ومرة ثانية جاءني غيره برسالة مقفلة إلى الرئيس، وغلب علي الفضول؛ فطرحت السؤال، فأجابني العضو «هذه أمور هامة أجد أنها أكبر من أن يعالجها منفذ في الحزب، فوجهت الأمر إلى حضرة الرئيس.»
دستور الحزب كفل حق العضو فيما هو حتم عليه، ممارسة الواجب.
بين الأوراق التي صادرها الجيش السوري في دمشق شكاوى ودعاوي حزبية لا عد لها، أذكر أن الحزب طرد أحد أعضائه فور خروجه من السجن، حين ثبت سلوكه الشائن بين جدران السجن، أذكر أن أحد القوميين تقدم بدعوى ضدي؛ لأنني سمحت لألبر رزق - «عدو الحزب» بتعهد «نادي المتخرجين»، بدلا من أن ألزم النادي لأحد القوميين.
وبعد أن أصبحت «منفذ بيروت» اتصل بي أحد الأجانب يريد بحث أمر سياسي، فاستمهلته وتلفنت المسئول؛ فجاء الجواب «باحثه علنا في ساحة البرج، أو سرا في قاع البحر»، وتعددت بعد ذلك خلال ما يقرب من سنتين اجتماعاتنا بأجانب سياسيين وثقافيين وتجار: بعضهم يتستر بمهن، ولكنهم في حقيقة الأمر رجال استخبارات، وهم ينتمون إلى دول مختلفة؛ وكانت كل اجتماعاتنا تنتهي بعراك فتنقطع ثم تتجدد.
ماذا كانت هذه الأبحاث تتناول؟
كانوا يعظون بأن الشيوعية تهدد العالم - وبالتالي بلادنا - بالإفناء، وكان الجواب أن الحزب أدرك هذا الخطر منذ نشأته، وحارب الشيوعية حربا غير متقطعة، وكافحها في فترات كان الغربيون خلالها يتساقون كئوس الشمبانيا مع سادة الكرملين، كانوا يطلبون معلومات عن الشيوعية، وكنا نجيبهم نحن سادة البلاد وأنتم الأغراب، فإن شئتم مكافحة الشيوعية، فزودونا أنتم بما عندكم من معلومات عالمية ؛ فاستخباراتنا هي لمعلوماتنا نحن، والشيوعيون هم مواطنون لنا وإن كانوا مواطنين مرضى، ولا نسمح لغريب أن يتجسس عليهم، وكانوا يسألون ماذا تريدون؟ وكان الجواب أن ينقطعوا عن التدخل في شئون بلادنا، وأن يمحقوا هذا الحلف الشرير القائم بينهم وبين الضعفاء والفاسدين من حكامنا ومتنفذينا، وكانوا - أكثر ما كانوا يبحثون - بصلح مع «إسرائيل»، وبتعايش سلمي معها؛ وأنهم إذ ذاك يغرقون بلادنا بالإعانات والأموال، وكان الجواب «أن اليد التي توقع الصلح مع إسرائيل نقطعها من العنق».
أمام الحزب سبع سنوات لينتصر أو يتلاشى
حين رجعت إلى بيروت في نيسان 1948 كان بين الأحلام التي حققتها الحياة اجتماعي برفيق في الدراسة، كان ولا يزال من أحب الناس إلي، وكنت كأي مغترب عائد هدفا لنصائح يتطوع بإسدائها كل زائر، غير أن هذا الصديق كانت لكلماته نبرة الود الأصيل، وفيها اختبارات الحياة، قال لي: «البلاد ليست كما تركتها، وأنت عائد من جهنم حرب، اسمع مني وتعال نقضي سائر الحياة مفتشين عن أحسن مقهى وأفخم مطعم وأطيب أركيلة وأجمل امرأة، تعال نضرب هذه الدنيا بصرمة.» أجبت: «إن فعلنا كل ذلك ألا تكون الدنيا قد ضربتنا بصرمة؟»
هذا الصديق أجتمع إليه مرات متقطعة، نعيش خلالها في واحة من الود الطاهر والأخوة الصحيحة، غير أني في الشهرين الأخيرين لم أجتمع إليه، وقد تلفن إلي مساء يقول: إنه قادم لزيارتي، فسألته ألا يفعل؛ إذ إنه في تلك الليلة وفي الليلة التي سبقتها حدثت حول بيتي حوادث عدة، منها: القبض على جاسوس للمكتب الثاني كان يراقب بيتي، ومنها أن «جيب» وفيه بعض رجال المكتب الثاني، كان يدور حول بيتي ويقف بالقرب منه؛ فيستفهم السائق عن محلات الآ. ب. ث. مثلا، ومن هذه الحوادث أن بعض قوى الأمن طاردت شيوعيين كانوا تحت إشراف الأستاذ حسيب نمر مرابطين حول بيتي، وتأتي أنباء المعذبين في دمشق، فإذا بالبرابرة يسألون الكثير عن سعيد تقي الدين وعن بيته والتحصينات التي فيه والحرس المرابط حوله وعن المختبئين في البيت.
أسائل نفسي ما الذي فعلت حتى أستحق كل هذا التكريم؟ ولا أستعمل لفظة «التكريم» بروح العبث أو السخرية أو الدعابة، لقد اجتمعت مؤخرا بمسئول كبير في هذه الدولة، فقال لي في معرض النصح: «كل الناس أصدقاؤك، كلهم يودونك ويحترمونك. لماذا لا تنسحب من الحزب السوري القومي الاجتماعي، فترجع صديقا للجميع؟ إن انسحبت أنت من الحزب، فما الذي يبقى فيه؟» هذا السؤال هو الذي كان يعذبني كثيرا، فإني كثيرا ما أحاسب نفسي أن كتاباتي ضخمت شأني في الحزب السوري القومي الاجتماعي، وأن مساهمتي لا تستحق هذا التكريم لا من الرفقاء ولا من الأعداء. الحزب هو يوسف قائد بيه، وخليل الطويل خلف قضبان السجن، الحزب هو ناظر التدريب في منفذية، النبي عثمان يترك بستانه وينطلق في جرود بعلبك مبشرا، الحزب هو خالدة صالح الفتاة الأديبة تتطوع للمخاطر، الحزب هو «أدونيس» الشاعر تتلوى نفسه من الظلمات، الحزب هو ألف «جميل عريان» يتطوع بمهمة تنتهي به للتعذيب أو للموت، أما الذين تضج بهم الصحف، فهم أقل من في الحزب أهمية، لو أن هذا الحزب كان كتابة وخطابة وفصاحة وبيانا، لكان انتهى أمره من زمن بعيد؛ إذن وقوة الحزب هي غير منظورة وغير ملحوظة وغير ضجاجة، فما هي بعض مواطن الضعف فيه؟ في اللغة الفرنجية لفظة:
অজানা পৃষ্ঠা