56

وخيل إليه أنه يخدع البلاد والدول جميعا عن نياته، وأنه ضمن الاعتراف من الدول سلفا بسياسة الخنوع والرشوة، فجمع من أنحاء الشمال والجنوب مؤتمرا وطنيا يتألف من ألف وتسعمائة وثلاثة وتسعين عضوا وصلوا إلى العاصمة قبل ختام السنة، وسئلوا رأيهم فكانوا جميعا على رأي واحد: وهو تغيير نظام الحكومة وإقامة الملكية الدستورية ومبايعة يوان شي كاي ملكا دستوريا بلقب الإمبراطور.

وانكشف الإخراج المسرحي حين كتب إلى المؤتمر الوطني يرجوه أن يعيد النظر ويعفيه من الإلحاح عليه ويقول له: «إنه ما دام قد أجمع على إقامة الملكية الدستورية فلا محل لاعتراض رئيس الجمهورية على هذا الإجماع، إلا أن ترشيحه هو للملك قد أذهله، وأن السماء لهي التي تخلق الشعوب وتولي الملوك ولا تبديل لما تريد، وإنما يستحق ولايتها من كان على فضيلة نادرة ...»

ثم قال: وإنني أنا الرئيس قد خدمت الدولة ثلاثين سنة وبلوت الغير والصروف وما حصلت على شيء، وقد مضى على قيام الجمهورية سنوات أربع لقيت فيها الصعاب الجمة واقترفت الأخطاء الكثيرة، فكيف وما اتسع الوقت بعد لتصحيح تلك الأخطاء أستحق ذلك الشرف؟

ثم استطرد إلى محاسبة الضمير فتساءل: كيف يستريح من وخزه وهو يفكر في مولاه النازل عن عرشه؟ أو يفكر في قسم الولاء للحكومة الجمهورية؟

ثم قال: إنه لا يقوى على هذه المحنة إلا إذا شفع له فيها وعده بنسيان نفسه والتضحية بكل عزيز عليه فداء لوطنه، وإنه ليرجو مع هذا ألا يلجئه المؤتمر إلى مأزق يأباه ولا يزج بنفسه فيه وهو راض، وأمامه المرشحون للملك يختار منهم من يشاء عداه، وهو من يبايعه ويرضاه.

فلم يمض غير قليل حتى عاوده رسل المؤتمر بسجل طويل سردوا فيه فضائله ومزاياه وعددوا فيه مآثره على البلاد وخدماته للعرش وللجمهورية، وذيلوه بالفتوى التي تحله من حساب ضميره، فقد كان عليه أن يبر بقسمه للجمهورية ما دامت الجمهورية، ولكنها تزول يوم يزيلها الشعب فلا توجد ولا يوجد لها قسم في الرقاب، وإنما المسئول من أزالها لو لم يكن له حق في إزالتها أو إبقائها، ولا نكران لحق الشعب في الحالتين ... فلا شأن «لإمبراطورنا» يوان شي كاي بما قضاه رعاياه.

هذه فصول من المسرحية تلتها فصول أخرى، كلفت الدولة الصينية كما هو واضح جهد الجبابرة لو صح أن يوصف بالجبروت هزل كهذا الهزل ومجون كهذا المجون، ولو أنها كانت مسرحية تمثيل كلفت ممثليها ومخرجيها عشر هذه التكاليف لنجحت أضعاف هذا النجاح، ودام تمثيلها على الأقل بضعة شهور واستعيدت بعد سنوات، ولكنها بعد كل هذا العناء لم تشغل من مسرح السياسة الصينية أكثر من بضعة أسابيع، فإن «الإمبراطور» «على الرغم منه» وضع التاج على رأسه وأسبغ الطيلسان على كتفيه في مطلع السنة (1916) وخلعهما - باختياره - في الثاني والعشرين من شهر مارس مستجيبا هذه المرة أيضا لمشيئة الشعب، وأذاع أنه قانع برئاسة الجمهورية ما دام الشعب ينفر من لقب الإمبراطور.

وبديه إنه لم يلبس التاج والطيلسان مطيعا للشعب ولم يخلعهما لطاعته، وإنما افترى على الشعب أولا وآخرا، وحاول أن يتشبث بالملك ما استطاع ولم يحسبه حسابا لصدق النفوس في الوطنية ولا لخسة المطامع في أمثاله وبين صميم أعوانه، فعصف به خلل الحساب، وما كان له من قدرة يفخر بها غير صواب الحساب.

وما هو إلا أن جلس على عرشه يتقبل التهاني من حاشيته وأذنابه حتى تجاوبت أرجاء الصين بصيحة أعوان سن ياتسن الذين أطلق عليهم اسم الإخوان المتعاهدين: أنقذوا الجمهورية! أنقذوا الوطن، ولم تبال الطوائف الفتية منها أن تخرج للمظاهرة والهتاف بهذا النداء بين سمعه وبصره، وأثبتت التجربة كرة أخرى أن عادات الشعوب الأصيلة أنفع لها وألصق بها من النظم المستعارة، فإن الأحزاب السياسية لم تبلغ من خدمة وطنها في هذه المحنة بعض ما بلغته الجماعات و«الأخوات» التي تعودتها الصين منذ آلاف السنين، وكانت جماعة «الإخوة المتعاقدين» أنشط هذه الجماعات وأقدرها على تلبية الرأي العام وقيادته ونشر الأخبار سرا وجهرة بين جماهيره إلى أقصى أطراف البلاد النائية، وثابرت على نشاطها بعد سقوط الطاغية وذهاب «الإمبراطورية» المغتصبة.

ومن الصدق للتاريخ أن يقال: إن فعل الخيانة في هذه المحنة لم يكن أهون وقعا على يوان وزمرته من فعل الأمانة والنخوة، ولكل شيء آفة من جنسه كما قيل.

অজানা পৃষ্ঠা