فقال كمال: فكرة تقديم عامة تبين الدور الذي لعبته فلسفته في تاريخ الفكر الحديث، وربما ألحقتها بمقالات أخر تفصيلية ..
وكان رياض قلدس يتابع الحديث باهتمام فتساءل وهو يحدج كمال بنظرة لطيفة: تتبعت مقالاتك منذ سنوات، منذ بدأت تكتب عن فلاسفة الإغريق، وهي مقالات متنوعة وأحيانا تكون متناقضة بالقياس إلى ما تعرض من فلسفات، فأدركت أنك مؤرخ، بيد أنني حاولت عبثا أن أهتدي إلى موقفك أنت مما تكتب، وأي فلسفة تنتمي إليها؟
فقال عبد العزيز الأسيوطي: نحن حديثو عهد بالدراسات الفلسفية فيجب أن نبدأ بالعرض العام، ولعل الأستاذ كمال يتمخض فيما بعد عن فلسفة جديدة، ولعلك تكون يا أستاذ رياض من دعاة الكماليزم!
فضحكوا جميعا، وخلع كمال نظارته وراح يجلو ناظريها، وكان سرعان ما يندمج في الحديث خاصة إذا أنس إلى محدثه، وبدا الجو صافيا عذبا. وقال كمال: إني سائح في متحف لا أملك فيه شيئا، مؤرخ فحسب، لا أدري أين أقف ..
فقال رياض قلدس في اهتمام يتزايد: أي في مفترق الطرق. وقفت في ميدانك عهدا قبل أن أعرف وجهتي، ولكني أرجح أنه موقف ذو قصة، لأنه عادة يكون نهاية مرحلة وبدء مرحلة جديدة، ألم تعرف ألوانا من الإيمان قبل موقفك هذا؟
نغمة هذا الحديث تعيد إليه ذكرى أغنية قديمة عالقة جذورها بالقلب، هذا الشاب وهذا الحديث، خلت سنين ناضبة من الصداقة الروحية حتى اعتاد أن يحدث نفسه كلما افتقد من يحدثه، ومنذ عهد بعيد لم يستطع أحد أن يبعث هذا النشاط الروحي في صدره، لا إسماعيل لطيف ولا فؤاد الحمزاوي ولا عشرات المدرسين، هل آن للمكان الذي خلا بذهاب حسين شداد أن يشغل؟! وأعاد وضع النظارة على عينيه وابتسم قائلا: لذلك قصة طبعا، وكالعادة كان لي إيماني الديني، ثم إيماني بالحقيقة .. - أذكر أنك عرضت الفلسفة المادية بحماس يدعو للريبة .. - كان حماسا صادقا ثم لم ألبث أن حركت رأسي مرتابا .. - لعلها الفلسفة العقلية؟ - ثم لم ألبث أن حركت رأسي مرتابا، الفلسفات قصور جميلة هادئة ولكنها لا تصلح للسكنى ..
فقال عبد العزيز باسما: وشهد شاهد من أهلها!
فهز كمال كتفيه استهانة، أما رياض فواصل تحقيقه قائلا: هنالك العلم فلعله نجا من شكك؟ - إنه دنيا مغلقة حيالنا لا نعرف إلا بعض نتائجها القريبة، ثم اطلعت على آراء نخبة من العلماء يرتابون في مطابقة الحقيقة العلمية للحقيقة الواقعية، وآخرين ينوهون بقانون الاحتمال. وغيرهم ممن تراجعوا عن ادعاء الحقيقة المطلقة، فلم ألبث أن حركت رأسي مرتابا!
فابتسم رياض قلدس دون أن ينبس فعاد الآخر يقول: حتى مغامرات الروحية الحديثة وتحضير الأرواح غرقت فيها حتى أذني، ودار رأسي، وما زال يدور في فضاء مخيف، ما الحقيقة؟! ما القيم؟ ما أي شيء؟ إني أحيانا أشعر بتأنيب ضمير لفعل الخير كالذي أشعر به عند الوقوع في الشر!
فضحك عبد العزيز ضحكة عالية، وقال: لقد انتقم الدين منك، هجرته جريا وراء الحقائق العليا فعدت صفر اليدين!
অজানা পৃষ্ঠা