هذه النظرة إلى الإنسان وانفعالاته على أنه جزء لا يتجزأ من الطبيعة، تسري عليه نفس القوانين التي تسري عليها، جعلت اسپينوزا يعالج الانفعالات على أنها ظواهر طبيعية خالصة، وينزع عنها كل ما كان يعزى إليها - على يد الفلاسفة التقليديين - من أسباب «استثنائية» متعلقة بمجال الإنسان وحده. وهكذا يضع للانفعال في نفس مقدمة الباب الثالث التعريف الآتي: «إن الانفعال الذي يسمى سلبية النفس، هو فكرة مختلطة أو غامضة، يؤكد بها الذهن، بشأن جسمه أو أي جزء منه، قدرة على الوجود
existendi vis
تزيد أو تنقص على ما كان لديه من قبل، ويتحكم وجودها في الذهن على نحو يجعله يفكر في شيء معين بدلا من شيء آخر.» ويزيد اسپينوزا هذا التعريف إيضاحا بعد قليل، فيقول: «أعني بالانفعال ما يطرأ على الجسم من تغييرات تزداد بها القوة الفعالة لهذا الجسم أو تنقص، وتنمى أو تعاق، وكذلك أفكار هذه التغييرات.»
12
مثل هذا التعريف للانفعال يستبعد تماما كل إشارة إلى قيم الخير أو الشر، بل يستبعد كل تفرقة «كيفية» بين انفعال وآخر، ويجعل أساس التمييز بين جميع الانفعالات هو ما يؤدي إليه كل منها من زيادة أو إنقاص قدرة الكائن على حفظ ذاته؛ أي المساعدة على استمراره في الوجود أو الحيلولة دون ذلك. وعلى أساس هذا المبدأ الرئيسي يبنى المذهب الأخلاقي كاملا، دون إدخال أية اعتبارات تقويمية أو كيفية فيه.
ولقد أتى اسپينوزا في الباب الرابع من «الأخلاق» بقائمة طويلة للانفعالات البشرية، معرفة كلها من خلال هذا المبدأ الأساسي: مبدأ زيادة قدرة الإنسان على حفظ ذاته والاستمرار في وجوده أو الإقلال من هذه القدرة. ولهذه القائمة طرافة كبيرة، وهي بلا شك تؤلف جانبا هاما من نظرية اسپينوزا الأخلاقية، وتدل بكل وضوح على أصالة هذه النظرية؛ إذ إن تعريفاتها العلمية الصارمة للانفعالات تختلف تماما عن تعريفات الفلاسفة الأخلاقيين التقليديين بكل ما تضمنته من معان تقويمية وتمييزات كيفية بين الانفعالات؛ فقائمة الانفعالات عند اسپينوزا تمثل المحاولة الوحيدة، في المذاهب الأخلاقية التقليدية، لرد جميع انفعالات الإنسان إلى أصل واحد ترتبط فيه طبيعة الإنسان بطبيعة كل كائن حي آخر، ولا ينظر إليها على أنها تحتل في الكون مركز «دولة داخل الدولة».
ومع ذلك، فرغم ما لهذه القائمة من أهمية في هذا الصدد، فلن نتحدث عن محتوياتها بالتفصيل، إذ إن هذه المحتويات يمكن أن تقرأ مباشرة، دون عناء كبير، في كتابات اسپينوزا ذاته.
13
وهي على أية حال لا تترك مجالا كبيرا للشارح؛ إذ إنها واضحة - نسبيا - بالقياس إلى كثير من الأجزاء الأخرى لفلسفته. ولما كنا في هذا البحث أحرص على عرض المبادئ العامة في فلسفة اسپينوزا منا على خوض تفاصيلها، فسوف نكتفي باختيار بضعة أمثلة لطريقة معالجته لمختلف الانفعالات من خلال مبدئه الرئيسي الذي أشرنا إليه من قبل.
فاسپينوزا يمهد لتعريف اللذة والألم بالقضية التالية: «إن كل ما يزيد أو ينقص، ويساعد أو يعوق القوة الفعالة في جسمنا، تزيد فكرته أو تنقص، وتساعد أو تعوق القدرة الفكرية في ذهننا.»
অজানা পৃষ্ঠা