ويذهب الدكتور إلى حوض صغير بجواره، ويغسل يديه ويجففهما، ويدخل توفيق عبده في حماس، ويقول: فيه واحد بيه عايز يقابل سعادتك، بيقول إنه ...
وقبل أن يكمل توفيق كلامه، دخل من الباب رجل طويل أنيق، وصافح الدكتور رجب في حرارة، والدكتور ينظر إليه كأنه لا يعرفه، وجلس الضيف بجوار الدكتور، وقال وهو يفرك يديه: أهلا أهلا، إزي الدكتور؟
ووضع الدكتور رجب القلم من يده على المكتب، وقال في برود: رضا، أدحنا عايشين.
ورد الضيف بسرعة: الحمد لله، طبعا سيادتك متعرفنيش؟ - لا والله مش متذكر. - أنا علي الدهان. - أهلا وسهلا. - أهلا بك. - علي الدهان مين يا فندم؟ - أنا من أعيان الحي ده! - أيوه أهلا وسهلا. - برضه ما سمعتش عني؟ - لا والله ما حصليش الشرف. - إزاي ده؟ ده مصطفى أمين كتب عني كذا مرة في الأخبار. - أصلي والله مش بشوف الأخبار. - أمال بتقرا إيه؟ - المساء. - يا خبر؟ وجرائد الصباح؟ - أصلي والله ما عنديش صباح، أقصد وقت الصباح زي ما انت شايف شغل مالوش آخر! - ربنا يكون في العون، ده الطب مهنة إنسانية نبيلة، يا سلام ده أنت بتخدم الناس المرضى والفقراء، يا سلام ده ربنا حايجازيك أحسن جزاء، ده ربنا. - ربنا ياخدني أحسن، سيادتك عاوز خدمة؟ - أيوه فكرتني، أنا جاي عشان البنت الخدامة بقى لها يومين بتكح، وخايف يكون عندها حاجة تعدي الأولاد بتوعي، قلت أجيبها لك تشوفها. - قوي قوي أي خدمة، هاتها أي يوم يعجبك. - متشكر قوي يا دكتور، على فكرة هو المستوصف ده تبع الصحة ولا الأوقاف؟ - الصحة! - كده! كويس خالص، أنا أعرف ناس كتير في الصحة، لو عزت أي خدمة يا دكتور بس قوللي. - متشكر قوي. - فرصة سعيدة يا دكتور. - مع السلامة.
ودخلت عنايات ومعها القهوة ووضعت الفنجان أمام الدكتور على المكتب: إنت رحت فين؟! تجيبي المية من الترعة، غطي الفنجان بالطبق ورشي شوية «فليت» أحسن الدبان بيزن في ودني زي الضبابير.
وخرجت عنايات وجلس الدكتور يفكر، وينظر إلى الدوسيهات المتراكمة على المكتب، ويسمع ضجة مئات المرضى الذين يطلبون مقابلته خارج الباب، وكل واحد منهم له طلب، وكل طلب عبارة عن مستحيل رابع.
أسرة المصحات لا تكفي المرضى، آلاف من مرضى السل يتجولون في الشوارع بلا عمل، بعد أن فصلوا من أعمالهم، ولا يجدون مكانا مناسبا يجتذبهم سوى مستوصف الصدر، يتكومون فيه كما تتكون الصراصير في صفيحة الزبالة، ولكن ماذا يفعل هو لهم؟ إنه بائس مثلهم، وشعر الدكتور رجب بانقباض شديد، كل يوم يرى هذه المناظر البشعة، بقايا هياكل بشرية يابسة كالخشب، لاهثة دائما، بلا توقف، ونظر الدكتور حوله في يأس وملل، لقد مل عمله، مل الطريق الذي تسير فيه حياته، بل مل حياته كلها، ماذا فيها من جديد؟ كل يوم مثل سابقه ومثل لاحقه، الحياة كلها يوم واحد طويل، روتين يتنقل فيه بلا وعي، ليس هناك تغيير حقيقي وإنما تغيير مزيف، تغيير في الأسماء فقط لا غير، السبت، الأحد، الإثنين، إلخ، أسماء متعددة لشيء واحد هو اليوم، سبتمبر، أكتوبر، نوفمبر، إلخ، أسماء مختلفة لشيء واحد هو الشهر، سعاد، وفتحية، وخديجة، وسهير، كلها فساتين مزركشة ملونة من تحتها شيء واحد ثابت هو جسم امرأة، حتى الكوسة، والملوخية، والباميا، والبطاطس أسماء متعددة، لشيء واحد اسمه الأكل!
وشعر الدكتور رجب بصداع شديد، يكاد يفلق رأسه نصفين، فأمسك رأسه بيديه، وقال لنفسه بصوت ملول مكتئب: آه يا دماغي!
ونظر إلى ساعته، ووجدها الثانية والربع، فقام، وغسل يديه، وخلع المعطف ولبس الجاكتة، ووضع الكوب، والفوطة والصابونة، داخل الدولاب، وأغلقه، ثم وضع أدوات المكتب والدوسيهات في الأدراج، وأغلقها، وخرج من المستوصف يحف به بعض التمورجية وكثير من المرضى، وأصواتهم تختلط بعضها ببعض، والنبي يا بيه كلمة واحدة أنا راجل غلبان، وسع يا جدع خلي البيه يفوت، ربنا يخليك يا بيه شوفلي سرير عندكم، يا راجل اوع من السكة خلي البيه يمر، و... ويركب الدكتور رجب عربته، ويأخذ نفسا طويلا عميقا، من هذا الشارع العريض بعد أن يخرج من «الخرابة» والحفرات.
ودخل إلى باب العمارة، ووقف، ورأى العربة الكاديلاك تقف في اعتزاز كعادتها، والسائق يمسح عليها كأنه يدللها، وتنهد الدكتور في حسرة وقال لنفسه: سيد بك الحناوي، المقاول، ساقط توجيهي!! يا خسارة السبع سنين طب!
অজানা পৃষ্ঠা