সক্রেটিস: যিনি প্রশ্ন করার সাহস দেখিয়েছিলেন
سقراط: الرجل الذي جرؤ على السؤال
জনগুলি
تصدير
تقديم
1 - أقريطون يروي البداية
2 - تلميذ قاطع الحجارة في أثينا
3 - الآلهة
4 - المسير الطويل
5 - أنكسجوراس الملحد
6 - اكتشاف
7 - الآلهة تكلفه بالرسالة
8 - الرسالة
অজানা পৃষ্ঠা
9 - ألقبيادس
10 - الحرب العظمى
11 - سقراط يتوجه إلى المحكمة
12 - الدفاع
13 - أقريطون يروي النهاية
تصدير
تقديم
1 - أقريطون يروي البداية
2 - تلميذ قاطع الحجارة في أثينا
3 - الآلهة
অজানা পৃষ্ঠা
4 - المسير الطويل
5 - أنكسجوراس الملحد
6 - اكتشاف
7 - الآلهة تكلفه بالرسالة
8 - الرسالة
9 - ألقبيادس
10 - الحرب العظمى
11 - سقراط يتوجه إلى المحكمة
12 - الدفاع
13 - أقريطون يروي النهاية
অজানা পৃষ্ঠা
سقراط
سقراط
الرجل الذي جرؤ
على السؤال
تأليف
كورا ميسن
ترجمة
محمود محمود
مقدمة
بقلم حسن جلال العروسي
অজানা পৃষ্ঠা
عبارة قصيرة واحدة، أرادت الكاتبة كورا ميسن أن تعبر بها عما قصدته من هذا الكتاب، وأن تكشف عن الفكرة التي اتخذتها أساسا لرسم شخصية سقراط هي وصفها له بأنه «الرجل الذي جرؤ على السؤال».
هذه هي النظرة التي نظرت بها إلى سقراط، تلك الشخصية التي عاشت بين سنتي 469 و399 قبل الميلاد، وبقيت حية طوال هذه القرون، يحاول الناس والعلماء استجلاء معانيها، وفحص اتجاهاتها ومراميها، فلا يصلون إلا إلى نتائج خير ما توصف به أنها قريبة إلى آرائه.
فالصعوبة القائمة في معرفة آراء سقراط هي أنه لم يخط حرفا ولم يترك أثرا مكتوبا، بل ظل الاعتماد في معرفة آرائه على ما نقله عنه تلميذاه - أفلاطون وزينوفون - وكل منهما قد رسم له صورة قد تختلف عن صورة الآخر وقد تتعارض في بعض الأحيان، ولكن كلا من الصورتين تكمل الأخرى وتنتج عنهما صورة ممتازة تسترعي النظر.
ظل سقراط رجلا عاديا حتى بلغ الثلاثين من عمره، ثم أخذ يشعر بأن عليه رسالة دينية يؤديها، هي أن يعمل على هداية الأثينيين إلى طرق استعمال العقل وإلى فائدة التمسك بالأخلاق، فترك عمله العادي وأهمل أمور نفسه وصار يغشى المجتمعات والمنتديات العامة يتحدث في الفضيلة والعدل والإيمان وما ماثل ذلك من موضوعات، وكانت طريقته هي الجدل والمحاورة، ولم تكن آراؤه حاسمة متصلبة بل كان فيها الكثير من المرونة والكياسة، ولم يكن في أمر الدين متشددا غير أنه كان من القائلين بالوحدانية، وذاع صيته وصار له أكبر التأثير على حياة الرجال في أثينا لا سيما بين الشبيبة.
وكان من عادة اليونان - في مواسم خاصة - إذا ما أرادوا الاستعانة بالآلهة في أمر من الأمور أن يزوروا معبد أبولو في دلفي ويستطلعوا رأي الآلهة في أمرهم، فكانوا يسمعون من فم الوحي ما يطمئنهم أو ينذرهم، والغالب أن تكون العبارة تحتمل المعنيين، وقد سئل الوحي ذات مرة عن سقراط، فوصفه الوحي بأنه أحكم رجل في بلاد اليونان، وعلق سقراط على هذا القول من بعد بأنه لم يفهم معنى لهذا الوصف إلى أن تبين له أنه بينما غيره من المفكرين يعلنون معرفتهم للأمور وهم غارقون في الجهالة، فإنه الوحيد الذي لا يعرف من الأمور شيئا.
ولا حاجة بنا للإطالة أكثر من ذلك بل يكفي أن نقول: إن إيمانه بآرائه جمع من حوله الأنصار وجر عليه عداوة لم ينطفئ لهيبها إلا بالقضاء على حياته كما حدث لأكثر من واحد من دعاة الحق والفضيلة. •••
ألفت هذا الكتاب كاتبة أمريكية اسمها كورا ميسن درست فقه اللغات القديمة ونالت الدكتوراه من رادكليف، ثم اشتغلت بتدريس الآداب القديمة في عدة مدارس وكليات، وقامت بسياحات واسعة في اليونان، وعرفت أثينا والبلاد المجاورة لها حق المعرفة.
وقد وصفت - في هذا الكتاب - حياة سقراط وصفا أرادت به أن تصل بين هذا الرجل الذي عاش في فترة بعيدة وبين قلوب الجيل الناشئ في هذه الأيام، فخرجت بهذه الصورة الكريمة، وما أصعب أن ترسم صورة جديدة لرجل رسمه أساتذة في فن القلم مثل أفلاطون في «مجلس شرابه» و«محاوراته» وزينوفون في «ذكرياته».
غير أننا ننبه إلى شيء هو أنها لم تمس الآراء إلا مسا رقيقا، وأنها عنيت بأن تخرج كتابا أدبيا لا كتابا فلسفيا ولا بحثا عميقا.
وسترى أنها نجحت إلى حد بعيد، وأن هذا الكتاب إن يقرأ على أنه مقدمة لدراسة كتب أفلاطون وزينوفون يكن خير مقدمة تدخل إلى النفس مدخلا سهلا.
অজানা পৃষ্ঠা
وقد وفق المترجم في نقل الكتاب للغة العربية إلى حد كبير، وحافظ على الأصل كل المحافظة، والأستاذ محمود محمود معروف في عالم الترجمة والتأليف.
ولعل القراء ينعمون بهذه الترجمة العربية ويستمتعون بها كما استمتع آلاف القراء بكتاب كورا ميسن.
كلمة المترجم
بقلم محمود محمود
هذا كتاب عن رجل بلغت به الشجاعة الأدبية أن يستقل برأيه في زمن كان الناس فيه يجلون القديم ويقدسون التقاليد، وقد احتمل الموت صابرا في سبيل دفاعه عن حرية الفكر.
وضعت هذا الكتاب بالإنجليزية الكاتبة الأمريكية الدكتورة كورا ميسن أستاذة الآداب الكلاسيكية، وقد رحلت إلى بلاد اليونان وارتادت أرجاءها ودرست عن كثب مدينة أثينا وما جاورها من الريف؛ فكانت الآداب الإغريقية والفلسفة اليونانية حية في ذهنها.
وقد قصدت بهذا الكتاب أن ترسم صورة لسقراط لا باعتباره معلما عظيما أولا، ولكن باعتباره بشرا ينمو ويتطور كما بدا لأصحابه الذين عاصروه، فعرضت علينا الرجل وهو عند صانع الأواني الفخارية، وعرضته علينا وهو يأخذ عن أبيه حرفة نحت الحجارة، وعرضته علينا إنسانا حيا يتنفس، يتساءل عن الحق، ويبحث عن الحقيقة، وصورت لنا أثينا في عصره وكبار الأشخاص في زمنه.
عرضت علينا ذلك كله في أسلوب قصصي، وقدمت لنا مأساة عاطفية تنتهي بموت البطل وبالحزن العميق، وبطل المأساة رجل لا يخشى السؤال، ولا يخاف البحث، يخضع للقانون ولكنه يفكر في صحته، لا يتملق الجماهير ولا يسير في ركبها، فيرتاب الناس في أمره ويصبح موضعا للشك والظنون، هي قصة الصراع القائم بين جمود الرأي وحرية الفكر على مدى الأيام والدهور.
وقد توجهت مؤلفة الكتاب بحديثها إلى الشباب المراهق خاصة كي تدربهم على الطريقة السقراطية في البحث، وتقدم لهم طرفا من الثقافة اليونانية وموضوعات الفلسفة الكبرى، وبابا للموازنة بين الحياة في أثينا القديمة وأمريكا الحديثة.
ماذا نفعل بالأفراد الذين يتحدون النظام القائم والرأي السائد؟ هذه مشكلة نلمسها في كل عصر من عصور التاريخ، وعلى كل مجتمع وكل جيل أن يلتمس منها مخرجا، هل نحكم على المعارضين بالموت؟ هل نصمهم بالزندقة؟ هل نبعدهم عن أوطانهم؟ هل نلقي بهم في السجون؟ أم نعطيهم حرية التعبير والكلام؟ هذه جميعا حلول مختلفة لتلك المشكلة الأدبية الأزلية .
অজানা পৃষ্ঠা
وكتاب «سقراط: الرجل الذي جرؤ على السؤال» قصة صادقة قوية لرجل واحد استطاع أن يجد للمشكلة حلا بمفرده.
وقد رأيت أن أقدمه لقراء العربية لكي أنهض بشبابهم خاصة نحو المثل العليا الرفيعة التي ضحى من أجلها سقراط بحياته.
والله ولي التوفيق.
تصدير
هذا عرض لسقراط قائم - قبل كل شيء - على أساس من أفلاطون وزنفون، ولكنه يدين كذلك لغيرهما من الكتاب القدامى ولكثير من العلماء المحدثين دينا لا يسعنا إلا أن نعترف به بوجه عام، بيد أني لا بد أن أذكر خاصة ما أدين به لكتاب «بركليز وأثينا» لمؤلفه أ. ر. بيرن، الذي يحتمل أن يكون قد أعاد فيه بناء قصة حملة حربية غامضة، فتابعتها عندما كتبت «المسير الطويل»، وكذلك ما أدين به لمذكرات جون برنت في طبعته لمحاورات أفلاطون، وللمجلد الثاني من كتاب «بيديا» لورنر جيجر.
ولقد تصرفت بحرية تامة في ألفاظ أفلاطون في بعض ما اقتبست من مقتطفات، وبخاصة في الحوادث التي رويتها ملخصة عن «لاخيس ومجلس الحوار»، ولكني إنما فعلت ذلك لكي أكون أمينا على ما تتضمنه المحاورات، وهي مصدر ثمين لما روي عن سقراط من أحاديث رغم ما يبدو عليها من صبغة شبيهة بالقصصية، وقد قصدت بالمحاورتين القصيرتين في «المسير الطويل» وفي «ألقبيادس» أن أنقل في صورة مصغرة شيئا مما عنى أفلاطون، كما قصدت ذلك أيضا بالفصل الأول، وقد استخدمت ما روي عن أبي سقراط من أنه كان نحاتا كأساس لمعالجة الحياة الباكرة لسقراط.
وأشكر بصفة خاصة العلماء والكتاب الذين قدموا لي المعونة الصادقة دون أن يتحملوا أية تبعة عن الطريقة التي عرضت بها موضوعي، أشكر سترلنج دو لثاقب نقده للنص، ولنصحه بشأن الصور، وأشكر جون فنلي جر لقراءته المخطوط، وروبرت بيل لمعونته الكريمة الفاحصة في المراجعة.
وأخيرا لا بد لي أن أعبر عن شكري الخاص لوالدي للفرصة التي أتاحها لي لكي أؤلف هذا الكتاب، وللدراسة الكلاسيكية التي أدت إليه.
تقديم
كل شيخ كان طفلا ذات يوم، طفلا من نوع ما، وقد ترى شيخا دنيئا ساخطا لم يكن كذلك في طفولته، بيد أنه يشق علينا أن نعتقد أن شيخا حاضر البديهة جريئا مقداما مثل سقراط لم يلتقط بذور العظمة إلا عند نهاية رحلته في الحياة.
অজানা পৃষ্ঠা
لم يحدثنا أحد حديثا مفصلا عن شباب سقراط، ومن الواضح أنه لم تكن له لدى الجمهور ما كان لصديقه العارض ألقبيادس من أهمية، ويبدو أنه قضى أيام شبابه - كما قضى كل أيام حياته - في مجرد النمو، فلسبعين عاما كان ينمو فحسب كغيره من الناس إلا أنه أحسن استغلال حياته، نما سقراط وسط الأسمال البالية من ضروب التفكير التي كانت تسود عصره، وإذا كانت للناس من بعده طريقة للتفكير أفضل من الطرق التي سبقتها، طريقة يستطيعون أن يستخدموها إذا شاءوا، فإن الفضل فيها - إلى حد كبير - يرجع إلى سقراط.
ومن ثم كان من المفيد أن نحاول فهم نمو سقراط، حتى إذا قامت بيننا وبين الحقيقة كثير من العوائق والظلمات، إن سقراط نفسه لم يكتب شيئا قط، ولم تكن الكتابة طريقته، غير أن أصدقاءه في سنواته الأخيرة قد كتبوا شيئا عنه، وبخاصة صديقه الموهوب وتلميذه الفيلسوف أفلاطون، ولا يمكن لأحد أن يقرأ محاورات أفلاطون المسرحية عن أستاذه دون أن يحس أن فيها شخصية حقيقية قد تكون إلى حد ما شخصية سقراط، أو هي محبة أفلاطون لسقراط، أو هي إلى حد ما أفلاطون نفسه، موضع الحيرة من قديم، ولقد حاولت أن أستبعد ما استطعت من آراء أفلاطون الخاصة به فلم أضمنها هذا الكتاب، غير أننا لا نجد اليوم من يخلص سقراط من محبة أصدقائه له، وليس هنا في الحقيقة ما يدعونا إلى هذه المحاولة.
وعطفنا على سقراط مجال آخر للخلط، وهو أقرب رجل في العالم الوثني القديم إلى أن نحشره في زمرتنا متجاهلين التطورات التي طرأت في القرون الأربعة والعشرين التي تفصل بيننا وبينه، إن ألفاظنا تحمل معاني مسيحية، سواء أدركنا ذلك أو لم ندركه، ومن اليسير لنا أن نلتمس معنى مسيحيا في ألفاظ سقراط كذلك، بيد أن هذا ضرب من ضروب الاضطراب في التفكير ، ولقد كان سقراط أشد مقتا لهذا الاضطراب من أكثر الناس، وإنه ليود أن نفهم ألفاظه اليوم كما فهمها أصدقاؤه في زمنه.
وإذن فإن الشباب من أصدقاء سقراط - أفلاطون خاصة وكذلك زنفون الجندي الصحافي - قد قدموا لنا الرجل الواسع الحكمة، المسن الذي جاوز الستين، الذي أحبوه حينما كانوا في العقد الثالث من أعمارهم، أما سقراط الآخر، سقراط في دور النمو، الذي نحتاج إلى معرفته الجندي المتوسط العمر والشاب الدارس والصبي والطفل؛ أما هذا فإنه يتراجع تدريجا إلى أبعد مما كانوا يرون، وإلى أكثر بعدا مما نرى.
ولا نستطيع أن نقول في البداية إلا أن طفلا قد ولد، وكان ذلك حوالي عام 470ق.م، في بيت مغمور من بيوت الطبقة الوسطى، لا هو بالخطير أو الحقير، في مدينة أثينا، وكانت أمه تدعى فيناريتي وأبوه يدعى سفرونسكس، وكانت لفيناريتي - كما يذكر ابنها فيما بعد - سمعة طيبة عن مهارتها الفطرية وصبرها على توليد جاراتها من النساء، أما سفرونسكس فقد كان - على الأرجح - صانعا، والظاهر أن الرجل المهذب أفلاطون قد أشار إلى ذلك مرة بلباقة، وقد روى فيما بعد صراحة أن أباه كان نحاتا، وأن الابن قد أخذ عن أبيه حرفته، ومهما يكن من شيء فقد كان ذلك متوقعا منذ اللحظة التي شب فيها الصبي عن طوق الطفولة.
وإذن فقد كان هناك سفرونسكس النحات، واقفا إلى جوار سرير زوجته، ينظر إلى يدي ابنه الوليد الجديد ويرى فيهما بذرة الصناعة، ولو عرف الحق لأدرك أنه كان طوال الوقت أبا لفيلسوف.
وبطبيعة الحال لم يتم في الواقع مولد سقراط الفيلسوف إلا فيما بعد، وأقصد المولد التدريجي للآراء التي علمته بدوره أن يعين غيره من الشباب على مولد جديد كمولده، ولن نعرف أبدا حقيقة الوقت أو السبب أو الطريقة التي بدأت بها ولادة هذه الأفكار عند سقراط، ولا نستطيع إلا أن نسير في الاتجاه العام للحقيقة - كما فعل أفلاطون - ثم نخلق من هذا الاتجاه أسطورة.
الفصل الأول
أقريطون يروي البداية
[نعود إلى أثينا القديمة، قبل أربعة وعشرين قرنا؛ أي منذ أكثر من أربعة قرون ونصف قبل ميلاد المسيح، حينما كانت روما مدينة ريفية تافهة، وحينما كانت إنجلترا أسطورة من أساطير الملاحين، وأمريكا قارة في سبات عميق، والعالم الغربي يتطلع إلى بلاد اليونان.
অজানা পৃষ্ঠা
ولكن أحدا لم ير في مدينة أثينا الإغريقية صبيا باسم سقراط بدأ يتطور إلى فيلسوف، أقول: إن أحدا لم ير ذلك، اللهم إلا إن كان صديقه أقريطون، فلربما رأى ذلك أقريطون وذكره عندما صار شيخا، ورواه في شيء يشبه ما يلي، أما بقية القصة حتى نهايتها فمصدره جهات متعددة، فهو يصدر عن كتاب التاريخ، كما يصدر عن الحجارة القديمة، وعن الصغار من أصدقاء سقراط، وبخاصة صديقه أفلاطون، بيد أن هذا الفصل الأول لا يمكن أن يذكره إلا أقريطون وحده، وعلى أقريطون أن يرويه لنا.] •••
عندما رأيت سقراط لأول مرة - وكان ذلك في المدرسة فيما أذكر، أو ربما كان قبل أيام الدراسة؛ لأن بيته لم يكن يبعد عن منزلي - حسبته أقبح صبي في أثينا، ولم تكن هذه الفكرة صادقة كل الصدق؛ إذ لم تكن بوجهه كآبة أو ندوب أو علة، إنما كانت المادة التي صيغ منها كأنها أكثر خشونة وأشد صلابة من المادة التي صيغ منها غيره من الأطفال، عيناه تجحظان كعيني ضفدعة، وشفتاه غليظتان، وأنفه الأفطس يبدو كأنه دلك على طريقة خاطئة وهو في المعهد، وكانوا يسمونه في المدرسة «وجه الضفدع».
إني أحدثكم عن وجهه، وإن كنت أنا نفسي كففت عن النظر إليه - والصديق يختلف إحساسه بجلد الوجه وعظامه - لأنكم هكذا ستنظرون إليه لأنكم غرباء، ثم إني أعرف أن الأمر يختلف لديه، فلقد سمعته يضحك منه منذ ذلك الحين، سمعته يزعم أن العيون التي تشبه عينيه إنما خلقت لتنظر في جميع الجهات، وأن الأنف الأفطس يلتقط الروائح أحسن مما يلتقطها أنف طويل مستقيم، ولكني أعرف أنه قبل أن يتعلم المزاح بشأن خلقته كان كثيرا ما يتشاجر بسببها مع الصبية الآخرين، وأنه أحيانا - بعد أن يكف عن الصراع في الخارج - كان يعاني صراعا داخليا.
ولذا كان للقبح تأثير عليه - تأثير أكبر مما يظن أي إنسان - لأنه كان في جملته طفلا سعيدا متطلعا إلى الخارج، ولقد حدثني محدث عن دعاء سمع سقراط مرة يدعوه بعد ذلك بسنوات؛ خرجا معا إلى الريف، وأراد سقراط أن يؤدي صلاة لآلهة المكان الذي قصد إليه، وما أكثر ما كان يفعل سقراط ذلك؛ يصلي عندما يستمتع بحياته، وكذلك كانت صلاته تتفق وما جبلت عليه نفسه، دعا الآلهة أن تهبه كنوز الحكمة، ونفسا متزنة تحمل هذه الكنوز، كما دعاها أن تهبه البساطة، وأن يتفق مظهره مع مخبره، ولكن فاتحة الدعاء هي أشد ما أذهلني، فلقد قال: «اجعليني جميلا في داخلي.» وتذكرت عندما سمعت ذلك أنني كنت هناك عندما بدأت الفكرة لديه، عندما بدأ يوجه الأسئلة عن الجمال منذ سنوات مضت.
وعندما أقول «الجميل» قد تحسبونني في أذهانكم أعني «الظريف»؛ لأنكم أجانب، ولكن لكي تفهموا قصدي اعلموا أنني إنما أعني «الفاخر» أو «الجليل»، ذلك ما يعنيه لنا لفظنا «الجميل»، وكثيرا ما نستخدم هذا اللفظ، ولكن عندما بدأ سقراط يتساءل عن الجميل لم نفهمه بادئ الأمر أكثر مما لو كنتم أنتم تفهمونه.
وأول ما لحظت ذلك كان في درس من دروس الموسيقى، فلقد طلب إلينا جلوكس العجوز أن ننشد الأغاني المألوفة من «الشاعر» في ذلك اليوم، وكثيرا ما كنت لا ألتفت البتة لما كنا نقول إلا أن أصيب في إلقاء الكلمات، بسبب العصا التي كانت في ركن من الأركان، غير أن جلوكس اختار هذه المرة أنشودة من الأجزاء التي كنت أحبها؛ ولذا فقد تنبهت كما تنبه سقراط الذي كان يجلس إلى جواري.
لا شك أنكم تعرفون القصة: كيف تشاجر البطل أخيل مع الملك ورفض أن يقاتل من أجله في المعركة بعد ذلك، غير أن صديقه قتل وهو يحاول أن يحل محل أخيل، وبعدئذ لم يستطع أي شيء أن يصد أخيل عن القتال، بالرغم من أن أمه الإلهة أنذرته بأنه إنما يسير نحو حتفه، فأجابها أخيل بخطاب جليل عندئذ، قائلا إنه يؤثر الموت على أن يتخلى عن الصديق ، وأنه إن ابتعد عن المعركة في ذلك الحين فإنما يصبح عبئا على وجه الأرض.
وكان خطابا جليلا ترن فيه أصداء المعركة، وقد عرفتم أن أم أخيل كانت على صواب في رأيها عما سيحدث، وأنه كان يعلم صواب رأيها، وأن خيوله ذاتها سوف تحزن عليه بعد وقت قريب، ومن ثم فقد أحسست أن الخطاب كان جليلا، فصوبت نظري نحو سقراط لأعلم رأيه فيه، إذ كان بالفعل يهمني أن أعرف رأي سقراط في كل شيء.
ألقيت عليه نظرة من عل - وكان أقصر مني قامة، وإن كنا في سن واحدة - فرأيت عليه مسحة أحببت من ذلك الحين أن أراها عليه في كثير من الأحيان، انفرجت عيناه العجيبتان الجاحظتان، وتألق وجهه القبيح الصغير بشرا مصدره القلب، وهمس قائلا: «كان خطابا جميلا يا أقريطون، أفسمعت؟» ثم اضطر كلانا إلى الصمت بسبب العصا، وسرعان بعد ذلك ما أطلق شخص ما صرصورا استقر تحت أنف جلوكس تماما، فنسيت ما كان بشأن أخيل.
تذكرت هذا فيما بعد عقب مباراة المصارعة، وكنت بطلا فيها بين أترابي في ذلك الحين رغم حداثتي في التمرين بطبيعة الحال، ولم أتقدم قط للألعاب الكبرى، ولكني أحسنت في ذلك اليوم وعرفت ذلك، وسرني أن سقراط كان حاضرا يشهدني.
অজানা পৃষ্ঠা
ودخلنا معا بعد ذلك غرفة الملابس، وذراعانا متشابكتان، وكلانا تشمله السعادة الكاملة، وقال سقراط: «مصارعة جميلة يا أقريطون.» وأخذ يكرر هذه العبارة، وهي كلمات قد تصدر عن أي إنسان، وإن يكن حملها من المعني أكثر من ذلك، ثم وقف ونظر إلي، وصمت لأني أدركت أنه كان يفكر في أمر ما.
وبعد لحظة قال لي: «أجل جميلة يا أقريطون، وكان الصباح جميلا كذلك، هل تذكر أخيل؟ كان الأمر مختلفا في ذلك الحين، ولكنه جميل أيضا، إني لأعجب ...» ثم شرع يفكر ثانية حتى نبهته فأقلع عن التفكير، ثم انصرفنا معا للتدريب.
ولم أفهم حينئذ ما كان يدور بخلده، بل ولم أعجب له، حتى كان ذات مساء بعد ذلك في نفس الأسبوع وبينما نحن جلوس بمصنع ماوس ، ولم يكن ماوس هذا إلا صانع فخار، أجنبي المولد، ولكنه كان ذائع الصيت في أثينا في تلك الأيام لإتقانه صنع الأواني، وكان فظا مع الناس، ولم يسبق لي قبل اليوم أن اقتربت من بابه إلى هذا الحد، بيد أن سقراط قد تعرف إليه بطريقة ما، وصحبني ذلك المساء لكي نراقبه.
وعندما دخلنا المصنع وجدنا ماوس قد شرع في صناعة إناء جديد على عجلته، فأشار إلي سقراط أن ألزم الصمت، وجلسنا على الأرض قريبا منه وبعيدا عن الطريق، ولست أدري إن كنتم شاهدتم من قبل خبيرا بصناعة الفخار وهو يقوم بأداء عمله، فإن كنتم قد شاهدتموه، فستدركون لماذا لم يدركنا ملل عندما جلسنا لديه نراقبه.
كانت على عجلته كتلة ضخمة من الصلصال، وظل فترة طويلة كأنه لا يفعل شيئا إلا أن يلعب بها، دافعا بها إلى أعلى وإلى أسفل بين يديه، بينما احتفظ طفل من الرقيق بالعجلة دائرة، وبدا كأنه سيبقى على ذلك طيلة المساء، ولكن الموقف تغير فجأة، وإذا بماوس يقلب يديه، ويدفع بإبهاميه إلى وسط الصلصال ويقبض ويرفع حتى تشكل الإناء بشكل ما.
ارتفع الإناء من جذوره كأنه مادة حية، وإن المرء ليحسب من غير شك أن به حياة، ولكن الحياة لم تكن بطبيعة الحال سوى الخطة التي دبرها ماوس في رأسه، وإنك لتراقبه ويصيبك شيء من الدوار، وإنك لتستطيع أن تشهد الخطة وهي تنطلق من ماوس، ومن بين يديه إلى الصلصال، والخطة تخلق من الصلصال شيئا، إن الصلصال لم يكن من قبل شيئا، ولكنه الآن إناء.
ونظرت إلى سقراط، وعرفت أن أمره الآن مثل حاله عند خطاب أخيل وفي المصارعة، وأحسسنا ذلك معا، وبعد برهة أوقف ماوس العجلة لكي يقيس شيئا ما، ووجه إليه سقراط هذا السؤال: إن هذا لجميل يا ماوس، وكان جميلا وهو يتكون، ولكن ما هذا الشيء الذي نسميه بالجميل يا ماوس؟ وما معناه؟
قال ماوس وقد بدت عليه الحيرة لحظة، ولمس طرف الإناء الذي كان يصنعه: «جميل؟ عجبا! إنه مثل هذا فيما أحسب، ومثل ذاك الذي تراه، وليس الذي شهدتني أصنعه بالأمس، لقد أفسدته وإن كان أكثر الناس لا يعلمون.»
ووضع سقراط يده على الإناء كذلك لكي يلمس استدارته، وكان جليا أنه لم يكن راضيا. - كلا يا ماوس، ليس الأمر كذلك! ذلك ما يفعله الناس دائما، إنهم يشيرون إلى الأشياء، يشيرون إليها ويقولون: «هذا جميل، وذاك جميل.» والأشياء كلها على خلاف، إناء جميل ومصارعة جميلة وشجاعة جميلة، كل هذه أمور مختلفة، ولكن ماذا عسى أن يكون بينهما من تشابه؟ لا بد أن يكون هناك تشابه ما، وليس الأمر مجرد أن يكون هذا جميل وذاك جميل، وإنما لا بد أن يكون هناك «الجميل» يا ماوس، هذا ما كنت أفكر فيه، وأنت تصنع الأشياء الجميلة، فلا بد أن تكون على علم.
وعرفت عندئذ ماذا يعني، وإن كنت لم أفكر من قبل قط في مثل ذلك، وأدرك ماوس الأمر كذلك، ولكنه لم يبادر بالجواب، وأخيرا قال: «إنني لا أعرف شيئا عن «الجميل» يا سقراط، ولست أعرف سوى الأواني الجيدة، والإناء الجيد عندي إناء جميل.»
অজানা পৃষ্ঠা
فسأله سقراط: «ولكن لماذا يكون جيدا يا ماوس؟»
فقال ماوس مشيرا مرة أخرى حتى حسبته قد نسي: «انظر إلى تلك الجرة، إنها جرة جيدة، إنها جيدة لسبب ما، إنها جيدة في انصبابها، ولو أنك زدت قليلا من تجويف حافتها لانسكب منها النبيذ، ولو فلطحت جوانبها أكثر من ذلك قليلا لسهل سقوطها، وعندئذ تكون جرة رديئة، ولا يسميها من يعرف جرة جميلة، وفي الحق أن من رأيي أنها إذا لم تؤد الغرض الذي قصد منها شق علينا أن نطلق عليها اسم الجرة إطلاقا، إنها مجرد كتلة من الطين.»
فقال سقراط متثاقلا: «إذن لا بد أن تكون الجودة في الأشياء هي التي تجعلها جميلة ونافعة، لا بد أن تكون جودتها هي التي تجعلها أي شيء إطلاقا.»
فأومأ ماوس رأسه بالإيجاب وأضاف قائلا: «هذا ما يبدو لي كذلك، وإني لأحسب أن كل من يصنع الجرار يجب أن يجيد صنعها.»
فسأله سقراط: «ولماذا لا يفعلون؟»
وأجاب ماوس : «إنهم لا يعرفون الطريقة، والحق أنهم لا يعرفون نموذج الجرة الجيدة، الجرة الحقيقية.»
وقال سقراط: «أجل، وبالطبع إنهم ليحبون أن يحاكوا النموذج لو أنهم حقا عرفوه، ولكن من ذا الذي صنع النموذج يا ماوس؟» - «لست أنا، وليس أبي، لقد استغرق زمنا طويلا، وما زلنا - في الواقع - ندخل عليه تعديلات صغيرة، وربما لم يصنع قط النموذج الحقيقي، إنه دائما في طريق الكشف، ولكنه قد وجد فعلا على صورة ما.»
فسأله سقراط: «وإذن فكيف تكشف عنه؟ هذا ما أريد أن أعرفه يا ماوس، كيف يكون ذلك؟»
وكان هذا آخر سؤال، وقد تطلب من الشيخ العجوز زمنا طويلا لكي يجيب عنه، وفي نهاية الأمر قال: «أشك أنني أستطيع أن أخبرك بذلك يا سقراط، ولكن ينبغي لك أولا أن تعرف الجرار، ولا يكفي أن تعرف شكلها، كما يشاهدها أي زائر للمصنع، ينبغي لك أن تعرف ماذا بها مما يجعلها جرارا جيدة، جرارا حقيقية، تؤدي ما يجب للجرة أن تؤديه، المعرفة هامة جدا يا سقراط.»
وكان الحوار في ذاك المساء بمصنع ماوس كمباراة الكرة، رمي ومتابعة، إلى الخلف وإلى الأمام، وأحسست قرب النهاية كأن المباراة فوق مستواي، وإن كنت قد بدأت من ذلك الحين أحسن فهمها، وربما كان الأمر فوق مستوى سقراط نفسه قليلا في ذلك الوقت، ولم يكن ماوس سوى صانع فخار يتحدث عن الأواني الفخارية، فإن ذكر شيئا عن الجودة على اعتبار أنها نموذج يبحث عنه، فإنه لم يذكره إلا عرضا، بيد أني ما زلت أعتقد أن هذا الحديث مع ماوس كان بداية لشيء هام بالنسبة لسقراط، بداية - على الأقل - كأية بداية أخرى يحتمل أن تصادفك.
অজানা পৃষ্ঠা
الفصل الثاني
تلميذ قاطع الحجارة في أثينا
ربما كان أقريطون على صواب، وأن سقراط بدأ يفكر كما يفكر الفيلسوف، ويبحث عن معاني الأشياء، وهو لا يزال صبيا في المدرسة، كما اعتاد فيما بعد أن يعين الصبية الآخرين على التفكير وهم في هذه السن ذاتها تقريبا، معتقدا أنهم يكونون حينئذ على استعداد لذلك، وربما جاءت بداية سقراط بعد أيام الدراسة ؛ لأنه بالتأكيد لم يتجاوز الثالثة عشرة أو الرابعة عشرة حينما أخرجه أبوه من المدرسة.
ولم يأسف لذلك سقراط، فسيبقى معه حتى نهاية حياته بعض ما تعلم في المدرسة، وبخاصة قصائد الشعر في الأبطال القدامى، كما أنه أفاد من تعلمه المصارعة والعدو وما قام به من أعمال في ساحة اللعب، لقد أفاد من ذلك أيضا وإن لم يجعل منه رياضيا من الطراز المألوف، غير أن سقراط كان يعرف كيف يتعلم لا من المعلمين والمدربين فحسب ولكن من كل إنسان يقابله، وقد دأب على هذا اللون من التعلم - بطبيعة الحال - سواء أكان في المدرسة أم لم يكن بها.
وحان الوقت لسقراط - فوق ذلك - لكي يتعلم مهنة أبيه، وقد ولد لأب يشتغل نحاتا كما جاء في قصة قديمة يحتمل صدقها.
وعاش سفرونسكس على مستوى عال من النحت، وكان سقراط يأمل أن يحافظ على هذا المستوى، فهناك عمل كثير لصانع مدرب في الأشغال العامة الكبرى، مثل «الأسوار الطويلة» التي تم بناؤها، التي تصل ما بين أثينا والبحر، وفي النقوش الدقيقة للقوانين وغيرها من المدونات العامة (وكان سقراط يستطيع أن يكثر من هذا الضرب من العمل، ما دامت الديمقراطية المتزايدة في أثينا تحب أن تنشر مدوناتها حتى يراها الناس جميعا)، وبالطبع في المقاولات الخاصة كذلك، وبخاصة في شواهد قبور الموتى، وكانت أكثر أعمال سفرونسكس بطبيعتها بعيدة عن منزله مع العمال الآخرين، وقد أحب سقراط هذه العشرة، وإن يكن قد تعلم أيضا أن يعين أباه في بيته كذلك عاملا في فناء المنزل في بعض صغائر الأعمال.
وكان سفرونسكس يستعمل الرخام في أعماله الدقيقة، الرخام الناعم المتماسك الأبيض الشاهق الذي يقطع من محاجر جبل بنتلكس القريب، ويستخدم الأدوات عينها التي كان يستخدمها من قبل أبوه وجده، وهي المطارق المدببة للعمل الخشن أولا الذي يتعلق بشق الحجر، أما المثاقب، من أمثال المسامير الكبرى - المدببة أو المربعة الأطراف، فكانت تدق بمطارق حجرية ثقيلة، أما الأزاميل المقدسة أو ذات الأسنان في أطرافها فكانت تستخدم للعمل في تسوية السطوح ، كما تستخدم الخرامات لعمل الثقوب، وقد شهد سقراط أباه يستخدم كل ذلك مئات المرات، ثم تناولها بيديه وسنها وتعلم المنافع الخاصة لكل منها.
وظل سقراط - بطبيعة الحال - أمدا طويلا لا يستطيع أن يؤدي سوى المراحل الأولى من عملية النحت، فالرخام أثمن من أن يضيع سدى، فإذا اقتضى الأمر أكثر من تشكيل السطح تشكيلا بسيطا تولاه سفرونسكس، ووقف إلى جواره سقراط يناوله الآلات ويراقبه.
كان أبوه مرة - على سبيل المثال - يريد أن ينحت رأس أسد لنافورة، فتناول الكتلة المستديرة وأخذ يصورها، وكانت الضربة في أول الأمر تغوص في الحجر إلى عمق نصف بوصة، ثم أخذ يتناول الآلات الأدق فالأدق، واستخدم المثقب المربع والمثقب الحاد والأزميل المخلبي، وأخذت تظهر تدريجا تفصيلات الرأس؛ الفم ومن فوقه الأنف الأفطس والعينان المفترستان والمعرفة المتشابكة، واستطاع سقراط الآن أن يقدر المهارة والمعرفة المودعتين في هذا العمل، إن أباه قد استغرق السنوات الطوال لكي يحذق الضرب بالمطرقة ويحسن تناول الآلات، ولما سأل سقراط أباه كيف عرف الطريقة التي يضع بها أزميله وإلى أي عمق يضربه، حاول سفرونسكس جاهدا أن يبين له الجواب.
قال: «عليك بادئ ذي بدء أن ترى الأسد كامنا في الحجر، وتحس كأنه رابض هناك تحت السطح، وعليك أن تطلق سراحه، وكلما أحسنت رؤية الأسد، أحسنت معرفة أين وإلى أي عمق تشق الحجر، والعماد بعد ذلك بطبيعة الحال، على التمرين والتدريب.»
অজানা পৃষ্ঠা
وأنعم سقراط الفكر في هذا القول، وذكره بحديث حدثته به أمه ذات مرة، وكانت الأم تشتهر بين جاراتها بمهارتها في توليد الحبالى من الأمهات، وسألها سقراط مرة كيف تقوم بهذا العمل فأجابته قائلة: «إنني في الواقع لا أفعل شيئا، وإنما أكتفي بأن أعين الطفل على الانطلاق.»
وظن سقراط أن هذا ما حدث أيضا يوم كان في مصنع ماوس، فإن ماوس لم يكون فكرته عن النماذج ويحشرها في ذهن سقراط حشرا، إنما كانا يتبادلان الحديث، يسألان ويجيبان، ونبتت الفكرة فجأة، وأحس سقراط أنها كانت كل الوقت تكمن هناك على صورة من الصور، وإن يكن إدراكه لمعرفته إياها إدراكا ناقصا، ولم يفعل ماوس شيئا سوى أنه أعان الفكرة على الانطلاق.
وأثار سقراط مجرد التفكير في هذا، فمن ذا الذي يعرف كم فكرة هناك تنتظر الانطلاق، ولو تعلمت أن تسأل السؤال الصحيح لاستطعت أن تحررها.
بيد أن الأفكار شيء - وكان سقراط يكتشف منها الجديد دائما - ورؤية الأسد أو أي مخلوق آخر من هذا القبيل تحت سطح الحجر شيء آخر، ولم يتجاوز سقراط العام عاملا في المصنع حتى بدأ أبوه يدرك أنه لا يحتمل قط أن يصبح سقراط نحاتا فائق المهارة، لا لأن الصبي كان خاملا أو ضعيفا، فقد كان يفيض قوة ونشاطا، بل إن الخطر قد ينشأ من ضربه المطرقة في الحجر بحدة زائدة فيفتته شظايا متناثرة، إذ لم تكن له بطبيعته أصابع رقيقة حساسة كأمه وأبيه، وكانت مهاراته مع الناس لا مع الحجارة.
وعرف سقراط ذلك بنفسه وإن لم يتحدث عنه، وفي تلك الأيام لم يفكر أحد في تغيير عمله، وكان الطفل يأخذ عن أبيه مهنته وينتهي بذلك الأمر، ومع ذلك فقد كان يسر للقاء الزبائن الوافدين، وحينما يخرج إلى المدينة بنفسه، وكان يحب الخروج ومشاهدة ما كان يدور في المدينة.
وإن أردت أن تدرك ما كان يحدث لسقراط في تلك الأيام فلا يكفي أن تذكر المصنع الذي كان يعمل فيه فحسب، بل يجب أن تذكر كذلك المدينة التي كان يعيش فيها، ولم تكن أثينا بالمدينة الكبرى في عداد المدائن، وتمكن سقراط أن يعرف أكثر من فيها من الناس أو يعرف عنهم شيئا، ولكنها كانت مدينة مثيرة، فقد كانت تجرى فيها التجارب وتصاغ فيها الآراء، وتصنع فيها التحف الجميلة، أيام كان يعيش فيها سقراط، أكثر - على الأرجح - مما حدث في أي مكان آخر في تاريخ العالم حين ذاك.
وكانت تعلو أثينا، وتميزها في عيني كل إنسان وفي ذهنه، صخرة الأكروبول أو «قمة المدينة» وهي قلعة ومعبد في آن واحد، وكان كل طفل يعلم أن إله البحر بوزيدون والإلهة أثينا تنافسا في هذا المكان، كل منهما يحاول أن يبز الآخر في الهدايا القيمة لكي يظفر برعاية المدينة، وقدم بوزيدون جواد الحرب، وضرب الصخرة بصولجان متشعب فتفجر منها ينبوع من الماء، وما عتم الينبوع هناك، ولكنه لملوحته كماء البحر لم يبلغ في قيمته مبلغ هدية أثينا - شجرة الزيتون المقدسة التي ترعرعت إلى جوار الينبوع.
وأمست أثينا الإلهة الملكة على المدينة، وعاشت مدينة أثينا أمدا طويلا على الزيتون، وانتشرت أشجار الزيتون الخضراء القاتمة متكاثفة في السهل المحيط بها، وصدر الأثينيون زيت الزيتون، وقدموه جوائز في المباريات واغتسلوا به وطهوا طعامهم به، وأحرقوه في المصابيح، وكنت تشاهد الشاب الأثيني المهذب وهو في طريقه إلى الملعب حاملا زجاجة من الزيت يتدلك به معلقة بمشبك فوق ذراعه، والأرجح أن يتناول الصانع من أمثال سفرونسكس حفنة من الزيتون مع طعامه في الغداء ظهرا.
وفي عام 480ق.م؛ أي قبل مولد سقراط بنحو عشر سنوات، أحرق الفرس أكروبول أثينا في غزوتهم الكبرى، وشهد سقراط وهو في العقد الثاني من عمره بقايا جذوع الأعمدة التي سودها الدخان قائمة في مكانها، ولما كان في العقد الثالث بدأ برنامج المنشآت الكبرى، وأخذت ترتفع المعابد الرخامية كأنها تنطح السماء، وهي المعابد التي ما فتئت حديث العالم حتى اليوم.
والرجل الذي رسم مشروع المباني هو بركليز، وقد أضحى آنئذ من زعماء السياسة في أثينا، وكان يزمع أن يسد نفقات المعابد من الأموال التي تبرع بها الإغريق في المدن الجزرية وعلى السواحل الشرقية لحمايتها من عودة الفرس، وبدأت أثينا تتزعم هذه الجامعة الدفاعية، فأخذت تتطور شيئا فشيئا إلى أن صارت المدينة ذات السيادة في إمبراطورية بحرية، وكانت جاراتها من المدن ترقبها وقتئذ في غيرة وخشية، هذه المدن المنتشرة فوق بلاد اليونان الأصيلة، وخاصة في الجنوب في شبه الجزيرة الكبرى المعروفة باسم بلبونيسس، وما كانت أسبرطة (مدينة الجند) لتسمح للقوة الأثينية باطراد النمو.
অজানা পৃষ্ঠা
ولا بد أن تؤدي الغيرة والخوف إلى القلاقل إلى اشتعال الحروب فورا، وإلى القتال الطويل المريع فيما يقبل من الأيام، بيد أن القوة الأثينية في عين سقراط، وهو في العقد الثاني من عمره، كانت مثيرة ولم تكن مخيفة، وكانت إصبع المجلس - وهو اجتماع المدينة الأثيني - الذي ينعقد فوق التل الذي لا يبعد كثيرا عن السوق، تلعب دورها في أمور صقلية ومصر وآسيا الصغرى والبحر الأسود، وتهيأت لسقراط وصحبه الفرصة لكي يشهدوا قوما جذابين من أقاصي البلاد، من فرس شامخي الأنوف متراخين في حركاتهم يعتقدون - كما يقال - في صراحة القول قبل كل شيء، إلى ملاحين من الجزر يعرفون ساحل روسيا الجنوبي كما يعرفون مرافئ بلادهم، وقد قاموا بعشرين رحلة بحرية إلى النيل، إلى فنانين وصناع من جميع أصقاع البحر الأبيض وفدوا إلى أثينا - ولا نذكر الفنانين والصناع الذين أنجبتهم أثينا بنفسها - إلى شعراء وموسيقيين ومخططي المدن ومهندسي المباني ومؤرخين وتجار ومبعوثين دبلوماسيين وأرستقراط مبعدين عن بلادهم، إن سقراط لم يكن بحاجة إلى أن يتطلع بعينيه إلى أبعد من مدينته لكي يرى قوما من أكثر الناس إثارة للاهتمام في العالم.
ولم يكن عجبا في هذه الظروف أن يهوى رجل كسقراط - بما لديه من خيال وتطلع إلى المعرفة - الاستماع إلى الناس والتوجه إليهم بالسؤال، وكان كل فرد في أثينا محدثا، كانوا يتحدثون في السوق صباحا، وفي الملعب بعد الظهر، وفي حفلات العشاء وفي النوادي مساء، كانوا يتحدثون عن الرياضة («من ذا تظن ستكون له الغلبة في المصارعة في الألعاب الأولمبية في هذا الموسم؟») ويتحدثون عن السياسة («قلت في ذلك الحين: إن مشروع بركليز الذي يقضي بدفع الأجور للمحلفين سيكون فيه خراب المدينة!») ويتحدثون عن الحرب والسلم («لماذا لا تبلغنا أي أنباء عن أسطولنا في مصر؟») وكانوا يديرون حكومتهم بالكلام، وهي أول ديمقراطية في العالم، وكان لكل مواطن من الذكور الحق في التعبير عما يدور في نفسه قبل أن يدلي بصوته في المجلس، وربما صاح الأعضاء في وجهه مطالبين إياه بالصمت إذا لم يحسن الحديث.
ومن ثم فقد أصغى سقراط إلى كثير من الأحاديث، أصغى وفكر فيما كان يقال، ووفق بين مختلف الأحاديث في ذهنه، وأدرك أن كثيرا من الكلام كان يتعلق بأشياء لم يعرف عنها المتكلمون في حقيقة الأمر إلا قليلا، واتضح ذلك من الطريقة التي كان المتكلم يناقض بها نفسه دون أن يدرك هذا التناقض، ومن المؤسف أنهم لم يفكروا في أمورهم تفكيرا كاملا.
ولما شب سقراط واشترك في الحديث لحظ الناس أن له طريقة خاصة به، كان يحب أن يوجه الأسئلة، وينتقل من سؤال إلى آخر، حتى يظهر جليا ما بعقل محدثه من اضطراب، وكانت هذه الطريقة تربك المسئول، ولكنها تسر السامعين وتسري عن نفوسهم، وكان كثير من الناس يحسب سؤال سقراط ضربا من ضروب اللعب تداخله الحيلة ويدعو إلى القلق، وربما كان كذلك بادئ الأمر.
ولم تكن الحياة كلها في أثينا كلاما، وكان لسقراط أصدقاء من سنه، هم جيرانه من الصبية، تتفق أوقاتهم في العمل مع أوقاته، ويتعلمون مهنتهم نحاتين أو نجارين، وكانوا يلعبون في الطرقات معا بعد ساعات العمل، أو وقت الظهيرة حينما كان الشيوخ يخلدون إلى الراحة، وكان أصدقاء سقراط يتبارون ويتصارعون ويتقاتلون مع صبية الأحياء الأخرى، شأنهم في ذلك شأن جميع الصبية في أثينا، كانوا يلعبون بعظام الكعوب ويستخدمونها زهرا، وكونوا النوادي والصداقات الوثيقة ثم فضوها، وكان سقراط فردا في جماعة، ولما شبوا فيما بعد وأصبحوا أساتذة في حرفهم، واهتدى إلى حرفته الحقيقية، رحبت به كل مصانع المدينة.
ولم يعد سقراط يلتقي كثيرا بزملائه الذين تعرف إليهم أيام الطلب، من أبناء الطبقة العليا الذين لا يحترفون سوى السياسة والخدمة العامة، ولم يرافقهم إلا في أيام الأعياد، كانوا يصعدون التل معا مقتفين الموكب العظيم ليشهدوا حفل أثينا الجليل، وكانوا يحشرون في الحشد الذي يشهد سباق الزوارق وسباق الشعلة والمباريات الرياضية والاستعراضات العسكرية، كانوا يجلسون على سفح التل - في الشتاء والربيع - يشهدون سويا حفلات التمثيل، مآسي الأبطال والملاهي الصاخبة، وفي كل حفل خمس عشرة مسرحية جديدة، مليئة بالحكم والخيال والفكاهة التي يضعها أحذق المفكرين في أثينا.
ولذا فقد كانت مدينة أثينا بأسرها في أيام الحفلات شخصا واحدا، لا يحول حائل بين سقراط النحات وأقريطون الشاب الرياضي المهذب ، ولكنه في الأيام الأخرى كان لا بد له أن يتوجه إلى الملعب لكي يلاقي هؤلاء الأصدقاء، فقد كانوا ينفقون طيلة النهار وجميع الأيام هناك، يعملون جادين في الألعاب الرياضية والتمرينات الخلوية التي تلقوا في المدرسة مبادئها، وكان كثير من حديثهم يدور حول الخيل، وكانت تقوم بينهم صداقاتهم الخاصة الوثيقة التي تبعد عنهم سقراط.
وبرغم ذلك كان يحب أن يشاهدهم، وما كان أروعهم وهم يتألقون على طول طريق السباق في الشمس، يكسبهم الزيت لونا بنيا لامعا، أو حين يقذفون الأقراص في رشاقة واتزان وسيطرة تدل على الساعات الطوال التي أنفقوها في التدريب، وكانوا كذلك مهرة كما كان ماوس وسفرونسكس، ولم تكن مهارتهم في الأداء بالنسبة لسقراط أكثر من مهارة الصناع، بيد أنه أحبها كما أحب كل ما هو جميل وحي.
الفصل الثالث
الآلهة
অজানা পৃষ্ঠা
في تلك الأيام كان سقراط يمارس ويحس بعمل المصنع وحديث المدينة، وبالألعاب في الطرقات وبمواكب الأعياد والمسرحيات، شأنه في ذلك شأن الصبية الآخرين من زمرته، ومع ذلك فقد بدأ بينه وبينهم الخلاف بعدما شب عن طوقه، فمتى بدأ هذا الخلاف؟
لا بد أن يكون قد نشأ قبل أن يلحظه أكثر الناس بوقت طويل، وربما لحظوا أنه كان أشد رغبة في معرفة الأشياء، ومعرفة الأفكار خاصة، من أغلب أصدقائه، وربما أدركوا أنه أكثر دقة في تفكيره من معظمهم، لم يقنع بشتات من الأفكار المتناثرة، كالطير يسبح في الجو هنا وهناك، وإنما كان يحتاج إلى أن يضم فكرة إلى أخرى ثم يرى الفكرتين تسيران في اتجاه واحد، وربما لحظ ذلك قلة من الناس، ولكن ربما لم يلحظ أحد لفترة طويلة من الزمن ما كان في نظر الأثيني أعجب الفروق جميعا، وهو ما يتعلق بالآلهة.
لما شرع سقراط في وقت باكر جدا يفكر ويسأل الأسئلة عن الآلهة، ألفى خليطا عجيبا من الآراء لا بد من طرقها، كان صديقه ماوس - مثلا - واحدا من خيار الصناع في المدينة، كان يستطيع أن يصنع الجرار والأواني الجميلة البسيطة المتناسقة، وأن يعمل بدقة، وعلى مستوى واضح في ذهنه، حتى لا يتعارض جانب من التصميم مع جانب آخر، ولكنه إذا ما احتاج إلى التفكير في الآلهة، ظهر أنه لا يسير البتة على أي مستوى من المستويات، ولم يكن التصميم واضحا أو متناسقا في ذهنه.
ولما شب سقراط، واتسعت دائرة كشوفه، وجد أن أكثر من لاقى من الناس يضطرب هذا الاضطراب عينه بشأن الآلهة، وكأن طبقات عديدة من الأفكار قد انضم بعضها إلى بعض في وقت من الأوقات، ولكن الصورة لم ترسم طبقا لمستوى معين، وأسوأ من هذا كله أن قليلا جدا منهم من أدرك إلى أي مدى كان الاضطراب مشوشا، أو من حاول أن يبذل جهدا فيه.
ولذا فلما ألقى سقراط أسئلته عن الآلهة، أجيب بمختلف الأقاصيص، منها الجيد ومنها الرديء، كان الناس في الزمن القديم يحسبون أن للآلهة بهم شأنا أكبر مما لهم بنا اليوم، وكان للآلهة من بين الناس من يخصونهم بفضلهم ويقدمون لهم المعونة، ذلك ما حدث لأوديسيس - مثلا - في القصص القديم، فقد وقفت أثينا الحكيمة إلى جواره تعينه في محنته، مختفية حينا، ظاهرة حينا آخر في صورة امرأة جميلة فارعة، وحينا كإلهة ذات عينين رماديتين براقتين ودرع تتلوى على أطرافه الأفاعي، تستطيع أن تستمع إلى دعواته إن أرادت حيثما كانت، وإن كانت تشغل عنه أحيانا، أو يعوقها إله آخر ممن يمقتونه، وعلى أوديسيس حينئذ أن يشق طريقه وحده، وقد فعل ذلك بشكل يدعو إلى الإعجاب نظرا إلى ما كان أمامه من صعاب حتى استعدت أثينا أن تعينه مرة أخرى.
وكان للآلهة كذلك أعداؤهم الذين يمقتونهم، ونجمت عن ذلك الصعاب الجمة للأبطال، فقد أعمى أوديسيس مرة سيكلوبس، ابن إله البحر بوزيدون، ذا العين الواحدة الذي عرف بالعنف، وفعل ذلك دفاعا عن نفسه، ولكنه أخطأ إذ تفاخر بذلك وأفصح عن اسمه فيما بعد؛ ولذا توجه سيكلوبس بالدعاء إلى أبيه لكي ينتقم له، وكان كلما شهد بوزيدون أوديسيس بعد ذلك على متن البحر أثار في وجهه عاصفة، وإذا لم يستطع أن يقبض على أوديسيس نفسه، استطاع أن ينزل العقوبة بربان السفينة وملاحيها الذين تفضلوا عليه وحملوه على سفينتهم، ومن أجل ذلك حول بوزيدون مرة إحدى السفن إلى حجر بعد ما خرج منها أوديسيس، واستقرت السفينة وصارت جزيرة تذكر الأحياء بألا يعينوا عدوا من أعداء إله البحر.
هكذا كان الناس يعتقدون في مسلك الآلهة فيما مضى، يتصرفون كما تتصرف الكائنات البشرية في قوة وعناد، ويعيشون إلى الأبد، يقيمون الولائم ويتشاجرون من أجل محسوبيهم من البشر فوق جبل أولمبس الذي يرتفع في أجواز الفضاء، أما الآن فقد أدرك الناس أن الأمر لم يعد كما كان من قبل تماما، فقد بعد موطن الآلهة ولم يعد لهم - فيما يبدو - محسوبون من عامة الناس، ومع ذلك فلربما كانت أحسن الوسائل لوصف الشعور العجيب الذي ينتاب الظافر في المباريات الرياضية أن تستخدم الألفاظ القديمة فنقول: إن إلها من الآلهة يرعاه.
ولا بأس - بطبيعة الحال - من التوجه إلى الآلهة بالدعاء، بل لقد كان المرء حقا يتوسل إليهم ويقدم إليهم العطايا الملائمة في هدوء وبطريقة طبيعية كأنه يتناول وجبة من وجبات الطعام، ولكل عيد موكب وضحية لإله من الآلهة، وكانت المباريات الرياضية والمسرحيات وحفلات الموسيقى من الشعائر المقدسة، وكانوا يضحون بالحيوان، لا يقتلونه فحسب، قبل أن يطهى للغذاء، وكلما ولد طفل أو بلغ سن الرشد أو تزوج أو مات، أو خرج إلى قتال، أو أقلع على ظهر سفينة، أو تولى وظيفة عامة، قدمت الضحايا التي تليق بالمناسبة، وقد أعطى هذا الأسلوب من العيش أسرة سقراط وأصدقاءه شعورا مريحا بأنهم على صلات طيبة بالآلهة وكذلك بعضهم ببعض؛ لأن هذه الحفلات جميعا كانت مناسبات اجتماعية، تختلف عن طريقة الانزواء في ركن من الأركان للصلاة، وكلما شب امرؤ تحدد له في الموكب أو في الضحية مكان، كما تحدد له دور خاص يؤديه، وليس أثينيا البتة من لم يأخذ في عبادة المدينة بنصيب.
وإذا كانت الآلهة الآن آلهة المدينة، وقد تخلت عن أن تخص بالرعاية قوما دون الآخرين، إلا أنها ما زالت تملك أن تنزل العقوبة بمن تشاء ، كانت الآلهة في الزمن القديم تعاقب في أغلب الأحيان من يسيء إليها إساءة شخصية، وبرغم زيادة اهتمامها بالعدالة عامة، فما برحت تعبأ كثيرا بشرفها وكرامتها، وكان ذلك من الأسباب الهامة جدا التي تدعو المرء إلى عدم الحنث بيمين مقدسة، إذا أقسم المرء أن يؤدي عملا، وأشهد زيوس أو أبولو على صحة ما اعتزم، فإنه يقحم بذلك في الأمر كرامة الآلهة.
وكانت الآلهة بالطبع تمقت القتل كذلك، وبخاصة إذا ارتكب في معبد أو عند موقد بيتك؛ لأن الموقد كان كذلك مذبحا، وحتى إن قتلت عن غير قصد فإن الدماء تبقى لطخة تصعب إزالتها، وأهم من ذلك كله كانت الآلهة تمقت الكبرياء؛ لأن المتكبر يرتفع إلى مكانة عليا فوق المستوى الذي يحق له أن يحل فيه.
অজানা পৃষ্ঠা
وتذكر الناس ما حدث منذ أقل من اثني عشر عاما قبل مولد سقراط، حينما غزت بلاد اليونان جيوش أجزرسيس - ملك الفرس - الجرارة، كانت هذه الجيوش الفارسية كأنها الجراد في عددها، شربت من الأنهار حتى جففتها، وظللت سهامها الشمس، وكان أجزرسيس بقوته مزهوا، وشيد من الزوارق قنطرة عبر هلسبنت، ولما حطمت العاصفة القنطرة، ألهب المياه بالسياط ووسمها بالعار كأنها رقيق عصي.
ولم تنس الآلهة كبرياء أجزرسيس، ولا كيف أحرق المعابد فوق الأكروبول في أثينا، وكانت الآلهة ترقب سير المعركة من خليج سلامس المجاور، حيث التقى أسطول الفرس بأسطول الإغريق، وإلا فكيف استطاع الإغريق أن ينتصروا؟ وجلس أجزرسيس موشى بالذهب ومحلى باللون الأرجواني على عرشه فوق الخليج يشهد القتال، ووقف إلى جواره كتابه يحملون الألواح يدونون عليها أسماء القادة - طبقا لأدائهم - للثواب أو العقاب، وكان الفرس أكثر عددا، كما كانوا من الفوز واثقين، وبرغم ذلك اندحروا، وتحطمت سفنهم وغرقت، وقتل جندهم المسلحون، الذين كانوا يحسبون أنهم لا يقهرون، عند الساحل وفي المعركة البرية فيما بعد، وهرع أجزرسيس نفسه عائدا إلى بلاده، حيث قابلته إمبراطوريته بالعصيان، ومن ذا الذي يشك في أن الآلهة أذلت الغزاة المتكبرين، فالكبرياء إساءة للآلهة؟
ومن الخطر كذلك أن يتوافر للمرء مزيد من الحظ السعيد ، وقد رويت لسقراط قصة ما حدث لبوليكراتس من أبناء ساموس برهانا على ذلك، كان بوليكراتس حاكما قويا على الجزر الشرقية منذ سنوات عديدة، وكان ثريا موفقا في كل ما أدى من عمل حتى استرعى التفات فرعون مصر، وعقد معه حلفا، بيد أن فرعون كان يخشى أن تغار الآلهة مما أصاب بوليكراتس من حظ سعيد، فنصحه أن يستخرج أثمن ما يملك ويلقي به بعيدا؛ لكي يصيب قسطا من سوء الحظ فيتجنب بذلك غضب الآلهة.
وظن بوليكراتس أن هذه النصيحة فكرة طيبة، وبعدما بحث في كل كنوزه استخرج خاتما، صاغه من الذهب صانع ماهر معروف وأودعه فصا من الزمرد، وكان ذلك أغلى ما يملك، وفي سفينة من سفن الدولة يدفعها خمسون مجدافا أقلع إلى مسافة بعيدة عن الساحل وألقى بالخاتم في أعماق المياه، وخيل له أنه بات من بعد ذلك في أمان.
وجاء ذات يوم إلى باب القصر صائد سمك يحمل سمكة جميلة صادها ذلك الصباح، وكانت من الجمال - كما يقول - بحيث لم يرض أن يبيعها لرجل من عامة الناس، وأتى بها هدية لبوليكراتس، وسر بوليكراتس بالهدية وبالثناء، ودعا الصائد للغداء، وأمر أن تعد السمكة للطهو، ولكن ما إن فتحها الطهاة حتى أذهلهم أن يجدوا بداخلها الخاتم عينه الذي حاول بوليكراتس أن يلقي به في اليم.
ولما سمع فرعون مصر بعودة الخاتم فصم في الحال صداقته مع بوليكراتس؛ إذ إنه بات من الجلي أنه رجل تعد له الآلهة مصيرا مريعا، وكان ذلك ما حدث، فسرعان ما قتل بوليكراتس بقسوة وتمزقت إمبراطوريته، إن الآلهة لم تعف عنه لوفرة ما أصابه من حظ سعيد.
تلك كانت الأقاصيص التي ترامت إلى سقراط عن الآلهة وهو في سن الطفولة، آلهة كانت في قديم الزمان تتشاجر وتكذب وتسرق وتهبط في صورة الناس تحمي أصدقاءها أو تؤذي أعداءها، أما الآلهة في زمانه فقد بعدت مكانتها ولكنها ما برحت جبارة لا تتسامح في نقمتها من السوء والكبرياء أو وفرة الحظ السعيد.
وفي غضون ذلك، وبرغم الأقاصيص المقبضة، كانت تقام الحفلات بما فيها من مواكب وضحايا وولائم، وكان تمثال أثينا الخشبي القديم الذي يشبه جذع الشجرة يؤخذ لحمام سنوي في مياه البحر، كما كانت تقدم للأفعى المقدسة كعكتها في المعبد، وكان الناس يقسمون بالآلهة إيمانا مقدسة، ثم يحنثون في أيمانهم، فينجون برغم ما تروي الأقاصيص، وكان من دواعي الاجتماع ومن الحكمة أن تضحي للآلهة في الأوقات الملائمة، غير أن قلة من شواذ الناس - ممن «تمتلئ قلوبهم بخشية الآلهة» كما كانوا يقولون - كانوا يذهبون في تفكيرهم إلى أبعد من ذلك، ولم ينزعج حقا في تلك الأيام من نقمة الآلهة على السرقات والأكاذيب إلا الشيوخ الذين كانوا يخافون مما عساه يحدث بعد موتهم، ومهما يكن من شيء فإن القوم لم يكونوا ليعبئوا إلا بما يحدث في المحاكم.
تلك كانت الآلهة، وهكذا كان الناس يعبدونهم! فماذا كان رأي سقراط؟
لحظ في وقت مبكر أن أصدقاءه لم يهتموا ولم يضطربوا، ربما أزعجتهم القصص التي تروى عن حسد الآلهة، ولكنهم يحلمون بالثراء والحظ السعيد لأنفسهم، وربما تندروا بمهارة الآلهة في السرقة والكذب، يحسون مع ذلك بالأسى العميق حين يشهدون المسرحيات التي تعرض عقاب الآلهة للآثام، يستطيعون أن يخدعوا غيرهم في اللعب ومع ذلك يشعرون بالارتياح إلى الصلاة أو تقديم الضحايا، أما سقراط فقد خلق على غرار آخر، كان يتعجب ويطابق بين الأمرين في ذهنه.
অজানা পৃষ্ঠা
وهناك فارق آخر، فإن الناس قد يذكرون عن الآلهة ما يشاءون، ولكن سقراط يضع لنفسه حدا من الخبرة العملية يسير وفقا له، وكان لديه منذ طفولته ما كان يسميه «الإشارة المقدسة».
وكان ينتابه من آن لآخر شعور يحول دون ما كان يوشك أن يؤديه؛ لأنه - كما قال - ليس من الخير له أن يؤديه، وقد كان في مبدأ الأمر يحس بما تعنيه كلمة «الخير» هذه ولكنه لم يستطع تفسيرها، لا بد أن يكون لها شأن بالسعادة؛ لأنه وجد أنه إذا فعل كما أوحت إليه الإشارة كانت عواقب الأمور جميعها طيبة، ثم عرف أنه يستطيع أن يعتمد عليها، وأن يطيعها دون سؤال، حتى إن لم يدرك لذلك سببا، وجلي أن الإشارة كانت أكثر منه حكمة، وإذن فلا بد أنها هابطة من الآلهة الذين يعرفون كل شيء.
ولم يتحدث سقراط كثيرا عن الإشارة حتى بعد أن صار رجلا، وربما لم يذكرها البتة وهو في عهد الطفولة، فإن الناس ما كانوا ليفهموه آنئذ كما لم يفهموه فيما بعد، لم تكن الإشارة إلها خاصا صغيرا بداخله كما ظن بعض الناس، ولم تكن ضميرا يخبره بما كان قاسيا وما كان رحيما، وما كان صادقا وما كان كاذبا، أحس هذه الفروق كما نحسها، ولكنه لم يذكر قط أن الإشارة بذلك قد خبرته.
وكانت الأعمال التي تمنعه الإشارة من أدائها عادية مما نعمله كل يوم، كالذهاب إلى مكان معين أو الحديث مع شخص بذاته، ولربما ربط الأمر شخصا آخر بالحظ، وجعل منه خرافة، كالامتناع عن الخطو فوق الشقوق أو السير تحت السلم الخشبي، غير أن الطريقة التي استخدم بها سقراط إشارته كانت تختلف عن ذلك كل الاختلاف، فقد اتخذها كمثال بسيط لما لا بد أن يكون قد أحسه قلبه من قبل، إنها تعني - فيما ظن - أن الآلهة كانت تقود إلى طريق الخير، وليس عليه إلا أن يطيع.
كان ذلك أمرا معرفته يسيرة، ولكن سقراط كان إذا عرف شيئا عرفه بكل قلبه؛ ولذا فقد سارت مع الإشارة المقدسة طريقة جديدة بأسرها من طرق التفكير بشأن الآلهة، طريقة لو أخطر بها سقراط أكثر أهل المدينة ما فهموها.
إن الآلهة أولا تعنى بالناس، ولقد عرف سقراط ذلك لأنه أحسه، وهي لم تعن بالملوك أو بأبطال الماضي فحسب، وإنما عنيت به، بسقراط بن سفرونسكس النحات.
ثم كانت الآلهة طيبة كذلك، ولقد عاونته الإشارة على الإيمان بذلك أيضا، كانت فيها كل صفات الخير التي تجدها عند الناس، وهي لم ترد للناس سوى الخير، أما القصص القديمة عن الآلهة التي تكذب وتسرق وتغار وتغضب فقد وضعها رجال هذا هو مدى ما يعلمون، إن الخير هو العلامة الخاصة التي تتميز بها الآلهة، وكل ما لا يتفق وما لديهم من خير فهو من نسج الخيال.
وقد تحدث بهذه الفكرة قوم آخرون في أثينا بعد ذلك بفترة وجيزة، وقالوا لا بد أن يكون صادقا، وكان سقراط على يقين من صدقه، إن الآلهة طيبة، تتطلب الخير ممن يعبدونها أكثر مما تتطلب أي شيء آخر، والدليل على أن الشخص يعتقد في الآلهة هو طاعته لما تتطلبه من الخير، ولم يكن في حياة سقراط ما يجعله يعدل عن إيمانه بذلك بعدما أدركه، وكان لهذا الإيمان أثر في الطريقة التي أدى بها سقراط أعماله.
وهناك تفصيلات أخرى لم يعرفها سقراط ولم يتساءل عنها، لم يعرف أشكال الآلهة أو عددها، وكان يصلي لأي إله يطيب له، ويتحدث عن «الإله» (وربما كان يعني «الآلهة» عامة، فإن اليونانية لا تبين عن ذلك) أو يتحدث عن الآلهة بغير اعتناء، لم يساوره القلق بشأن التماثيل القديمة أو الضحايا أو الشعائر، وإنما كان يستشعر اللذة في تمجيد الآلهة الطيبة بأية وسيلة من الوسائل.
وكان يقوم بكل ما كان مألوفا في مدينته من جميع وسائل التقديس والعبادة المعروفة، إلا أنه كان أكثر تفكيرا في معنى ما كان يقوم به، فقد لحظ أصدقاؤه مثلا أنه لم يحب أن يستعمل باستخفاف اسم أي إله من الآلهة، وإن أراد أن يؤكد قولا فمن المحتمل ألا يقول: «أقسم بزيوس» كما كان يفعل أكثر الناس، وإنما يقول: «أقسم بكلب مصر»؛ لأن إله مصر الذي يحمل رأس الكلب كان عنده وحشا ولم يكن البتة إلها، وإن هو أقسم بالآلهة لم يكتف بأن يهتم بتنفيذ ما وعد، وإنما حاول كذلك أن ييسر لغيره من الناس أن يفوا بما وعدوا.
অজানা পৃষ্ঠা
ومن ثم ترى أن الفرق عند سقراط الذي نشأ عن طريقة إحساسه بالخير وبالآلهة بدأ يطفو على السطح بوسائل صغيرة في طفولته، ووسائل أكبر منها فيما بعد، وأخذ الناس بمرور الزمن يحسون الفرق إحساسا قويا، ويحبونه أو يمقتونه من أجل ذلك، ولكن هذا الفارق كان لا يزال كامنا عنده في سني صباه حينما كان يتعلم مهنته مع غيره من الصبية ، ولم يتوقع أحد من ابن النحات شيئا غير عادي.
الفصل الرابع
المسير الطويل
غربت الشمس خلف الجبال منذ نصف ساعة، وأخذ الظلام يزداد حلكة دقيقة بعد أخرى على المعسكر في الممر الأجوف، وتناول الجند عشاءهم حول النيران، وجاء الحطابون بآخر حمولة من الحطب في ذلك المساء، وخلف النار المتوهجة - قريبا من حافة الغابة - كنت تستطيع أن تستمع إلى تذمر حراس الفترة الأولى، وكان القائد إندوسيديس في ظنهم صارما في فرضه الحراسة الشديدة ذلك المساء، فهم على مسيرة أقل من يومين من أثينا وفوق أرض ميغارا الصديقة، وميغارا كأثينا تقيم فيها حامية أثينية.
وكانت تدور في رأس سقراط هذه الأفكار عينها وهو يستلقي على ردائه إلى جوار النار مع أقريطون وملسياس وجلوكن وأرستون ورفاقه في المخيم، وكانت أول حملة يقوم بها منذ أيام التدريب، وما زال يحس إحساس من يلعب دور الجندية.
ووجه سؤالا إلى أقريطون قائلا: «هل تحسب أن هناك ما يدعو إلى ذلك كله؟ إن الشغب الذي أثارته يوبيا في الشمال لا يكفي وحده سببا لإرسالنا إلى الغرب خلف ميغارا إلى هذا الجحر الجبلي المنكود، وددت لو أن بركليز قد أخذ قبيلتنا معه إلى يوبيا، إذن لاستطعنا أن نقاتل وأن نبلغ بالأمر غايته، إن القائد أندوسيديس قد استقر في هذا المكان كأنه يتوقع أن يلبث هنا شهرا.»
وتمطى أقريطون واسترخى إلى جوار النار وخاطب الآخرين قائلا: «انظروا إلى سقراط عاشق المدينة، لم يغب عن أثينا سوى خمسة أيام حتى جن بالعودة إليها، أما أنا فلست آبه قط، وكنت أزمع أن أهبط إلى المزرعة هذا الأسبوع لكي أعد الكروم للصيف، ولكن الملاحظ سوف يؤدي هذه المهمة خير الأداء، ويبدو أن الصيد سيكون حسنا فوق هذه التلال، هل رأيتم الغزال الذي جاء به ليسكليز إلى خيمته بالأمس؟»
وقال ملسياس: «إنكم لا تعرفون الإسبرطيين قط، إنني لا أستبعد أن يتسللوا خلال هذه الممرات لكي يضربوا أثينا في غيبة بركليز، هذا ما فكر فيه قومنا في المجلس.»
قال سقراط: «هذا إذا كان القوم يفكرون في المجلس.» وضحك الجميع، وطلب الاستماع إلى النكات القديمة في ذلك المساء وبالجو دخان الحطب ورائحة العشاء، وقمر الربيع يعلو في السماء، ودائرة التلال السوداء تجتذب الجماعة إلى الالتفاف سويا حول النار.
وقال أقريطون مفكرا: «انقضت ست سنوات منذ دعيت جماعتنا للتدريب، وكنا آنذاك ثمانية عشر، أفتذكر يا سقراط؟»
অজানা পৃষ্ঠা
وأومأ سقراط قائلا: «نعم أذكر، وأذكر قولنا في القسم: ولن ألطخ بالعار أسلحتي المقدسة، أو أترك في صفوف المعركة الرجل الذي يقف إلى جانبي.» وكان في هذه العبارة يستشهد بقسم الجنود، ثم استمر: «وسوف أقاتل من أجل ما يتعلق بالآلهة والناس سواء كنت وحيدا أو مع كثيرين آخرين، وسوف أخلف موطن آبائي أعظم وأحسن مما وجدته، ولن يكون أسوأ مما كان.»
ثم توقف عن الكلام ثم عاد واشترك معه الآخرون: «وسوف أحسن الإصغاء للقرارات الحكيمة التي يصدرها القضاة وأطيع القوانين القائمة، وما يوضع منها مستقبلا باتفاق الشعب، سوف لا أخضع لأي إنسان ينبذ القوانين أو يعصاها، ولكني سوف أوقفه سواء كنت وحيدا أو مع الآخرين جميعا، وسوف أقدس معابد آبائي، ولتشهد الآلهة على ما أقول!»
وقال أرستون: «أجل، ظننا أننا سنؤدي عملا عظيما في تلك الأيام، وكان ذلك قبل أن يسيرونا نحو الثكنات عند الميناء ونبدأ تدريبنا، كان يسرني أن «ألطخ شرف أسلحتي المقدسة» باستخدامها في أستاذ التدريب الصغير الأحول - ولست أذكر اسمه - قبل أن ننتهي من عامنا الأول.»
وقال أقريطون: «لم يكن الأمر سيئا جدا، فقد ظفرنا على الأقل بمقاعد أمامية في المسرح، وأذكر أن ذلك كان في العام الثاني، حينما كلفنا بالعمل في الحامية، وقضيت الأسابيع المتتالية في تلك القلعة الجبلية الصغيرة عند فايل، محبوسا هناك مع سقراط وأسئلته الخالدة.»
وضحكوا جميعا مرة أخرى، وكان وفاء أقريطون لسقراط معروفا، وكانت رفقة عجيبة كذلك، أقريطون ابن مالك الأرض، الثري، المتأني، الثقيل، العملي، وسقراط النحات الذي كان ... حقا إن أحدا لم يستطع أن يضعه موضعه تماما، ولكنه بالتأكيد لم يكن متأنيا ولا ثقيلا.
ولم يخجل الضحك سقراط ، وقال: «كنت أحاول أن أتعلم شيئا، وكنت أحسب في تلك الأيام أن الحكمة أمر هين، لو قضيت بضع سنوات باحثا عنها وجدتها، ولكن ها أنا ذا بلغت الرابعة والعشرين من عمري، قضيت منها ستا في الجيش، وصار لي حق الانتخاب منذ أربع سنوات، وإنه ليبدو لي أنني الآن أقل علما مما كنت عليه حينما أقسمت يمين الجندية وأنا في العقد الثاني من العمر، وعلى سبيل المثال حين قلت هذه الكلمات: «سوف أخلف موطن آبائي أحسن مما وجدته» حسبت في ذلك الحين أني أدركت معناها كل الإدراك.»
ووخز أقريطون ملسياس بمرفقه منبها إياه، وأما أريستون - وكان أقل الأربعة معرفة بسقراط - فوقع في الفخ، وتساءل قائلا: «حسنا، وما وجه الصعوبة في ذلك؟»
فأجاب سقراط: «هو في تلك الكلمة الصغيرة «أحسن»، إنني كلما أنعمت فيها النظر، تبين لي أنها أكثر حاجة إلى التعريف، ماذا تعني هذه الكلمة في رأيك؟»
فقال أريستون: «الأمر هين جدا، معناها ... أكبر، زيادة في الفن وزيادة في المباني وفي المال وما إلى ذلك.» (وهمس أقريطون لملسياس قائلا: «لقد تورط.») وأجاب سقراط جادا: «دعنا ننظر إذا كنت قد أصبت فهمك، لا بد أنك قد رأيت كليونيمس، إن المرء كثيرا ما يلقاه في السوق في خيام باعة الحلوى.»
فضحك أريستون من الصورة التي في ذهنه عن أضخم شاب في أثينا وقال: «إن المرء لا يسعه إلا أن يراه، فلديه الكثير مما يرى، ولكن ما شأن ذلك؟» - وأفاجون؟ - الظافر في الأولمبياد؟ قطعا. - أيهما أكبر؟ - كليمونيمس طبعا. - وأيهما رياضي «أحسن»؟
অজানা পৃষ্ঠা
وقد أدرك أريستون هزيمته منذ ورد ذكر أفاجون وقال: «ولكن لا ينبغي أن تؤاخذني هكذا حرفيا، لقد عنيت طبعا أن المدينة أحسن إذا كانت أقوى وأقدر على أداء الأشياء، حينما تستطيع أن تؤدي كل ما يعن لها أن تؤديه.»
وقال سقراط معتذرا: «فهمت الآن، إذن دعنا ننظر في هذا كذلك ... ولنبدأ أولا بالسؤال: من ذا تفضل أن يكون زميلا لك، الرجل الشجاع أم الرجل الجبان؟» - الشجاع طبعا. - إذن فالشجاع أحسن من الجبان. - قطعا . - وأين يتميز الشجاع من الجبان؟
فقال أريستون وقد تنبه الآن: «في ساحة الوغى بالتأكيد.» ولكنه لم يستطع أن يدرك إلى أين يؤدي كل ذلك.
وواصل سقراط حديثه قائلا: «أليس في ساحة الوغى كثير من الأشياء التي يستطيع أداءها الجندي عندما يتقدم العدو؟ ألا يستطيع مثلا أن يخر على ركبتيه ويطلب الرأفة، أو يلقي عنه درعه ويعدو في أي اتجاه يشاء؟»
فانفجر أرستون قائلا: «أجل، ولكن الجبان وحده هو الذي يفعل ذلك!»
وقال سقراط: «بالضبط، الجبان وحده، وإذن فكم عملا يؤديه الرجل الشجاع أو يستطيع أن يؤديه باعتباره رجلا شجاعا؟ أليس من الحق أنه لا يستطيع أن يؤدي إلا عملا واحدا، وذلك أن يطيع أوامر ضباطه ويتقدم؟»
فقال أرستون: «حقا.» وقد سار رأسا إلى الفخ، ولم يكن له اتجاه آخر يسير فيه. - إذن فالجبان دون الشجاع في المعركة هو الذي يستطيع أن يؤدي أي عمل يريد.
قال أرستون: «أجل.» - ولكنا قلنا: إن الجبان «أسوأ» والشجاع «أحسن».
فأومأ أستون واعترف بأنه هزم مرة أخرى.
وأنهى سقراط الحديث بقوله: «إذن فإن القدرة على أن «يفعل المرء ما يشاء» ليست دليلا على الحسن، يجب أن نحاول مرة أخرى يا أرستون، فإن هذا المعيار لا يفي!»
অজানা পৃষ্ঠা