أمي كانت تصلي الفجر قبل أن تذهب إلى الحقل، وتعود بعد المغرب لتصلي العشاء. أبي لم أره يركع ركعة واحدة، وفي رمضان يأكل ويشرب ويدخن الشيشة، ويوزع لياليه بين أربع زوجات بغير عدل، يعطي الزوجة الأخيرة ثلاث ليال، وأمي ليلة واحدة، وأسمعه يقول: يغفر الله الذنوب جميعا إلا أن نشرك به. إله واحد في السماء هو الله، وحاكم واحد فوق الأرض هو الإمام. قبل أن يموت زار قبر الرسول في مكة، ثم عاد يرتدي عباءة بدل الجلباب، وسمعته يقول: زيارة قبر النبي تمسح الذنوب ولا يبقى منها شيء. ومات أبي طاهرا بغير ذنوب. وقبل أن تموت أمي قلت لها: لماذا لا تزورين قبر الرسول لتلحقي بأبي في الجنة؟ قالت: باع أبوك المحصول ولم يعطني شيئا، ليس معي ثمن التذكرة إلى مكة. ولم تمسح أمي ذنوبها. مسحت دموعها بكفها وقالت: إذا فتح الله عليك يا ابني أبواب الرزق، فاشتر لي تذكرة إلى قبر النبي. قلت: هذا وعد يا أمي لن أنساه. ونسيت الوعد ونسيت وجه أمي. مضت السنة وراء السنة، عشرون سنة دون أن أراها. كانت تسكن في بيت بعيد في أقاصي الجنوب، وأنا أرفع رأسي ناحية السماء، لا أرى إلا الله وأعضاء حزب الله. نسيت أن هناك حزبا آخر هو حزب الشيطان، ولولا أمري ما كان له وجود ولا شرعية. قلت لنفسي: إذا لم يكن هناك شيطان بين الناس فلن يكون هناك خوف، وإذا لم يكن هناك خوف فلن يبقى حاكم ولا إمام فوق العرش، وهو يلعب في مجلس الشورى دور المعارضة. يقول لا أمام الناس، وفي أذني يقول نعم. ورث عن أبيه الأرض والمال ولم يبق أمامه إلا الشهرة ودخول التاريخ. زار الرسول في قبره وأطلق على نفسه اسم الحاج. قلبه خال من الإيمان، وزوجته لا تعرف التوحيد. ترسم الصليب على صدرها وتركع للثالوث، الأب والابن والروح القدس، بيضاء كالشهد، ممشوقة كالغصن، تتكلم سبع لغات. يتفاخر بها أمام الناس، وتجلس إلى جواره في الحفلات. زوجتي كنت أخفيها تحت الحجاب، وفي الشارع تمشي ورائي. لا تكتب ولا تقرأ كتاب الله. ناقصة العقل مملوءة بالشحم. رأسها صغير وردفها ثقيل. مخلوقة من ضلع أعوج بلا حسب ولا نسب. تزوجتها قبل أن يفتح الله لي أبواب الرزق، جمعنا الفقر كالرباط المقدس، وبعد اعتلاء العرش لم تعد الزوجة القديمة تناسب حياتي الجديدة. وفي مجلس الشورى قالوا: الإمام له الحق في بيت جديد، وزوجة جديدة، وعباءة جديدة من أجود الأنواع. وجاءوا لي بالصوف المستورد الغالي، وزوجة مستوردة من أجود الأنواع، بيضاء كالشهد، وعيون بلون البحر، تتكلم لغات الأرض. قالوا: هذا حق الإمام؛ فهو أفضل الرجال، وزوجته أفضل النساء، لا تعلو عليها امرأة في جمال أو علم أو مال. تصاحبني في رحلاتي وتنوب عني في الافتتاحات. ترتدي الزي الرسمي وتهتف مع الجماهير في الحفلات. وفي أعياد النصر تتلقى فوق صدرها الوسام، وفي الهزائم تلبس زي الممرضات، تقدم لمشوهي الحرب «البونبون»، وتغني مع أرامل الشهداء والشهيدات. ومن فوق أقواس النصر ترفرف صورة الإمام، وعيناي مرفوعتان نحو السماء، رأيت الله وانكشف عني الحجاب. أتمتم بآيات الحمد وبين الشفتين ابتسامة تتسع لحب الشيطان، وتدوي في أذني الهتافات فأحرك يدي اليمنى في الهواء، وتنحني شفتي السفلى فوق ذقني بتواضع الأنبياء، وأنا واقف فوق المنصة ممشوق القوام مرتديا وجه الإمام. فوق جبهتي علامة الإيمان، وفوق صدري وسام النصر. عن يميني رئيس الأمن، وعن يساري كاتبو الكبير ثم معارضو الشرعي. ومن خلفنا صفوف الوزراء ومندوبو القوى العظمى والكبراء.
الله معك. دوى الهتاف من حناجر الرجال والنساء وتلاميذ المدارس بزي الكشاف، والبنات بملابس الممرضات، والجنود بالسراويل الكاكي، والعمال بالبدل الزرقاء، والفلاحين بالجلاليب والطواقي، وفرق الفنون الشعبية بالراقصات والصاجات. يرتفع الهتاف والأناشيد ودقات الطبول وصواريخ العيد تملأ الدنيا بآلاف الألوان. تنطلق في السماء حمائم السلام، تتلوها الطائرات حاملات القنابل من نوع انتهى مفعوله منذ مائة عام، وفي أذنيه يسري الهتاف «الله معك»، وعيناه نحو الله تسألان: إذا كنت معي يا رب، فلماذا الهزيمة، ولماذا تحجب عني سر القنبلة النووية؟ لماذا تعطي السر لأعدائنا الكفار وتحرم عبيدك المؤمنين المخلصين؟ أستغفرك فأنت لا تسأل عن الحجج والعلل، هذه إرادتك وليس لي أن أعارضك؛ فالمعارضة ضررها أكثر من نفعها. وكنت أظن أن هذا الشيطان الواقف إلى جواري سيلعب دور المعارض الشرعي في حدود إرادتي العليا، ويضع على صدري وسام الحرية والديمقراطية، لكنه افترى وتكبر وملأ الصحف بصورته فوق صورتي. يبتسم في وجهي كالملاك، ومن الخلف يصوب لي الضربات. يقف إلى جوار القوى العظمى في الحفلات ، ويصوب إلى شرفة الحريم النظرات.
زوجتي الجديدة درست علم السياسة وراء البحار، ولها نظرية في الحكم وترويض الرجال. قالت: امسك العصا من الوسط ولا تضرب طول الوقت. أربت على الكتف مرة بحنان الأم، والمرة الثانية أضرب فوق الرأس. وأنا وأنت نتبادل الأدوار؛ فإذا ضربت أنت جئت أنا باسمة كالملاك، وإذا تهاونت أنت أو تنازلت أمسكت أنا العصا واللجام. قلت لها: عليك بالمعارضة وأعضاء حزب الشيطان. قالت: سأروض الرجال منهم؛ فالرجل طفل بريء وإن رفع راية العصيان، والمرأة هي الحية والشيطان وإن تلفعت بالحجاب ودخلت حزب الرحمن. قلت: أعدائي كلهم رجال يضمرون الحقد منذ الطفولة، وبين النساء ليس لي أعداء إلا اثنتان؛ زوجة قديمة خلعتها عني مع جلبابي القديم، وابنة غير شرعية جاءت في نزوة طيش مع الخمر. قالت: زوجتك القديمة مكسورة الجناح وليس منها خطر، لكن ابنتك تضمر لك السوء، ولن يشفي غليلها إلا القتل. قلت: لا تقتل البنت أباها وإن اغتصبها كالذئب، وهي تحبني وتعترف لي بالولاء. قالت: أنت تحبها والحب أعمى، وأنت واقف تحت الضوء، وهي خلف الصفوف في الظلمة تنتهز الفرصة لتصوب الضربة. قلت: لن يضربني إلا عضو من حزب الشيطان، أو مأجور من الأحزاب السرية، أو عدو من خارج البلاد. قالت: أعداؤك كثيرون، وكلما رفعك الله زاد أعداؤك، ولا تخرج إلى الشارع بدون قميص الوقاية. قلت: الواقي هو الله. قالت: الله وحده لا يكفي إذا انطلق الرصاص. قلت: أستغفر الله العظيم. يا لك من كافرة لم تنزعي عن صدرك الصليب، ألا تثقين في قدرة الله على حمايتي؟ ألا تؤمنين بالله والنبي محمد؟ قالت: منذ ليلة زفافنا أخرجت من قلبي المسيح، وآمنت بك وبالله والرسول، ولكني أخاف عليك من أعدائك، والوقاية خير من العلاج. قلت: لست ذاهبا للقاء الأعداء، سألتقي بشعبي الحبيب وجنودي الأعزاء، قلوبهم تفيض بالحب والولاء، وأصواتهم تهتف بحياتي إلى الأبد، ألا تسمعين الهتاف يا امرأة؟
البودي جارد
لم يكن البودي جارد (الحارس الجسدي باللغة العربية) يعرف شيئا عن أمور الحكم أو الخلافة، كانت مهمته محددة ، وهي الوقوف بجوار الإمام مرتديا وجه الإمام المطاط وجسده الممشوق، ولم يكن في قدرة أحد إلا الله ورئيس الأمن أن يكتشف الإمام الحقيقي من الإمام المصنوع، وأذن «البودي جارد» كانت تشرئب مرهفة؛ فإذا ما سمع طلقة نارية قفز بخطوة واحدة أمام الإمام، يستقبل الرصاصة في صدره نيابة عنه، وفي سعادة طاغية يموت فداء الوطن، وفي عنقه مفتاح الجنة معلقا داخل السلسلة. يفتح باب الجنة ويدخل مع الأنبياء والشهداء، وتحصل زوجته على لقب أرملة الشهيد، ويصرف لها معاش مضاعف ووسام من الدرجة الثالثة.
في كشوف خدم الإمام كان له لقب رسمي: «البودي جارد.» ولا يمكن لأي رجل أن ينال هذا المنصب؛ فهو منصب رفيع خطير أخطر منصب في الدولة، يقتضي الإخلاص للإمام والإيمان به مائة في المائة دون تفكير يؤدي إلى التردد، والتردد ولو للحظة خاطفة قد يودي بحياة الإمام. إذا انطلقت الرصاصة وتردد «البودي جارد» في الموت نيابة عن الإمام، فهذه كارثة أكبر الكوارث. «عدم التفكير على الإطلاق» كان هو المؤهل الأول للحصول على هذا المنصب. ويختار الإمام بنفسه البودي جارد، يتقدم المرشحون للوظيفة على شكل طابور. يمرون أمامه وهو جالس على الأرجيحة في حديقة القصر. يتم الاختيار بعد اختيار دقيق لخلايا العقل. تسجل النتائج فوق ورقة بيضاء ناصعة البياض. أي نقطة سوداء فوق البياض تعني أن هناك شبهة وإحدى خلايا المخ تفكر. - هل أنت مستعد للموت من أجل الإمام؟ - نعم بكل سرور.
كلهم يقولون نعم ولا أحد يقول لا، لكن الإمام لا يثق في كلام أحد، ولا يمنح ثقته إلا للجهاز الإلكتروني، يقدر وحده على اكتشاف الصدق من الكذب. امتحان صعب لم يكن ينجح فيه إلا رجل واحد في المليون. وبعد اختبار العقل يأتي اختبار الجسم، وهو امتحان لا يقل صعوبة. قدرة الأذن على أن تشرئب وتسمع الطلقة قبل أن تنطلق. قدرة الجسم على القفز واستقبال الموت في خطوة واحدة. القدرة على تقمص جسد الإمام والوقوف أمام الناس كأنه الإمام لا فرق. القدرة على السقوط والموت دون أن يلحظ أحد، ودون أن يسمع أحد صوت الطلقة؛ فهي طلقة خافتة تنطلق عادة من آلة قتل حديثة كاتمة للصوت. والهتاف يكون عاليا يغطي على الصوت إذا كان هناك صوت. الله معك. ويرفع الإمام رأسه نحو السماء غافلا عن الأرض، وفي هذه اللحظة الخاطفة تنطلق الرصاصة. يتلقاها البودي جارد بصدر رحب، ويسقط بين قدمي الإمام دون أن يلحظ أحد. يختفي جسده على الفور، ويحل مكانه جسد آخر، له الملامح ذاتها والوجه ذاته من المطاط، يرتديه فوق وجهه فيصبح هو الإمام، ولا يمكن لأحد أن يفرق بينهما حتى زوجته.
في كل مرة يخرج البودي جارد من باب بيته يعلم أنه لن يعود، ومع ذلك يخرج بكل إرادته ووعيه مستبشرا بالموت وفي عنقه مفتاح الجنة، يتدلى من سلسلة فضية، وله ذنب رفيع أسنانه مشرشرة. كيف يفتح الجنة بهذا المفتاح؟ وهل للجنة باب مثل البيوت؟ ورضوان حارس الجنة هل يتركه يفتح الباب؟ أسئلة كثيرة تخطر له وهو واقف يسمع الهتاف. تطردها خلايا عقله السؤال وراء السؤال. لا أحد يلحظه وهو يفكر. الجهاز الإلكتروني معطل، والتيار الكهربائي مقطوع، ورئيس الأمن عينه على الصفوف الخلفية، والإمام شاخص إلى أعلى نحو السماء، وهو أيضا يرفع رأسه بالحركة نفسها. وحين يهز الإمام يده تحية للجماهير يهز يده بالحركة ذاتها، لا يمكن لعين أن تلحظ الفرق. وحين يمشي الإمام فوق الأرض يقلد مشيته، مشية مميزة فيها عرج خفيف، يدوس بقدمه اليمنى على الأرض بقوة أكثر من اليسرى. عظام ساقه اليسرى فيها اعوجاج منذ الطفولة، نقص الكالسيوم في لبن الأم. لم تعرف أمه شيئا عن مرض الكساح، تصورت أنه عين الحسود، وحوطت عنقه بدوبارة تتدلى منه خرزة زرقاء، وألبسته ملابس البنات.
كان الإمام قادرا على التواجد في مكانين مختلفين في وقت واحد، ولا أحد يعرف السر إلا البودي جارد. يهمس الإمام في أذنه: اذهب نيابة عني إلى هذا الاجتماع أو هذا الحفل أو إلى مجلس الشورى أو صلاة الجمعة أو إلى هذه المهمة خارج البلاد.
يسير أمام الكبراء والوزراء ولا أحد يشك أنه ليس الإمام، حتى هو لا يشك في نفسه. وإن ساوره الشك لحظة فإن هتاف الجماهير يعيد إليه الثقة، ويمشي مرتديا وجه الإمام المطاط رافعا رأسه. يلتقي بالسفراء والخبراء الأجانب. يقص الشريط مفتتحا الملاجئ، وفي اجتماع مجلس الشورى يظل صامتا كالإمام، ينصت إلى تقارير الوزراء ويهز رأسه علامة الفهم، أو يشرد بعينيه ناحية السماء كأنه يفكر، ولا يلحظ أحد أنه لا يفكر، وأن عقله يترك جسده في مقعد الإمام ويهرب إلى الدور الأرضي، يخلع الوجه المطاط ويدلك بطرف الإصبع أنفه المضغوط تحت الأنف الآخر. ومن الباب الخلفي للقصر يخرج مع الخدم متنكرا بوجهه الحقيقي، يقفز في الأوتوبيس قبل أن يقف، ويهبط قبل أن يدفع التذكرة. يسير بين الأزقة، يضرب ببوز حذائه قطعة زلط حتى يصل البيت. تحوطه أمه بذراعيها، ويشم رائحة الخبيز والروث. أتنسى أمك عشرين سنة؟ هل مرت عشرون سنة يا أمي؟ كنت هنا بالأمس، وتقول أمه: من تغطى بالأيام عريان، ومن ابتعد عن السلطان سلطان. يجلس على ركبتها تهزه كالمرجيحة وتحكي له الأخبار. هذا الشتاء ماتت الكتاكيت بالشوطة، عمتك الله يرحمها ماتت بالكوليرا، خالك سافر إلى الحج ولم يعد، بنت خالتك عضها كلب مسروع، وأبوك زارني في المنام وقال إنه ينتظرني في الجنة، أنسيت يا ابني الوعد، وأين هي تذكرة السفر إلى قبر النبي؟
অজানা পৃষ্ঠা