الإنسان لما اعتاد أن يدرك الأشياء بالحس صار يعتقد أن ما لا يدركه حسا لا حقيقة له ، ولا يصدق بوجود النفس والعقل وكل صورة مجردة ، لأنه اعتاد أن يرى الصور الجسمانية ويراها محمولة فى شىء غير محدود هذا مع ما يراه من فعل الطبيعة وفعل النفس والعقل اعتبارا. لكنه بوجود الطبيعة أوثق منه بوجود النفس.
والعقل لأنه يشاهد الأجسام الطبيعية ويرى أفعال الطبيعة فيها ظاهرة وفعل النفس أخفى من الطبيعة لأنها أشد تجردا من الطبيعة وكذلك فعل العقل أشد تجردا منهما فكل ما هو أظهر فعلا فى الأجسام فإنه بوجوده أو ثق ، وبالجملة فإنه يعتقد أن لا وجود لجوهر مجرد ولا حقيقة له ، وأن الحقيقة إنما هى للجسم المحسوس لأن الحس يدركه. ولعمرى : إن الحس لا يدرك المعقول لأنه محدود ولا يدركه إلا محددا ، وأما الغير محدد فلا يدركه إلا الغير المحدد. ويكاد يعتقد فى الجسم أنه واجب الوجود غير معلول لا سيما الفلك الأعلى لبساطته. ولا يجوز أن لا يكون معلولا لأنه مركب من هيولى وصورة. وهناك ثلاثة أشياء : هيولى وطبيعتها العدم ، وصورة تقيم الهيولى بالفعل وتظهر فى الهيولى وتكون محمولة فيها ، وتأليف. ولا يجوز أن يكون الجسم علة فاعلية لنفسه. وأيضا فإنه يجب أن تقترن به صورة أخرى حتى يظهر وجوده على ما عرفت. والجسم لا فعل له بذاته بل بقواه التي تكون فيه. وهو محدود متناه ، والمحدود يجب أن يكون محدود القوة والقدرة متناهى الفعل ، ويكون فعله زمانيا وشيئا بعد شىء لا إبداعيا ، ويكون متغيرا لا محالة لأنه متحرك والحركة تغير وفائت ولاحق. والجسمانى يحاط به وتدرك أحواله ويمكن معرفتها لأنها تكون متناهية ، والمتناهى محاط به فلا يوصف بالعلو الغير المتناهى وبالمجد والقدرة والعظمة الغير المتناهية وبالعلم البسيط المحيط بجميع الأشياء وبالفعل المطلق لأن فيه ما بالقوة. ويكون لا محالة له قوى إما طبيعية وإما نفسانية ويكون له تخيل وتوهم. وبعض القوى يصده عن استعمال بعض القوى وعلى الجملة فإنه لا يكون متحققا بذاته ولوازم ذاته. ويوصف بالانبعاث للفعل بعد أن لم يكن ، وبالتغير. وبإدراك الجزئى. وفعل الجزئى. ويوصف باكتناف الأعراض له وأنه يفعل أفعاله بمجموع مادته وصورته وطبيعته ونفسه. ولا يعقل إلا بعد أن يستشرك المادة فى فعله ويفعل بمباشرة ووضع. والجسم الفلكى وإن كان يفعل فى كل جسم فلأن لكل جسم عنده وضعا ، فلذلك يؤثر فيه لأنه محيط. والجسمانى لا قدرة له إذا قيس بالمجرد فإنه لا يكون له تلك الكبرياء والعظمة والقدرة والجلالة الغير المحدودة ، والأفعال الإبداعية تعالى الله عن أن يوصف بصفة طبيعية أو نفسانية أو عقلية وبأن تكون ذاته ذاتا يؤثر فيه شىء أو يلحقه لا حق من خارج أو يوصف بانفعال البتة! بل هو فعل
পৃষ্ঠা ৩২