تنهدت المرأة: حكم ربنا. الرجل بقى في ربع حاله.
قالت الحاجة: ربنا معه يا نبوية؛ يشفيه ويشفي جميع المسلمين!
بكت المرأة وقالت: ما عاد إلا منه، من ثلاثة أيام وهو يطالع في الروح. الحاجة نادت على زينب. قالت لها سلمي على أمك. البنت وقفت قدامها لا عرفت سلام ولا كلام. يا بنت سلمي على أمك. أمي يا ماما؟! - خليها عندكم يومين يا نبوية. - بس أبوها يشوفها وترجع على طول يا حاجة. - خليها لغاية ما تعلميها. - أعلمها بعدك يا حاجة؟ - ولو تميز أمها وأبوها، بدل ما طول النهار يا بابا ويا ماما. - بابا وماما في عينيك قليلة الحياء. قدامي يا بنت!
البنت راحت مع أمها على العزبة. مشت في الوحل، وأكلت العيش والملح، وعاشت في وسط البهائم والفلاحين. وفي أول ليلة باتت مع أبيها على السرير؛ السرير الأسود أبو عمدان. وأبوها طول الليل يقول آه يا جنبي، آه يا ظهري، آه يا غلبك يا محمد. وفي عز الليل تقوم مفزوعة من النوم وتنادي عليه وتسقيه. حاضر يا آبه، أنا جنبك يا آبه، عاوز حاجة يا آبه. ولما طلع السر الإلهي، والشيخ علي لتم عينيه، وشاله في الطشت وغسله مع بقية الناس؛ عرفت أنه أبوها. ولما صوتت أمها وعددت عليه، والرجال جاءوا وشالوا النعش على أكتافهم؛ صرخت مع أمها وقالت هاتولي أبويه؛ عرفت أكثر وأكثر. ولما جاءت النسوان وطبطبوا على ظهرها، وقالوا لها البركة فيك، وربنا قادر على كل شيء؛ عرفت أنها محتاجة لأمها وأمها محتاجة إليها.
وتمر الأيام والمأتم ينفض، وهذا حال الدنيا، وتعود زينب مع أمها إلى بيت الحاج. طول السكة وأمها توصيها، طول السكة وهي تهز رأسها وتضغط على يد أمها. ياما تعبت من الشيل والحط والخبيز والعجين. ياما انجرحت وتشققت وشفت المر. - سميرة تقولي لها يا ست سميرة. - لكنني سألعب معها يا أمي، أليس كذلك؟ - الحاجة إذا نادت عليك في حاجة أو محتاجة تقولي لها يا ستي الحاجة. والحاج ربنا يرزقه بطول العمر ولا يحرمنا منه تكوني تحت يديه ورجليه. نعم يا سيدي الحاج، حاضر يا سيدي الحاج.
فتحت لهما الحاجة الباب، فظهر وجهها الهادئ المستدير يتلفع في شال أبيض نقي. الله يسلم عمرك يا ستي الحاجة. زينب تقدمت هي الأخرى وباست يد الحاجة، ورفعتها على جبينها كما فعلت أمها، وخفضت عينيها إلى الأرض، وعندما رن في أذنيها صوت سميرة تنادي عليها وكانت تلعب على السلالم الرخامية، تهلل وجهها عن ابتسامة واسعة، وجرت نحوها في سرعة الريح وهي تهتف: حاضر يا ستي.
القزم
زينب لا تحول عينيها عنه منذ وضعوه في حجرة الصالون. كلما حانت لها فرصة تسللت على أطراف قدميها الحافيتين، والنوم يكبس عليها، ودماغها يلف من التعب ويدور، وجسدها الصغير ينتفض من الخوف. فتوارب الباب، وتتطلع فيه بعينيها المملوءتين بالدهشة، وينفتح فمها من نفسه حتى يظهر ضبها، وتكاد تموت على نفسها من الضحك، لولا أنها تضع يديها على فمها؛ خشية أن يسمعها سيدها الذي يعلو شخيره، أو تقلق ستها ذات الوجه الكشر، أو تفزع سيدها كمال وستها سميرة فتصبح ليتلها أسود من وجهها.
كان يقف هناك فوق المائدة الرخامية التي تتوسط الحجرة، على يمينه مطفأة سجائر من البرونز الذي انطفأت لمعته، وعن شماله تمثال صغير لنفرتيتي، انكسر أنفها، وتلطخ وجهها الأبيض النحيل ورقبتها الطويلة المسحوبة ببقع حمراء غامقة، كأنها جربانة لا تتوقف عن الهرش فيهما. هناك يقف منفوش الصدر، ممدود الذراعين إلى الأمام، رأسه الصغير يملؤه شعر أسود مجعد يسقط على أذنيه المدفوستين في جانبي وجهه، وأنفه ضئيلة مدببة ومشدودة إلى أعلى، ولسانه الأحمر الصغير طالع من فمه الضيق المستهتر، وفي عينيه نظرة ولد عفريت يحب أن يعبث بخلق الله، وعلى جانبي فمه وفوق جبينه تجعدات شيخ عجوز طيب مسامح. أما وجاهته فهي الأخرى تغيظ وتجنن، وكأنه نسي تماما أنه قزم مفعوص لا هنا ولا هناك، فلبس سترة زاهية مخططة بخطوط حمراء، تحتها قميص أبيض منقوش وضع في رقبته كرافتة طويلة على آخر مودة، مع أنه على بعضه لا يزيد طوله عن عقلة الإصبع، وسروالا أسود فخما كالذي يلبسه السفرجية أو الدبلوماسيون العظام، حتى حذاؤه - وهو لا يزيد عن حجم الحمصة - لامع ومحبوك ومربوط بعناية.
كان يوما له العجب عندما أخرجته ستها سميرة من حقيبتها وقالت: هدية من المدرسة يا ماما. كانت جاءت إلى البلد لتمضي الإجازة في الريف، وكان مدفوسا بين الكتب والبيجامات والفانلات، راضيا بحاله وكافيا خيره شره. ولم يكد يخرج من الحقيبة وتراه أمها حتى صاحت وهي تحمله على يدها وتتجه إلى حجرة زوجها: شف يا عبد العال، عامل رجل بحق وحقيق. لأ والمصيبة له نفس يطلع لسانه! يا أخي جاءتك مصيبة، كفاية إنك لابس كرافتة وردنجوت وعامل في نفسك ما لا يعمل! وانتقل القزم من يد إلى يد؛ كل واحد يأخذه على راحته، ويضربه بالقلم، ويحاول أن يشد لسانه وهو يقف أمام الجميع منفوش الصدر، مزهوا بنفسه ولا أبطال المصارعة، مخرجا طرف لسانه الأحمر المدبب لكل من يضحك عليه، فاتحا عينيه المستديرتين كفقاعتين لامعتين تفيضان بالنجوى والحنان والسخرية والطيبة.
অজানা পৃষ্ঠা