قلت: اكتب لي أسماء من جعلت منهم العقيدة المواطن الأمثل.
فتناول الورقة، وكتب على صفحتيها: «أنطون سعادة». - وأنت؟
فأجاب مهمدرا: لا، لا أنا ولا سواي، أنت تعرف مئات، وأنا أعرف ألوفا من رفقائنا قد تحسب أيا منهم المواطن الأمثل، ولكن هذه الورقة بيضاء إلا من اسم الزعيم، وستبقى بيضاء حتى تبلغ هذه الأمة هدفها، وهدفها يتصاعد ويسمو أبدا كلما اقتربت منه. صاحب هذا الاسم مات راكعا على رمل بيروت، ويداه مربوطتان بحبل - بهذا الحبل (وأراني قطعة منه راحت تلاعبها أصابعه).
قال ذلك من غير انفعال !
وسألته عن ثقافته، فأجاب أنه تخرج من الجامعة الأميركية سنة 1933 شبه متخصص بالاقتصاد، وأنه تعلم الفرنسية في المدرسة وأتقنها في السجن، وأنه أسس وترأس «الجمعية الحورانية» في مدرسة بيت مري أو برمانا سنة 1925، انتصارا للثورة الحورانية ضد الفرنسيين، وأن أحد شعراء لبنان أعجب شديد الإعجاب بشعر منثور قرأه عليه جورج عبد المسيح، على أنه ترجمة عن الصينية، ولكنه كان من تأليفه. والأدب؟ «لن يبرز حتى يتركز الأساس الاقتصادي، والأديب يجب أن يشق أثلاما ويبذر. وفي هذه الخمسين سنة قام أديب واحد في سوريا اسمه جبران خليل جبران، وفي لبنان اليوم شاعر واحد حي، وآخر هم بأن يكون شاعرا. والنهضة القومية الاجتماعية؟ «إن أدبها بدأ بالظهور.»
والسياسة؟ إن القومي الاجتماعي يجب أن لا يهتم بها، والحركة القومية تعتبر السياسة لأجل السياسة ليست عملا قوميا، وهي آخر ما تهتم به، ومبعث الاهتمام هو أن المقاليد في أيدي رجال عقيدتنا أقرب إلى التنفيذ لمصلحة الأمة منا في أيدي سواهم، مشتغلون بالسياسة أراخنة ينافسون الكوكا كولا والبيبسي كولا بالإعلان عن أنفسهم، نحن نعرفهم كلهم، وخبرناهم كلهم، وعاملناهم كلهم - كل أرخون منهم، لكل واحد رداء يزين ويضخم، ويخبئ شخصا واحدا اسمه «أنا». والشعب في تشوفه إلى الإصلاح والتقدم يرى الواحة في سراب الأراخين؛ فيكثر في فترات من الغفلة المنبهرون المعجبون المهللون - المخدوعون، وما هي إلا يقظة وعي حتى يعودوا لا منبهرين ولا معجبين ولا مهللين - لا مخدوعين.
والموسيقى؟ يعرف عنها، والفلسفة ... ها ... هنا لا تفتح كتابا بل مكتبة، هو يعتقد أن أنطوان سعادة أعظم فيلسوف، ويتلوه زينون الروائي، ولكنه يناقش في عشرات آخرين من الفلاسفة إن كنت من تلامذتها وطاب لك التحدث عنها من غير أن تخاف جان جلخ أو فيليب ضرغام. •••
وعدت أسائل نفسي ما الذي يميز هذا الرجل عن سواه؟ فكان الجواب سؤالا ثانيا «هل في هذا الرجل ما يميزه عن سواه؟»
لقد استمعت إلى جورج عبد المسيح يقصف نقدا مدمرا، ورأيته يتلقى قنابل النقد، وإنك لتقرأه بشوق وإمعان، وتستفيد منه معجبا بعمق تفكيره وواقعيته، أصغيت إليه يروي بخيلاء صبيانية، كيف كسب في أربعة أشهر - أربعة أشهر فقط - مبلغا صخما 1200 ليرا (ألف ومائتي ليرا، لا أقل) متجرا بالحطب، وكيف تطلع إلى شجرة فرازها بعينيه، وحكم: «إنها تزن أربعة قناطير»، وجاء الوزن - ويا للعبقرية - أربعة قناطير، وأصغيت إليه يشرح لي عبارة عمقت عن فهمي، وسمعت منه ألف «رفة جناح»: «هربوا وهم قاعدون» «لبخ خبيزة على وجع الرأس». «حاملة الجرة لا ترى الجرة»، وتطلعت إليه يستمع إلى جمع من الطلبة عادوا من سجن في مصر أيام فاروق (يا نديم دمشقية، يا ابن خال محمد البعلبكي، يا من كنت يومئذ في المفوضية اللبنانية في مصر، يسرني أنك ابن خال محمد البعبكي لا ابن خالي) يقصون أنباء سجنهم، ويشيرون إلى رفيق لهم خاط شفتيه بإبرة وخيط احتجاجا على سجنهم، رأيته يستمع إلى الحديث من غير أن يلتفت إلى الطالب القومي الاجتماعي أو يظهر إعجابه، ورأيت وجهه يشرق حين لبس بدلة جديدة (بدلته الوحيدة عمرها خمس سنوات) أرسلها له هدية جورج حداد، من تقول؟ أي جورج حداد؟ نعم هو بذاته، ذلك الذي اقتلع أذني بأسنانه، نحن لا نحقد؛ على كل حال أذن واحدة تكفيني.
جورج عبد المسيح يصلح أن يكون موضوعا لكتب لا لمقال.
অজানা পৃষ্ঠা