مفتاح باب الحدث المنسد
هذا ما قاله بشار بن برد في ممدوحه، وهذا ما يصح أن يقال في شهادة البكالوريا، إنها والحق يقال مفتاح باب الثقافة والعمل، وبدونها يظل الطالب واقفا على العتبة يقرع الباب ولا يسمع الجواب، ومتى كانت كذلك فلماذا لا يلح الطالب على نيلها إلحاح الذبان في اليوم القائظ؟
كنا في ذلك الزمان نتعلم لنعرف، أما اليوم فيتعلمون ليأخذوا علما وخبرا بأنهم تعلموا ... أو ليحملوا لقبا علميا لا يدرى علام يدل، ولكن هذه البندقية الفاضية لم تعد تخوف اثنين كما يقول المثل، فحرب الحياة قاسية عوان لا يظفر فيها إلا المدجج بالسلاح الحديث، فنصيحتي الأولى للطالب هي أن يتعلم ليأخذ الشهادة بحقها، فيكون كالجواد الأصيل تؤيد قوائمه الأربع حجته التي في رقبته، فالميدان أصدق حجة وأكبر برهان.
الامتحان مشتق من المحنة، فعلى الطالب أن يتهيأ ويعد العدة لواقعة آخر حزيران، فهي أحمى من وقعة عمورية التي نضجت فيها جلود تسعين ألفا قبل نضج التين والعنب ...! من تأمل الطلاب وآباءهم وأولياءهم ومن يعنيهم أمرهم، رآهم في تلك الساعة يملئون فنادق بيروت يفلتون هذا ويمسكون ذاك يسألون عن الممتحنين ... يقرعون باب الأستاذ مصطفى، وينتقلون إلى باب الأستاذ بولس حاملين في أيديهم وجيوبهم «أبسطة الرحمة»، يستجدون هذا وهذاك العلامات التي يعدونها حجر الزاوية في بناء مستقبل بنيهم، سلمهم الله للعلم والوطن ...!
سمعنا بشحاذة الخبز والمال وغيرهما، أما أن تشحذ المعرفة فهذا كثير، فالذي عندي هو ألا يتكل المرشح إلا على باعه وذراعه، فلا يلجأ إلى التماس المعونة من أحد؛ لأنهم يكذبون عليه، إنه لا يفوز من هؤلاء إلا بكلمة «تكرم» فينام ابنه على صوف، ولا يستيقظ إلا ساعة تعلن النتيجة فإذا بظهره معقور ...
أما سبب السقوط والانهيار الذي يسمونه الرسوب تلطفا فله علل: توسط الآباء في ترقية بنيهم من صف إلى صف من دون أهلية ولا استحقاق، وهذه الجريمة تشترك فيها المدرسة التي تنزل عن قرارها، هذه واحدة. وواحدة أخرى وهي إصرار الآباء على إتمام دروس طالب لا يصلح للعلوم العالية لأن عقله سميك، فلو تضافر الأهل وأولياء المدرسة لما رأينا الممتحنين يتساقطون كأوراق الخريف بعد عاصفة الامتحان. أليس من الخير أن يعطى الطالب غير الكفء المبلغ الذي ينفقه أبوه على تعليمه، فيكون له رأس مال ينصرف به إلى الكفاح في ميادين الحياة المختلفة؟
أليس ذلك أجدى للأب والابن والمدرسة؟ نعم، أجدى أيضا للمدرسة؛ لأنها ترتاح من أمثال هؤلاء الضعفاء الذين يضرون بسواهم، فالتنقية ضرورية جدا بعد الشهادة الابتدائية، فعلى المعلم أن يصدق إدارة المدرسة، وعلى المدرسة أن تخلص النصح للآباء، والرزق على الله ... ولكن هب أننا أقنعنا المدارس، فمن يستطيع أن يقنع أبا أن ابنه لم يوهب ما يؤهله لتحصيل العلوم العالية؟ بل من يجرؤ على التلفظ بهذه الحقيقة أمام أب ولا يصيح: ابني شعلة ذكاء، ما رأيت في حياتي ودهري ولدا أذكى منه. طول بالك يا أستاذ، الولد يسر خاطرك. ويبدأ بالدفاع عن ذلك المحروس وعبقريته، مؤيدا زعمه بحكايات ونوادر عن ابنه منذ أبصر النور حتى الساعة، وكلها بشائر نبوغ وعبقرية ...
والمعلم الذي يزرب في قاعته أربعين خمسين طالبا، فماذا تطلب منه أن يعمل بهؤلاء؟ كيف يستطيع أن يعدهم إعدادا صالحا لتلك الساعة ساعة الامتحان؟
كلما خرجت من المدرسة في تشرين ورأيت كبشا رازحا وأمامه امرأة تحشوه حشو الموز، تلقمه النخالة غصبا عنه لتزيد شحمه ولحمه؛ أتذكر معلم البكالوريا، إنه يفعل مثل هذا بتلاميذه، يريد أن يحشوهم معلومات ونظريات وآراء في الشاعر وعصره وبيئته، لا يغفل عن كلمة قالها صاحب الأغاني وغيره إلا دونها في دفتره وأملاها على تلاميذه، تلك هي الذخيرة التي يزودهم بها لمعمعة حزيران، وما عليهم إلا أن يحفظوها كالماء الجاري ليقابلوا بها الامتحان ويخرجوا من المعركة ظافرين، فما تحين الساعة وتلقى عليهم الأسئلة حتى يستعجلوا الموضوع خابطين به خبط عشواء، يدونون في ورقتهم ما حفظوا عن المتنبي أو البحتري أو الجاحظ مثلا دون أن يصيبوا الغرض، ويا ليتهم يكتبون كتابة لا لحن فيها ولا خطأ، فقلما يخلو سطر من غلط بل قل غلطات! فيتعجب المصحح ويقول في نفسه: أيجوز أن يحمل مثل هذا الطالب شهادة البكالوريا اللبنانية؟! بل قل الشهادة الابتدائية ولا تخف.
فمن أين حصل هذا الضعف الإنشائي؟ سببه أن أستاذ الأدب العربي - حمى الله عصمته - يعتقد أنه غير مسئول عن النحو والصرف، والنحو والصرف ينساهما الطالب إذا لم يذكر، وهنا تضيع الطاسة كما يقولون، يظن المعلم وتلميذه أن بحث الموضوع هو الأهم، وهذا ضلال، فلو نظر الممتحن موضوعا واحدا كتبه تلميذان: طالب أبدع الإبداع كله في بحث الموضوع، ولكنه بتعابير شاع فيها الخطأ، وطغت عليها الركاكة، وطالب آخر يكتب كتابة صحيحة التركيب والتعبير، ولكنه دون ذاك عمقا في البحث، فمن تظنون أنه يقدم، بل من يجب أن يقدم ؟ لا شك في أنه يقدم هذا الأخير؛ لأنه ينشئ كلاما صحيحا فلا خوف عليه في الغد، أما هذاك فببغاء يردد ما أملاه عليه أستاذه حافلا بالأخطاء الصرفية والنحوية.
অজানা পৃষ্ঠা