زعم بعض مؤرخي الإفرنج أن العدو استولى في هذه المرة على كل مدافع الجيش العثماني، والحقيقة خلاف ذلك، فإن التواريخ العثمانية ما ذكرت من هذا شيئا ولا عرضت به أثناء الحديث، مما يدلنا على أن هذه الرواية مختلقة، فضلا عن أن الفاتح كان لا يتمكن من الوقوف في وجه عدوه، وهو جيش عرمرم خاض غمار الحروب ويخضب بالدماء، يرأسه قرم عنيد كجان هونياد بعد اضطراب حبل جيشه لو صح أن المدافع ضبطت منه.
ما لنا وذلك، ولنرجع إلى الفاتح، فإنه لما رأى صعوبة العمل وإخفاق المسعى أشفق على النفوس البشرية التي خلقها الله في أحسن تقويم، وقرر إقامة استحكامات في المراكز الضرورية ليسقط أهمية بلغراد الحربية ويوشحها بنطاق من الجند العثماني، ويأمن بذلك غائلة المجريين الذين يأوون إليها المرة بعد الأخرى ويقفون في سبيله.
وأرسل عيسى بك نجل حسن بك والي ويدين لشن الغارة على بلاد المجر نفسها، فرجع أبناؤها إلى بلادهم ليحموا حماها، وعلى هذا الوجه أفلح الفاتح في تطهير البلاد منهم، وعاد إلى أدرنة وباشر بإقامة الأفراح لختان صغار الأمراء، مظهرا عدم اكتراثه من رجعته إلى بلغراد التي كان يعتبرها قضاء إلهيا وقدرا مقدورا، والغريب أن خوف الأعداء من رجوع السلطان غير ظافر كان أشد وقعا وأعظم تأثيرا من شهرة انتصاراته السالفة؛ لأن البابا كان أرسل عشر سفن وبعض قرصان البحر المسيحيين أربعين سفينة للعبث بالأمن في الأرخبيل وحث أهل الجزر على الانتقاض، وكادت أن تقوم قيامتهم لولا رجوع الفاتح عن حصار بلغراد، فسقط في يدهم وذهبت ريحهم، وأوفدوا السفراء خاصة يطلبون تجديد الصلح بشروط مهينة لهم، وفوق ذلك فإن حاكم البغدان التي هي أقرب البلاد للمجر بادر إلى إعطاء الجزية، وأثبت أنه يقدر الفاتح حق قدره ويخشى بأسه، وبعد انقضاء الأفراح والولائم أخذ السلطان يستعد لإعادة الكرة على سربيا تشفيا، وبينا هو في ذلك جاء للديوان رجل بصفة مدع قائلا: «إنني تاجر رحالة أتنقل في بلاد المورة، وقد راعني ما رأيته من مظالم حكومتها وجورها علينا نحن المسلمين، فكل الأحزاب التي تتولى زمام الأحكام هناك تجعل ديدنها الحيف بنا، والخسف علينا إرضاء للرأي العام والعنصر الغالب، فأطلب إلى السلطان بالأصالة عن نفسي وبالنيابة عن مواطني، وبينهم الأيامى واليتامى أن يرمقنا بنظرة حنان ويحمي ذمارنا.»
أصاخ الفاتح لهذه الشكوى المرة، وكانت تعلو وجهه أمائر الانفعال وعلائم الحزن، حتى إنه لم يتمالك عن التململ والبكاء طويلا، وأمر في نفس الجلسة بإعلان الحرب على المورة، ولم يخش شدة الأمطار المتواصلة والأنواء المتتابعة في موسم الشتاء وبارح إستانبول قاصدا الجزر، وفوق ذلك ما أهمل مسألة سربيا أو أمهلها، بل بقي مصرا على فكره ثابتا في عزمه بشأنها، وجند جيشا كبيرا تحت قيادة وزيره الأعظم محمود باشا للقيام بتلك المهمة التي سلبت راحته وشغلت باله منذ أزمان.
اشتغل الفاتح زهاء ستة شهور بالحصار، واستولى على أهم القلاع وعاد إلى أسكوب حيث يقضي أيام الزمهرير بها، وهناك وافاه وزيره محمود باشا الذي ناب منابه وسد غيبته في جهات سربيا، وضبط كل القلاع التي يرمي إليها ما عدا سمندرة، وأرسل رواده ومستكشفيه إلى بلاد المجر ليحتلوها.
وقد انتشرت أخبار هذا النجاح ودارت على الألسن والشفاه، فاضطر المجريون المتحالفون مع السرب والمجبورون للوفاء بعهدهم على التزام السكينة، والاقتصار على إرسال بعض روادهم.
وعلم حاكم بوسنة بنية السلطان من جهة سمندرة، واعتقد أنه مغلوب لا محالة، فسلم مقاليد القلعة عن رضاء نفس وطيبة خاطر، وكفى نفسه وبلاده مئونة الحرب وعناء الكفاح، ثم انتقض الجنويون وقاموا يطالبون بغلطة، وقد سبق لنا البيان بأنها سلمت على أثر فتح القسطنطينية ولجأت إلى كنف الدولة العادل، فرأى الفاتح في ثنيات هذا الطلب تعرضا ظاهرا وعملا مهينا له، فرده ردا جميلا.
أما الجنويون فإنهم أشهروا الحرب وأرسلوا أسطولهم من أماصره ليناوئ السفن العثمانية الراسية في البحر الأسود، فاضطر الفاتح للتفرغ إلى هذا العمل، وعقد هدنة مع إسكندر بك الذي ظهر واستفحل أمره في ألبانيا إلى أجل محدود وأيام معدودات، وزحف توا على الساحل، وما كاد يصل إلى أماصره إلا وقد سلمت له رهبة من جيشه وأسطوله قبل أن يصليها نارا حامية ويجعلها قاعا صفصفا.
هذا من جهة، أما من الثانية فإن محمود باشا اختلس فرصة وجوده في جهات الأناضول، وعرض بلزوم اختبار ولاء إسماعيل بك الإسفندياري حاكم قسطموني وسينوب، أو بالحري مناصبته العداء، ولا ندري إذا كان هذا العمل هو خدمة خالصة لوجه السلطان وخير البلاد من الوزير أو توددا وتزلفا إلى صديقه قزل أحمد أخي إسماعيل المذكور، ولما كان السلطان يود من كل فؤاده استئصال جرثومة ملوك الطوائف وقطع دابرهم من شبه جزيرة الأناضول والروملي تقبل هذا الطلب قبولا حسنا وأحله محل الاعتبار، وكان إسماعيل بك رجلا بعيد النظر دقيق الفكر، فلم تغرب عنه نوايا السلطان وآمال محمود باشا من حيث مودته لأخيه قزل أحمد، وزاده احترازا وخشية كتمان أمر هذه التجريدة وتحصن بادئ بدء في سنيوب، ولكنه لم يطل جفاؤه ويظل على عدائه لما رأى الأسطول والجنود قد حاقت به من كل صوب وحدب، وبادر لتسليم القلعة ليثبت ولاءه قولا وفعلا.
قابل الفاتح جنوح إسماعيل بك إلى السلم بالاستحسان، وكاد أن يبقي على حكومته لولا اضطراره إلى رفعها من طريق دولته جرا لمغنم ودفعا لمغرم، فدعاه إلى ديوانه وحاسنه بلطيف الرقة ورقيق اللطف، وأقطعه مقاطعة يكي شهر التي هي أعظم موارد وأعذب مناهل من إيالة الإسفندياري، وعاد بعد تجشمه مشاق السفر مدة شهر أو شهرين غانما ظافرا؛ لأنه أمن شر عدو قوي في سواحل البحر الأسود، وقضى على طائفة من ملوك الطوائف.
অজানা পৃষ্ঠা