والجاحظ أحب أن يكون إماما صاحب طريقة، ولكن الطبيعة سدت الطريق لتوجهه إلى الأدب، فكان أديب العرب الأول.
والمتنبي شقي في طلب السعادة فأخفق وأسلس لطبعه قياده، فكان الشاعر الخالد.
وفي سيرة أحمد فارس الشدياق عبرة العبر، فمن فتى ينسخ الكتب إلى معاون للمير حيدر يدون له تاريخه، إلى عطار يكاري على حمار يطوف القرى ليبيع بضاعته من هذا وذاك، إلى صاحب خان على طريق صيدا، إلى فار إلى مصر حيث حرر الوقائع المصرية، إلى مهاجر إلى مالطة ولندن وباريس، ليترجم التوراة ويكتب «الفارياق»، إلى راحل إلى تونس، ليتولى إدارة المعارف فيها، إلى نازل في الآستانة حيث استقر وصار نجي السلطنة ولسان حالها في الجوائب.
هكذا تسيرنا الحياة حتى نؤدي الخدمة التي انتدبتنا لها، فما علينا أن نيأس إذا لم نكن من أول رحلة من الغانمين.
عندما عين فرنكو باشا متصرفا للبنان، زار المدرسة الداودية في عبيه التي أسسها سلفه داود باشا ولا تزال تحمل اسمه، وشاء فرنكو أن يخطب في التلاميذ، فما وجد موضوعا أفيد لهم من مجمل سيرة حياته، قص عليهم كيف ذهب من حلب إلى إسطمبول فتى لا عتاد له، واستخدم عند تاجر يوجهه إلى هنا وهناك في قضاء حاجاته، حتى إذا ما قضاها عاد إلى مساعدة خالد رفيقه في الخدمة، تارة ينظفان الواجهات وحينا ينظمان البضائع ويكنسان المحل.
وشاء فرنكو أن يتعلم مبادئ القراءة والكتابة، فكان يذهب إلى مدرسة ليلية، وبعد حين خرج كاتب من المحل فطلب صاحب المحل من فرنكو أن يحمل رسالة إلى واحد يدعوه التاجر ليكون كاتبا عنده، فقال فرنكو لمعلمه: أنا يا معلمي أكون محله. - أنت يا فرنكو؟! وأين تعلمت؟ من الكناسة إلى مسك الدفاتر! هذا كثير يا فرنكو!
فقال فرنكو: جربني يا سيدي.
فجربه ونجح، وكان كاتبا فاهما غيورا.
أما خالد زميل فرنكو في الكناسة فظل حيث هو، ومات مدير المحل فقدم فرنكو نفسه وحل محله بنجاح.
وظل فرنكو يتعلم، وترقى حتى صار سكرتيرا في وزارة الخارجية، ولما انتهت مدة داود باشا متصرف لبنان الأول أجمعت الدولة والدول السبع على تعيين فرنكو باشا متصرفا للبنان. «وصرت باشا.» هكذا قال فرنكو لتلاميذ المدرسة الداودية في عبيه، «وذهبت لأزور معلمي الأول، وأقترض منه 500 ليرة عثمانية أنفقها على إعداد طقم الوزارة وسيفها وسفري إلى لبنان، فاستقبلني معلمي بالاحترام والمحبة، وجاء رفيقي في الكناسة يظهر لي أشواقه وهو لا يعلم عن مصيري شيئا.
অজানা পৃষ্ঠা