إلا أن برامجه تكشف عن غرضه من هذه المطالعات، فإنما كان يتتبعها ويستقصيها ليفهم منها ما يصلح للتطبيق وكيف يكون تطبيقه في بلاده. ولم تكن هذه المطالعات من أجل هذا مصدر ثقافته السياسية دون غيرها، بل جعل وكده أن يمتحن مدارس السياسة وهي تعمل وتضطلع بتبعاتها، فلم ينزل بلدا من بلاد الشرق والغرب إلا اغتنم فرص الفراغ من نشر الدعوة وتنظيم اللجان لدراسة نظامه الحكومي وأدواته العاملة وعلاقته بالمجتمع وسائر طبقاته وهيئاته، وقد شملت رحلاته بلادا متباعدة في الموقع الجغرافي وفي النظم السياسية، من اليابان إلى الولايات المتحدة إلى إنجلترا إلى فرنسا إلى المستعمرات والولايات الخاضعة للدول الأجنبية، ولقي في كل منها زعماء الحكم وزعماء المعارضة وسمع من هؤلاء وهؤلاء ما يقولونه نقدا أو موافقة للنظم المتبعة، فكانت مصادره من هذه الثقافة السياسية زادا وافيا إلى جانب زاده الواقي من المطالعة والمراجعة.
ويشهد له باستقلال الرأي أنك لا ترى انقيادا منه لمدرسة واحدة بين هذه المدارس أو نظام واحد بين هذه النظم، فهي في ذهنه كالمائدة المطهوة يدخلها كل صنف من الأصناف ممتزجا بما يصلحه ويعدل مذاقه كما يعدل مادة الغذاء فيه، ويخطئ من يقول عن الرجل: إنه تلميذ لهذا أو مريد لذاك، فكلهم أساتذته ومعلموه، وهو من أجل ذلك يختار الأستاذ والمعلم كما قال سعد زغلول عن الجامعة الأزهرية حين حضر على أساتذتها ومعلميها.
إلا أن برامجه وتعليقاته تشير إلى المصادر التي كان لها القسط الأوفر من مطالعاته ومراجعاته، ويمكن أن نحصرها في مصادر ثلاثة يؤثرها باهتمامه وتعقيبه وإن لم يذكرها بأسمائها.
فأولها فقه الدستور الإنجليزي، وقد بلغ من إعجابه بتطبيقاته أنه ود زمنا لو تتهيأ للصين حكومة ملكية دستورية على النمط البريطاني، وفي هذه الفكرة أيضا لم يستسلم للقدوة دون العمل، فقد عدل عنها بعد أن راقب أحوال الحاشية الصينية، وأيقن أن تطبيق الملكية المقيدة في بلاده أعسر من تطبيق النظام الجمهوري، وأنه إذا لم يكن بد من التجربة فلتكن تجربة النظام الجمهوري أولى وأحق بالابتداء والانتظار.
والمصدر الثاني الذي كان يبدو من برامج سن ياتسن أنه كان مدمن الاطلاع عليه هو فلسفة كارل ماركس، فقد شغل بها لتفنيدها وتوضيح الفارق بين الأحوال التي راقبها كارل ماركس والأحوال التي تقلبت عليها الصين منذ أقدم عصورها، وأنكر من الفلسفة الماركسية كل شيء إلا الاهتمام بالمسائل الاقتصادية وإعطائها حقها الكامل في تكوين المجتمع ومصاحبة أطواره، فهو لا يقل عن كارل ماركس اهتماما بهذه المسائل، وإنما الخلاف بينه وبين كارل ماركس أنه لا يحصر اهتمامه بها، ولا يغفل عن مثل هذا الاهتمام بغيرها، وأنه لا يعلق نبوءات المستقبل على شئون الاقتصاد دون سواها.
والمصدر الثالث أحق هذه المصادر بالالتفات إليه؛ لأنه أدل المصادر على سعة اطلاع الرجل وحسن استعداده للإفادة من الرأي الصواب حيث وجده، ولو لم يكن صينيا لقلنا: إن سنته الأولى أن يطلب العلم ولو في الصين.
هذا المصدر هو كتاب خامل ألفه بعد الحرب العالمية الكبرى طبيب أسنان روسي من الأسر التي هاجرت إلى أمريكا أيام القيصرية فرارا من مظالمها، ترك اسمه الروسي وتسمى باسم موريس وليام وانخرط في سلك الثوار، ثم في سلك الشيوعيين إلى أن ساوره الشك في التفسير المادي للتاريخ، فألف كتابا بسط فيه شكوكه وانتهى منه إلى تفسير التاريخ من الوجهة الاجتماعية النفسية، بعد أن شرح نقائض القول بحرب الطبقات وتصدع المجتمع الديمقراطي واستحالة الإصلاح بغير هدمه والبناء من جديد على أنقاضه. ولم يطلع على هذا الكتاب عند صدوره غير آحاد معدودين منهم زعيم الصين، وكان يومئذ قد فرغ من إقامة الجمهورية وشرع في تدوين البرامج المفصلة لتنظيم المجتمع الصيني وإصلاح شئونه وترتيب مرافق المعيشة فيه، فكان اعتداده بآراء المؤلف الخامل وهو في أوج شهرته العالمية آية على النزاهة وحب المعرفة حيث وجد السبيل إليها.
ومن النقائض التي أبرزها الطبيب الروسي أن عصر الإقطاع قد زال على رأي ماركس؛ لأن الطبقة الوسطى البرجوازية بلغت غاية الثراء، وأن هذه الطبقة الوسطى تزول على رأيه؛ لأن طبقة العمال ستبلغ غاية الحرمان ولا يبقى لديها ما تفقده غير سلاسلها، ولا يمكن أن يكون هذا تسلسلا لعامل واحد على سنة واحدة، فلم يحدث مثل هذا قط قبل الآن بين الطبقات السابقة والطبقات اللاحقة.
ومنها أن معيشة العمال تتحسن وأن العمل الفردي يزداد خلافا لنبوءة ماركس عن اطراد السوء في معيشة العمال واستحالة التوفيق بينهم وبين أصحاب الأموال.
وقد كان سن ياتسن يلاحظ هذا التناقض قبل صدور كتاب «التفسير الاجتماعي» لمؤلفه الروسي الطبيب؛ ولعله تنبه إليه لما بينهما من زمالة الصناعة وزمالة الاشتغال بالدراسات الاجتماعية والسياسية، فلم ينس ملاحظاته بعد ذلك على كونه لم يستفد منها غير شواهد العرض والتنسيق. •••
অজানা পৃষ্ঠা