أحقا أنني لن أراه أبدا؟!
1954م
مذكرات يمليخا
هل أروي لكم ما حدث لي في ذلك اليوم؟
لست أدري إن كانت ستهمكم حياتي القصيرة، التي قالوا لي فيما بعد لفرط دهشتي إنها أطول من حياة خمسة رجال يموتون على أحسن الفروض بعد سن الستين؛ فقد تعودت خلالها ألا يهتم بي أحد، اللهم إلا غنمي القليلة وكلبي العزيز قطمير، هذا إذا تكرمتم علي واعترفتم بأن نظراتهم الودودة يمكن أن تعد نوعا من الاهتمام. أنا على أية حال سوف أحكي لكم ما جرى لي في ذلك اليوم، أو سيحكيه لكم إنسان مجهول لا أعرفه على لساني، وكل ما أطمع فيه هو القليل من وقتكم، وإن شئتم أيضا من صبركم وتسامحكم.
في ذلك اليوم صحوت كعادتي في كل صباح، فأحسست أن عظام ظهري وجنبي تؤلمني أكثر من أي يوم مضى. لم أكترث لذلك كثيرا، بل لم أحاول أن أفتح عيني؛ لأنني كنت أعلم سلفا أنهما لن تريا شيئا في ظلام الكهف الذي اعتدت أن آوي إليه كلما جن الليل. وعندما تحسست وجهي بكفي - من قبيل الاطمئنان لا غير - لاحظت أن شعر ذقني قد طال أكثر من اللازم، وأنني في حاجة إلى أن أذهب إلى الحلاق في أقرب وقت، وإن كنت أحسب حساب زيارته لما تكلفني من مال لا طاقة لي به، ومن صبر على الجلوس أمامه كأنني قرد مسلسل بالقيود، وثرثرته التي لا تنتهي في كل شيء لا تعنيني، وكل شيء كان في ذلك الحين لا يعنيني.
المهم أنني كنت قد صحوت من نومي - وهذه نعمة من الآلهة أن يصحو الإنسان كل صباح ويتمكن من تحريك عضلاته بغير مشقة - ومددت يدي على الفور في جيبي لأطمئن إلى وجود الورقة المالية التي أعطاها لي زميلاي الجديدان في الكهف - سأحدثكم عنهما بعد قليل فأرجوكم أن تصبروا - كانت السماء تمطر في الخارج فلم أستبشر كثيرا لذلك؛ إذ كنت أعلم أن سقوط المطر معناه أن غنمي التي ربطتها كما أفعل كل ليلة قبل أن آوي إلى الكهف قد ابتلت، وأن بعضها لا شك قد أصابه البرد والسعال، ولكنني لم أجد الغنم في مكانها الذي تركتها فيه، ورحت أبحث عنها في كل مكان، ودرت حول الكهف أكثر من مرة، وجريت إلى المراعي المجاورة، ولكنني لم أعثر لها على أثر، بل لم أجد حتى آثار أقدامها على الأرض. حزنت بالطبع لفقد غنمي، وهي كل ما أملك من متاع الدنيا، وعزوت ذلك إلى كثرة قطاع الطرق الذين كان عددهم يزداد في مدينتنا أفسوس، خصوصا بعد المجاعة التي كانت قد انتشرت فيها، والفوضى التي كانت قد جعلت الواحد منا لا يطمئن على نفسه أن يخطفوه في عز النهار. المهم أنني حاولت أن أعزي نفسي وأقول لها إنني ربما وجدتها ترعى عند جار لي، أو ربما عوضتني عنها السماء بقطيع آخر أو حتى بالنسيان. وساعدني على ذلك أنني التفت ورائي فوجدت كلبي قطمير يرفع رأسه إلي في حنان عظيم بما يرجع لشدة جوعه، ويهز ذيله ويجري نحوي فيتشمم رجلي ويعلقهما بطرف لسانه ويجري أمامي (ولا بد لي أن أقول هنا إنه كان يبذل مجهودا كبيرا ليقنعني بأنه ما زال قادرا على الجري، حتى ظننت أن عظام ظهره أيضا تؤلمه كما تؤلمني).
لم أكد أسير خطوات في طريقي إلى السوق لأشتري طعاما لي ولصاحبي المترفين في الكهف عددا من الأرغفة، وشيئا من الجبن والخضر، والفاكهة إن بقي من الورقة المالية شيء، حتى لاحظت أن فارسا مهيبا كان يمر بي يقع بجواده فجأة، ويدير رأسه نحوي، ويفتح عينيه دهشة، ويصرخ مفزوعا ثم يطلق لجواده العنان. أقول لكم الحق إنني تعجبت بيني وبين نفسي لمسلكه، وإن كنت قد حمدت السماء أنه لم يكلمني، ولم يكتشف في مشيتي شيئا يؤاخذني عليه؛ فقد كنت دائما سيئ الظن بالفرسان أتجنب طريقهم، وأتلافى التحدث معهم، وأتقي غضبهم المفاجئ وسيوفهم اللامعة وأقدامهم التي تتلذذ دائما بركل الرعاة من أمثالنا. وهززت رأسي تعجبا وسرورا وأنا أتابع سحابة الغبار التي تثيرها حوافر الجواد الأصيل وهو ينهب الأرض نهبا. ومضيت في طريقي أحاول أن أتقي المطر بوضع طرف ردائي على رأسي، والدندنة بلحن كنت أستعذب غناءه خصوصا؛ إذ عرفتم أنني أنا الذي ألفت أنغامه وكلماته التي لا شك أنها كانت سخيفة وعبيطة ككل شيء كنت أفعله. وتذكرت زميلي تلك الليلة في الكهف. كنت قد قابلتهما في اليوم السابق بينما كنت أحاول أن أجمع غنمي المشتتة قبل أن تغرب الشمس. كانا يسيران، لا، بل يجريان في خوف وكأن هناك أحدا يتربص بهما، وكان منظرهما يوحي بأنهما يبحثان عن ملجأ يسترهما، وكانت ملابسهما تنطق بأنهما قائدان عظيمان، أو حارسان من حراس قصر الملك، أو وزيران من وزرائه كما علمت فيما بعد. اقتربا مني وقال أحدهما، وكان نحيلا طويلا واسع العينين سمح الوجه، عصبيا يتحسس وجهه بيديه، ويتلفت وراءه مذعورا في كل لحظة: أيها الراعي الصالح (لم أدر لأي سبب وصفاني بالصلاح مع أن الجميع، وأنا أولهم، كانوا يشهدون لي بالعبط)، هل تعرف مكانا نأوي إليه؟ قلت وأنا ما زلت أنادي على غنمي وأداري خوفي منهما: ليس في هذه الحقول مكان يليق بكما أيها القائدان العظيمان. قال الرجل الآخر الذي كان يبدو أكبر من صاحبه سنا، كما كان أقصر قواما وأميل إلى السمنة والاعتدال في حركاته وكلماته: أي مكان في الأرض يرضينا أيها الراعي الصالح، ما دامت كلها أرض الله، المهم أن يسترنا عن عدو الله. قلت في غباء شديد لم يكونا يعرفانه بعد عني: وما دام هو عدو الله فما شأنكما به؟ لاحظت ابتسامة متسامحة على وجوههما، وقال الرجل الطويل النحيل في وقار لم أكن أتصور أنه يمكن أن يصدر عنه: إن عدو الله هو عدونا أيضا، فنحن الاثنان نؤمن بالله أيها الراعي الصالح، وسوف تؤمن أنت أيضا به إذا عرفته، ولكن عدو الله وعدونا دقيانوس (وهنا تذكرت أنني سمعت هذا الاسم من قبل) يريد أن يمسك بنا وينتقم منا. وتدخل الرجل السمين المتوسط القامة، فقال في صوت متزن: وأن يفعل بنا مثل ما فعله بإخواننا من الشهداء الصالحين. تساءلت وأنا نفسي مندهش من جهلي: وماذا فعل بهم؟ فأجابا في صوت واحد غاضب حتى خشيت أن أكون قد ارتكبت ما يوجب الموت علي: ألم تدر بعد بما فعله؟ لقد ذبح المؤمنين، وقطع أجسادهم، وعلقها على أعمدة عالية حول سور المدينة، ألم تسمع بذلك ؟
قلت كاذبا لأنجو من عيونهما المدهوشة التي تكاد تفتك بي: «طبعا علمت، ولكنني لم أكن أعلم أنكما من أعدائه.» ثم أضفت لكي أنهي الحديث الذي لن أستطيع المساهمة فيه: على كل حال أنا أبيت في هذا الكهف (وهنا أشرت إليه كأنني أعتذر)، إن شئتما أقمتما فيه الليلة معي. وأردت أن أكمل اعتذاري لهما، ولكنهما سارعا إلى الدخول وهما يهتفان في سعادة الأطفال: جازاك الله خيرا أيها الراعي الصالح! لتحل عليك بركة السماء. ثم تمتما بكلام غريب وهما يجريان نحو الكهف ويتلفتان حولهما؛ مما جعلني أطمئن إلى أنني لست العبيط الوحيد في هذه الدنيا، كما كنت دائما أقول لنفسي.
وعندما دخلت من باب الكهف، بعد أن ربطت غنمي وجمعت لها ما يكفي عشان الليلة، سمعتهما يتكلمان، توقفا عن الكلام فجأة وساد عليهما الصمت والظلام والعنكبوت الذي يسود عادة في الكهوف، وانزويت وحدي في ركني المعهود، وبسط قطمير ذراعيه أمامي، وخيل إلي أنني سمعت شخيرهم هم الثلاثة قبل أن أغفو تماما.
অজানা পৃষ্ঠা