ولا يتنافى هذا التفسير على الإطلاق مع قول اسپينوزا: إن النوع الثالث من المعرفة يتعلق بأشياء فردية - تمييزا له من النوع الثاني الذي يتعلق بأشياء عامة أو كلية؛
17
ذلك لأن السياق في هذه الحالة هو سياق الاستدلال من الأشياء الجزئية على الماهية الكلية للأشياء، أو على الطبيعة الإلهية. وبهذا يكون المقصود من القول إن النوع الثالث من المعرفة يتعلق بالأشياء الفردية هو أنها نوع من الحدس الذي نصل به إلى الماهية الكلية للأشياء عن طريق فهم طبيعة شيء خاص يشارك في هذه الماهية الكلية ويوضحها بوصفه وجها أو مظهرا لها، فإذا فهم الإنسان طبيعة ذهنه - وهو بالقياس إلى الطبيعة في مجموعها شيء فردي جزئي - ففي وسعه أن يفهم ماهية الطبيعة بأسرها، أو الماهية الإلهية، عن طريق إدراكه لاعتماد ماهية الذهن على ماهية الطبيعة. ومثل هذه المعرفة الناشئة عن إدراك الاعتماد التام للماهية الجزئية على الماهية الكلية، تتغلغل في الذهن مباشرة، وتغدو حدسا مباشرا يختلف عن المعرفة الاستدلالية التي تستمد من قضايا عامة، وإن يكن في وسع هذا النوع الأخير (أي النوع الثاني من المعرفة) أن يوصل بطريقته الخاصة إلى النتيجة ذاتها.
وإذن فأوصاف اسپينوزا للمعرفة الحدسية لا تنطوي على أي إقلال من شأن العقل، وإنما هي، إن شئت، تعبير عن طريقة أخرى من طرق استخدام العقل، تختلف عن الطريقة الاستدلالية، وربما كانت هي التعبير عن أبهر إدراك وتبصر يصل إليه العقل حين يعلم أنه يعكس في داخله قوانين الطبيعة في مجموعها، وأن فهمه لذاته يزيد من فهمه للنظام الكلي للأشياء، مثلما أن إدراك انتظام الأشياء في مجموعها هو ذاته توسيع لنطاق العقل ولآفاته. ومهما بدا حديث اسپينوزا عن هذا النوع من المعرفة موحيا باتجاهات صوفية، ولا سيما حين يقرنه بالحديث عن المعرفة الحدسية لله فإنه في معظم الأحوال يتناول هذا الموضوع في سياق لا يكف فيه عن تأكيد أن العقل هو أشرف ما لدى الإنسان، وأن فهم الأشياء هو أسمى غاياته،
18
ومن المحال أن تكون الصوفية (بمعنى تجاوز حدود العقل الذي يعد عاجزا عن تحصيل أرقى أنواع المعرفة) من صفات ذلك الفيلسوف الذي تحفل كتاباته كلها بتمجيد العقل، والذي لم يقبل - كما سنرى فيما بعد - أي تفسير مخالف للعقل حتى في مجال الإيمان ذاته. وإني لأعتقد أنه، إذا كانت لدى اسپينوزا أية نزعة صوفية، فما هي إلا صوفية الروح العلمية، التي لا تقوم على رفض العقل أو حتى على تجاوزه، وإنما تظهر من خلال العقل ذاته حين يمارس قدرته على الفهم إلى أقصى مداها، ويرى نفسه مقتربا من تحقيق هدفه الأسمى في فهم الأشياء. وما أظن أن في العلم، مهما بلغ نهوضه، حقيقة أعظم من إدراك القانونية والنظام في الطبيعة، أو هدفا أسمى من إشعار الذهن بتلك المتعة الرفيعة التي تتملكه كلما أدرك أنه، في نظامه وقانونيته، ليس إلا انعكاس للطبيعة بأسرها. •••
وكما أن إعلاء شأن المعرفة الحدسية عند اسپينوزا لم يكن ناشئا عن وجود نزعة صوفية لديه، فكذلك لم يكن إقلاله من شأن المعرفة الحسية ناشئا عن وجود مثل هذه النزعة لديه؛ فالإقلال من شأن المعرفة الحسية يرتبط في الفلسفة عادة بإنكار وجود العالم الخارجي. وهذه الفكرة الأخيرة تفتح مجالا لجميع النزعات اللاعقلية أو فوق العقلية أو الشكاكة، على أحسن الفروض. أما في حالة اسپينوزا، فلم يظهر أي أثر لهذه الاتجاهات، وكانت فلسفته في المعرفة خالية تماما من جميع أعراض المثالية.
فمن المؤكد أن اسپينوزا لم يكن يشك في وجود العالم الخارجي على الإطلاق، بل لم يثر هذه المسألة أصلا (وهذا في رأينا من أوضح مظاهر الطابع الصحيح - أو بالأحرى «الصحي»، لتفكيره)؛ فإقلاله من أهمية الحواس لم يكن يعني سوى أن دورها في تكوين محتوى الذهن البشري من المعرفة، ولا سيما المعرفة العلمية، أقل أهمية من دور العقل. أما وظيفتها الأصلية المألوفة في إدراك العالم الخارجي بما فيه من أشياء، فتظل قائمة لا تمس.
ولقد كان استبعاد اسپينوزا، منذ البداية، لمشكلة وجود العالم، واعترافه بهذا الوجود دون مناقشة، هو الذي جعل كانت يسميه «توكيديا»
dogmatic ؛ ويعني بذلك أنه كان يعترف، بطريقة «غير نقدية »، بإمكان معرفة العالم الخارجي معرفة كافية.
অজানা পৃষ্ঠা