16
في مثل هذه المناطق الحدودية انتشر الكثير من «الزهاد»، مثل إبراهيم بن أدهم، حيث شاركوا في الحروب الحدودية، وجلب لهم ورعهم الديني وزهدهم الشديد النصر في تلك المعارك، وجلب كذلك الشهرة التي ستنقل أسماءهم إلى الأجيال التالية. وعند تناول هؤلاء الزهاد في ضوء واقعهم القاسي في زمنهم، سندرك أنهم كانوا المعادل الإسلامي للمناصرين البيزنطيين الأشداء أتباع القديسين المحاربين المسيحيين، الذين حمت أضرحتهم الجانب الآخر من المناطق الحدودية الإمبراطورية نفسها، أكثر من كونهم مجرد سالكين ساعين إلى الله غير مرتبطين بزمن معين.
17
ونظرا لعمل هؤلاء الزهاد المسلمين المحاربين في هذه المناطق الحدودية الثقافية المتصارع عليها، فقد تأثروا في كتاباتهم السردية وأفعالهم بنظام قيمي متجاوز للعقائد، تشاركوا فيه مع الزهاد المحاربين المسيحيين الموجودين في تلك الفترة.
18
مرة أخرى، إننا ربما لا نركز هنا على مسألة أخذ المسلمين عن المسيحيين بقدر تركيزنا على مسألة وجود ساحة ثقافية ومنطقة جغرافية مشتركتين، تنافس فيهما المسلمون والمسيحيون داخل مجموعة من الأطر المتداخلة، سواء أكانت هذه الأطر سردية أم أخلاقية أم ماورائية.
بطبيعة الحال، لم يكن كل «الزهاد» المسلمين الأوائل محاربين على الحدود، بل على الأرجح قضى كثير منهم وقتا أكبر في التحاور مع المسيحيين بدلا من محاربتهم. لكن ما يتضح عند النظر إلى هذه الشخصيات في ضوء أوقاتهم العصيبة، هو أن الزهاد المسلمين في القرن الثامن لم يكونوا فقط شخصيات أكثر تعقيدا مما كان سيجعلهم الدور الغائي «للمتصوف البدائي»، بل كانوا أيضا شخصيات مميزة على نحو واضح، ولديهم أدوار اجتماعية وأهداف أخلاقية مختلفة تماما عن أدوار وأهداف الأشخاص الذين سيطلق عليهم صوفيون في منتصف القرن التاسع في مدن العراق الأكثر هدوءا، بدلا من المناطق الحدودية في سوريا أو آسيا الوسطى. وكما توضح الكتابات التاريخية اللاحقة للصوفيين أنفسهم، التي سعوا فيها إلى تقديم الزهاد الأوائل باعتبارهم أسلافا لهم، فإن البحث عن نماذج سابقة لهم عادة ما يخبرنا عن السعي إلى اكتساب الشرعية أكثر مما يخبرنا عن العمليات التي من خلالها تشكلت الأفكار والحركات.
19
وبدلا من محاولة تتبع التطورات في إحدى الفترات وفقا لظروفها المختلفة تماما عن الفترات السابقة، دعونا نظل في الفترة والظروف «الأفقية» التي في ظلها اكتسب عدد صغير من المسلمين لقب صوفيين، ونرى ما إذا كنا سنستطيع أن نشرح على نحو أفضل أصولهم في طبقتهم الزمنية بدلا من الطبقات السابقة عليهم. (3) صوفيو العراق (800-900)
في أوائل القرن التاسع، خضع الزهد لجدل موسع بين الدارسين الحضريين الذين تزايدت أهميتهم في المجتمع المسلم أثناء هذه الفترة. وفي تلك الفترة حل محل نموذج المجتمع المسلم القديم الذي يقوده فرد واحد ينتمي إلى آل النبي محمد (أي الخليفة أو الإمام)؛ أفكار جديدة عن السلطة أعطت صياغاتها المختلفة وزنا متفاوتا لكل من العقل والتقوى، ممثلين في الفهم الكامل للنصوص الدينية والقرب الشديد من الله. وكان الفلاسفة المسلمون وعلماء الدين العقلانيون المسمون ب «المعتزلة» - الذين استمدوا ريادتهم من منطلق قراءاتهم في الفلسفة اليونانية الرومانية التي تولي الصدارة للعقل - مؤثرين بنحو خاص في بغداد في القرن التاسع.
অজানা পৃষ্ঠা