ومن أمثلة ذلك كتابات المسيحي العراقي المنتمي للقرن السابع، إسحاق النينوي؛ إذ ساد اعتقاد يرى أن نموذجه الثلاثي المتعلق بارتقاء الروح من خلال سلسلة مجموعات ثلاثية من الأنشطة والفضائل، ظهر مرة أخرى لاحقا في توضيحات الصوفيين لفكرهم.
13
وفي محاولة للخروج من مأزق توثيق أوجه التشابه فحسب والاختيار بين ما كان من قبيل الصدفة وما كان دليلا على الاقتباس المباشر، تزعم طريقة البنيوية التاريخية تلك وجود تكرار لأنماط معقدة بالغة التفاصيل على نحو يحول دون تكرارها دون نقل مباشر. إن أكمل ممارسة على هذا المنوال أجريت على الروايات التي تسرد سيرة رابعة العدوية (المتوفاة عام 801)، تلك الزاهدة المسلمة الشهيرة التي عاشت في البصرة في جنوب العراق، التي يزعم الصوفيون أنها واحدة من أسلافهم، وأوضحت بقدر من النجاح كيف أن الأساطير الإسلامية عن رابعة العدوية اعتمدت على روايات سردية مسيحية أقدم عن غانيات تائبات.
14
إلا أننا حتى لو سلمنا بانتقال صور أفكار معينة، فإنه في نهاية المطاف لن يكون لدينا فهم أكثر وضوحا لطريقة حدوث ذلك، وبالنسبة إلى المؤرخين فإن تلك الحاجة إلى تفسير واضح لطريقة حدوث الأمر تعادل أهمية وجود دليل على حدوثه. وكما هو الحال مع النوع الأقدم من التاريخ الفكري الذي سيطر يوما ما على دراسة الصوفية، فإننا دون فهم العملية تصبح أمامنا نصوص من المفترض أنها مترابطة، لكن دون أن يكون لدينا أي فكرة عن القراء الذين من المفترض أنهم يربطونها معا. وحتى في حالة إمكانية تحديد هذه التشابهات البنيوية المباشرة، فهذا مرة أخرى يمكن تفسيره بعملية على أنه نتيجة لمتخيل رمزي أفقي مشترك - «لغة سيميائية مشتركة» - أكثر من كونه نتيجة للنقل الأحادي الجانب المتمثل في أخذ المسلمين عن المسيحيين.
إذا كانت الدراسات الحديثة لا تقدم صورة واضحة عن أصول الصوفية، فهذا يثير تساؤلا حول ما إذا كانت كتابات الصوفيين عن أنفسهم تقدم صورة أفضل. فمع مرور الزمن أصبح الصوفيون بالتأكيد أكثر اهتماما بماضيهم، وأثناء تكوينهم لتقليدهم قدموا كل أنواع قصص السير المتعلقة بأسلافهم التي تعود للماضي لتربط تعاليمهم بالنبي محمد. وكما سنرى بمزيد من التفصيل فيما يلي، فإن المشكلة تتمثل في أن المصادر الرئيسية التي تتناول هؤلاء الأسلاف يعود تاريخها إلى فترة متأخرة إلى حد كبير عن وقت حياتهم (وفي كثير من الأحيان، تكون قد كتبت بعدهم بعدة قرون). وعلى غرار حالة رابعة العدوية، فإن سير أسلاف الصوفيين المزعومين هؤلاء من أمثال إبراهيم بن أدهم (المتوفى عام 777)، وفضيل بن عياض (المتوفى عام 803)، وبشر بن الحارث (المتوفى عام 841) - الذين ينتمون جميعا لوسط آسيا - وذي النون المصري (المتوفى عام 861)؛ أصبحت واقعة في شرك المجازات والموضوعات المكررة المعتمدة على الموروثات الشعبية قدر اعتمادها على الحقيقة.
15
وكما سنرى في الفصل الثاني عندما نأتي لمناقشة السير التي دونت قصص الحياة المفترضة لهؤلاء الأسلاف، سنجد أن الزعم الذي يقول بوجود سلسلة منظمة من الأسلاف يخبرنا عن الترابط النصي للتراث في القرن الحادي عشر أكثر مما يخبرنا عن حياة وظروف الصوفيين الأوائل، الذين عاشوا قبل ذلك بثلاثمائة عام. وكما رأينا بالفعل، ففي منتصف القرن التاسع لم يكن يوجد بعد تقليد صوفي، ولا حتى حركة متماسكة، بل مجرد مجموعة أشخاص في الغالب مميزين جدا يطلق عليهم صوفيون؛ لذلك، فالمسألة إلى حد كبير ليست وجود أشخاص مثل إبراهيم بن أدهم من عدمهم، ولا معرفة إن كانوا جزءا من اتجاه قديم نحو الزهد أم لا، بل تتمثل المسألة أولا: فيما إذا كان من الممكن اعتبار أنهم كونوا بأية طريقة مجموعة متماسكة عبر هذه المسافات الشاسعة. وثانيا: فيما إذا كان من الممكن اعتبار أنهم كونوا اتجاها أو مسارا ورثه الصوفيون لا قمعوه.
من الناحية التاريخية، إن هذه المشاكل المتعلقة بأصول الصوفية تتضخم من ثم من خلال التأكيد على وجود انتقال رأسي قائم على السبب والتأثير، يقدم وراثة الأفكار على رفضها، وانتقال الحركات على قمعها. بيد أن حقيقة الأمر هي أنه على غرار التاريخ المبكر للمسيحية، فقد كانت القرون الأولى للإسلام فترة منافسة شديدة بين مقدمي نسخ دينية متعارضة جذريا في الغالب ، كانت فيها أنماط الولاء السياسي، والنشاط الاقتصادي، وقواعد السلوك اليومية، والقيود القانونية؛ خاضعة لجدل شديد وعنيف في بعض الأحيان. وبدلا من البحث عن انتقال منظم ومتعدد الأجيال من الزهد إلى التصوف، الذي لطالما ميز دراسة التاريخ المبكر للصوفية، فمن خلال إلقاء النظر على كل طبقة زمنية على حدة يمكننا رؤية الانقطاعات والاختلافات التي تسمح لنا بتقييم ما إذا كان مصير أفكار وأفعال الجيل السابق الاستمرار أم الرفض.
دعونا نتناول حالة «الزهاد» باعتبارها مثالا توضيحيا؛ فبدراسة السير اللاحقة التي كتبها الصوفيون أنفسهم، عادة ما اعتبر المؤرخون «الزهاد» «صوفيين منتظرين»، إلا أننا إذا وضعنا هؤلاء الزهاد في سياق ظروف زمنهم، فإننا يمكن أن نرى كيف أنهم خدموا مقاصد مختلفة للغاية، وسعوا نحو أهداف مختلفة تماما مقارنة بالصوفيين الذين ظهروا في القرون اللاحقة. كان القرن الثامن الذي يمثل أوج انتشار «الزهاد» فترة كان فيها المسلمون لا يزالون أقلية في أراضي إمبراطوريتهم، وجعل توسيع فتوحاتهم المناطق الحدودية مهددة باستمرار بإعادة الغزو.
অজানা পৃষ্ঠা