فضحكوا معا حتى قال إبراهيم خيرت: ما رأيكم في أنني أتفاءل عند اشتداد الظلمات؟
فقال عيسى لنفسه ليس المعزي كالثاكل. وغادر القهوة حوالي العاشرة مساء وهو يحبك المعطف حول جسمه، ونظر إلى السماء فرأى آلاف النجوم وهي تومض وتنشق في الجو الصافي عبير الشتاء غب المطر، وعكست الأرض المغسولة لونا سنجابيا لامعا، غير أن هواء باردا لفح وجهه في هبات متقطعة منعشة كالدعابات القاسية، وعاوده الإحساس بالغرابة، فمضى يطمئن نفسه بمرتب العامين الكامل ورصيده في البنك المحصل من العمد.
وفي جروبي جلس إلى عبد الحليم باشا شكري والشيخ عبد الستار السلهوبي، الذي كان يهمس بآخر نكتة، وسألاه عن الأخبار بطريقة آلية، وانتظر أن يفاتحه الباشا بنتيجة مسعاه في إيجاد عمل له، ولكن الشيخ السلهوبي سأله متهكما: ألا تزال فرحا بإلغاء المعاهدة؟
فأدرك أن الشيخ قد أصيب حقا بعقدة المعاهدة الملغاة التي يرجع إليها في جميع الأرزاء التي نزلت بهم، وقال عبد الحليم شكري: الأحداث تنقض على زملائنا كالصواعق!
ثم تساءل في قلق: هل يجيء دورنا؟!
وراح عيسى يحتسي الشاي وهو يرمق الوجوه الرائقة بحسن التغذية، وإذا بعبد الحليم شكري يميل نحوه قائلا: كل آت قريب!
فاشتعل باطنه بالغضب، وقال لنفسه: ما من أحد منهم إلا وقد قصده قديما في خدمة قضيت، فما بالهم يتنكرون له؟!
وندت عن حسناء ضحكة بارعة كلحن جنسي وهو يغادر المحل. وفي الطريق دهمته الآلام التي هصرته حال إغلاق التليفون في وجهه فكاد رغم البرد ينصهر، وهو الذي أحبها دون أن تثبت جدارتها بحبه لحظة واحدة، كلاهما قبل صاحبه أول الأمر لمزايا تهمه لا علاقة لها بالحب، ولكنه أحبها بعد ذلك بصدق، أما هي فما أسرع أن أغلقت التليفون، ولعله من حسن الحظ أنه تلقى ضربة القلب وهو فريسة لضربة السياسية، فلم تستأثر به وحدها. وجعل ضيقه بكل شيء يستفحل حتى لم يترك في النفس متسعا لأي قيمة، كيف توهم نفسك بأنك تريد عملا كما توهم الآخرين؟! العمل هو آخر ما تريد، فليعلم ذلك جميع السكارى، وابغ قبل ذلك عشرات الحماقات، واستمتع بنقاهة أطول من الموت، وليكن ما يكون.
11
وجاء حسن ابن عمه لزيارته، وقال عيسى: إن الذي تقبل عليه الدنيا لا يزور أحدا أدبرت عنه، فلماذا جاء؟ وتذكر عمه فثار باطنه وتوثب للتحدي، غير أنه استقبله بترحاب كلفه جهدا جهيدا، ومذ جمعهما المركز شعر برغبة في الاختفاء كمجرم ولكنه أطلق من ذاته المكدودة مرحا مسرحيا ... وتبدت حيوية حسن في أوجها وجرت في ملامحه البارزة الحسنة دماء الثقة والنجاح. لم يعد الناقد الحاقد المغلوب على أمره وعما قليل سيجود بمكارم عطفه! وثمة شعور باطني أثار اهتمام الأم بالزيارة فكفت عن غمغمة التسبيح لتسمع كل كلمة تقال، وسأل حسن - وهو يتمطق أثر حسوة شاي - عن الحال، فأجاب عيسى بضحكة ولم يقل شيئا، فعاد الآخر يسأل مرة أخرى، فقال: ألا ترى أني أعيش كالأعيان؟
অজানা পৃষ্ঠা