أليس البصر من ذهب، والصحة من ذهب، والوقت من ذهب؟ فلماذا لا نستفيد من أوقاتنا؟ لماذا لا نعرف قيمة الحياة؟
كلّفتني المجلة بهذا الفصل من شهر، فما زلت أماطل به والوقت يمر، أيامه ساعات وساعاته دقائق، لا أشعر بها ولا أنتفع منها، فكأنها صناديق ضخمة خالية، حتى إذا دنا الموعد ولم يبق إلا يوم واحد أقبلت على الوقت أنتفع به، فكانت الدقيقة ساعة والساعة يومًا، فكأنها العلب الصغيرة المترعة جوهرًا وتِبرًا، واستفدت من كل لحظة، حتى لقد كتبت أكثره في محطة «باب اللوق» (١) وأنا أنتظر الترام في زحمة الناس وتدافع الركاب، فكانت لحظة أبرك عليّ من تلك الأيام كلها، وأسفت على أمثالها!
فلو أني فكرت -كلما وقفت أنتظر الترام- بشيء أكتبه (وأنا أقف كل يوم أكثر من ساعة متفرقة أجزاؤها) لربحت شيئًا كثيرًا. ولقد كان الصديق الجليل الأستاذ الشيخ بهجة البيطار يتردد من سنوات بين دمشق وبيروت، يعلّم في كلية المقاصد وثانوية البنات، فكان يتسلى في القطار بالنظر في كتاب «قواعد التحديث» للإمام القاسمي، فكان من ذلك تصحيحاته وتعليقاته المطبوعة مع الكتاب. والعلامة ابن عابدين كان يطالع دائمًا (٢)، حتى إنه إذا قام إلى الوضوء أو قعد للأكل أمَرَ مَن يتلو عليه شيئًا
_________
(١) في مصر، وقد كنت سنة ١٩٤٧ مقيمًا فيها.
(٢) انظر فصل «ابن عابدين ورسائله» في كتاب «فصول في الثقافة والأدب» (مجاهد).
1 / 23