قلت: فإن نظرت في الشعر، فلم يكن أشعر مني، ما يكون آخر أمري؟ قالوا: تمدح هذا فيهب لك، أو يحملك على دابة، أو يخلع عليك خلعة، وإن حرمك هجوته، فصرت تقذف المحصنات.
فقلت: لا حاجة لي في هذا.
قلت: فإن نظرت في الكلام، ما يكون آخره؟ قالوا: لا يسلم من نظر في الكلام من مُشنعات الكلام، فيرمى بالزندقة فإما أن يؤخذ فيقتل، وإما أن يسلم فيكون مذمومًا ملومًا.
قلت: فإن تعلمت الفقه؟ قالوا: تُسأل، وتُفتي الناس، وتُطلب للقضاء، وإن كنت شابًا.
قلت: ليس في العلوم شيء انفع من هذا. فلزمت الفقه، وتعلمته.
وعن زفر بن الهُذيل، قال: سمعت أبا حنيفة، يقول: كنت أنظر في الكلام، حتى بلغت فيه مبلغًا يُشار إلى فيه بالأصابع، وكنا نجلس بالقرب من حلقة حماد بن أبي سُليمان، فجاءتني امرأة يومًا، فقالت: رجل له امرأة أمة، أراد أن يُطلقها للسنة، كيف يُطلقها؟
فلم أدر ما أقول، فأمرتها تسأل حمادًا، ثم ترجع فتخبرني.
فسألت حمادًا، فقال: يُطلقها وهي طاهرة من الحيض والجماع تطليقة، ثم يتركها حتى تحيض حيضين، فإذا اغتسلت فقد حلت للأزواج.
فرجعت، فأخبرتني، فقلت: لا حاجة لي في الكلام، وأخذت نعلي، وجلست إلى حماد، فكنت أسمع مسائله، فأحفظ قوله، ثم يعيدها من الغد، فأحفظ ويخطئ أصحابه، فقال: لا يجلس في صدر الحلقة بحذائي غير أبي حنيفة، فصحبته عشر سنين.
ثم إني نازعتني نفسي لطلب الرياسة، فأحببت أن أعتزله، وأجلس في حلقة لنفسي، فخرجت يومًا بالعشي وعزمي أن أفعل، فلما دخلت المسجد، فرأيته، لم تطب نفسي أن أعتزله، فجئت فجلست معه، فجاءه في تلك الليلة نعي قرابة له، قد مات بالبصرة، وترك مالًا وليس له وارث غيره، فأمرني أن أجلس مكانه، فما هو إلا أن خرج حتى وردت عليَّ مسائل لم أسمعها منه، فكنت أجيب وأكتب جوابي، فغاب شهرين، ثم قدم، فعرضت عليه المسائل، وكانت نحوًا من ستين مسألة، فوافقني في أربعين، وخالفني في عشرين. فآليت على نفسي أن لا أفارقه حتى يموت، فلم أفارقه حتى مات.
وروي عن أبي حنيفة أنه قال: قدمت البصرة، فظننت أني لا أُسأل عن شيء إلا أجبت فيه، فسألوني عن أشياء لم يكن عندي فيها جواب، فجعلت على نفسي أن لا افارق حمادًا حتى يموت، فصحبته ثماني عشرة سنة.
وعن أبن سماعة، أنه قال: سمعت أبا حنيفة يقول: ما صليت صلاة مُذ مات حماد إلا استغفرت له مع والدي، وإني لأستغفر لمن تعلمت منه علمًا، أو علمته علما.
وعن يونس بن بكير، أنه قال: سمعت إسماعيل بن حماد بن أبي سليمان، يقول: غاب أبي غيبة في سفر له، ثم قدم، فقلت له: يا أبة، إلى أي شيء كنت أشوق؟ قال: وأنا أرى أنه يقول: إلى ابني.
فقال: إلى أبي حنيفة، ولو أمكنني أن لا أرفع طرفي عنه فعلت.
وعن أبي مطيع البلخي أنه قال: قال أبو حنيفة: دخلت على أبي جعفر أمير المؤمنين، فقال: يا أبا حنيفة عن من أخذت العلم؟ قال: قلت عن حماد، عن إبراهيم، عن عمر بن الخطاب، وعلي بن أبي طالب، وعبد الله بن مسعود، وعبد الله بن عباس.
قال: فقال أبو جعفر: بخٍ بخٍ، استوثقت ما شئت يا أبا حنيفة عن الطيبين المباركين، صلوات الله عليهم.
وعن ابن أبي أويس، قال: سمعت الربيع بن يونس، يقول: دخل أبو حنيفة يومًا على المنصور، وعنده عيسى بن موسى، فقال للمنصور: هذا عالم الدنيا اليوم.
فقال له: يا نعمان، عن من أخذت العلم؟ قال: عن أصحاب عمر عن عمر، وعن أصحاب عليٍّ عن عليّ، وعن أصحاب عبد الله عن عبد الله، وما كان في وقت ابن عباس على وجه الأرض أعلم منه. قال: لقد استوثقت لنفسك.
وروي عن أبي حنيفة، أنه قال: رأيت رُؤيا فأفزعتني، رأيت كأني أنبش قبر النبي ﷺ، فأتيت البصرة، فأمرت رجلًا أن يسأل محمد بن سيرين، فسأله، فقال: هذا رجل ينبش أخبار رسول الله ﷺ.
وفي رواية أنه قال: صاحب هذه الرؤيا يثور علمًا لم يسبقه إليه أحدٌ قَبله.
قال هشام: فنظر أبو حنيفة، وتكلم حينئذ. والله تعالى أعلم.
فصل
في مناقب ابي حنيفة رضي الله تعالى عنه،
وثناء الأئمة عليه
1 / 26