21
ومثل هذا الرأي في العلاقة بين العقل والإيمان أدى بكثير من شراح اسپينوزا إلى الاعتقاد بأنه قد جعل التفكير الفلسفي والإيمان الديني متساويين، كل في ميدانه الخاص، وأنه دافع عنهما بنفس القوة. فقال «بروشار» مثلا: «إن أحدا لم يدافع عن حقوق العقل بمثل هذه القوة، وإن أحدا لم يتحدث عن الإيمان بمثل هذا الاحترام. فإذا كان يعد شكاكا
incrédule
لأنه يرى الوحي غير كاف، فإنه شكاك يؤمن بالوحي، وروحه دينية بعمق.»
22
وعلى هذا النحو نفسه فهم «برنشڨك» تفكير اسپينوزا على أنه محاولة للتوفيق بين الفلسفة - كما تتمثل لدى ديكارت - وبين الإيمان كما يتمثل في المسيحية: «فالغاية التي استهدفها هي تنقية ديكارت وتنقية الدين؛ أي تنقية ديكارت باستبعاد العنصر اللاعقلي اللامنهجي من مذهبه ... وتنقية الدين ... بالتشبه بالمسيح الذي جاء ليضع حدا لكل العبادات المتحجرة؛ لأنه لا يرى الدين إلا روحيا فحسب؛ فالمهمة التي أراد اسپينوزا إنجازها هي أن يضم في وحدة روحية جامعة ديكارت الحقيقي والمسيح الحقيقي.»
23
وفي موضع آخر يعلق برنشڨك على الجزء الأول من النص الذي اقتبساه عن اسپينوزا في بداية هذا القسم فيقول: «هذه هي الفكرة الأخيرة التي انتهى إليها اسپينوزا من دراسته للدين المنزل بالوحي؛ فقد برر الكتاب المقدس وأكد قداسته، وبرر العقل وأكد قداسته، دون أن يجعل سلطة الأول تنال من استقلال الثاني.»
24
مثل هذا التفسير لموقف اسپينوزا من مشكلة العلاقة بين العقل والإيمان يغفل، في رأينا، أهم أوجه هذا الموقف، حقا إنه يرتكز على بعض نصوص مستمدة من كتاب اسپينوزا نفسه، ولكن هذه النصوص، إذا ما وضعت في سياقها الحقيقي، تكتسب في واقع الأمر دلالة مختلفة كل الاختلاف؛ فالتفسير الذي يبدو لأول وهلة لهذه النصوص هو أن اسپينوزا فصل بين مجالي العقل والوحي لكي يحفظ لكل منهما حقوقه إزاء الآخر، ولكن الواقع هو أن هدفه الحقيقي، المستمد من ظروف عصره، كان إبعاد سلطة رجال الدين عن كل الأمور المتعلقة بالمعرفة، وهي الأمور التي كانوا يدعون لأنفسهم سلطة كاملة فيها، ويتدخلون فيها على أساس أن لهم الكلمة الأخيرة حتى في هذا المجال ذاته؛ ففي العصر الذي تكون سلطة رجال الدين فيه هي الغالبة، تتخذ الدعوة إلى فصل العقل عن الوحي دلالة مختلفة كل الاختلاف؛ إذ يصبح الوجه الذي يدافع فيها عن العقل أقوى من الوجه الذي يدافع عن الوحي بكثير، ولو ظهرت مثل هذه الدعوة في القرن العشرين مثلا، حيث يكتسح العقل كل مجالات المعرفة البشرية، لأصبحت دلالتها عكس الدلالة السابقة؛ أي لأصبحت دفاعا عن الوحي أكثر منها دفاعا عن العقل. وبعبارة أخرى: فتفسير الدعوة إلى فصل العقل عن الوحي ينبغي أن يستمد من ظروف كل عصر ، وأن يعد دفاعا عن الجانب «الأضعف» نسبيا منهما في ذلك العصر. ولما كان عصر اسپينوزا، رغم حرية الفكر النسبية فيه، قد ظل يتضمن كثيرا من عناصر التعصب الديني المتخلف عن العصور الوسطى، وكانت كلمة رجال الدين فيه، رغم كل شيء، هي الغالبة، بينما يضطر أصحاب النزعات الثائرة فيه إلى التعبير عن آرائهم بطريقة حذرة مستترة، فلا بد أن يكون الاتجاه الحقيقي لفكرته هذه دفاعا عن العقل أكثر منه دفاعا عن الوحي.
অজানা পৃষ্ঠা