وعالمنا المنتهي كالصبي
ي قيل له في ابتداء تهج
فاستولى عليه القنوط من المعرفة الإلهية، وكان قد أضاع ماله في الشهوات ونهك جثمانه في المعاصي وناهز الشيخوخة الفانية وأدركته حسرة على شباب زائل لم يستنفده كله في المتعة والسرور، فبرز له الشيطان يساومه على روحه وجسده فقبل المساومة وعقد معه عهدا أمضاه بدمه على أن يمد له الشيطان في الشباب أربعا وعشرين سنة ثم يأخذ منه روحه وجسده بعد انصرام هذه المدة، فلما أطاع الشيطان راجعته الفتوة وانطلق في سبيل الشر ففسق وقتل وجنى على الأبرياء وتمادى في كل غواية وتقلب في كل رذيلة.
هذه خلاصة الخرافة القديمة، فلما جاء القرن الثامن عشر تناولها «لسنغ» الكاتب الألماني الملقب بملك النقاد فأفرغ عليها روح ذلك القرن المتعطش إلى المعرفة والحرية، فلم يشأ أن يجعل الطمع في استجلاء الحقيقة والشوق إلى استطلاع أسرار الحس والنفس مأثمة يعاقب عليها المرء باللعنة السرمدية، وجعل الرهان بين الله والشيطان رهانا خاسرا لحزب الشيطان رابحا لحزب الله، وأظهر هذه الخاتمة في الفصل الأول فانتهى الفصل وصوت ينادي من السماء حين فرح الشيطان بغنيمته: «لن تفلح فيما تريد.» وقد جرى جيتي على آثاره، فختم لفوست ومرغريت بالخلاص ورد الشيطان بالخذلان.
قضى جيتي في نظم روايته المستمدة من هذه الخرافة زهاء ستين سنة، فبدأها وهو لما يكد يجاوز العشرين وختمها قبيل وفاته، ولا يفهم من هذا أنه قضى السنين الستين كلها مكبا على نظمها منقطعا لتأليفها؛ فإنه لم يثابر على عمل واحد هذه المثابرة، وإنما اشتغل بالكتابة فيها سنوات متفرقة خلال ذلك الزمن الطويل، فكان ينظم القصيدة ولم يتهيأ موضعها من الرواية، وربما هجر الفصل من فصولها وشرع في الفصل الذي بعده، وثم هجر هذا وذاك وشرع في فصل آخر أو رجع إلى الفصول المتقدمة بالحذف والإضافة والتغيير والتبديل؛ فقد كانت الرواية شاغل حياته وإن لم تكن شاغل قلمه، وكل ما عالجه «فوست» من الشكوك والآلام والمحن والمعارف إن هو إلا صورة لما خالج نفس جيتي في شبابه ومشيبه، وفي رحلته ومقامه.
وقد اختلفت مواطن الرواية كما اختلفت أزمانها، فخطر بعض مشاهدها ومعانيها لجيتي وهو في سويسرة، وخطر بعضها له وهو في إيطاليا، وصاحبته أفكارها وأخيلتها في مدن ألمانية شتى على حسب الحوادث التي صادفته والشجون التي اعترضت حياته. وللقارئ بعد هذا أن يتصور كيف تكون رواية تجمع بين القرون الوسطى والعصور اليونانية ويشترك في إدراكها فتى في العشرين وكهل في الخمسين وشيخ في الثمانين، ويتألف نسيجها من نزوات الصبا ومخابر الكهولة وعبر الشيخوخة ما بين مناظر الجنوب والشمال ومعارف الزمن وآدابه في جيلين متعاقبين؛ فهذا نطاق واسع من الزمان والمكان والحياة، وأوسع منه موضوعه الذي أحاط به لأنه هو موضوع النفس الإنسانية بين الفكر والعقيدة والهوى، وبين الفن والعلم والسحر، ثم بين اليأس والرجاء، والحرمان والغفران.
وهو موضوع كبير عالجه فكر كبير، ولكنه كذلك موضوع متفرق عالجه فكر متفرق؛ فإن جيتي لم يكن قط «جامعا» في تفكيره ولا مستوعبا في تحريه واستخلاص نتائجه ومغازيه لأن الحقائق عنده أشتات تلاحظ كل واحدة منها لذاتها وتدخر لذاتها، ويوكل إليها جميعا أن تتألف في قرارة الفكر إذا كان لها مجاز إلى التأليف.
قال هيني في وصف رواية فوست: «إنها تشتمل على شذرات جميلة ولكنها تشتمل إلى جانبها على أشياء لا يبرزها للدنيا إلا من وقر في خلده أن من عداه من الناس مغفلون.»
وهذا صحيح؛ فإن الحشو في الرواية كثير والتفكك فيها ظاهر والمحاولة الفنية في سبك أجزائها صعيفة، ولا أزال أذكر أيامي الأولى في قراءة فوست منذ ست عشرة سنة؛ فقد بدأت بالقراءة عنها ومنيت نفسي نشوة فكرية لا نظير لها، فاستحضرت ترجمات ثلاثا لها بالإنجليزية لأستدل بالمقابلة بينها على ما سقط منها في خلال الترجمة، وانتظرت الإجازة السنوية لأتفرغ لها وأتعقب فصولها وحواشيها، فلم أجد الكنز الذي ترقبته ووجدت كنزا آخر لا نشوة فيه ولم أكن أطلبه. وتذكرت قصة الوالد الذي استدعى بنيه وهو على فراش الموت فأسر إليهم أنه خبأ لهم كنزا في ضيعته أخفى عنهم مكانه، وأوصاهم أن يبحثوا عنه ويقلبوا الأرض حتى يعثروا به، فبحثوا وقلبوا فلم يجدوا الكنز الذي حلموا به وإنما وجدوا الكنز الموعود في وفر الغلة بعد تقليب أرضها واستصلاحها للثمر! وهكذا كنت مع جيتي في روايته هذه؛ فإنه لم يودع لي كنزا ولم يعطني إلا ما أخذته بيدي، وزاد على ذلك أنه وضع الأعشاب والزوان في الأرض حيث لم يكن فيها نفع ولا ضرورة.
إن كل ما في الرواية من العيوب والفجوات وكل ما فيها من الحشو والإملال لا يحجب عن القارئ أن الرواية صنعة قريحة عظيمة وأنها مرآة حياة واسعة غاصة بذخائر الفن والمعرفة والفهم العميق الرجيح، ولكن العيب الأكبر فيها أنك لا تحس وأنت تستعرض هذه الذخائر القيمة أنك تستعرضها في حياة إنسانية تجاوبك وتجاوبها وتقاربك وتقاربها، وإنما تحس كأنها ذخائر موزعة في الطبيعة تلتقطها من هنا ثم كما تلتقط الجواهر الضائعة في المفازة البعيدة، وتمشي في الرواية وأنت تحمل نفسك حملا فلا يستحثك على المضي فيها إلا كلمة تقع عليها اتفاقا لا يقولها إلا ذهن كبير أو أنشودة مستعذبة قل أن تدانى في حلاوة النغم وسهولة الأداء! على أن هذه الأنشودة أو تلك الكلمة لن تنسيك فتور صاحبها ولن تستحق عنايتك إلا بشيء واحد، وهو أنك تطلع منها على عبقرية نادرة كما تذهب إلى الأهرام لتتفرج بالنظر إليه.
অজানা পৃষ্ঠা