وضغطت شفتيها القرمزيتين، ثم قالت وكأنها لم تسمع جوابه: غدا نتبادل المذكرات .. - صباحا .. - إلى اللقاء وشكرا ..
فبادرها: إني سعيد بالتعرف إليك، إلى اللقاء.
لبث واقفا حتى واراها الباب ثم جلس. ولحظ أن البعض كان ينظر مستطلعا نحوه، ولكنه كان ثملا بالسعادة. ترى أكان حديثها استجابة لما بدا من إعجابه بها، أم لحاجتها الملحة إلى مذكراته؟ لم تسنح قبل الساعة فرصة للتعارف. كان يجدها دائما بصحبة الأتراب. هذه أول فرصة، وقد فاز بما تمنى طويلا فيما يشبه المعجزة. إن كلمة من ثغر نحبه خليقة بأن تجعل من كل شيء كلا شيء ..
26
بدا ياسين قلقا رغم إرادته. وكان قد تظاهر طويلا بأنه لا يهمه شيء، لا الدرجة ولا الماهية ولا الحكومة نفسها، لا أمام زملائه الموظفين فحسب ولكن حيال نفسه أيضا: إن الدرجة السادسة - إذا رقي إليها - ستزيد مرتبه جنيهين لا غير! ويا ما ضيع ياسين! ويقولون إنها ستجعل منه رئيس قلم بعد مراجع، ولكن متى كان يكترث ياسين للرياسات؟! بيد أنه كان قلقا، خاصة بعد أن استدعى مدير الإدارة محمد أفندي حسن - زوج زينب أم رضوان - لمقابلة وكيل الوزارة، وذاع بين موظفي المحفوظات أن الوكيل استدعاه ليسمع رأيه في موظفيه للمرة الأخيرة قبل توقيع الكشف الخاص بالترقيات - محمد حسن؟! خليفته اللدود الذي لولا السيد محمد عفت لبطش به من زمن بعيد! أيمكن أن يشهد له هذا الرجل شهادة طيبة؟ وانتهز فرصة خلو حجرة المدير فهرع إلى التليفون، وطلب كلية الحقوق، وكان يتصل بها ذلك اليوم للمرة الثالثة، مستدعيا رضوان ياسين .. - آلو، رضوان؟ أنا والدك. - أهلا وسهلا، كل شيء عال.
كان صوته ينم عن ثقة، الابن واسطة للأب .. - الحركة رهن التوقيع الآن؟ - اطمئن، الوزير نفسه هو الذي وصى بك، كلمه نواب وشيوخ ووعدهم بكل خير. - ألا تحتاج المسألة لتوصية أخيرة؟ - أبدا، الباشا هنأني هذا الصباح كما أخبرتك، اطمئن جدا. - أشكرك يا بني، سلام عليكم. - وعليكم السلام يا بابا، مبارك مقدما ..
ووضع السماعة وغادر الحجرة، فالتقى بإبراهيم أفندي فتح الله - زميله ومنافسه في الدرجة - قادما يحمل بعض الملفات، فتبادلا التحية في تحفظ. وعند ذاك قال ياسين: ليكن بيننا مباراة رياضية يا إبراهيم أفندي، ولنقبل النتيجة أيا كانت بشهامة ..
فقال الرجل في امتعاض: على شرط أن تكون مباراة شريفة! - ماذا تعني؟ - أن يكون الاختيار لوجه الله لا لوساطة! - غريب رأيك! وهل يوجد رزق بدون وساطة في هذه الدنيا؟ اسع كما تشاء وأسعى كما أشاء، وسيأخذ الدرجة صاحب القسمة والنصيب! .. - أنا أقدم منك. - كلانا موظف قديم، سنة لا تقدم ولا تؤخر! - في سنة تولد نفوس وتزهق نفوس .. - تولد تزهق، كل واحد وقسمته .. - والكفاءة؟
فقال ياسين منفعلا: الكفاءة؟ هل نقيم جسورا أو ننشئ محطات كهربائية؟ كفاءة! ماذا يتطلب عملنا الكتابي من كفاءة؟ كلانا بالابتدائية، وفضلا عن ذلك فأنا رجل مثقف ..
فضحك إبراهيم أفندي ضحكة ساخرة، وقال: مثقف؟ أهلا يا سي مثقف! أتظن نفسك مثقفا بالشعر الذي تحفظه. أو بالإنشاء الذي تكتب به خطابات الإدارة كأنك تؤدي امتحان الابتدائية من جديد .. أنا تارك أمري لله ..
অজানা পৃষ্ঠা