وهذه النعم هدايا من الله للعبد، وهل يليق بالعبد عدم قبول هدية السيد؟ هذا غير لائق في محاسن العادات، ولا في مجاري الشرع، بل قصد المهدي أن تقبل هديته، وهدية الله إلى العبد ما أنعم به عليه، فليقبل، ثم ليشكر له عليها.
والخلاصة؛ إنَّ المال لا بدَّ أن يكون خادمًا لأصل ضروري أو حاجي أو تكميلي، ويراعى إمساكه وتحصيله من جهة ما هو خادم له، فيكون مطلوبًا ومحبوبًا فعله، وذلك أن التمتع بما أحل الله ﷿ من المأكل والمشرب ونحوهما: مباح في نفسه، وإباحته بمفرداته المتعددة، خادمة لأصل ضروري، وهو إقامة الحياة (١)، فهو معتبر ومحبوب بالنسبة إلى حقيقته الكلية، لا إلى اعتباره الجزئي، ومن هنا يصح كونه هدية يليق فيها القبول دون الرد، لا من حيث هو جزئي معين.
أما إن عاد المال لنقض أصلٍ من أصول الشرع، والاعتداء على المقاصد الكلية، بالاعتداء على العرض، أو العقل، أو البدن، أو النسل، أو الدين؛ فهذا هو المذموم، ويسمى أخذه: رغبة في الدنيا، وحبًا في العاجلة، وضده هو الزهد فيها، وهو تركها من هذه الجهة، ولا شك أن ذلك مطلوب.
ولذا فالفصل في المسألة: أن ذم المال بإطلاق لا يستقيم، كما أن مدحه بإطلاق لا يستقيم، يوضّحه: مسألة الحجر على السفيه، الذي يضع المال في غير موضعه (٢)،
ومسألة النفقات وأحكامها، فالقاعد عن العمل معرض نفسه للمسألة،
_________
= وعذاب. أخرجه البخاري (٤٩٣٩) ومسلم (٢٨٧٦) من حديث عائشة، وإلا؛ لم تكن النعم خالصة للمؤمنين يوم القيامة، وإليه يرجع قوله -تعالى-: ﴿فَلَنَسْأَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْأَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ﴾ [الأعراف: ٦] . أعني: سؤال المرسلين. ويحققه أحوال السلف، كما سيأتي التنويه عليه.
(١) قال ابن حزم في «الأخلاق والسير» (ص ١٧٥- ط. عبد الحق):
«ينبغي للكريم أن يصون جسمه بماله، ويصون نفسه بجسمه، ويصُونَ عرضه بنفسه، ويصون دينه بعرضه، ولا يصون بدينه شيئًا أصلًا» . فلله درُّه ما أدقّه! وأبعد غوره وفهمه!
(٢) من بديع ما يذكر في هذا الباب: ما قاله ابن حزم في «المحلى» (١٠/١٠٠):
«فإضاعة المال حرام، وإثم وعدوان بلا خلاف» . وقال عن إهمال (إصلاح المال): =
1 / 11