إنه لحدث تأريخي مغير ، وهزة حضارية عنيفة ، فماذا يتوقع من قريش ، وما هو موقفها ، أو رد فعلها تجاه ذلك الحدث العظيم ؟
لقد كان رسول الله (ص) يدرك طبيعة مجتمعه ، والقوى الطاغوتية المتسلطة عليه ، ويعلم أن هذا الزلزال التأريخي الهائل سيهز الطواغيت ، ويثير كبرياءهم وعدوانهم .
وإذن فليس بوسعه أن يجاهر بتلك الدعوة ، ويدعو إلى تحطيم الوثنية والخرافة ، وتسلط الطواغيت ، وإنقاذ المستضعفين والمحرومين بصورة علنية .
إنه سيجابه وسيواجه بكل وسائل الرفض والمقاومة والعدوان ، وله فيمن سبقه من النبيين والمرسلين لعبرة وموعظة ، فقد جوبهت دعواتهم بالرفض والعناد ، وجندت قوى الطاغوت كل إمكاناتها لمحاربة رسالات الانبياء ودعوات الاصلاح التي تواجهها ، فقتلوا النبيين ودعاة التوحيد ، وعذبوهم وأخرجوهم من ديارهم ، وسخروا منهم ، وشنوا الحرب الدعائية ضدهم .
لذا كان لا بد للرسول (ص) وهو الداعية الحكيم أن يلجأ إلى (السرية والكتمان) لحفظ الدعوة ، ولتقوى بنيتها ، ويتكامل المؤمنون عدديا وفكريا ونفسيا ، بعيدا عن عيون الطواغيت .
إن رواية عمرو بن عبسة السلمي الآنفة الذكر تفيد أن النبي (ص) كان معروفا بدعوته في الوقت الذي لم يتبعه فيه غير اولئك الثلاثة الرواد .
إلا أن السرية والكتمان ، كما يظهر من فحوى الرواية ودلالتها ، كانت متركزة في أصحاب رسول الله (ص) وفي ممارساتهم للعبادة وقراءة القرآن، وفي التحرك والنشاط الذي يقومون به وسط المجتمع .
فقد ذكر المؤرخون أن رسول الله (ص) كان يختار أصحابه فردا فردا، ولم يوجه دعوته إلى الجميع في تلك المرحلة ، ليكون كتلة قوية قادرة على حمل الدعوة ومواجهة الطغاة بصورة سرية ، وكانوا يتكتمون ولا يعلنون إسلامهم ، ويمارسون صلاتهم بصورة سرية ، بعيدا عن الانظار والعيون .
পৃষ্ঠা ৪৩