون أن هذا المطلب لا يمكن أن يتحقق على يد العلم وحده، فحين نتحدث عن طريقة توجيه حياة الإنسان وتنظيم مجتمعه، نخوض مجال القيم والغايات الإنسانية، وهو مجال يهم البشر جميعا لا العلماء وحدهم. وفي مثل هذا المجال يكون من الصعب على العالم أن يقدم إلينا توجيها كاملا؛ لأن تكوينه يحول بينه وبين التعمق في أمور معنوية شديدة العمومية كتحديد الأهداف التي ينبغي أن يستغل العلم من أجلها؛ ففي عصر التخصص المتزايد يصعب أن نجد العالم الذي يستطيع تخصيص الوقت والجهد الكافي للتفكير في الأوضاع الإنسانية ككل. بل إن النظرة المباشرة والضيقة تغلب على العلماء، وهو أمر لا يعيبهم؛ لأن طبيعة عملهم تقتضيه، ولأنهم بدونه لا يستطيعون - في العصر - أن ينجزوا شيئا.
وإذن، فتحديد الأهداف التي ينبغي أن يخدمها العلم هو أمر أسمى من أن يترك للسياسيين المحترفين، وأوسع وأرحب من أن يترك للعلماء المتخصصين، وإنما الواجب أن يشارك فيه المفكرون والأدباء والفنانون والفلاسفة، وكل من يهمه مصير الإنسانية ويفكر في هذا المصير بنزاهة وتجرد.
وإذا كان البعض يذهبون في تأكيد هذا الاتجاه إلى حد الدعوة إلى استبعاد العلماء استبعادا تاما من عملية التوجيه الاجتماعي هذه، على أساس أن طغيان النزعة العلمية والإيمان المفرط بقدرة العلم، هو واحد من أهم أسباب المشكلات التي يجلبها تطور العلم السريع في عصرنا الحاضر، فإنا نرى في هذا موقفا متطرفا، ونؤمن بأن العلماء - إلى جانب المفكرين والأدباء وأنصار الإنسان بوجه عام - ينبغي أن تكون لهم كلمتهم في هذا المجال؛ ذلك لأننا لا نستطيع - بعد أن قطعنا كل هذا الشوط البعيد في طريق التفكير العلمي - أن نحدد القيم العليا والغايات الأخلاقية والمستويات التي نريد أن يصل إليها الإنسان بطريقة تأملية خالصة، وعن طريق مجرد التفكير فيها. فنحن في هذه الأمور لا نحتاج إلى وعظ أخلاقي بقدر ما نحتاج إلى من يبصرنا بحقائق العصر. ولا نستطيع أن نعتمد على من يخاطبنا عن المثل العليا بطريقة مجردة بقدر ما نعتمد على من يحدثنا بلغة دقيقة تحلل الظواهر وتوضح أسبابها. ومن المؤكد أننا - حتى في هذا المجال ذاته - لا نستطيع أن نستغني عن تلك الأداة الفريدة التي اكتسبها الإنسان بعد كفاح طويل، والتي تتيح لنا التفكير في مشاكلنا في إطار لا ينفصل عن الواقع، ومن الصعب إلى حد بعيد أن يقتنع الإنسان - بعد كل هذا الشوط الذي قطعه في طريق العلم - بتعاليم من يريدون العودة به إلى عصر التفكير الذي لا يبنى على حقائق واقعية، والذي يعتمد على التأمل الاجتهادي غير المدروس.
ومن حسن الحظ أن عصرنا هذا قد عرف عددا لا يستهان به من العلماء الذين تمكنوا - بالرغم من تفوقهم الساحق في ميادين تخصصهم - من أن يمتدوا بأنظارهم إلى ما وراء ميادين تخصصهم هذه، ويستشرفوا الآفاق الواسعة والبعيدة للمجتمع الإنساني ولمستقبل الحياة على هذه الأرض. هؤلاء العلماء هم الذين وقفوا يحذرون - في الخمسينيات - من أخطار الإشعاعات التي تجلبها التجارب الذرية ، وهم الذين ناضلوا من أجل تحقيق السلام في فيتنام، وحاربوا الصهيونية والعنصرية بكل أشكالها، وهم الذين يدافعون عن حق الإنسان العادي في بيئة نظيفة وحق المولود الجديد في فرص متكافئة للحياة. بهؤلاء العلماء ينبغي أن تفخر البشرية، لا لأنهم قدموا إليها الكثير في مجال كشف أسرار الطبيعة فحسب، بل لأنهم استطاعوا - برغم جهودهم المضنية هذه - أن يمتدوا بأبصارهم إلى أوسع الآفاق، وأن يرسموا لنا صورة المستقبل كما ينبغي أن تكون، ولو وصل عالمنا إلى المرحلة التي يكون فيها لهؤلاء العلماء - مع الفلاسفة والأدباء والفنانين والمفكرين الاجتماعيين والأخلاقيين - كلمتهم المسموعة؛ لأمكنه أن يوازن بين تقدمه العلمي وتنظيماته الاجتماعية، وأن يحقق للبشرية ذلك الرخاء وتلك الحياة الفنية - ماديا ومعنويا - التي يستطيع العلم «بقدراته الحالية» أن يحققها لنا، لو كان لدينا التنظيم الذي يرقى إلى مستوى هذه القدرات.
الفصل السابع
شخصية العالم
العلم نشاط عقلي يقوم به علماء متخصصون، ويتخذ طابعا لا شخصيا، والمقصود بالطابع اللاشخصي أن النتيجة التي يتوصل إليها العالم تصبح على الفور ملكا للبشرية جمعاء. صحيح أن هذه النتيجة هي ثمرة جهود «هذا الشخص بالذات»، وأن ذكاءه وتعليمه وجهوده الخاصة هي التي أدت به إلى بلوغها، ولكن الكشف العلمي بمجرد ظهوره يفقد صلته بالأصل الذي أنتجه، ويتحول إلى «حقيقة» يملكها الجميع ويعترف بها الجميع. وقد نظل نذكر اسم العالم الذي تم على يديه هذا الكشف، ولكن هذا لا يتم إلا عندما نتحدث عن «تاريخ العلم»، وهو شيء ينفصل عن العلم ذاته؛ ففي استطاعتنا أن نستخدم هذا الكشف الذي توصل إليه دون أن نذكر شيئا عن صاحبه، بل إن هذا ما يفعله أغلب المشتغلين بالعلم إزاء معظم الكشوف التي يتعاملون معها؛ لأن اسم صاحب الكشف لا يغير - في قليل أو كثير - من حقيقته التي هي أول وآخر ما يهتم به البحث العلمي.
وهكذا يبدو أن «شخصية» العالم هي أقل الأشياء أهمية في العلم، وأن البحث العلمي نشاط مستمر، يقوم به أناس ينكرون شخصياتهم، ولا يحرصون إلا على متابعة «السير في الطريق »، ومثل هذا الطابع «اللاشخصي » للعلم خليق بأن يجعل مشكلة البحث في «شخصية العالم» مشكلة ثانوية لا مبرر للاهتمام بها.
ومن ناحية أخرى فإن العلماء فئة شديدة التباين، فالاختلافات بينهم واسعة إلى حد يبعث على الدهشة؛ إذ نجد منهم من نبغ في مقتبل عمره، ومن لم يظهر نبوغه إلا في مرحلة الشيخوخة المتأخرة، ونجد منهم من يميل إلى البحث المتأني، ومن يدافع عن الانبثاق المفاجئ للأفكار الجديدة، كما نجد بينهم زهادا من ناحية ومستمتعين بالحياة من ناحية أخرى ... إلى غير ذلك من الفوارق التي نجدها بين أفراد أية فئة بشرية.
ومع هذا كله، فهل يكون من الصعب أن نتلمس صفات مشتركة بين العلماء نستطيع أن نطلق عليها - في مجموعها - تعبير «شخصية العالم»؟ يبدو - من استقراء حياة العلماء وتحليل طبيعة البحث العلمي - أن هناك بالفعل مجموعة من الصفات التي يشترك العلماء في الكثير منها، والتي تكون في مجموعها كيانا متميزا يستحق أن يطلق عليه اسم «شخصية العالم». ولكننا حين نقول ذلك ينبغي أن نبادر على الفور إلى الاعتراف بأمرين؛ أولهما أن هناك دائما استثناءات، وأن من السهل أن يجد المرء علماء لا تنطبق عليهم صفة أو مجموعة من الصفات التي نرى أنها هي المميزة لشخصية العالم وهذا أمر طبيعي؛ إذ إننا لا نستطيع أن ندرج أية مجموعة من البشر في قوالب متشابهة، فما بالك إذا كانت هذه المجموعة تتألف من فئة متميزة عقليا عن بقية الفئات؟ وثانيهما أن وجود هذه الصفات لا يجعل المرء عالما «بطريقة آلية»، فهذه الصفات تكون «الحد الأدنى» الذي لوحظ أنه موجود في عدد كبير من العلماء. ولكن لكي يكون المرء عالما بحق فلا بد من أن يتوافر له ما هو أكثر بكثير من هذا الحد الأدنى، أعني لا بد أن يكون له تكوين من نوع معين وتفكير خاص ومعارف وقدرات خاصة على البحث، وهذه كلها أمور تتجاوز نطاق أي بحث يقوم به المرء عن «التفكير العلمي» بوجه عام؛ لأنها تنقلنا إلى ميادين التخصص العلمي ذاتها.
في هذا الإطار العام - الذي نعتقد أن من الممكن الكلام فيه عن شخصية العالم - سوف نتحدث عن مجموعة من العناصر التي نعتقد أنها من أهم مكونات هذه الشخصية، وإن لم يكن من الضروري أن تتجمع كلها في كل عالم على حدة. (1) العناصر الأخلاقية في شخصية العالم
ليس المقصود من الأخلاق - في هذا الجزء من بحثنا - هو تلك الأخلاق الشخصية التي تتعلق بطريقة سلوك العالم من حيث هو إنسان، وإنما المقصود هو الأخلاق المتصلة بعمله العلمي، سواء بطريق مباشر أم بطريق غير مباشر؛ فنحن لا يعنينا أن نبحث في الطريقة التي يدير بها العالم شئون حياته اليومية الخاصة؛ لأن هذه الشئون ملكه هو من حيث هو فرد، ولكن إذا انعكست طريقة سلوكه في حياته الخاصة هذه على عمله العلمي - حتى ولو كان ذلك على نحو غير مباشر إلى أبعد حد - فعندئذ ينبغي أن نعمل لها حسابا. وهذه التفرقة بين المسلك الشخصي والمسلك الذي يمس العلم تفرقة هامة؛ لأن الكثيرين ينسون أن العالم إنسان له كل ما للبشر من جوانب الضعف والانفعالات وربما النزوات، وقد يكون في حياته الخاصة بعيدا كل البعد عن الصورة التي يكونها عنه الناس باعتباره عالما؛ إذ يتصور الناس عادة أنه لا بد أن يسلك في أموره اليومية - أي أن يأكل ويشرب وينام ويحب - بوصفه «عالما»، ويتخيلون أن مهنته لا بد أن تنعكس على أدق تفاصيل حياته، وهذا تصور واهم، ربما أذكته في نفوس الناس بعض الأقلام السينمائية أو الأعمال الأدبية التي تميل إلى أن تجعل للناس شخصية نمطية واحدة، تسري على جميع جوانب حياتهم، ولكن الواقع - في أغلب الأحيان - يكذب هذا التصور؛ إذ إننا نادرا ما نجد العالم الذي يمر في جميع جوانب حياته باعتباره عالما، وغالبا ما نجده يسلك في أمور حياته اليومية كما يسلك سائر الناس، ويتعرض لسائر مظاهر الصواب أو الخطأ التي يتعرض لها غيره من البشر. غير أن هناك جوانب معينة من حياته تؤثر - على نحو قليل أو كثير - في عمله العلمي وتتأثر به، وهذه الجوانب هي التي تعنينا ها هنا.
في هذه الناحية بالذات - أعني في مظاهر حياة العالم التي تتصل من قريب أو بعيد بعمله العلمي - يشيع تلخيص القيمة الأخلاقية العليا التي يتميز بها العالم في كلمة واحدة هي «الموضوعية». ولكن «الموضوعية» كلمة شديدة التعقيد، تحتمل جوانب وأوجها متباينة، ومن المستحيل فهمها على حقيقتها إلا إذا حللنا معانيها وجوانبها المختلفة بمزيد من الدقة، ومن هذا التحليل نستطيع أن نلقي ضوءا مفيدا على العناصر الأخلاقية كما ينبغي أن توجد في شخصية العالم، وكما توجد بالفعل في شخصيات علماء كثيرين. (1-1) الروح النقدية
أول معنى للموضوعية هو أن تكون لدى المرء روح نقدية، ومعنى ذلك ألا يتأثر بالمسلمات الموجودة أو الشائعة، وأن ينقد نفسه ويتقبل النقد من الآخرين. (أ)
فأهم ما يميز العالم قدرته على أن يختبر الآراء السائدة - سواء على المستوى الشعبي العادي أو في الأوساط العلمية أو كليهما معا - بذهن ناقد، لا ينقاد وراء سلطة القدم أو الانتشار أو الشهرة، ولا يقبل إلا ما يبدو له مقنعا على أسس عقلية وعلمية سليمة، ولا يعني ذلك أن يقف المرء موقف العناد المتعمد من كل ما هو شائع، بل يعني اختبار الآراء الشائعة وإخضاعها للفحص العقلي الدقيق، وربما عاد إلى قبولها آخر الأمر بعد أن يكون قد اطمأن إلى أنها اجتازت هذا الاختبار. أما لو تبين له ضعف أو تناقض أو تفكك في هذه الآراء، فإنه يتمسك بموقفه الجديد بكل ما يملك من تصميم وإصرار، مهما كانت التضحيات التي يعانيها في سبيل هذا الموقف.
ولو تناولنا بعض الأمثلة المشهورة في هذا الصدد؛ لوجدنا هذه الصفة مشتركة بينها جميعا؛ فحين وقف جاليليو - وهو شيخ عجوز في أواخر مراحل عمره - أمام محكمة التفتيش في روما مدافعا عن رأيه الجديد - الذي كان امتدادا لرأي كبرنيكوس - في نظام العالم ودوران الأرض حول الشمس، وحين وقف باستير وحده أمام علماء عصره مدافعا عن وجود تلك الكائنات الدقيقة التي تسبب التلوث والتعفن والأمراض - أعني الميكروبات - وحين وقف فرويد أمام عواصف الاستنكار مؤكدا أن الدوافع الحقيقية لسلوك الإنسان قد تكون بعيدة كل البعد عن الدوافع الظاهرية التي يعلنها الإنسان على الملأ أو يعلنها المجتمع من خلال الإنسان؛ في كل هذه الحالات - التي يحفل تاريخ العلم بأمثالها - كان هناك إدراك من جانب العالم لحقيقة جديدة تتصادم بعنف مع الحقائق الشائعة، وتلقى مقاومة مستميتة من أوساط قوية ومسيطرة، وكان العالم يقف وحده في مبدأ الأمر على الأقل، لا يملك ما يدافع به عن نفسه سوى قوة الإقناع التي تتسم بها حقيقته الجديدة، ومع ذلك فقد استطاع - آخر الأمر - أن ينتزع الاعتراف بأفكاره، ويحول مجرى العلم في اتجاه جديد. وكم من كشف علمي تحقق لمجرد أن عالما تجرأ على أن ينقد المسلمات الشائعة، ولا ينحني أمام طغيان الانتشار أو جبروت القوى التي تدافع عن هذه المسلمات، أو أمام تلك القوة التي تكتسبها الآراء السائدة نتيجة اعتياد الناس عليها زمنا طويلا.
وفي كثير من الأحيان كان نقد هذه المسلمات يصدم الناس صدمة عنيفة، ولكن العالم لم يكن يأبه إلا للرأي الذي اقتنع به. وهكذا رأينا كشوفا عظيمة الأهمية تتحقق - منذ القرن التاسع عشر - لأن عالما تجاسر على ألا يتقيد بالمسلمة القائلة إن الخطين المتوازيين لا يلتقيان، وإن مجموع زوايا المثلث بالتالي ينبغي أن يكون قائمتين، أو لأن عالما آخر تحدى النظرة السائدة إلى المكان والزمان، والتي تجعل كلا منهما حقيقة مطلقة، فتجرأ على الربط بينهما في وحدة واحدة ينكمش فيها الزمان إذا عبر المكان بسرعة هائلة، أو لأن عالما ثالثا لم يقتنع بأن الضوء ينبغي أن يكون «إما» جسيمات دقيقة و«إما» تموجات، فجمع بين هذين المفهومين اللذين يبدو من المستحيل الجمع بينهما، وقال بنظرية جسيمية - تموجية في آن واحد. وهكذا أكدت فكرة «تحدي البديهيات والمسلمات» قيمتها في مجال العلم إلى الحد الذي شجع الكثيرين على نقلها إلى مجال الفكر الفلسفي والاجتماعي والنفسي والسياسي، وأصبحت هذه الفكرة من أهم السمات المميزة لعصرنا الحاضر. (ب)
على أن العالم مثلما يعيد اختبار الأمور المسلم بها في الأوساط العلمية أو الشعبية، ويخضعها لمحكمة العقل وحده، لا يعفي نفسه من النقد؛ فمن الجائز أنه هو نفسه قد وقع في خطأ، وفي هذه الحالة يتعين على العالم الحقيقي أن يبادر إلى الاعتراف بهذا الخطأ، وكثيرا ما يكون هذا الاعتراف أليما؛ وذلك لأسباب واضحة؛ فمن السهل أن ينقد المرء الآخرين، أما نقده لنفسه فمن أصعب الأمور، ولا يرجع ذلك إلى أسباب نفسية أو إلى الاعتزاز بالذات فحسب، بل يرجع أيضا إلى صعوبة عملية النقد التي يمارسها المرء نحو ذاته. فحين يكون النقد موجها إلى الآخرين، يكون ذهن الناقد ذهنا جديدا «أضيف» إلى ذهن صاحب الرأي الذي ينقده، وكل ذهن جديد يستطيع أن يتأمل الموضوع من زاوية جديدة، ويرى فيه جوانب ربما لم يكن صاحب الرأي الأصلي قدرها أو أضفى عليها الأهمية التي تستحقها. أما في حالة «النقد الذاتي» فإن الذهن الواحد هو الذي يضع الرأي الأصلي، وهو نفسه الذي ينبغي أن يتأمل هذا الرأي الأصلي بنظرة ناقدة، ومثل هذا التأمل النقدي يغدو عسيرا في هذه الحالة، والأرجح أن يظل المرء متمسكا بنفس وجهة النظر القديمة؛ لأن عاداته الفكرية وتكوينه الخاص يؤديان به - غالبا - إلى نفس النتائج التي انتهى إليها من قبل، ولأن من الصعب أن ينسلخ المرء تماما عن طريقته السابقة في النظر، ويتأمل موضوعه بأعين جديدة.
ومما يزيد من صعوبة هذا النقد الذاتي، أنه كثيرا ما يعني هدم حصيلة عمل بذل فيه العالم جهدا شاقا، ومراجعة شاملة لخطواته السابقة من جديد، فلو تبين أن هذا الهدم ضروري لأن الآخرين قد اكتشفوا في هذا العمل نقاط ضعف واضحة أو نقصا ظاهرا، فعندئذ لا يكون أمام العالم مفر من مراجعة عمله السابق، أما أن يقوم هو ذاته بالنقد الذي يؤدي به إلى تفنيد عمله الخاص وتبديد الوقت والجهد الذي بذله فيه، فهذا - بلا شك - أمر شاق من الوجهة النفسية والأخلاقية، ومن المؤكد أن القليلين هم الذين تتوافر لديهم القدرة على مراجعة النفس بأمانة، وإعادة النظر في أعمالهم السابقة بحيث يستغنون عنها استغناء تاما إذا اقتنعوا بأن ذلك ضروري ، فهذه المراجعة تحتاج إلى مستوى أخلاقي رفيع، وإلى إنكار للذات لا يقدر عليه معظم الناس، الذين لا يقبلون بسهولة أن يقتطعوا من حياتهم ومن ثمار جهدهم ويتنكرون لها بمحض إرادتهم وكأنها لم تكن. ولكن هؤلاء القليلين الذين يصلون إلى هذا المستوى الرفيع، هم الذين ينهض العلم على أيديهم، وفي معظم الأحيان تثبت الأيام أن جهدهم السابق - الذي تنازلوا عنه - لم يضع هباء، وأن عملية النقد الذاتي هذه قد تكون نقطة البداية في كشف علمي أهم بكثير من ذلك الذي كانوا يعتزمون الوصول إليه من قبل.
ولسنا نود أن نترك موضوع النقد الذاتي قبل أن نشير إلى استخدام شائع لهذا التعبير في أيامنا هذه، وهو استخدام سياسي في المحل الأول، والمفروض فيه أن يعيد المرء النظر في مواقف سابقة له - في المجال السياسي - وينقدها نقدا موضوعيا، ولكن ظروف العالم الذي نعيش فيه، وطبيعة الصراع بين الأفكار في هذا العصر، تؤدي - في كثير من الأحيان - إلى ابتذال معنى النقد الذاتي؛ إذ إنه كثيرا ما يصبح تعبيرا عن انتهازية رخيصة، يحاول فيها المرء أن يتنصل من مواقفه السابقة لأن التيار السياسي قد تغير، ولأن اتجاها جديدا وأشخاصا جددا قد قفزوا إلى السلطة، فيغير الأذناب جلودهم، تمشيا مع العهد الجديد، باسم «النقد الذاتي». كما أن هذا التعبير قد يستخدم نتيجة لوجود قهر شديد، يضطر معه المرء - إذا كان قد أعرب من قبل عن آراء معارضة أو رافضة - إلى سحب آرائه هذه والتنصل منها باسم «النقد الذاتي»؛ خوفا من بطش السلطة أو خضوعا لضغطها. وفي كل هذه الحالات لا تكون لهذا النوع من «النقد الذاتي» المزيف أية صلة بما نقوله ها هنا عن النقد الذاتي في المجال العلمي؛ لسبب بسيط هو أن النوع الأول لم يصدر بدوافع موضوعية، أو لم يكن تعبيرا عن إرادة حرة. (ج)
وأخيرا فإن تقبل النقد من الآخرين صفة أساسية ينبغي أن يتحلى بها العالم؛ ذلك لأن لكل منا عاداته الفكرية الخاصة، وطريقته الشخصية في معالجة الأمور ، وتكوينه الفردي المميز، وهذا كله ينعكس حتما على عمله العلمي، بحيث يعجز في أحيان كثيرة عن رؤية جوانب الضعف أو النقص فيه، ويحتاج إلى من يتأمل هذا العمل بعيون أخرى لكي يرى فيه ما لم يره صاحبه. وعلى الرغم من أن الحقيقة العلمية - عندما تثبت وتستقر - تكون حقيقة واحدة يتفق عليها الجميع، فإنها في مرحلة تكوينها تحتاج إلى تضافر عقول كثيرة وإلى «حوار» بينها، وهو ما أدركه قدماء الفلاسفة حين أكدوا أن «الجدل» - بمعنى مشاركة أكثر من عقل واحد في السعي إلى بلوغ الحقيقة - هو طريق المعرفة.
وهكذا أصبح النقد جزءا لا يتجزأ من الممارسة العلمية في جميع البلاد المتقدمة، وأصبحت الدوريات والمجلات العلمية - بل والصحف اليومية في أحيان غير قليلة - تخصص أبوابا ثابتة لنقد الأعمال المنشورة، وأصبح العلماء أنفسهم يتلهفون على قراءة ما يكتب عن أعمالهم؛ لكي يعرفوا أين يقفون في الوسط العلمي الذي ينتمون إليه، ولكي يطلعوا على آراء العقول الأخرى فيما أنتجه عقلهم. وبفضل هذا التراث النقدي الذي استمر أجيالا كثيرة؛ اكتسب النقد في هذه البلاد المتقدمة نوعا من القداسة، وازداد طابعه «موضوعية»، وأصبح الناقد يشعر - وهو يمسك قلمه - بمسئولية لا تقل عن مسئولية القاضي وهو يصدر أحكامه، ولا شك أن المقارنة هنا ليست على سبيل التشبيه؛ إذ إن الناقد هو بالفعل قاض في الميدان العلمي، والفارق الوحيد بين الاثنين هو أن القاضي لا يتناول إلا حالات الخروج على القانون؛ أي الحالات السلبية وحدها، على حين أن الناقد يعالج الحالات الإيجابية والسلبية معا؛ إذ إن مهمته ليست إبراز العيوب فحسب، بل وامتداح المزايا أيضا. وفيما عدا ذلك فإن الضمير النقدي في البلاد المتقدمة قد اكتسب حساسية ورهافة لا تقل عن الضمير القضائي، وكلاهما يصدر في أحكامه عن دستور أو تشريع موضوعي؛ القاضي عن بنود القانون، والناقد عن المنطق السليم والمعارف العلمية المستقرة.
وفي اعتقادي أن هذه الإشارة إلى ما أسميه «بالضمير النقدي» في ميدان العلم ضرورية في عالمنا العربي على وجه التحديد؛ لأن هذا الضمير لم يتبلور بعد بالقدر الكافي في أوساطنا العلمية، ومن الممكن التفكير في أسباب متعددة لهذه الظاهرة، ولكن أهمها في رأيي سببان؛ الأول أن نهضتنا العلمية الحديثة قريبة العهد بحيث لم يصبح لدينا بعد «تراث» يجعل النقد جزءا أساسيا من حياتنا العلمية، كما هي الحال في البلاد المتقدمة. والسبب الثاني (وهو مرتبط بالأول ارتباطا وثيقا) هو ذلك الخلط الذي يسود كافة جوانب حياتنا بين ما هو خاص وما هو عام، أو بين العوامل الشخصية والعوامل الموضوعية، هذا الخلط هو - على سبيل المثال - سبب ظاهرة «الوساطة» التي تتفشى في أوساطنا الحكومية، والتي هي في حقيقتها تطبيق لمبدأ إكرام القريب أو الصديق (وهو مبدأ جميل في حياتنا الخاصة) على الشئون العامة للدولة، بحيث يزول الفارق بين طريقة سلوكنا مع المحيطين بنا في الأسرة أو في القرية أو في المقهى، وطريقة سلوكنا عند أداء الأعمال الرسمية.
وحين يسري هذا الخلط على العلاقات بين العلماء تصبح نتائجه وخيمة؛ إذ إن العالم لا يعود قادرا على تقبل النقد من الآخرين، ويتصور أنه إهانة له أو هجوم شخصي عليه، بينما الناقد نفسه قد يستخدم هذا النقد - في أحيان غير قليلة - لتصفية حسابات شخصية، أو لمجاملة من له عنده مأرب. وهكذا يسلك الطرفان معا بطريقة تخلو من النزاهة والموضوعية، ومن هنا كانت محنة النقد العلمي والفكري في بلادنا ... (أما النقد الأدبي والفني، فحدث عنه ولا حرج، إذ إنه - بالإضافة إلى ذلك - ينصب على مجال فيه من المرونة والتحرر من القواعد الثابتة ما يعطي للعوامل الشخصية في النقد مجالا أوسع.)
ولعل مما يزيد من حدة هذه المحنة أن وسائل النقد ذاتها غير متوافرة؛ فالمجلات والدوريات قليلة أو منعدمة في بعض المجالات، وهي لا تخصص إلا مساحة ضئيلة للنقد العلمي الجاد، ولها العذر في ذلك لأن العملية نفسها لا تلقى استجابة كبيرة من الكتاب؛ فمن منهم على استعداد لإرهاق نفسه بقراءة كتاب أو بحث لشخص آخر، والتنقيب بين المراجع عما عسى أن يكون قد أغفله أو أخطأ فيه؟ إن قراءة أبحاث الآخرين ومؤلفاتهم - على أية حال - أمر يزداد ندرة بالتدريج؛ لأن أعباء الحياة والعمل - وربما الكسل أيضا - تجعل كل باحث منشغلا بأبحاثه الخاصة، ونادرا ما يقرأ بحوث الآخرين. وهكذا يشعر كثير من الباحثين - في العالم العربي - بأنهم يكتبون لأنفسهم (وخاصة حين يكون الموضوع الذي يعالجونه جادا)، فبعد عمل مرهق قد يدوم سنوات متعددة، يظهر البحث فلا يستجيب له أحد، ولا يعلق عليه أحد، ولا ينقده أحد، حتى من المتخصصين في ميدانه، فنحن لا يقرأ بعضنا لبعض، ومن ثم لا ينقد بعضنا بعضا، وهذا نقص فادح في حياتنا العلمية.
والوجه الآخر لموضوع النقد هذا هو أن نعترف بفضل الآخرين على أعمالنا، فنحن ندين لمن نقرأ لهم بقدر كبير من معارفنا، بل إن كثيرا من أفكارنا الشخصية التي يبتدعها كل منا وفي ذهنه أنه هو مصدرها الوحيد، لا تثار في أذهاننا إلا لأن قراءة بحث أو كتاب معين قد أوحى إلينا بها ولو بصورة غير مباشرة، أو أثار فينا حاسة النقد والهجوم، فيكون له الفضل في هذه الحالة بدورها، حتى ولو كان ذلك فضلا سلبيا. ومن هنا فإن العلماء والكتاب - في البلاد التي رسخت فيها التقاليد العلمية - يحاولون بقدر ما في وسعهم رد الفضل إلى أصحابه، وربما رأيت المؤلف منهم يعدد في مقدمة كتابه أسماء مجموعة ضخمة من الأشخاص، بعضهم ناقشه مناقشة قصيرة حول الموضوع، وأحيانا قد يذكر الأستاذ فضل تلاميذه الذين ألهموه - بأسئلتهم واستفساراتهم - كثيرا من أفكاره. أما الإشارة إلى الاقتباسات من المراجع الأخرى فقد أصبحت تقليدا ثابتا لا يخالفه أحد.
وفي هذه الحالة بدورها نجد أن هذا التقليد الجليل لم يستقر في بلادنا تمام الاستقرار، بل إن مخالفته قد تتخذ في بعض الأحيان أبعادا مؤسفة، كما يحدث في حالات «السطو» على أعمال الآخرين التي ينسبها المرء لنفسه دون وازع من ضمير. ومن المؤكد أن حياتنا العلمية لن تستقيم إلا إذا أصبح الاعتراف بفضل الآخرين - حتى في الأمور البسيطة - قاعدة لا يخالفها أحد، وربما احتاج الأمر في البداية إلى قدر من الشدة، بحيث يلقى من يرتكب عملا من أعمال السرقة العلمية جزاء رادعا. وبعد ذلك يمكن أن يتحول السلوك العلمي القويم إلى عادة متأصلة في النفوس، فلا نحتاج إلى فرض جزاءات. ولكن النظرة المدققة إلى أوضاع التقاليد العلمية في العالم العربي لا توحي بالتفاؤل، إذ يبدو أن الأجيال الجديدة أقل تمسكا بهذه التقاليد حتى من الأجيال السابقة؛ ومن ثم فإن الخط البياني للروح النقدية السليمة وللأخلاق العلمية - بوجه عام - يتجه إلى الهبوط، وهو أمر مؤسف ينبغي أن نتداركه حتى لا تتسع الهوة بيننا وبين البلاد المتقدمة التي يزداد علماؤها تمسكا بالتقاليد العلمية جيلا بعد جيل. (1-2) النزاهة
لسنا في حاجة إلى أن نطيل الحديث عن صفة النزاهة بوصفها معنى أساسيا من معاني الموضوعية؛ ففي ثنايا الحديث عن الروح النقدية اتضحت لنا عناصر كثيرة ترتبط بصفة النزاهة، مثل قدرة العالم على أن يقف من أعماله الخاصة موقفا نقديا، وعلى أن يتقبل نقد الآخرين، ولا ينسب إلى نفسه شيئا استمده من غيره. والواقع أن نزاهة العالم تتبدى - أوضح ما تكون - في استبعاده للعوامل الذاتية من عمله العلمي، فحين يمارس العالم هذا العمل ينبغي عليه أن يطرح مصالحه وميوله واتجاهاته الشخصية جانبا، وأن يعالج موضوعه بتجرد تام.
هذا التجرد هو الذي يجعل العلم يلجأ إلى وسيلة وحيدة للإقناع هي الدليل والبرهان الموضوعي. وقد يتخذ هذا البرهان شكل إجراء تجربة تثبت المبدأ العلمي الجديد على نحو حاسم، أو يتخذ شكل تدليل منطقي قاطع، ولكنه في كل الحالات برهان يفرض نفسه على أي ذهن لديه القدرة على فهم الموضوع واستيعابه، وهذا هو الفارق الأساسي بين طريقة الإقناع العلمي، وطرق الإقناع المألوفة التي نلجأ إليها كثيرا في معاملاتنا اليومية، والتي تحفل بعناصر ذاتية لا صلة لها بالتفكير العلمي من قريب أو من بعيد؛ مثل الإقناع عن طريق البلاغة اللفظية أو استخدام اللغة الانفعالية المؤثرة أو التلاعب بعواطف الناس أو إغرائهم واستثارة ميولهم ومصالحهم. فالعلم يعلم الإنسان كيف يترك انفعالاته وتفضيلاته الشخصية جانبا، وكيف ينظر إلى الأمور نظرة منزهة عن كل غرض. ومن هنا كان للعلم تأثير أخلاقي لا يمكن إنكاره. ومن المؤكد أن الممارسة العلمية الطويلة والسليمة، لا بد أن تترك طابعها على طريقة تعامل العالم مع غيره من الناس؛ وذلك على الأقل في الأمور التي يقوم فيها صراع بين العوامل والميول الذاتية من جهة وبين الحقائق الموضوعية من جهة أخرى.
على أن الحديث عن صفة النزاهة والتجرد يفضي بنا إلى موضوع آخر له أهمية بالغة، ولا سيما في عصرنا الراهن؛ وأعني به موقف العالم من الربح المادي أو المال؛ ذلك لأن نزاهة العالم تفترض منه أن يكون في عمله العلمي ساعيا إلى الحقيقة وحدها، بغض النظر عما يمكن أن يجنيه من ورائه من مغانم. وهذه مسألة تنبه إليها الفلاسفة منذ أقدم العهود؛ إذ إن أفلاطون قسم البشر إلى محبي الكسب كالتجار والصناع، ومحبي الشهرة كالحكام السياسيين أو القواد العسكريين، ومحبي العلم أو المعرفة وهم العلماء والفلاسفة، وفي رأيه أن من ينتمي إلى الفئة الأخيرة لا يمكن أن ينتمي إلى الفئتين الأخريين، وبخاصة الأولى منهما. ومنذ ذلك الحين أصبح من الأمور المعترف بها أن لذة العلم والوصول إلى الحقيقة تفوق أية لذة أخرى، وتجعل صاحبها زاهدا في تلك الأهداف الدنيوية الصغيرة التي يستميت الناس الماديون من أجل تحقيقها كهدف الربح المادي.
ولكن عصرنا الحديث، وإن كان قد احتفظ بهذه التفرقة بين السعي إلى الحقيقة والسعي وراء المال، قد أضاف أبعادا أخرى إلى هذا الموضوع؛ ذلك لأن تعقد الحياة الحديثة وكثرة مطالبها جعل من المستحيل أن يظل العالم في صورة ذلك الناسك أو الزاهد الذي يتعفف عن كل ما يتصل بالمال، ومن هنا طرأ قدر من التغير على الصورة القديمة، بدليل أن المشروعات العلمية الناجحة كثيرا ما يكون من عوامل نجاحها الإنفاق بسخاء على المشروع بمن فيه من العلماء والباحثين.
فهل يعني ذلك أن التضاد القديم بين محبي الحقيقة ومحبي الكسب قد اختفى؟ الواقع أن هذا التضاد لا يزال قائما، ولا يمكن القول إن العالم الحقيقي إنسان يصلح للاشتغال بالتجارة (حتى في عمله) أو يجعل من تكديس الأموال هدفا لحياته. قد نجد استثناءات قليلة هنا أو هناك، ولكن معظم هذه الاستثناءات تتعلق بأناس لا تسري في عروقهم روح العلم بمعناها الحقيقي. ولا يزال من الصحيح أن العالم لا يطلب المال لذاته، وإنما يطلبه بوصفه وسيلة فحسب؛ فسهولة العيش وقضاء المطالب المادية - وربما بعض المطالب الكمالية - يتيح للعالم أن يتفرغ لعمله العلمي بذهن خال من المشاغل، ومن هنا كان الوضع الأمثل عند العلماء هو أن تقوم الدولة بتلبية احتياجاتهم وتزويدهم بكل ما يلزمهم للبحث، بحيث تصبح عقولهم مكرسة للتفكير في المشاكل العلمية وحدها، أما استغلال البحث العلمي استغلالا ماديا فأمر لا يكترث به العلماء.
ولا يمكن أن يسمى هذا زهدا بالمعنى الصحيح، وإن كان فيه بالفعل كثير من عناصر الزهد؛ ذلك لأن العالم إنسان يحظى بمستوى عقلي يفوق المستوى العادي، وهناك متع كثيرة يسعى إليها الإنسان العادي وينفق من أجلها الكثير من المال، لا يكترث بها العالم ولا يشعر إزاءها بأي استمتاع. فمن الصعب على كثير من العلماء - مثلا - أن يشعروا بلذة حقيقية من تلك السهرات الصاخبة في الملاهي الليلية، حتى لو كان يملك المال الذي تتكلفه، على حين أن التاجر أو رجل الأعمال قد يجد فيها متعة كبرى، وقد يكون قدر كبير من سعيه وراء الربح مستهدفا حياة من هذا النوع. وهكذا يبدو تصرف العالم في هذه الحالة زهدا، ولكنه - في حقيقته - استخفاف بأمور لا تثير في نفسه رغبة حقيقية من أجل الوصول إليها.
وهنا لا نستطيع أن نقول: إننا - في عصرنا الحديث - قد تجاوزنا بكثير ما كان يدعو إليه أفلاطون؛ ذلك لأن هذا الفيلسوف اليوناني الكبير قد حرم على العلماء - في مدينته الفاضلة - اقتناء الذهب والفضة «اكتفاء بما في نفوسهم من هذين المعدنين النفيسين»، وهو قد دعا إلى قيام المجتمع أو الدولة بتوفير كل المطالب المادية للعلماء حتى لا يشغلهم شيء سوى بحثهم وراء الحقيقة، ولكن الصورة العامة التي رسمها لوضع العلماء في المجتمع المثالي - كما تخيله - لم تكن صورة زاهدة بالمعنى الصحيح؛ إذ إن العلماء كانوا يحصلون على كل مطالبهم الضرورية، وكانوا يتمتعون جسديا ونفسيا بكل ما يميل إليه الإنسان السوي. أما انصرافهم عن الاتجار أو الكسب فراجع إلى أن طبيعتهم ذاتها تأبى الانشغال بهذه الأمور.
ولكن ماذا نقول عن الشهرة؟ هل صحيح أن العالم - كما كان يشيع في العصور القديمة والوسطى - إنسان يزهد في الشهرة ويبحث عن الحقيقة في صمت، دون أن يهتم بأن يعرفه أو يسمع عنه أحد؟ الواقع أن هذا الرأي يظل صحيحا إذا كنا نعني بالشهرة ذلك الضجيج الإعلامي والإعلاني الأجوف الذي يتمتع به نجوم السينما أو الرياضة البدنية أو بعض السياسيين؛ فالعالم لا يجد متعة في أن يشيع اسمه بين عامة الناس وسط أسماء تلك الشخصيات التي تهتم بها وسائل الإعلام الجماهيرية الحديثة، والتي هي في معظم الأحيان شخصيات سطحية. ولكن هناك نوعا آخر من الشهرة يسعى إليه العالم بكل حماسة، هو الشهرة في الوسط العلمي ذاته، بل إن كل من مارس تجربة البحث العلمي على حقيقتها يعلم أن كلمة صدق يقولها عالم آخر ممتدحا فيها بحثه، قد تكون أحب لديه من أموال الدنيا. وهكذا يتحمس العالم للشهرة بمعنى اعتراف المتخصصين والعارفين بقيمة عمله. أما الشهرة الجماهيرية السطحية فلا تهمه في شيء؛ لأنه على أية حال لن يستطيع - مهما فعل - أن يجاري مطربا عاطفيا أو لاعبا رشيقا في اكتساب الشهرة بين عامة الناس.
وأخيرا فلعل موضوع المال هذا أن يثير مشكلة أصبحت تلقى في السنوات الأخيرة اهتماما كبيرا في بلاد العالم الثالث، ومنها بلادنا العربية، وكذلك في الهيئات الدولية التي تعنى بشئون البلاد النامية، وأعني بها تلك المشكلة المعروفة باسم هجرة العلماء أو تسرب العقول، فنحن نعاني من رفض عدد كبير من أبنائنا - الذين يتعلمون في الخارج - العودة إلى أوطانهم التي هي في أشد الحاجة إلى خبرتهم وعلمهم لكي تبني لنفسها مستقبلا أفضل. ومن المعترف به أن قوة الجذب التي توجد لدى بعض الدول المتقدمة، والتي تتمكن بواسطتها من احتجاز أعداد كبيرة من علماء البلاد النامية، هي من أهم العوامل التي تؤدي إلى مضاعفة معدل التقدم في تلك البلاد، وتباطؤ هذا المعدل في البلاد التي يهاجر منها العلماء.
والتفسير الشائع هو أن المال عامل حاسم في هجرة العلماء، لا سيما وأن البلاد التي يهاجرون إليها قادرة على إغرائهم بأجور تزيد أضعافا مضاعفة عن أقصى ما يحلمون في بلادهم الأصلية. وقد يكون عامل المال ذا تأثير بالفعل في بعض الحالات، ولكن أغلب الظن أن هناك عوامل أخرى تنتمي إلى صميم العمل العلمي، هي التي تدفع العلماء إلى ترك بلادهم الأصلية وتقديم خبراتهم إلى بلاد غريبة عنهم، وعلى رأس هذه العوامل: وجود الجو الذي يسمح للعالم بممارسة عمله على الوجه الذي يتطلع إليه؛ ففي اعتقادي أن عامل تحقيق الذات يقوم - في حياة العالم - بدور يفوق بكثير جميع التطلعات المادية، وإحساس العالم بأنه يحقق كل ما لديه من إمكانات، وبأن فرص البحث مهيأة له بلا عوائق، وبأن الجو العام - في المجتمع الذي يعيش فيه - يسمح له بالمضي في عمله العلمي دون أن تشغله الدسائس والمؤامرات والمشاغل التافهة. هذا الإحساس هو العامل الحاسم في اختياره للمكان الذي يفضل أن يعمل فيه، وأوضح مثل على ما نقول هو ما حدث لعلماء الصين؛ إذ كان عدد من هؤلاء العلماء قد هاجروا إلى الخارج وخاصة إلى الولايات المتحدة، حيث تبوءوا مراكز مرموقة، وكانوا يتقاضون مرتبات ضخمة، ولكن في اللحظة التي دعاهم فيها الوطن العودة؛ عاد معظمهم بالفعل، ولم يكن هناك أي وجه للمقارنة بين أحوالهم الجديدة ووضعهم القديم من الناحية المالية، ولكن كان هناك الإحساس بأن الوطن في حاجة إليهم، وبأن المجتمع ينفق على البحث العلمي بأقصى ما يمكنه من سخاء، وبأن أدوات البحث العلمي - من أجهزة ومراجع - متوافرة، كما أن الجو العام يشجع على البحث ولا يضع أية معوقات أمام المشتغلين به. وبالفعل لاحظ المراقبون الذين زاروا هذا البلد - حتى من بين خصومه - أن الدولة تعامل العلماء ومراكز البحث معاملة تفوق بكثير مستوى التقشف العام السائد في المجتمع، وهذا أقصى ما يحتاج إليه العالم ؛ أن يشعر بأن بلده محتاج إليه، وبأن نتائج بحثه لن تهمل وإنما ستعود على المجتمع بالنفع، وبأن الدولة تحترم العلم وتخصص له كل ما في طاقتها من إمكانات، وبأنه يشارك بصورة إيجابية في مسيرة مجتمع يسعى بجدية من أجل النهوض. أما الكسب أو المال فيأتي في مكانة ثانوية إذا تحققت هذه الأهداف الرئيسية، ومن المؤكد أن المجتمع الذي يحترم العلم إلى هذا الحد لن يقبل أن يترك علماءه يعيشون في مستوى هابط. كما أن العالم - من جهته - لن يطلب لنفسه أكثر مما يطيق مجتمعه إذا أيقن أن هذا المجتمع جاد، وأنه خلا من الفساد والانتهازية والوصولية والرغبة في التسلق على أكتاف الآخرين وعلى حساب قوتهم الضروري. (1-3) الحياد
قلنا من قبل: إن الموضوعية هي الصفة التي تلخص جميع جوانب الأخلاق العلمية، وعرضنا لمعنيين من معاني الموضوعية؛ هما الروح النقدية والنزاهة، والمعنى الثالث للموضوعية هو الحياد، وهو معنى عظيم الأهمية، وإن كان يثير إشكالات ينبغي أن ينتبه إليها المرء حتى لا يسيء فهم هذا اللفظ الذي يستخدم - رغم وضوحه - بمعان شديدة التباين.
إننا نصف الشخص الموضوعي بأنه محايد، ونعني بذلك أنه لا ينحاز مقدما إلى طرف من أطراف النزاع الفكري أو الخلاف العلمي؛ فالعالم ينبغي أن يقف على الحياد، بمعنى أن يعطي كل رأي من الآراء المتعارضة حقه الكامل في التعبير عن نفسه، ويزن كل الحجج التي تقال بميزان يخلو من الغرض أو التحيز؛ فالموضوعات التي يعالجها، والأفكار التي تقدم إليه، تقف كلها أمامه على قدم المساواة، دون أية محاولة مسبقة من جانبه لتفضيل إحداها على الأخرى، وعندما ينحاز العالم آخر الأمر، فلا بد أن يكون انحيازه هذا مبنيا على تقدير موضوعي بحت لإيجابيات الحجج وسلبياتها. والعالم محايد بمعنى أنه يترك تفضيلاته الذاتية جانبا؛ إذ إننا لا نستطيع - بغير شك - أن نتصور عالم نبات يهتم في أبحاثه بزهرة معينة لمجرد كونه يحبها، أو عالم حيوان يهمل نوعا حيوانيا معينا لمجرد أنه لا يطيق شكله.
ولكن معنى الحياد العلمي اكتسب في وقتنا هذا أبعادا أوسع من ذلك بكثير، وأول هذه الأبعاد ذو طابع أخلاقي واضح، فمن الشائع أن نجد كتابات تتهم العلم بأنه سبب الشرور التي تعانيها البشرية، وخاصة بعد أن أدى تحالفه مع التكنولوجيا إلى تغيير وجه الحياة على نحو يرى فيه الكثيرون انحدارا لإنسانية الإنسان، ولكن من المألوف - من ناحية أخرى - أن نرى كتابا يمجدون العلم على أساس أنه هو القوة القادرة على أن تحقق الجنة الموعودة للإنسان على سطح هذه الأرض. وهكذا يتهم بعضهم العلم بأنه ينزع إلى الشر بطبيعته، ويتغنى البعض الآخر به لأنه مصدر أعظم خير يستطيع الإنسان أن يحققه في حياته.
ولكن الرأي الأكثر شيوعا من هذين الرأيين، هو القائل أن العلم «محايد» بين الخير والشر؛ فالعلم أداة تتيح للإنسان أن يفهم العالم المحيط به وأن يفهم نفسه على نحو أفضل؛ ومن ثم فهو يزيد من قدرته على السيطرة على العالم الخارجي، وعلى عالمه الداخلي الخاص، ولكن هذه القدرة «محايدة»؛ بمعنى أنها لا تعدو أن تكون طاقة أكبر، قابلة لأن تتشكل في اتجاه الخير أو الشر، وهذه الطاقة قد تكون عقلية تتمثل في فهم أفضل للظواهر، أو مادية تتمثل في مزيد من السيطرة على هذه الظواهر وتسخيرها لأغراض الإنسان. ولكن هذه الأغراض قد تكون متجهة إلى تحقيق السعادة والرخاء للبشر، وقد تتجه إلى إرضاء نزوات حاكم مستبد أو تحقيق مصالح فئة جشعة أو ضمان التفوق لشعب مغتصب.
والأمر الذي يؤكد حياد العلم هذا، أن العلم ذاته ليس مسئولا عن التعرف في النتائج التي يتوصل إليها؛ فالعالم - في عصرنا الحديث - يشتغل لحساب مؤسسة أوسع منه قد تكون هي الدولة، أو شركة تجارية، أو على أحسن الفروض معهد علمي، وفي كل الحالات يكون القرار النهائي الذي يحدد طريقة التصرف فيما يكتشفه العالم خارجا عن إرادته، والمثل الواضح على هذا هو القنبلة الذرية على نحو ما عرضنا من قبل. وهكذا نجد العالم محكوما بقوى خارجية في جميع جوانب علمه العلمي؛ فقبل أن يشرع في هذا العمل لا بد أن يعتمد على مؤسسة كبيرة توفر له إمكانات البحث التي تزداد تكلفة وتعقيدا يوما بعد يوم، وبعد أن ينتهي من عمله العلمي، ويتوصل إلى كشف أو اختراع جديد، لا تكون له الكلمة أو سلطة اتخاذ القرار بشأن هذا الكشف، بل تتصرف فيه المؤسسة التي يعمل لحسابها، وهذه المؤسسة يتحكم فيها - غالبا - سياسيون أو تجار (أو سياسيون تجار!) ومن ثم فهي تصدر قراراتها بطريقة لا شأن لها بالعلم، وتحدد أهدافها وفقا لمصالحها الخاصة. وهكذا يضطر العلم إلى أن يقف على الحياد، وهو في هذه الحالة حياد مرتبط بالعجز؛ لأن العلم - بقدر ما أصبح يتحكم في مصير العالم - لا يملك مصيره بيده.
فإذا وجدنا العلم يؤدي إلى حروب وكوارث، ويشجع على القسوة والجشع، فلنعلم أن هذه ليست صفات مرتبطة بالعلم في ذاته، وإنما هي نتائج تترتب على «طريقة معينة» في التصرف بنتائج البحث العلمي. وكان من الممكن - لو تصرفنا بهذه النتائج بطريقة أخرى - أن يكون العلم خيرا ورخاء كله، أي إن طريقة استخدام العلم هي التي تحدد مدى أخلاقيته أو لا أخلاقيته.
هذا هو الوضع الشائع لمشكلة علاقة العلم بالأخلاق، وهو أيضا المعنى المألوف لتعبير «حياد العلم»، ولكننا نستطيع أن نتأمل هذا الموضوع بنظرة أعمق، فنجد فيه أبعادا أخرى غير هذه الأبعاد المألوفة والمعروفة؛ ذلك لأن صفة الحياد عدم الاكتراث أو تبلد الفكر والمشاعر، بحيث يستمر العالم في عمله بغض النظر عما يمكن أن يترتب عليه من خير أو شر، وفي هذه الحالة يكون كل ما يهدف إليه العالم هو مواصلة البحث العلمي، والتغلب على التحدي الذي تواجهه به صعوبة ما، والسعي إلى بلوغ أقصى النتائج الممكنة للعمل الذي بدأ يشتغل به؛ أي إن المضي في البحث العلمي يصبح غاية في ذاته، بغض النظر عن أية غاية أخلاقية أو لا أخلاقية يمكن أن يخدمها هذا البحث، مثل هذا الموقف يعد بدوره «حيادا»، ولكنه حياد يتضمن في داخله نتائج خطيرة من الوجهة الأخلاقية.
ذلك لأن من الممكن القول: إن العلماء الألمان الذين كانوا يبحثون لكي يساعدوا «هتلر» على تطوير أداته الحربية لم يكونوا كلهم من الأشرار، وإنما كان معظمهم مفتونا بأبحاثه مستغرقا فيها بصورة «حيادية»؛ بحيث كان كل ما يهمه هو استطلاع جميع الآفاق المتاحة له حتى نهايتها، وهذه السلبية أو عدم الاكتراث بالنتائج التي يمكن أن تترتب على العمل العلمي تفتح الباب بسهولة لاستغلال العلماء أنفسهم من أجل تحقيق أشد الأغراض بعدا عن الأخلاق والإنسانية.
وعلى الطرف المضاد، نستطيع أن نقول أيضا: إن مكتشف البنسلين لم يكن بالضرورة إنسانا يستهدف غاية أخلاقية أو خيرة، بل إنه وجد أمامه - بالصدفة - بابا مفتوحا يقود إلى طريق مليء بالمفاجآت الجديدة والمثيرة، فكان كل هدفه هو السعي في هذا الطريق ومعرفة النهاية التي يمكن أن يوصله إليها، ومثل هذا السعي المستمر إلى مواصلة البحث لذاته، يمكن في حالات كثيرة أن يعني وقوف العالم بمعزل عن الأخلاق وعن قيمها، وهو الموقف المسمى باسم
Amoralism ، حيث لا يكون المرء أخلاقيا أو معاديا للأخلاق، وإنما يقف خارج نطاق القيم الأخلاقية أصلا. وبالرغم من أن هذا الموقف ليس في ذاته شرا فإنه يمكن أن يؤدي بسهولة إلى الشر، ويولد في نفس العالم نوعا من تبلد الحس وجمود المشاعر.
ولقد دافع البعض عن هذا الموقف على أساس أن البحث عن الحقيقة لذاتها هو أمر محايد أخلاقيا، أو لا شأن له بالأخلاق، وزكى هذا الدفاع - على المستوى الفلسفي - موقف مذهب فلسفي معاصر هو «الوضعية المنطقية»؛ وهو مذهب يؤمن بأن القيم - سواء أكانت أخلاقية أو جمالية - تخرج عن نطاق العلم الذي يجب أن يكون «محايدا»، على حين أن القيم تعبر بطبيعتها عن تفضيلات شخصية، وحين نعبر عن تفضيلاتنا نضع الأشياء في سلم صاعد أو هابط؛ أي إننا لا نضعها على مستوى واحد، على حين أن العلم بطبيعته يعالج موضوعاته من نفس المستوى دون تحيز أو تفضيل، فإذا أردنا أن نجعل للقيم مكانا فليكن ذلك - حسب رأي الوضعية المنطقية - في ميدان الفن أو الأدب، أما في العلم فلا يسود إلا «الحياد» التام الذي يستبعد كل القيم والتفضيلات الأخلاقية.
هذا المعنى للحياد العلمي - في المجال الأخلاقي - مبني على افتراض غير مؤكد، هو أن الحقيقة لا شأن لها بالقيم أساسا؛ ذلك لأن هناك وجهة نظر أخرى - نعتقد أنها تستحق التقدير - تذهب الأخلاقية أن الحقيقة هي ذاتها قيمة عليا، وأن السعي إليها هو في ذاته خطوة أساسية في طريق الأخلاق؛ فالبصيرة التي نكتسبها بفضل الحقيقة، والاستنارة التي تبعثها في نفوسنا المعرفة، هي بلا شك أمور أخلاقية أو مرتبطة مباشرة بالأخلاق، والتضحيات التي يبذلها العلماء من أجل تحقيق كشوفهم تنطوي على دوافع أخلاقية لا شك فيها؛ إذ لا يمكننا أن نتصور العناء والجهد والمكابدة التي يعانيها العالم إلا إذا كانت هناك روح معينة ذات طابع أخلاقي تدفعه الأخلاقية أن يتحمل ذلك كله، ويتنازل عن النمط السهل المريح الذي تسير عليه حياة الناس؛ لكي يحيا حياة مكرسة للعلم وحده. والصراع ضد الجهل عمل أخلاقي جليل، لا سيما إذا اقترن بتضحيات ناجمة عن التصدي للقوى التي تقف وراء الجهل وتسانده وتحارب كل من يسعى إلى نشر الحقائق، ولا جدال في أن العالم الذي يحارب من أجل حقيقة يؤمن بها عن اقتناع، أو الذي يكرس حياته من أجل كشف يبدد ظلام الجهل أو يحقق للإنسان مزيدا من الفطرة على الطبيعة؛ هذا العالم يقف في صف واحد مع الأنبياء والمصلحين الذين لم تكن حياتهم مكرسة - في الواقع - إلا لأهداف مماثلة.
ومن المسلم به أننا قد نجد علماء يفتقرون إلى الروح الأخلاقية كما ينبغي أن تكون، بل قد نجد منهم من ارتكبوا في حق الأخلاق أخطاء فادحة، ولدينا على ذلك مثال واضح في شخصية فرانسيس بيكون
Sir Francis Bacon
الذي كان رائدا من رواد الروح العلمية الحديثة في أوروبا، رغم أن هو ذاته لم يكن عالما، فهذا المفكر الفذ، الذي أدرك منذ وقت مبكر طبيعة البحث العلمي الحديث، والاختلافات القاطعة بين المعرفة العلمية التي تستهدف السيطرة على العالم، وتلك التي كانت في العصور القديمة والوسطى تكتفي بمجادلات لفظية عقيمة؛ هذا المفكر كان إنسانا لا أخلاقيا إلى حد بعيد؛ إذ كان من شيمه الغدر بالأصدقاء، وخداع الناس عن طريق الاقتراض منهم دون أن يسدد شيئا، وقبول الرشاوى من المتقاضين في محكمة يرأسها هو نفسه، والانغماس في دسائس القصور ومغامراتها، كل هذه كانت مساوئ أخلاقية مؤسفة، ولا سيما حين تصدر من فيلسوف محب للحقيقة، ولكننا نستطيع أن نقول - من وجهة نظر أخرى - إنه لم يكن إنسانا لا أخلاقيا تماما؛ فقد كانت أخطاؤه كلها تنتمي إلى ميدان السلوك الشخصي في الحياة الخاصة أو العامة، ولكنه كان في تفكيره العلمي شخصا أخلاقيا بكل ما تحمله الكلمة من معنى؛ فهو لم يكن يزيف الحقائق أو يجامل أحدا في الحق، ولم يكن يتردد في مهاجمة أقوى السلطات العلمية في عصره إذا تبين له أنها عقبة في وجه المعرفة الجديدة التي يدعو إليها، وهو قد تحمل في سبيل ذلك تضحيات عديدة، بل ربما كان جزء كبير من انحرافه - على المستوى الشخصي - راجعا إلى رغبته في أن يحصل على منصب رفيع يساعده على تحقيق المشروعات العلمية الكبرى التي كان يحلم بها. وهكذا فإن السعي المستمر إلى الحقيقة - الذي تتميز به حياة العالم - يؤدي به إلى اعتياد الصدق وعدم التفريق في القيم المعنوية المرتبطة به، مهما كان مستوى أخلاقية العالم في حياته الخاصة، بل إن القدرة على الاحتفاظ بموقف «الحياد» - بمعنى التجرد والتنزه والبعد عن التحيز والهوى - هي في ذاتها موقف أخلاقي لا شك فيه. ومن هنا فإن التعبير القائل أن العلم «محايد أخلاقيا» يمكن - من وجهة نظر معينة - أن يعد تعبيرا غير كاف لوصف طبيعة العلم. فالحياد نفسه موقف أخلاقي، أو هو انحياز إلى الأخلاق، إذا فهمناه بالمعنى الذي أشرنا إليه منذ قليل، لا بمعنى الوقوف موقف المتفرج إزاء الأخلاق، أو الاستعداد لتقبل الخير والشر معا على النحو الذي يفهم به هذا اللفظ عادة. وهكذا يكون الجهد العلمي هو ذاته نوعا من الجهاد الأخلاقي، ويكون التحلي بقدر معين من القيم الأخلاقية صفة أساسية للعالم، هذا طبعا إذا كان عالما بالمعنى الصحيح. (2) العلم والأخلاق في العصر الحاضر
في العصور السابقة كان هناك حد فاصل بين السعي إلى المعرفة والسلوك العلمي، أو بين الفهم النظري للظواهر وإرضاء الإنسان لملكة حب الاستطلاع عنده من جهة، وبين القواعد الأخلاقية التي يتفاهم الناس ويتلاقون على أساسها من جهة أخرى؛ فالعلم - كما أوضحنا في فصل سابق - كان طوال جزء كبير من تاريخه نشاطا نظريا صرفا، وكان من الطبيعي عندئذ ألا يقترب من مجال الأخلاق، بل أن يكون هناك اختلاف جوهري بين الاستخدام النظري للعقل في المعرفة، واستخدامه العلمي في الأخلاق. أما في عصرنا الحاضر فقد أصبح التداخل وثيقا بين المجالين، بحيث أصبح العلم يتدخل في تفكيرنا في مشاكلنا الأخلاقية، كما أصبحت الأخلاق تسعى إلى توجيه العلم، أو على الأقل تستهدف اختباره بطريقة نقدية.
على أن هذا الانتقال - من الانفصال التام بين العلم والأخلاق إلى التداخل الوثيق بينهما - لم يحدث فجأة، وإنما حدث على مراحل متعددة، ومهدت له ظروف كثيرة، وفي وسعنا أن نلخص أهم مراحل الانتقال هذه فيما يلي: (1)
في مطلع العصر الحديث انهار المثل الأعلى القديم للمعرفة؛ وهو «العلم لأجل العلم»، وبدأ ظهور مفهوم جديد للعلم، يدور حول فكرة السيطرة على الطبيعة والوصول إلى مزيد من التحكم في العالم الخارجي. (2)
بعد فترة غير طويلة أخذ العلم يسعى إلى تحقيق هذا الهدف نفسه في مجال الإنسان؛ أي أن يحقق - بالنسبة إلى عالمنا الداخلي - نفس القدرة على الفهم وعلى السيطرة التي تحققت لنا بالنسبة إلى الطبيعة. (3)
كان هذا الانتقال إلى هدف جديد للعلم غير المعرفة النظرية المنقطعة الصلة بالواقع، يعني - من الوجهة النظرية - التقريب بين مجالي المعرفة العلمية والتطبيق العلمي؛ لأن العلم أصبح هو ذاته نوعا من السلوك، وسعيا إلى التغيير. (4)
وكان معناه - من الوجهة العملية - إثارة مشكلات تتعلق بكيفية استخدام العلم والغايات التي ينبغي أن يخدمها، والجوانب التي يطبق فيها النتائج المترتبة على الكشوف العلمية بالنسبة إلى حياة الإنسان. كل هذه كانت أسئلة جديدة لم يكن من الممكن أن تظهر في ظل التصور القديم للعلم، وكان من المحال أن نجد لها نظيرا عند فلاسفة مثل أفلاطون وأرسطو، خاضوا جميع ميادين الفكر، ولكنهم ظلوا ينظرون إلى العلم على أنه تأمل محض، ويضعون بينه وبين حياة الإنسان العملية واليومية حواجز لا يمكن عبورها. (5)
وكان اقتحام العلم لميدان «النفس الإنسانية والمجتمع البشري» إيذانا ببدء عهد جديد يقترب فيه العلم من صميم المشكلات العملية للإنسان، صحيح أن أقطاب علم النفس وعلم الاجتماع كانوا وما زالوا يلحون على ضرورة الاحتفاظ بالطابع «الموضوعي» لأبحاثهم، ويؤكدون أنهم يحللون الظواهر ويصفونها كما هي موجودة بالفعل، ولا شأن لهم بما «ينبغي» أن تكون عليه، ويضعون فاصلا حادا بين دراسة الواقع كما هو كائن ودراسة القيم التي تنقلنا إلى مجال «ما ينبغي أن يكون»، هذا كله صحيح، ولكن الأمر الذي لا يمكن إنكاره هو أن العلم حين اقترب من ذلك المنبع الذي تصدر عنه القيم كلها - أعني النفسي الإنسانية والمجتمع البشري - كان لا بد أن يتداخل تأثيره مع تأثير الأخلاق. (6)
وفي عصرنا الحاضر ازداد هذا التداخل وثوقا؛ ذلك لأن التغلغل المتزايد للتطبيقات العلمية والتكنولوجية في حياتنا، جعل العلم يتصل اتصالا مباشرا بمشكلات حيوية بل مصيرية، مثل مشكلة البقاء أو الفناء ومشكلة التلوث والتزايد السكاني والأزمات الغذائية، وكلها أمور تقع على الحدود التي تربط بين العلم والتكنولوجيا من جهة، والأخلاق من جهة أخرى.
وهكذا تطورت الأمور بحيث أصبحنا لا نجد مفرا من البحث في النتائج الأخلاقية للعلم، وأصبح العلم في عصرنا الحاضر قوة تؤثر في حياتنا ومسلكنا العملي، لا مجرد إرضاء لحب استطلاعنا، وزال الحد الفاصل بين وظيفة العلم في إلقاء الضوء على ما هو كائن، ووظيفة الأخلاق في إرشادنا إلى ما ينبغي أن يكون.
ولقد اعترفت البلاد المتقدمة علميا بهذه الحقيقة؛ لأنها لمستها عن قرب من خلال تجارب مباشرة أدى فيها التقدم العلمي والتكنولوجي إلى إثارة مشكلات أخلاقية لها خطورتها الكبرى، ونستطيع أن نضرب لذلك مثلا واحدا كان له بالفعل أصداء واسعة في تلك البلاد، هو حبوب منع الحمل؛ فقد ظهرت هذه الحبوب بوصفها مثلا واضحا لقدرة العلم على التدخل في مجرى الحوادث الطبيعية، وتنظيم حياة الإنسان، وتمكينه لأول مرة من أن يتحكم في نسله، وكان ذلك انتصارا علميا عظيما له تأثيره الهائل في جميع أرجاء العالم، ويكفي أنه أتاح لملايين الأسر ألا تنجب أطفالا غير مرغوب فيهم، بينما كانت نسبة كبيرة من الإنجاب - في كل التاريخ السابق للبشرية - لا ترجع إلى رغبة حقيقية في جلب أطفال جدد إلى العالم. ولكن هذا الانتصار العلمي الكبير - الذي حقق للإنسان السيطرة على عملية من أهم عملياته البيولوجية، وبدا أنه يبشر بعهد يتم فيه تنظيم النسل على مستوى عالمي مخطط - كانت له نتائج أخلاقية هائلة؛ ذلك لأنه أحدث انفصالا بين الجنس، من حيث هو ممارسة، وبين إنجاب الأطفال؛ أي إنه أصبح من الممكن أن يمارس الجنس دون خوف من الحمل. ونظرا إلى أن هذا الخوف كان - في كثير من المجتمعات البشرية - هو الدافع الحقيقي إلى التمسك بالعفة، فإن زواله كان يعني زوال سبب رئيسي للتمسك بالقيم الأخلاقية المتعلقة بالجنس. وهكذا اتسع نطاق الممارسات الجنسية الحرة - في المجتمعات الصناعية المتقدمة - على أوسع نطاق، لا سيما وأن الرقابة الأسرية القوية، والنوازع الدينية التي تميز المجتمعات الشرقية، كانت ضعيفة أو منعدمة في البلاد المتقدمة، وترتب على ذلك انهيار كثير من القيم الأخلاقية التقليدية، واختفاء الزواج بشكله القديم اختفاء شبه تام، وظهور أنواع من العلاقات الحرة التي كان من المستحيل أن تنتشر من قبل، وما هذا إلا مثل واحد للتغييرات الأخلاقية الأساسية التي يمكن أن تترتب على الكشوف العلمية الحديثة.
وطبيعي أن يؤدي هذا المثل وغيره إلى إثارة مشكلة «مسئولية العالم» في العصر الحاضر؛ ذلك لأن العالم كان تقليديا يقوم بالبحث النظري أو التطبيقي وليس في ذهنه إلا هدف واحد، هو إنجاز ما بدأ، ولكن الوعي المتزايد بالنتائج الأخلاقية والاجتماعية التي يمكن أن تترتب على كثير من الكشوف العلمية في هذا العصر، جعل من الضروري أن تضاف إلى أعباء العالم مهمة أخرى، هي أن «يفكر» في تلك النتائج قبل وأثناء قيامه ببحثه، وربما أن يمتنع أصلا عن مواصلة البحث إذا أيقن بأن نتائجه ستكون وخيمة.
ولقد تفاوتت الآراء في مشكلة «مسئولية العالم»، فهناك من يضيقون تلك المسئولية إلى الحد الأدنى، فيرون أنها تقف عند حدود معمله أو مختبره، وأن العالم لا شأن له بما يحدث خارج هذه الحدود، وهناك من يوسعون هذه المسئولية إلى أقصى حد، فيؤكدون أنها تمتد في عصرنا الحاضر إلى المجتمع بأسره، ولكل من الفريقين - وكذلك لمن يقفون موقفا وسطا بينهما - حججه التي يدعم بها موقفه، ومن الواضح أننا ميالون إلى تأكيد مسئولية العالم، وأننا نصفق بحماسة حين نجد عالما كبيرا يخرج من إطار عمله العلمي الخالص لكي ينبه الرأي العام في العالم إلى خطر يوشك أن يحدثه العلم، أو حماقة تنزلق إليها البشرية نتيجة للتقدم التكنولوجي، ولكن المسألة ليست دائما بهذه البساطة.
فهناك حالات لا يستطيع المرء أن يكون فيها على يقين من أن تدخل العلماء في اتخاذ القرارات الكبرى المتعلقة بمصير المجتمع لا بد أن يكون خيرا على الدوام، وهناك دول تولي علماءها وخبراءها ثقة زائدة، وتوكل إليهم أمورها، فلا تجد النتيجة مشجعة على الدوام، وقد ظهر ذلك بوضوح في عصرنا الحاضر في الحملة على ما يسمى «بالتكنوقراطية»، ولفظ «التكنوقراطية» يعبر عن نوع من أنواع الحكم كالديمقراطية التي تعني حكومة الشعب أو الأغلبية، والأرستقراطية التي تعني حكومة الأقلية، أما التكنوقراطية فهي حكومة الفنيين الأخصائيين، أو هي بمعنى أوسع سيطرة هؤلاء الفنيين وتحكمهم في اتخاذ القرارات الكبرى في المجتمع، هذا النوع من السيطرة ثبت بالتجربة أنه لم يكن خيرا على الدوام.
ذلك لأنه قد تبين أن هذا التكنوقراطي - الذي هو في الأغلب عالم متخصص أو خبير ذو تجربة واسعة - ينظر إلى الأمور بمنظور أضيق مما ينبغي، ينحصر في إطار اختصاصه وحده، وقد يكون ذلك مفيدا، بل هو بلا شك ضروري في المسائل المتخصصة التي لا تمس إلا نطاقا ضيقا من مصالح الناس. أما في المسائل المصيرية المتعلقة بمصالح المجتمع ككل، فإننا كثيرا ما نجد التكنوقراطيين عاجزين عن تأمل الأمور من منظور شامل ؛ لأن مهمتهم تغلب عليهم ، ونظرتهم العلمية المتخصصة تحجب عنهم رؤية الحقائق الكبرى للمجتمع العريض، ومن هنا فإن هؤلاء التكنوقراطيين كثيرا ما يتخذون قرارات ضيقة الأفق، وكثيرا ما يجد المجتمع نفسه مضطرا إلى اللجوء إلى «السياسيين» غير المتخصصين؛ لكي يصلحوا ما أفسده العلماء الحاكمون، ولكنه يتميز عنهم - على الأقل - بشمول النظرة، وبالإحساس بنبض الجماهير ومعرفة وقع القرارات الحاسمة عليها.
وبطبيعة الحال فإن الوضع الأمثل هو أن يكون العالم ذا وعي سياسي في الوقت نفسه، وهذا أمر يتحقق بالفعل لدى عدد من العلماء الكبار الذين يفخر بهم عصرنا هذا، والذين لم يمنعهم عملهم العلمي الشاق، وانهماكهم في كشوفهم الحاسمة، من أن يمتدوا بنظرهم بحيث تتسع لمشاكل العالم الكبرى، وتدرك وضع الإنسان في المجتمع المعاصر، وتنفذ إلى الأسباب العميقة للأزمات التي يعانيها، وإلى الحلول الفعالة لهذه الأزمات. ولكن أمثال هؤلاء العلماء قلة، والغالبية الساحقة تنشغل بعملها العلمي إلى الحد الذي يحجب عنها رؤية كثير من حقائق العالم المحيط بها. ومن الصعب أن يعيب المرء على هذه الغالبية قصور نظرتها في الأمور المتعلقة بالسياسة والأوضاع الاجتماعية ومشكلات الإنسان؛ إذ إن العمل العلمي يزداد تعقيدا على الدوام، ومن الطبيعي أن يكون في المشكلات المهنية الخاصة ما يشغل العالم بما فيه الكفاية.
ومع ذلك كله فإن العالم - في عصرنا الحاضر - ينبغي أن يكون لديه حد أدنى من الوعي بالنتائج المترتبة على عمله العلمي، وهذا يرجع إلى أن طبيعة العلم ذاتها قد أصبحت تقتضي ذلك. فحين تتغير وظيفة العلم من نشاط لا يؤثر إلا تأثيرا محدودا إلى نشاط مصيري يمتد تأثيره إلى كافة جوانب الحياة البشرية؛ يكون من الطبيعي أن تتغير نظرة المشتغل به من الإطار المهني الضيق إلى الميدان الإنساني الشامل.
ولو تأملنا العالم المحيط بنا لوجدنا أن الظروف الواقعية ذاتها - في هذا العالم - تحتم وجود تداخل وثيق بين العلم والسياسة، مفهومة بأوسع معانيها؛ أي بمعنى التنظيم الشامل لأوضاع المجتمعات البشرية، فلم يعد في استطاعة العالم أن يمضي في حياته العلمية مستقلا، ويبحث المشاكل التي تهمه أو يريد كشفها، بل إنه أصبح - كما قلنا من قبل - مرتبطا على الدوام بمؤسسات أكبر منه، هي التي تقدم إليه الإمكانات، وتزوده بالأدوات المعقدة المكلفة التي أصبحت شرطا أساسيا للبحث العلمي في العصر الحاضر، وينطبق هذا على مختلف أنظمة الحكم القائمة في العالم؛ ففي البلاد الاشتراكية يرتبط البحث العلمي بخطة الدولة، وهي خطة سياسية في المحل الأول، تحدد للعلماء مجالات البحث المطلوبة، ومقدار التمويل والتسهيلات التي ستقدمها الدولة إليها، وفي البلاد الرأسمالية يشتغل عدد كبير من العلماء في مؤسسات ذات أهداف تجارية مباشرة، وحتى العاملون في الجامعات يقومون بكثير من مشروعاتهم لصالح هذه المؤسسات. بل إن المرتبات التي يحصل عليها علماء الجامعات ومعاهد البحث يأتي جزء كبير منها من مساهمات المؤسسات الصناعية والتجارية في ميزانيات الجامعات والمعاهد. ومن الطبيعي أن تفرض هذه المؤسسات اهتماماتها الخاصة على مجالات البحث، فضلا عن أنها لا تود أن يخرج المشتغلون بالعلم عن إطار السياسة العامة التي تحافظ على مصالح هذه المؤسسات. وإذا كان يبدو أن تحكم «الخطة» التي تضعها الدولة في النظام الاشتراكي هو الأقوى، فإن حقيقة الأمر هي أن المؤسسات ذات الأغراض التجارية تحل محل الدولة في رسم السياسة المطلوبة للبحث العلمي في المجتمعات الرأسمالية؛ لأنها تمول نسبة كبيرة من مشروعات البحث العلمي عن طريق التبرع بأموال طائلة تخصم من الضرائب المستحقة عليها، وبذلك تضمن سيطرتها دون أن تخسر شيئا وتضمن في الوقت نفسه استمرار المبادئ العامة التي تتمشى مع مصالحها.
ولكن بالرغم من أن الاعتبارات السياسية تتحكم في العلم الحالي إلى هذا الحد، فإن كثيرا من المجتمعات تطالب العلماء بألا يتدخلوا في السياسة، وتضع كثير من المؤسسات والجمعيات العلمية هذا الشرط على كل عالم مشتغل بها، فالمطلوب من العلم أن يكون طاقة للمعرفة، تعمل جهات أخرى على توجيهها وتحديد الأهداف الاجتماعية التي ستخدمها، وإذا شاء العالم أن يعبر عن آرائه السياسية والاجتماعية، فعليه أن يفعل ذلك بوصفه مواطنا عاديا لا بوصفه عالما، وهذا هو الشرط الأساسي «لموضوعية» العالم كما تفهمها مجتمعات كثيرة ، وهذا أمر مؤسف؛ لأن معناه هو أننا نعمل منذ البداية على استبعاد المنهج العلمي من بحث الموضوعات التي تمس صميم حياة الإنسان، أعني الموضوعات السياسية والاجتماعية والأخلاقية. مع أن هذه الموضوعات قد تكون في أمس الحاجة إلى أن تبحث بالأساليب الفكرية السليمة، فحين نعالج هذه الموضوعات متوخين أن نبحث عن الأدلة النزيهة في كل حالة، ونبتعد عن أساليب الديماغوجية والتهويش، وحين نفكر في سياستنا وشئون مجتمعنا تفكيرا يخلو من الانفعالية ولا يعترف إلا بالحجة المنطقية، وحين نختبر النظريات التي تنظم وفقا لها حياتنا الاجتماعية عن طريق التطبيق، كما يفعل العالم في تجاربه المعملية، وحين نبحث عن العلاقات السببية الحقيقية الظواهر الاجتماعية، حين نفعل ذلك كله فنحن - بغير شك - نسدي خدمة جليلة إلى قضايا الإنسان المصيرية في مجمعاتنا، وفي هذه الحالة يكون العلم قد أثبت وجوده في المجال السياسي والاجتماعي، مما يبدد تلقائيا تهريج المشعوذين والأفاقين الذين يتحكمون في هذا المجال الحاسم بأساليب لا تمت إلى العلم أو التفكير السليم بأية صلة.
ولكن المهم في هذه الحالة هو أن يكون العلم نزيها بحق، وأن تعطى له فرصة التعبير عن نفسه دون ضغط أو تأثير، وهو على أية حال شرط يصعب إلى حد بعيد تحقيقه في معظم المجتمعات المعاصرة. (3) ثقافة العالم
أدى بنا البحث في الجوانب الأخلاقية لشخصية العالم إلى تناول مشكلة «مسئولية العلماء» في العصر الحاضر، وقد تطرقنا عند معالجة هذه المشكلة الأخيرة إلى موضوع حيوي، هو مدى الوعي السياسي والاجتماعي الذي يجب أن يتصف به العالم في وقتنا هذا، وهذا الموضوع الأخير يمثل في الواقع جانبا واحدا من مشكلة أعم بكثير؛ هي: إلى أي حد ينبغي أن يخرج العالم في هذا العصر عن حدود تخصصه؟ هذه المشكلة هي التي سنعالجها في صورتها العامة ضمن إطار بحثنا الحالي في «ثقافة العالم».
والواقع أن هذه المشكلة قد اكتسبت - في وقتنا الحالي - أهمية كبرى، كما أصبحت في الوقت ذاته مشكلة شديدة التعقيد؛ لأن العلم يسير - على نحو متزايد - في خطين أو طريقين متضادين ، وإن كان كل منهما لا يقل ضرورة عن الآخر؛ فالعلم يتجه إلى المزيد من التخصص، مما يؤدي إلى تضييق النطاق الذي يدور في داخله تفكير العالم واهتمامه، ولكنه يكتسب في الوقت ذاته أهمية إنسانية واجتماعية متزايدة، مما يحتم على المشتغلين به أن يمتدوا بأنظارهم إلى الآفاق الإنسانية الواسعة. وكلتا الحركتين - كما هو واضح - مضادة للأخرى، فعلى أي نحو إذن ينبغي أن تتشكل شخصية العالم في هذا الميدان؟ وما نوع الثقافة التي ينبغي أن يكتسبها العالم في عصرنا الحاضر حتى يكون مستجيبا لمقتضيات هذا العصر؟
إن في وسعنا أن نعالج موضوع ثقافة العالم على مستويين؛ الأول منهما هو المستوى العلمي البحت، والثاني هو المستوى الإنساني العام، والمستويان متداخلان إلى حد بعيد، ولكن من المفيد أن نفرق بينهما مؤقتا، مع إدراكنا أنهما لا يكونان إلا جانبين في شخصية واحدة ينبغي أن تتصف بالتكامل والاتساق بين مختلف عناصرها: (1)
من المسلم به أن التخصص في العلم يزداد بحيث تظهر على الدوام فروع جديدة لعلوم كانت موحدة وفروع للفروع، كما يضيق باطراد نطاق الميدان الذي يستطيع العالم أن يقول: إنه «متخصص» فيه؛ أي أن يتكلم عنه ويبحث فيه عن ثقة. هذا التخصص قد أفاد العلم فائدة كبرى؛ إذ إنه هو الذي أتاح ذلك التراكم الهائل للمعرفة الذي يتميز به عصرنا الحاضر، والذي قلنا من قبل عنه أنه يؤدي إلى تضاعف مجموع المعرفة العلمية في كل عدد قليل من السنوات. ولا شك أن هذا التخصص المتزايد مرتبط بالازدياد الكبير في عدد المشتغلين بالعلم؛ لأن هذه الزيادة ضرورية لمواجهة التخصصات والتفرعات التي تظهر بلا توقف.
على أنه إذا كان هذا التخصص المتزايد قد أفاد العلم فائدة لا شك فيها، فإن فائدته بالنسبة إلى تكوين العلماء أنفسهم، وبالنسبة إلى شخصية المشتغل بالعلم، هي شيء يمكن أن يكون مثارا للجدل؛ ذلك لأن العالم الذي يكرس حياته كلها لمجال شديد الضيق في فرع من فروع العلم، يتحدد تفكيره بهذا المجال ويعجز عن الخروج عنه، لا سيما وأن مقتضيات البحث العلمي وكمية المعلومات اللازمة له تزداد دواما في أي ميدان مهما كان ضيقه. وهكذا يمكن أن يصبح كثير من المشتغلين بالبحث العلمي أشخاصا ذوي إنسانية ناقصة وأبعاد ضيقة؛ فهم ينمون إلى أقصى حد ملكة واحدة من ملكاتهم في ميدان محدود جدا، بينما تظل بقية الملكات بلا نمو، وربما ازدادت تخلفا، وقد شبه الفيلسوف الألماني نيتشه هذا المتخصص بإنسان يتألف من أذن أو أنف هائلة الحجم، وبقية جسمه ضئيل إلى جانبها، هذا على الرغم من أن التخصص في عهد نيتشه - الذي يفصلنا عنه قرن كامل - كان أقل مما هو الآن بكثير.
ويمكن القول: إن العالم الذي يريد أن ينجح في ميدانه مضطر - في وقتنا هذا - إلى أن يعرض نفسه لهذا الخطر، فإزاء ثورة المعلومات والانفجار المعرفي، وإزاء ذلك الطوفان المتعاظم من الأبحاث والمقالات والكتب العلمية، يجد العالم نفسه أمام أحد أمرين؛ إما أن يحرص على استيعاب ما يكتب في ميدان تخصصه، حتى لا يكرر شيئا توصل إليه غيره من قبل، وحتى يلم بأحدث التطورات فيه، فيجيء ذلك على حساب تنمية قواه الخلاقة. وإما أن يمارس قدراته الإبداعية ولا يكرس وقتا أطول مما ينبغي في قراءة ما هو موجود بالفعل، فيكون مهددا بتكرار بحث أجراه غيره، أو البدء من جديد في طريق سبق أن سلكه آخرون.
ولكن هذا التخصص المتزايد لا يمثل - في الواقع - إلا وجها واحدا من أوجه التطور العلمي الحديث، فمع استمرار التخصص وتفرعه يوجد اتجاه إلى كشف العلاقات بين الفروع المتباينة وإلى إجراء بحوث مشتركة بين عدة فروع
Interdisciplinary Research ؛ أي إن التكامل يعوض جزءا على الأقل من تأثير التخصص، ويصبح لزاما على العالم - وخاصة من كان عالما كبيرا - أن يتوصل إلى نظرة متكاملة إلى علمه، فإذا كان متخصصا في فروع من البيولوجيا مثلا كان عليه أن يلم ببقية فروعها، وأن يعالج مشكلاتها من منظور الكيمياء والفيزياء والرياضيات ... إلخ. ومع ذلك فإن لهذا التكامل حدودا لا يتعداها؛ إذ إنه يتعلق ببعض الفروع التي تتصل بصورة مباشرة أو غير مباشرة بموضوع التخصص، ومن المستحيل أن يكون تكاملا «موسوعيا»؛ فقد اختفى منذ وقت طويل ذلك المثل الأعلى الذي ظل يمارس تأثيره حتى القرن الثامن عشر عند فيلسوف مثل «ليبنتس» الذي كان قادرا على استيعاب معظم معارف عصره والإبداع فيها، وإذا كنا نجد اليوم من آن لآخر شخصيات تتصور أنها قادرة على الإحاطة بمختلف جوانب المعرفة البشرية، وتستعرض معلوماتها أمام الناس في مختلف فروعها، فلنعلم أن الجانب الأكبر من هذه المعلومات ناقصة أو زائفة، وأن العملية كلها استعراضية جوفاء لا تنطلي إلا على البسطاء وغير المتخصصين.
وهكذا تكون هناك حدود «للتكامل» تجعله محصورا في نطاق معين، وتظل الغالبية العظمى من المشتغلين بالبحث العلمي عاجزة حتى عن بلوغ هذا التكامل المحدود، وتزداد أمام أعيننا باستمرار أعداد أولئك الذين يطلق عليهم البعض اسم «الهمجي المتعلم»
The Learned Savage ، وهو شخص لم تكتمل صفات الإنسان فيه؛ لأنه لا يحمل من زاد الدنيا إلا المعلومات المتعلقة بميدان ضيق ربما لم يكن الإنسان العادي قد سمع عنه في حياته.
ومما يزيد من فداحة المشكلة أن أمثال هؤلاء المتخصصين محدودي الأفق هم - في الأغلب - أناس مترفعون عن غيرهم، يتحدثون فيما بينهم لغتهم الغامضة الخاصة، ويتصورون أن تخصصهم فيها يكسبهم امتيازا على كل من عداهم، مع أنهم لو خرجوا عن ميدانهم الأصلي قليلا لأصبحوا مكشوفين تماما أمام الغير. أمثال هؤلاء «العلماء الجهال»، قد يكونون أحيانا أسوأ من الجهلاء غير المتعلمين؛ لأن الأخيرين على الأقل ليست لديهم ادعاءات، على حين أن الأولين يتصورون أن معرفتهم في ميدانهم الخاص تبيح لهم أن يعدوا أنفسهم «عارفين» في الميادين الأخرى، وكثيرا ما نجد هؤلاء الأشخاص يكونون مادة طريفة لسخرية مؤلفي الروايات والمسرحيات الهزلية، حين يصورونهم وقد تظاهروا بمعرفة كل شيء وهم في الواقع لا يفقهون شيئا مما يخرج عن ميدانهم الخاص، أو حين يسخرون من ميلهم إلى تطبيق لغة تخصصهم واصطلاحاته الفنية على ميادين لا شأن لها به على الإطلاق، أو يعجزون عن مواجهة موقف من مواقف الحياة المعتادة؛ لأنهم لم يعرفوا كيف يلائمون بين عقولهم التي تشكلت في قالب ضيق واحد وبين مقتضيات هذه الحياة. (2)
أما المستوى الثاني - الذي يرتبط بالمستوى السابق ارتباطا وثيقا - فهو المستوى الإنساني العام؛ ذلك لأن التخصص المفرط لا يؤدي فقط إلى عزل المشتغل بالبحث العلمي عن كافة جوانب المعرفة الأخرى، بل يعمل أيضا على توسيع الفجوة بين العلم والإنسان؛ إذ يحول العلم إلى أداة فنية مفرطة في التعقيد، وإلى مجموعة من الإجراءات التي تقتضي تدريبا وتعليما مكثفا؛ ومن ثم يتباعد العلم تدريجيا عن الإنسان في وجوه المتكامل المحسوس، وفي مشاكله الواقعية العينية، ويزداد الباحث العلمي عجزا عن رؤية الصورة الكلية للحياة الإنسانية؛ لأنه يفني عمره في قطاع شديد الضآلة من قطاعات عالم الطبيعة أو الإنسان. وإذا كان العلم في طبيعته الأصلية يستهدف أساسا أن يزيد الإنسان وعيا بإنسانيته، بعد أن أحرز هذا القدر من التقدم، إلى عكس هدفه الأصلي؛ أي إلى إقامة حواجز لا يمكن عبورها بين الاشتغال بالعلم وبين المنابع الأصيلة للحياد الإنسانية.
ومن أجل هذا لم يكن يكفي العالم - الذي يريد أن يبقي على روابطه الإنسانية - أن يكون أوسع اطلاعا في فروع المعرفة الأخرى التي تتصل بميدان تخصصه اتصالا مباشرا أو غير مباشر، بل إنه في حاجة إلى نوع من الثقافة الإنسانية التي تبعد عن العلم المتخصص بعدا تاما، وهذا مطلب يبدو تحقيقه عسيرا في ضوء الجهد الضخم الذي يقتضيه البحث العلمي في وقتنا هذا، والذي لا يكاد يترك للعالم فراغا لشيء غيره. ولكن الأمر الملفت للنظر هو أن عددا غير قليل من العلماء الكبار الذين يفخر بهم عصرنا الحاضر كانت لديهم مثل هذه الاهتمامات؛ إذ كانوا يحرصون على أن تظل لديهم هذه النافذة المفتوحة المطلة على عالم الأدب أو الشعر أو الموسيقى أو الفلسفة، وكانوا يجدون متعة كبرى في العودة من آن لآخر إلى أحد ميادين الإنسانيات بالمعنى الواسع لهذه الكلمة. وربما قدم البعض مبررات لذلك بالإشارة إلى أن مصلحة البحث العلمي ذاته تقتضي ذلك؛ إذ إن الخروج من آن لآخر عن مجال التخصص يتيح للمرء أن يعود إليه بعد ذلك بعقل أكثر تفتحا ، وبرؤية أشد خصبا، مما لو كان منغمسا فيه بلا توقف، كما أن العقل العلمي في حاجة إلى فترات من الراحة لاستعادة نشاطه وحيويته. وهذه مبررات صحيحة بغير شك، ولكنها ليست كافية؛ إذ إنها ترتد في نهاية الأمر إلى العلم المتخصص نفسه، وتجعل من العناصر الثقافية في شخصية العالم مجرد «وسيلة» يستعين بها على تحقيق هدفه الأول والأخير؛ وهو الوصول إلى نتائج أفضل في ميدان تخصصه. وواقع الأمر أن كثيرا من هؤلاء العلماء الذين يحرصون على تأكيد الروابط بينهم وبين ميادين الإنسانيات، لا يتخذون من الثقافة مجرد وسيلة تعينهم في عملهم العلمي، بل يرونها غاية في ذاتها، ويقبلون عليها لأنهم يحبون الثقافة ويستمتعون بها بالفعل، لا لكي تكون وسيلة لقضاء فترة فراغ أو جسرا يعبرون عليه من بحث علمي إلى آخر.
هذا الإقبال على الثقافة ذاتها - من جانب العلماء الكبار - لا يمكن تفسيره إلا على أساس وحدة الإنسان؛ فالروح الإنسانية ينبغي أن تظل محتفظة بوحدتها مهما ضاق نطاق اهتمامها الأصلي. والتخصص الدقيق لا ينفي على الإطلاق أن العالم إنسان، وأنه بالتالي قادر على أن يتذوق ويستوعب الجوانب الإنسانية في الثقافة بالإضافة إلى اهتمامه العلمي. وإذا كان تقدم الحضارة الإنسانية قد حتم التفرع في ميادين نشاطنا، وجعل هذه الميادين تتشعب أساسا إلى ميدان علمي وميدان أدبي أو إنساني (أو إلى ما أطلق عليه «سنو
Snow » تلك التسمية المشهورة: «الثقافتين»، العلمية والأدبية)، وإذا كان قد حتم تفرعا موازيا لذلك في ملكات العقل الإنساني، فلا بد أن نتذكر على الدوام أن أصل هذا كله ومنبعه الأول روح إنسانية واحدة. وهؤلاء العلماء الذين يحتفظون بتعلقهم بالميادين الإنسانية والأدبية هم الدليل القاطع على وحدة هذا المنبع الذي ينبثق منه كل نشاط عقلي وروحي للإنسان.
والواقع أن الروابط وجوانب التشابه بين النشاط الذي يمارسه الإنسان في العلم وفي الفنون والآداب أقوى مما يبدو للوهلة الأولى، وحسبنا أن نتأمل هنا دور «الخيال» في هذين الميدانين؛ ذلك لأننا نتصور عادة أن الخيال ملكة ذهنية لازمة للفنان والأدب وحدهما، على حين أن العالم - الذي يأخذ على عاتقه مهمة وصف الواقع على ما هو عليه دون أية إضافة من عنده - لا بد أن يستبعد الخيال من مجال عمله. ولكن حقيقة الأمر أن العالم - وإن كان يلتزم بالفعل بتلك النظرة الواقعية - يجد مجالا خصبا لممارسة ملكة الخيال في صميم عمله العلمي، وحين نتحدث هنا عن «العالم»، فنحن لا نعني المشتغلين العاديين بالعلم الذين يتعين على كل منهم أن يلقي الضوء على جانب معين من جوانب مشكلة علمية، والذين يقومون بالمهام الروتينية المألوفة في البحث العلمي، وإنما نعني العلماء الكبار؛ أي أولئك الذين يتغير بفضلهم مجرى العلم، ويتوصلون إلى كشوف أو نظريات علمية ثورية.
ذلك لأن هؤلاء العلماء الكبار هم الذين يستطيعون - بفضل النظريات التي يتوصلون إليها - أن يجمعوا بين عدد هائل من الوقائع والظواهر في إطار واحد، ويعبروا عن جوانب شديدة التعدد بصيغة واحدة، ولكي يصلوا إلى هذه الصيغة يلجئون إلى عالم وهمي، هو عالم الرموز والمعادلات الرياضية الذي لا يوجد في الواقع الفعلي، بل يوجد في ذهن العالم وحده، ولو تأملنا النظرية التي يتوصل إليها العالم الكبير - بعد أن تكتمل - لوجدناها نموذجا فريدا لعمل متناسق أشبه بالعمل الفني الرائع؛ ذلك لأن أهم ما يميز الفن هو الانسجام والتوافق، وهذا التوافق يؤلف بين عناصر متباينة في وحدة متناغمة، والنظرية العلمية مشابهة لذلك إلى حد بعيد؛ فحين توصل عالم مثل نيوتن إلى نظرية الجاذبية، واستطاع أن يجمع علاقات الأجسام الكونية كلها، سواء منها الحجر الذي يسقط على الأرض، والقمر الذي يدور حول المريخ في صيغة واحدة تتسم بالبساطة الشديدة، كان في ذلك أشبه بمن يبده عملا فنيا رائعا. ومن المؤكد أن قدرة النظرية على تفسير مجال شديد الاتساع، وضم عدد هائل من الظواهر في وحدة واحدة، تعطي مكتشف النظرية - وكذلك كل من يطلع عليها ويفهمها - إحساسا جماليا واضحا. صحيح أن هذا الإحساس الجمالي - في حالة الأعمال الفنية - يكون متعلقا بأشياء محسوسة أو ملموسة، وأنه في حالة النظرية العلمية يكون متعلقا «بالمجردات»، بالعلاقات الذهنية غير المحسوسة بين الظواهر، ولكن التشابه بين الحالتين واضح؛ لأنه ينصب في هذه الحالة على جمع ما هو مشتت في وحدة متآلفة.
ونستطيع أن نستشعر في أنفسنا الإحساس الجمالي الذي تبعثه الفكرة العلمية المجردة إذا رجعنا إلى ما يفعله التلميذ الذي يدرس الحساب أو الهندسة في المدارس العادية. فحين يعمل هذا التلميذ على حل مسألة حسابية أو تمرين هندسي، قد يلجأ إلى خطوات مطولة معقدة، يرهق فيها نفسه حتى يصل في النهاية - وبعد تعقيد شديد - إلى الحل المطلوب، ولكنه قد يهتدي إلى هذا الحل في حالات أخرى بطريقة مختصرة توصل إلى الهدف مباشرة وتوفر عليه عددا كبيرا من الخطوات. وحين يتأمل المرء هذا الحل المباشر المختصر، يجد فيه نوعا خاصا من الجمال، هو جمال عقلي مجرد، تعبر عنه بساطة الحل وسهولته، على حين أن الحل المعقد المطول - وإن كان بدوره حلا - يثير في النفس إحساسا بالقبح والافتقار إلى التوافق والانسجام.
ولقد كان إدراك النظام الرياضي الذي تسير عليه القوانين الطبيعية - في مطلع العصر الحديث - باعثا لعدد من أقطاب العلم في ذلك العصر إلى أن يروا في الكون عناصر جمالية تتحكم فيه، وهكذا تصور كبلر
Kepler - العالم الفلكي المشهور - أن النسب الهندسية الرشيقة البسيطة هي التي تسيطر على الكون، وعندما وجد أن الظواهر الطبيعية الشديدة التعقيد ذات بناء هندسي محكم، وقابلة للتعبير عنها بمعادلات بسيطة؛ بهره هذا الكشف إلى حد أنه تصور أن الله «مهندس» الكون؛ بمعنى أنه هو الذي يشرف على جعل الحوادث الطبيعية المعقدة خاضعة لنسب رياضية بسيطة، ولم يكن ذلك راجعا إلى أن نقص في إيمانه، بل إنه كان يؤمن حقا بأن المعجزة الإلهية الكبرى في هذا الكون هي الإحكام والتوافق والاتساق الرياضي الذي تتمثل عليه القوانين المتحكمة في مساره، وتكرر ظهور هذه الفكرة - التي تربط بين الله وبين الرياضة أو الهندسة - لدى كبار الفلاسفة في ذلك العصر، مثل ديكارت وليبنتس، وكان الجميع يؤمنون بأن في الكون انسجاما عقليا مجردا وتناسبا في العلاقات بين الظواهر، هو الذي تتمثل فيه أعظم الآيات الإلهية.
وهكذا كان التداخل وثيقا بين التجريد العلمي - متمثلا في أعلى مظاهره وهي الرياضة - وبين الخيال الذي يسعى إلى كشف الجمال في كل شيء، وكان كل كشف جديد يثير لدى العالم حساسية جمالية متزايدة، بقدر ما يوسع نطاق معرفته ويؤكد سيطرة العقل على الطبيعة.
والحق أننا لا نحتاج إلا أن نذهب بعيدا لكي نؤكد وجود رابطة وثيقة بين العلم وملكة الخيال في الإنسان؛ ذلك لأن حالات الإبداع العلمي ذاته تؤكد هذا الارتباط تأكيدا قاطعا؛ فالطريقة التي يظهر بها الكشف العلمي في ذهن العالم قريبة كل القرب من تلك التي تظهر بها فكرة العمل الفني في ذهن الفنان، ولو رجعنا إلى ما كتبه العلماء أنفسهم عن حياتهم الخاصة، وعن الظروف التي توصلوا فيها إلى كشوفهم؛ لوجدنا أن الكثيرين منهم كانوا يهتدون إلى فكرة الكشف الجديد بصورة مفاجئة، وربما هبطت عليهم الفكرة أثناء النوم أو في غفوة أو حلم يقظة، وربما أثارها شيء بسيط لا يكاد يثير في الإنسان العادي أية فكرة ذات قيمة كما هي الحال في قصة التفاحة التي سقطت على نيوتن أثناء جلوسه ساهما في الحديقة، والتي أوحت إليه بقانون الجاذبية (إذا كانت هذه القصة صحيحة)، وهنا لا نكاد نجد اختلافا بين طريقة ظهور نظرية جديدة في ذهن العالم، وطريقة هبوط «الوحي» على الشاعر بأبيات قصيرة جديدة، أو ظهور لحن موسيقي جميل في ذهن الفنان.
بل إن التشابه لا يقتصر على هذا الانبثاق - الذي هو أشبه بالإلهام أو الاستنارة المفاجئة الكاشفة - وإنما يمتد العلمي ما هو أبعد من ذلك، فعلماء النفس يقولون: إن مثل هذا «الإلهام» لا يأتي عفوا، وهم على حق في ذلك؛ إذ إن الفواكه وغيرها كانت تسقط على رءوس الناس منذ ألوف السنين دون أن يستنتج أحد من ذلك شيئا. كما أن ملايين الناس قد غمروا أجسامهم في الحمامات وارتفعت المياه فيها دون أن يستخلصوا من ذلك أي قانون مثل قانون الطفو (كما تحكي القصة المشهورة الأخرى عن العالم اليوناني الكبير «أرشميدس»)، فلا بد لظهور هذا الإلهام المفاجئ من إعداد طويل، وانشغال دائم بموضوع معين، ومستوى معين من التفكير، وهذا يصدق على العالم وعلى الفنان معا؛ إذ إن القدرة التلقائية على الإبداع دون إعداد سابق مستحيلة في حالة العالم، كما أنها أصبحت الآن شبه مستحيلة في حالة الفنان بدوره.
وهكذا يمكن القول: إن المنبع الذي ينبثق منه الكشف العادي الجديد والعمل الفني الجديد هو منبع واحد، وإن الجذور الأولى والعميقة للعلم والفن واحدة؛ ومن ثم فإن العالم الذي ينمي في نفسه حاسة التذوق الفني أو الأدبي إنما يرجع - في الواقع - إلى الجذور الأصيلة لمصدر الإبداع في الإنسان، وربما كانت رعايته لملكة الخيال في ذهنه سببا من أسباب إبداعه في العلم، وخاصة لأن النظريات العلمية الكبرى تحتاج إلى قدر غير قليل من الخيال حتى تخرج بصورتها المتناسقة المترابطة. صحيح أن العالم يظل يلاحظ ويراقب ويسجل الظواهر ويجري التجارب عليها، ولكنه حين يبدع نظريته العامة يقوم بتلك «القفزة» المشهورة التي تتخطى الظواهر المشاهدة وتقتحم عالما كان مجهولا حتى ذلك الحين، وهو في تجاوزه للواقع الملاحظ يحتاج إلى كل ذرة من قدرته التخيلية، فلا عجب أن نجد أقطاب العلم يقتربون من الفن اقترابا شديدا في طريقة إبداعهم، وفي جرأتهم على استكشاف المجهول.
وبعد هذا كله، فإن وجود الفن بوصفه عنصرا من عناصر ثقافة العالم - مع ملاحظة أن كلمة «الفن» تستخدم هنا بأوسع معانيها؛ أي بالمعنى الذي يشتمل على الفنون المعروفة والشعر والأدب - يجعل من العالم إنسانا أفضل، وإحساس العالم بنبض الإنسانية، واكتسابه رقة المشاعر التي يبعثها الفن في النفوس، قد أصبح شيئا ضروريا في عصرنا الحاضر بوجه خاص، حيث يؤدي التخصص المفرط إلى جفاف في الروح لا تبلله إلا قطرات من نبع الفن، وحيث تهدد العالم قوى تريد أن تستغل كل إبداع علمي لأغراض معادية للإنسان، وهي قوى لا يستطيع أن يصمد أمامها إلا علماء يحرصون على حفظ روابطهم بكل ما هو شريف ورقيق وصاف في النفس الإنسانية.
خاتمة
حين نتأمل بعمق مسار التفكير العلمي عبر العصور، وحركته التي تزداد توثبا ونشاطا في عصرنا هذا على وجه التخصيص، وحين نمعن الفكر في السمات التي يكتسبها العقل البشري نتيجة للتقدم العلمي المتلاحق، ونحاول أن نستشف شكل العالم الذي سيؤدي إليه استمرار هذا التقدم في المستقبل، وإذا لم يقدر لعالمنا هذا أن ينتحر عن طريق العلم نفسه في حرب نووية أو بيولوجية لا تبقي ولا تذر؛ حين نمتد بأنظارنا إلى هذه الآفاق المقبلة للعالم في ظل التقدم العلمي، فإن المرء لا يملك إلا أن يرى أمامه - في المستقبل - صورة عالم متحد، تختفي فيه كثير من الفواصل التي تفرق بين البشر في وقتنا الحالي، وتجمعه أهداف وغايات واحدة، وإن لم تتلاش مظاهر التنوع الخصب التي لا بد منها لكي تكتسب حياة الإنسان ثراء وامتلاء.
وحين نقول: إن النتيجة التي يؤدي إليها مسار هذا التفكير العلمي - في رحلته الطويلة الشاقة - هي توحيد الإنسانية، فنحن نعلم تمام العلم أن هذه النتيجة ما زالت بعيدة عن أن تتحقق، ولكن الأمر الذي نود أن نؤكده هو أن كل العوامل التي تقف حائلا دون هذا التوحيد تتعارض مع الطبيعة الحقيقية للعلم؛ ومن ثم فإن تقدم التفكير العلمي ينبغي أن يزيحها جانبا آخر الأمر.
ولكن ما هي هذه العوائق التي تقف في وجه استخدام العلم لصالح الإنسانية جمعاء، بدلا من أن يستخدم - كما هو حادث في الوقت الراهن - أداة للتفرقة بين البشر، وزيادة قوة فئات أو مجتمعات معينة على حساب الباقين؟ إن من المعترف به أن العلم كان - منذ بداية تقدمه في العصر الحديث - يخدم شتى أنواع المصالح والجماعات البشرية، ولكننا اليوم نستطيع أن نشير إلى طريقتين واضحتين في استخدام العلم، تؤدي كل منهما - بطريقتها الخاصة - إلى إرجاء اليوم الذي سيصبح فيه العلم قوة موحدة تخدم أرجاء بلا تفرقة؛ هاتان هما: النزعة التجارية والنزعة القومية في استخدام العلم.
إن أحدا لا يستطيع أن ينكر أن العلم في كثير من المجتمعات المعاصرة ما زال يستخدم استخداما تجاريا، وما زال البحث العلمي فيها يعد سلعة تخضع لمتطلبات السوق وتخدم أغراضه، بل إن بعض العلماء - ممن يقعون فريسة لأوهام «الاقتصاد الحر» على النحو الذي كان يدعو إليه آدم سميث في القرن الثامن عشر - ما زالوا يؤمنون بأن هذا الطابع التجاري للعلم هو خير وسيلة للنهوض به؛ إذ يؤدي إلى احتدام المنافسة بين المؤسسات التجارية التي تقوم بتشغيل العلماء، مما يوفر للعلماء شروطا أفضل تعينهم على التقدم في بحوثهم؛ ومن ثم تكون الحصيلة النهائية مزيدا من الكشوف العلمية الناتجة عن هذا التنافس.
ولكن مثلما تبين - بعد وقت غير طويل - أن نظام «الاقتصاد الحر» إذا ترك يسير تلقائيا دون ضابط، يؤدي إلى عكس الغرض الذي كان يتصوره «مفكروه وفلاسفته الأوائل»، يوقع الإنسان فريسة للاستغلال بدلا من أن يخدم مصالحه المادية، فكذلك اتضح أن للاستخدام التجاري للعلم عيوبا فادحة، أوضحها تشتيت جهود العلماء وتبديدها؛ ذلك لأن المشكلة العلمية الواحدة قد تصبح عندئذ موضوعا للبحث في عدة مؤسسات تتنافس فيما بينها، وتسعى كل منها إلى أن تسبق الأخريات، فتضيع بذلك جهود عدد كبير من العلماء في بحوث متقاربة وربما متكررة. ولو كان هناك تخطيط موحد لأمكن تركيز الجهود على نحو أفضل من أجل الوصول إلى أفضل وأسرع حل للمشكلة، وفضلا عن ذلك فإن العلم - في ظل الاستغلال التجاري - يمكن أن يصبح موضوعا للاحتكار؛ فنظام براءات الاختراع يعطي المؤسسة - التي تشتري حق استغلال كشف معين - الحرية في استخدام هذا الاختراع أو عدم استخدامه، وقد يظهر كشف علمي أو تكنولوجي هام، دون أن يعلن على الملأ ودون أن ينتشر بين الناس؛ لأن في نشره إضرارا بمصالح تجارية ضخمة، وهكذا تحدد المؤسسات التجارية توقيت الانتفاع من عدد كبير من الكشوف الجديدة، وربما اشترت حق الانتفاع بها كيما تحجبها نهائيا عن الظهور إذا كانت تهدد استثماراتها الكبرى؛ أي إنها تشتري الاختراع لكي تخنقه، إلى أن تعلنه في الوقت الذي تقتضيه مصالحها هي، لا حاجة المجتمع إليه؛ ومن هذا القبيل ما أشيع وقتا ما من أن محركا جديدا للسيارات - أبسط وأقل تكلفة بكثير من المحركات الحالية - قد اخترع واشترته شركة كبرى لكي تحجبه وتحمي استثماراتها الهائلة المبنية على نظام المحركات الحالي.
على أن العيب الأكبر في الاستغلال التجاري للعلم هو المبدأ نفسه؛ أعني إخضاع البحث العلمي للاعتبارات التجارية؛ ذلك لأن العمل العلمي الكبير شيء أعظم وأشرف من أن يقوم ويخضع للمقاييس التجارية بالمال، بل إن هذا التقويم المالي يكاد يكون - من الوجهة العملية - مستحيلا؛ ذلك لأن كل عمل علمي لا يقتصر الفضل فيه على صاحبه فحسب، بل إنه يرتكز في الواقع على جهد جميع العلماء السابقين في ميدانه، ولو حاولنا أن نحصره في شخص مكتشفه لاعترضتنا في هذه الحالة صعوبات أخرى؛ إذ إن العمل العلمي الجاد لا يستغرق من حياة العالم أوقاتا معينة، هي تلك التي يقضيها في معمله أو مكتبه، وإنما يستغرق تفكيره كله، وربما حياته السابقة بأكملها التي كانت كلها إعدادا وتهيئة لهذا الكشف. ومن هنا كان من العسير حساب وقت العمل اللازم له، على عكس الحال في أنواع الإنتاج الأخرى التي تخضع للتقويم المادي.
إن من الصحيح بالفعل - دون أية محاولة للكلام بلغة إنشائية أو لتملق المشاعر بطريقة بلاغية - أن هناك أمورا أسمى وأرفع من أن يعبر عنها بلغة التجارة والمال؛ فالكشف العلمي الذي تعم نتائجه الإنسانية كلها، شأنه شأن العمل الفني الرفيع الذي يسعد الإنسان ويسمو به في كل مكان، هي نواتج للعبقرية البشرية لا يصح أن تقاس بالمقاييس المادية. ومع ذلك فإن الحقائق المريرة في عالمنا المعاصر تقول بعكس هذا، وتؤكد أن العلم يستغل ويقوم تجاريا، وأنه يستخدم لتحقيق أرباح لمؤسسات معينة، تجني منه أضعاف أضعاف ما أنفقت عليه، وتستخدمه لتحقيق أهداف مضادة لتلك التي يتجه إليها عقل العالم، ذلك العقل الذي لا يحركه إلا السعي لخدمة البشرية كلها لتحقيق مصلحة فئة واحدة من فئاتها.
أما النزعة القومية في العلم فربما كانت أشد خفاء من النزعة التجارية التي تعلن عن نفسها صراحة وبلا مواربة؛ ذلك لأن دول العالم المعاصر وأوساطها العلمية لا تكف عن ترديد القول: إن العلم لا وطن له، وإنه يتخطى الحدود القومية، مثلما يتخطى الحواجز السياسية والعقائدية؛ فمن المستحيل أن نتصور - مثلا - كيمياء رأسمالية أو فيزياء اشتراكية، مثلما أن علم الأحياء الإنجليزي لا يمكن أن يكون - في أسسه الرئيسية - مختلفا عن علم الأحياء الصيني؛ فالحقيقة العلمية تفرض نفسها على العقل - في أي مكان أو زمان - بقوة المنطق والبرهان وحدها؛ أي إن هذه الحقيقة بطبيعتها عالمية، ولا مجال فيها للتفرقة القائمة على أسس قومية.
ولكن إذا كان هذا هو ما يعلنه الجميع، فإن الممارسات الفعلية تختلف عن ذلك في كثير من الأحيان اختلافا بينا؛ ففي نفس الوقت الذي يؤكد فيه الناس عالمية العلم، تظهر لديهم اتجاهات تتحدى هذا الاعتقاد الأساسي، وتؤكد أن النزعة القومية ما زالت مسيطرة على عقول الناس في هذا المجال بدوره، ويظهر ذلك بوضوح قاطع حين نقرأ الكتب التي تصدر عن مؤلفين ينتمون إلى الدول المتقدمة علميا؛ فالأمثلة التي يضربها المؤلف الفرنسي لعلماء أو لاكتشافات علمية هامة، نجد أغلبها مستمدا من علماء فرنسيين، وحين يتحدث الإنجليزي عن تاريخ العلم فكثيرا ما يبدو للقارئ كما لو كان هذا التاريخ قد كتب على أيدي العلماء الإنجليز. وقل مثل هذا عن الألمان وربما عن الأمريكيين وهلم جرا. وكثيرا ما لاحظت أن علماء ومؤرخي الدول الغربية حين يتحدثون عن الهندسة اللاإقليدية، يبرزون دور «ريمان
Riemann » الألماني، ويقللون من دور «لوباتشفسكي
Lobatchevsky »، على حين أن الروس يرفضون حتى أن يوضع هذا الأخير على قدم المساواة مع الأول؛ لأن مواطنهم كان أسبق من زميله زمنيا؛ ومن ثم فإن له في نظرهم الفضل الأول في وضع هذه الهندسة.
وكم من مرة قرأت كتابا فرنسيا فوجدته - حين يعرض لنظرية التطور - يتحدث عن بيفون
Buffon
ولامارك
Lamarck
أكثر مما يتحدث عن دارون، وحين يتكلم عن الكيمياء، فإن «لافوازييه» يحجب عنده أية شخصية أخرى، وربما تكلم في الفيزياء عن باسكال أكثر مما يتكلم عن نيوتن.
وفي عصرنا الحاضر تختلط النزعة القومية بالانحياز الأيديولوجي، فيدافع الكتاب الاشتراكيون عن العلم الذي يظهر في ظل أيديولوجية اشتراكية، أو على يد عالم له اتجاهات اشتراكية، بينما يميل علماء البلاد الرأسمالية إلى الإقلال من دور هؤلاء الأخيرين، وتأكيد فضل نظامهم على العلم؛ فمنذ العهد النازي في ألمانيا نجد العلماء الألمان يتجاهلون «فيزياء أينشتين» زمنا طويلا؛ لأنه غادر ألمانيا هاربا من النظام، وأدى هذا التجاهل إلى تقدم الإنجليز والأمريكيين عليهم في هذا المجال، وفي العهد الستاليني كان عالم الأحياء المشهور «ليسنكو
Lyssenko » هو الحاكم بأمره في ميدانه؛ لأنه عرف كيف يوفق - بطريقة لا تخلو من التلاعب - بين النظريات البيولوجية وبين الفلسفة المادية الديالكتيكية؛ ولذلك كانت نظرياته مدعمة بسلطة الدولة، وكان خصومه - على المستوى العلمي البحت - خصوما للدولة، ومعرضين لكل ضروب الاضطهاد، وما زلنا نجد في الاتحاد السوفيتي اهتماما كبيرا بأفكار «تسيولكوفسكي
Tsiolkovsky » الذي تحدث عن الصواريخ وغزو الفضاء بإسهاب منذ أوائل القرن العشرين، كما نجد من يؤكد أن اختراعات كثيرة - منها التليفزيون مثلا - كان أول من توصل إليها روسيا. أما في أمريكا فهناك حرص شديد على تأكيد الدور الرائد لعلماء ومخترعين ربما لم يكن العالم الخارجي يعرف عن كشوفهم إلا أقل القليل، مثل بنجامين فرانكلين وفولتون
Fulton ، ولا ننسى أن سفن «أبولو» التي هبطت مركباتها على سطح القمر قد حرصت على أن تغرس في تربته العلم الأمريكي.
ويصل اصطباغ العلم بالصبغة الأيديولوجية في الصين إلى حد أن العقيدة الماوية تحكمت في شروط اختيار المشتغلين بالعلم، وفي ظروف عمل العلماء؛ ففي الصين المعاصرة ظهرت - منذ سنوات قليلة - حملة عنيفة ضد العلماء المتخصصين المتفرغين الذين وصفوا بأنهم يكونون «صفوة» متعالية، لا تعرف كيف تجمع بين نظرياتها العلمية وبين ظروف حياة الشعب، واتجهت الدعوة - بجدية شديدة - إلى السماح للإنسان «الاشتراكي» العادي بدخول الجامعات ومعاهد البحث، مؤكدة قدرته على تحصيل العلم الرفيع والوصول إلى كشوف جديدة فيه. وكان هذا تحديا جريئا حتى لمبدأ «التخصص» ذاته، الذي يبدو لنا مبدأ مستقرا منذ بداية العصر الحديث. وعلى الرغم من غرابة فكرة اشتغال العامل العادي أو الفلاح البسيط بالأبحاث العلمية الرفيعة، فإنها تؤخذ هناك بجدية شديدة، وقد كانت واحدا من الأسباب التي أدت إلى تغييرات أساسية في مناصب الدولة الكبرى وقتا ما.
أما إذا انتقلنا إلى عالمنا العربي، فإنا نجد كتابنا حريصين - بطبيعة الحال - على تأكيد الدور الذي قام به العالم العربي في العصور الوسطى، ويصل هذا الحرص إلى حد تأكيد ريادة كثير من العلماء العرب في ميادين علمية غير قليلة، وربما بالغ البعض فأكدوا أن أصول عدد من النظريات المعاصرة - كنظرية النسبية مثلا - موجودة لدى العرب في العصور الوسطى، وهو تأكيد واضح البطلان، لا لأن العرب كانوا أقل من غيرهم؛ بل لأن ظهور نظرية كهذه يحتاج إلى تطور معين في العلم، ولا يمكن تفسيره إلا في ضوء ظروف عصر معين كان العصر الذي ظهر فيه العلم العربي مختلفا عنه كل الاختلاف.
من هذه الأمثلة كلها يتبين لنا بوضوح أن النزعات القومية أو الأيديولوجية ما زال لها تأثيرها القوي - حتى في أرقى المجتمعات المعاصرة - في نظرتنا إلى العلم، ونحن لا نعني بذلك التنديد بتدخل هذه النزعات في العلم؛ إذ إن من المشروع - في بعض الحالات على الأقل - أن يفخر شعب ما أو نظام أيديولوجي معين بعلمائه، ويهتم بتأكيد الدور الذي قاموا به أكثر مما يهتم بدور الآخرين، ولكن ما نعنيه من إيراد هذه الأمثلة هو أننا جميعا نعلن على الملأ أن العلم ملك للإنسانية كلها، وأن حكمنا عليه ينبغي أن يكون موضوعيا ونزيها، وأن العالم الكبير مواطن للعالم كله لا لوطنه فحسب، ولكننا نتصرف عمليا على نحو مغاير، ونحتفظ في أحكامنا على العلماء وعلى إنتاجهم بكثير من الأفكار التي تنتمي إلى الإطار القومي أو الأيديولوجي، وهو إطار بعيد كل البعد عن النزعة العالمية التي تتجاوز حدود الأوطان أو المذاهب الفكرية.
هكذا يمكن القول: إن كثيرا من مظاهر العلم ما زالت تتأثر بنزعات مضادة للنزعة العالمية، ومع ذلك فإن العالم يتجه - رغما عن كل شيء - إلى مزيد من التوحد بفضل العلم؛ فالتكنولوجيا الحديثة - التي هي نتاج مباشر للعلم - خلقت عالما تتقارب فيه المسافات، وتتشابه فيه الأفكار والعادات، وتهدم فيه بالتدريج كل الحواجز التي تفرق بين البشر ، ويوما بعد يوم يزداد تأثير تلك «الثقافة العالمية» التي خلقتها وسائل الإعلام الحديثة، والتي تجعل الشاب في الشرق الأقصى لا يختلف في مظهره وفي هواياته عن نظيره في غرب أوروبا، والتي تنشر في العالم كله ألوانا متقاربة من الفنون الجماهيرية تزيل الفوارق بين الأذواق إلى حد بعيد.
ولقد عاب الكثيرون على هذه «الثقافة العالمية» سطحيتها وابتذالها ونزعتها التجارية، وكانوا على حق في ذلك، ولكن إذا كان مضمون هذه الثقافة مبتذلا - نتيجة لظروف المرحلة الراهنة من تطور العالم - فإن ما يهمنا هو المبدأ نفسه؛ أعني وجود ثقافة على مستوى عالمي. ولا بد أن يأتي اليوم الذي تستغل فيه هذه الإمكانات الهائلة من أجل نشر ثقافة ذات مستوى إنساني رفيع على نطاق العالم كله، وهذا ما تنبهت إليه الهيئات الدولية - وعلى رأسها منظمة اليونسكو - التي تمثل هي نفسها مظهرا هاما من مظاهر التوحيد الثقافي بين البشر، والتي تبذل جهودا كبيرة من أجل صبغ الثقافة العالمية بصبغة أرفع من تلك التي تتسم بها الثقافة التجارية الحالية.
إن توحد العالم - بفضل التقدم العلمي - ليس هدفا مرغوبا فيه فحسب، بل هو هدف لا غناء عنه من أجل بقاء البشرية، وقد بينا - عند الحديث عن الأبعاد الاجتماعية للعلم المعاصر - كيف أن المشكلات الخطيرة التي يواجهها العالم في الوقت الراهن تشير كلها إلى اتجاه واحد للحل، هو الاتجاه العالمي، وعلى العكس من ذلك فإن تجاهل الحلول التي تتم على مستوى عالمي أو إرجاءها، لا بد أن يؤدي إلى كارثة للبشرية، وهذه حقيقة أدركها كثير من المفكرين المعاصرين الذين رفع بعضهم شعار: إما عالم واحد أو لا عالم على الإطلاق!
ولكن هل يعني ذلك أن العلم وحده وبقواه الخاصة هو الذي سيؤدي إلى هذا التوحيد؟ إن الكثيرين - ولا سيما في المعسكر الغربي - يؤمنون بذلك؛ فهم يعتقدون أن التقدم العلمي والتكنولوجي يستطيع - هو وحده - أن يقرب بين الاتجاهات المتباينة في هذا العالم، حتى في أشد الحالات تنافرا، كما هي الحال في التضاد الأيديولوجي بين الرأسمالية والاشتراكية؛ ففي رأي هؤلاء أن حرص الدول التي تأخذ بهذين النظامين المتعارضين على اتباع أحدث الأساليب العلمية والتكنولوجية، هو في ذاته كفيل بأن يحقق تقاربا بينها قد يؤدي آخر الأمر إلى إلغاء التعارض المذهبي بينها؛ أي إنهم يرون أن الصراع الأيديولوجي سيخلي مكانه في النهاية للتقدم العلمي، ولما كان هذا التقدم متشابها في الحالتين، فإن الأمر سينتهي بهذه المجتمعات المتعارضة إلى التقارب. غير أن مفكري المعسكر الاشتراكي لا يميلون إلى هذا الرأي؛ لأن الصراع الأيديولوجي هو الذي يقرر في النهاية - حسب رأيهم - مصير العالم. صحيح أنهم يعترفون بالأهمية القصوى للتطورات العلمية والتكنولوجية المعاصرة، غير أنهم يرون أنها ليست هي الحاسمة، بل إنها تخضع للأيديولوجيا التي تعطي هذه التطورات اتجاهها ومعناها، ويؤكدون أن نظرية «التقارب» القائم على أساس العلم والتكنولوجيا إنما هي محاولة من المفكرين الغربيين للتستر على الفوارق الأيديولوجية الأساسية بين النظامين العالميين، ولتمييع الصراع الحاسم بينهما.
وأيا ما كان الأمر، فمن المؤكد أننا لا نستطيع في عصرنا الحاضر أن نفصل على نحو قاطع بين العوامل الأيديولوجية والعوامل العلمية والتكنولوجية؛ لأن التأثير بين الطرفين متبادل؛ فالعلم يتأثر بالاتجاه الأيديولوجي للمجتمع؛ إذ تتحدد في ضوء هذا الاتجاه أهداف العلم والأولويات التي تعطى للأبحاث العلمية، كما يتحدد في ضوئه مركز العلم وسط أنواع النشاط الأخرى التي يقوم بها المجتمع. ولكن الأيديولوجيا ذاتها تتأثر بالعلم؛ لأن نوع الصراع الأيديولوجي الدائر في عصرنا الحاضر يتحدد إلى مدى بعيد بالشكل الذي وصلت إليه المجتمعات المعاصرة بفضل العلم، ولا سيما في ميدان الإنتاج، وهو الميدان الرئيسي الذي يدور فيه الصراع الأيديولوجي.
وهكذا نستطيع أن نقول - مرة أخرى - إن العالم يتجه إلى التوحد بفضل العلم، حتى لو أخذنا بالرأي القائل إن هذا التوحد لن يقرره إلا الصراع الأيديولوجي، وحين نتأمل صورة الإنسانية في المستقبل، فلن نملك إلا أن نتصورها وهي تفكر بعقلية عالمية، وتراعي مصلحة الإنسان في كل مكان، بغض النظر عن فوارق اللون والجنس والوطن والعقيدة، وعندئذ فقط سيكون التفكير العلمي لدى البشر قد استعاد طبيعته الحقة، بوصفه بحثا موضوعيا نزيها عن الحقيقة، يعلو على كل ضروب التحيز والهوى، ويزن كل شيء بميزان واحد، هو ميزان العقل.
الهوامش
الفصل
الفصل
الفصل
الفصل
الفصل
الفصل
مراجع
J. D. BERNAL: Science in History. 4 vols. 3rd ed. Pelican 1969.
J. BRONOWSKI: The Common Sense of Science. Pelican 1960.
M. R. COHEN: Reason and Nature. Free Press, Glen-coe, 1959.
RNEé DUMONT: L’Utopie oe la Mort. Paris (Seuil) 1974.
JEAN FOURASTLé: Les Conditons de l’esprit scientifiqe. Paris, NRF, (Collection “Idées”) 1966.
J. FRANAU: La Pensée sceintifique. Bruxelles, Editions Labor, 1966.
N. R. HANSON: Patterns of Discovery. Cambridge U. P., 1958.
J. LALOUP: La Science et l’humain, Paris (Casterman) 1960.
ERNEST NAGEL: The Structure of Science, N. Y., Harcourt-Brace, 1961.
ERNEST NAGEL: Sovereign Reason. Free Press, Glencoe, 1954.
KARL POPPER: The Logic of Scientific Discovery N. Y., Basic Bolls, 1959.
Sophia, 1973.
A. D. RITCHIE: Scientific Method. Littlefield & Adams. N. Y. 1960.
H. ROSE & S. ROSE: Science on Society.
B. RUSSELL: The Impact of Science on Society. Allen & Unwind. 1967.
The Scientific & Technological Revolution (several authors) Moscow, 1972.
S. TOULMIN: The Philosophy of Science, Hutchinson’s University Library, 1953.
G. VOLKOV: Man and the Challenge of Technology. Moscow, 1972.
C. H. WADDINGTON: The Scientific Attitude. Pelican 1948.
W. WIGHTMAN: The Growth of Scientific Ideas. Yale U.P. 1953.
অজানা পৃষ্ঠা