Silsilat Al-Adab - Al-Munjid
سلسلة الآداب - المنجد
জনগুলি
آداب الاستئذان
إن الله جل وعلا كما أنه حفظ الدماء وصانها من السفك والهدر والضياع، حفظ الأعراض وجعل لها حرمة وصيانة، وقد ذكر الله ﷿ في كتابه آدابًا وأخلاقًا تحفظ الناس من النظر إلى أعراض المؤمنين، ولذلك ذكرها الشيخ حفظه الله في هذه المحاضرة، فبدأ بأهمية الاستئذان وثماره المترتبة عليه، ثم ذكر غالب آداب الاستئذان، ومتى يجب الاستئذان، ومتى يسقط؛ مستدلًا بآيات من كتاب الله، وأحاديث من سنة رسول الله ﷺ.
1 / 1
الاستئذان وأهميته في الشرع
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله ولي الصالحين، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله الأمين صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين.
وبعد: فحديثنا في هذه الليلة عن أدبٍ آخر من الآداب، وهو أدب الاستئذان، هذا الأدب العظيم الذي جاءت به هذه الشريعة المباركة، وكلها خيرٌ وبرٌ وإحسان ونفعٌ للمسلمين في كل أحوالهم، العلم والإعلام، وأذان من الله ورسوله، أي: إعلام، وأذن للشخص أي: أباح له ذلك، واستأذن: طلب الإذن، والسين والتاء تفيد الطلب، فالعلم والإعلام والإباحة والأنس والنداء معانٍ للاستئذان تتضمنه.
وأما بالنسبة للاصطلاح فإن الاستئذان: هو التماس الإذن تأدبًا خشية الاطلاع على العورة، وهو أيضًا: استباحة المحظور على وجه مشروع، وهو أيضًا: طلب في الدخول لمحلٍ لا يملكه المستأذن، هذا كله استئذان.
ولا شك أن هذه الشريعة التي تريد سعادة المجتمع، وأن يكون مجتمع إيمان وبرٍ وتقوى، ويتبين فيه خصائص هذه الأمة التي قال الله فيها: ﴿كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ﴾ [آل عمران:١١٠] لا شك أن هذا الأدب يبين رغبة الشريعة في هذه الرفعة والمكانة، والإنسان صاحب غرائز وشهوات وميول ورغبات، والله ﷾ يعلم ذلك، وحينما حرم الزنا حرم دواعيه من النظر والخلوة والتبرج وكل ما يؤدي إليه، ومن المعلوم خطورة النظر في المجتمع الإسلامي، وإنه إذا أطلق يؤدي إلى الوقوع في المحرمات، ولذلك كان شأنه خطيرًا، فنزلت أحكام الاستئذان لمعالجة قضايا البصر، وهو -أي الاستئذان- أدبٌ رفيع يحمي حرمة البيوت ويحافظ عليها وأي حرمة أعظم من أن جعل المصطفى ﷺ العين التي تنظر بغير استئذانٍ عينًا مهدرةً لا دية لها، فقال ﷺ: (لو أن امرءًا اطلع عليك بغير إذن؛ فحذفته بحصاة ففقأت عينه، لم يكن عليك جناح) رواه البخاري.
فلما أخبر النبي ﵊ أن رجلًا ينظر بفتحة الباب، وكان في يده مدراة يصلح بها شعره لها حد، فأخبر الرجل أنه لو علم أنه ينظر إليه لأدخلها من الباب ففقأ عينه، ولذلك نص العلماء على أن الذي ينظر من شق الباب على شخصٍ في بيته وملكه بغير إذنٍ فأدخل صاحب البيت شيئًا في الثقب ففقأ عين الناظر أنها عينٌ مهدرة لا دية فيها.
كل ذلك من أجل حرمة البيوت، والشريعة تريد حماية حرمة البيوت، وتريد أن يكون المجتمع نظيفًا والناس يعيشون في عفة، وتمنع الاطلاع على العورات، فهذه العورات محفوظة في الشريعة، وليست فقط عورة البدن، بل كل ما يمكن أن يكون عورة، فللطعام عورة، وللأثاث عورة، وللباس عورة، وللبدن عورة، والإنسان يحب أن يطلع عليه الناس وهو في حالة تجمل متهيئًا لنظرهم، ولذلك فإن الناس لا يريدون أن يطلع شخصٌ على بيوتهم وهي على غير ترتيب، ولذلك إذا استأذن شخصٌ على إنسان في بيته وفي غرفته وهي ليست مرتبة سارع إلى ترتيبها، ففي الاستئذان مراعاة لمشاعر الناس الذين لا يريدون إظهار أشياء ليس من المناسب أن يطلع عليه الآخرون، وربما يكون في البيت بقايا طعام، ربما يكون إنسان فرغ لتوه من طعامه، ولا يريد من الشخص الغريب أن يدخل عليه وفي بيته بقايا طعام مثلًا، فالاستئذان يفيد؛ فيرفع بقايا الطعام قبل أن يدخل الضيف، إذ ليس من المستحسن عنده أن يدخل عليه ضيفٌ فيرى البقايا أو أوساخ أو أشياء غير مرتبة، أو يرى في ثوب نوم أو بقميص داخلي ولو كان ساترًا للعورة، لكن الإنسان لا يحب أن يراه غيره في هذه الحالة، ولذلك الاستئذان فيه مراعاة لمشاعر الناس، بالإضافة إلى قضية ألا يطلع أحد على العورة وألا تثار الشهوة، وألا تقوم الفتنة، وألا يقع الزنا.
ولذلك نلاحظ أن آية الاستئذان جاءت بعد الزجر عن الزنا والقذف، فلما ذكر الزجر عن الزنا والقذف في سورة النور ذكر الاستئذان والزجر عن دخول البيت بغير استئذان؛ لأنه ربما أدى إلى وقوع أحد المحظورين، ولذلك فإن أدب الاستئذان يؤدي إلى قطع ألسنة السوء من مظنة الريبة، وربما يصادف الإنسان حال خروجه رب الدار، وليس فيها إلا امرأته فتذهب به الظنون كل مذهب، وربما أدى ذلك إلى خراب البيت وإلحاق الأطفال بحال اليتم والضياع.
وقد أباح الله للمماليك والصغار الطواف في البيوت بغير استئذان لحاجة أهليهم وأسيادهم إلا في الأوقات الثلاثة التي جاء النص عليها وهي: ما قبل الفجر ووقت الظهر، وبعد العشاء، فلا يجوز لأي إنسان الدخول في هذه الأوقات إلا بإذن حتى لو كانوا داخل البيوت من الخدم أو الإماء والعبيد أو الأطفال الصغار، وذلك لأن هذه الأوقات الثلاثة يأوي فيها الرجال إلى نسائهم وأزواجهم وتنزع فيها الثياب، ولذلك جعل الدخول محظورًا لكي لا تقع الأنظار على عورات الأهل من الأبوين، وهذا أدب يغفل عنه الناس، ويتساهلون في دخول الخدم عليهم ودخول الأطفال الصغار، وربما أدى ذلك إلى أن يرى الطفل أشياء تبقى في مخيلته أو في ذهنه وهو في صغره، وربما أدى ذلك إلى أضرار في كبره.
1 / 2
تفسير آية الاستئذان العام
أما بالنسبة للاستئذان العام فقد قال الله ﷾: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ * فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فِيهَا أَحَدًا فَلا تَدْخُلُوهَا حَتَّى يُؤْذَنَ لَكُمْ وَإِنْ قِيلَ لَكُمُ ارْجِعُوا فَارْجِعُوا هُوَ أَزْكَى لَكُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ * لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ مَسْكُونَةٍ فِيهَا مَتَاعٌ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا تَكْتُمُونَ﴾ [النور:٢٧ - ٢٩].
فهذه أول آية من آيات الاستئذان، وهي آية الاستئذان العام التي أدب الله بها عباده المؤمنين، كان الرجل في الجاهلية إذا لقي أخاه لا يسلم عليه، بل يقول له: حييت صباحًا، وحييت مساءً ونحو ذلك، فأبدلهم الله خيرًا من ذلك تحية أهل الإسلام، أنفع الخير والثناء وهي دعاء صالح وطيب، وهذا النهي في الآية وهو قوله: (لا تدخلوا) للتحريم، فمعنى ذلك: أن الدخول لا يجوز إلا بإذن؛ لما في ذلك من الاطلاع على العورات والتصرف في ملك الغير بغير إذن، وهذا نوعٌ من الغصب.
1 / 3
قوله تعالى: (لا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا)
وقوله ﷾: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا﴾ [النور:٢٧] معنى ذلك: أن الإنسان يدخل بيته متى ما شاء، وقد يسكن ملكه ويسكن في غير ملكه، فليست الإضافة هنا اختصاص الملك، فلو أنك استأجرت بيتًا، فهل يدخل في قوله تعالى: «بيوتكم»؟ نعم.
فهو بيت لك سواء استأجرته أو كان ملكًا لك، فتدخل فيها في أي وقتٍ ما دام بيتك، وقوله سبحانه: «تَسْتَأْنِسُوا» الاستئناس: من آنس شيئًا إذا أبصره ظاهرًا أو مكشوفًا أو إذا علمه، وهذا الاستكشاف: هو العلم يكون بالاستئذان، وقد يكون الاستئناس ضد الاستيحاش، لأن الذي يقرع باب غيره لا يدري أيؤذن له أم لا؟ فهو كالمستوحش من خفاء الحال عليه، فإذا أذن له زالت الوحشة، وكذلك فإن الاستئناس يفيد الاستئذان وزيادة: (تستأنسوا) ليس فقط معناها: تستأذنوا، فهي أعلى من الاستئذان، حتى تستشعروا أنس أهل البيت بكم، ففيها إشارة لطيفة إلى أن الزائر لا ينبغي أن يدخل إذا تبين له من حال صاحب البيت أنه لا يرغب في دخوله ولو صرح لك بالإذن، فإن بعض الناس يأذنون لكن على كره ومضض، فلما قال الله: ﴿حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا﴾ [النور:٢٧] عرفنا أن المسألة لابد أن يكون فيها أنس وليس مجرد الإذن؛ لأنه قد يحرج، فبعض الناس إذا استأذنت عليه يتردد يقول: تفضل ولكن لم تخرج من نفسٍ طيبة، فإذا كان كذلك لا تدخل لأن الله قال: (حتى تستأنسوا) فيحصل الأنس، فإذا أحسست أنه لم يحصل أنسٌ فلا تدخل.
وحتى في مسألة أخذ المال، ما أخذ على وجه الحياء فهو حرام وإن كان أعطاك وسلمك بيده، لَكنْ فيه إحراج، وقع عليه الأمر وقعًا شديدًا لا يملك إلا أن يأذن مرغمًا، فهذا لا يدل على أنه خرج بطيب نفسٍ منه: ﴿ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ﴾ [النور:٢٧]-أي: الاستئناس- أو التسليم خير من أن تدخلوا بغتةً.
1 / 4
قوله تعالى: (فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فِيهَا أَحَدًا فَلا تَدْخُلُوهَا)
قوله تعالى: ﴿فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فِيهَا أَحَدًا فَلا تَدْخُلُوهَا حَتَّى يُؤْذَنَ لَكُمْ﴾ [النور:٢٨] أي: إذا لم تجدوا أحدًا من الآذنين يأذن لكم فاصبروا ولا تدخلوا إن لم تجدوا أحدًا من أهلها ولكم فيها حاجة فلا تدخلوا إلا بإذن أهلها؛ لأن الاستئذان من أجل البيت وساكنه: ﴿وَإِنْ قِيلَ لَكُمُ ارْجِعُوا﴾ [النور:٢٨] أي: لم يجيبوكم في الدخول، بل ردوكم أو قال: ارجع الآن أو ليس الوقت مناسبًا، لو طرق باب واحد وقال لك: يا أخي ليس الوقت مناسبًا، أنا غير متهيئ لاستقبالك، أي عبارة من العبارات التي تعني (ارجعوا): ﴿وَإِنْ قِيلَ لَكُمُ ارْجِعُوا فَارْجِعُوا هُوَ أَزْكَى لَكُمْ﴾ [النور:٢٨] وبعض الناس الآن لو قيل لهم: ارجعوا لثارت ثائرتهم، ووقعت الخصومة بينه وبين صاحب البيت، وهاجوا وماجوا وقالوا: لا نأتيك ولا نكلمك، كيف تقول ارجع؟ بعض الناس يكبر عليه أن يقال له: ارجع، يكبر عليه جدًا، والله يقول: ﴿وَإِنْ قِيلَ لَكُمُ ارْجِعُوا فَارْجِعُوا﴾ [النور:٢٨] فلماذا تستكبر عن شيءٍ ذكره الله وأرشد إليه؟ والذي يقال له: ارجع فيغضب ويزبد ويرغي ويقاطع صاحب البيت فلا يرجع، هذا إنسان متكبر يرى أن مقامه فوق الآية: ﴿وَإِنْ قِيلَ لَكُمُ ارْجِعُوا فَارْجِعُوا هُوَ أَزْكَى لَكُمْ﴾ [النور:٢٨] وأطهر من إلحاحكم وأحسن من الوقوف في الباب، وخيرٌ من الإصرار على الدخول، إن قيل لك ارجع فارجع ولا تلح ولا تصر، فتضمنت الآية الرجوع في حالتين: في حالة عدم الإذن الصريح كأن يقال: لا تدخل لا أسمح لك بالدخول، ارجع.
وكذلك في حالة عدم الإذن الظني كأن لا يكون في البيت أحد أو سكتوا، افرض أنك طرقت الباب فسكتوا، أنت سمعت أصواتًا وصياحًا داخل البيت، طرقت الباب سكتوا، واصلت الطرق لم يتكلم أحد، هذه معناها: ارجع؛ لأنه لم يأذن.
قال الله تعالى: ﴿وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ﴾ [النور:٢٨] فيدخل في علمه ﷾، أنه يعلم من يدخل بإذن ومن يدخل بغير إذن، فيجازي كلًا بعمله.
كان بعض السلف يفرح إذا قيل له: ارجع من دينه وتقواه؛ لأنه تحقق شيء في الآية فينصرف مستبشرًا بالخيرية التي ذكرها الله، يريد أن يقال: ارجع؛ لأن الله يقول: «خيرٌ لكم» فصار من أهل الخير والخيرية في هذه الآية، وهذا الحكم في البيوت المسكونة سواء فيها متاع للإنسان أو لا، وفي البيوت غير المسكونة التي لا متاع فيها للإنسان.
1 / 5
قوله تعالى: (لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ)
وأما البيوت التي ليس فيها أهل وفيها متاع للإنسان المحتاج للدخول فقد قال الله تعالى: ﴿لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ مَسْكُونَةٍ فِيهَا مَتَاعٌ لَكُمْ﴾ [النور:٢٩] فليس عليكم إثم ولا حرج أن تدخلوا بغير استئذان في هذه النوعية من البيوت، وهذه البيوت الغير مسكونة التي فيها متاع لكم للعلماء فيها أقوال.
فلعل ما يتضح به المقصود إن شاء الله أن نضرب مثالًا: بيوت على الطريق يأوي إليها الناس لابن السبيل، فنادق وفيها غرف ودكاكين وحوانيت في الشارع، كل هذه تدخل في قوله: ﴿لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ مَسْكُونَةٍ فِيهَا مَتَاعٌ لَكُمْ﴾ [النور:٢٩] فمثلًا: استأجرت غرفة في فندق أو تريد أن تدخل محلًا في الشارع، كدكان، أو بيت في الطريق مبني لابن السبيل يدخل يستظل فيه وينام، وهو مفتوح لأي واحد يدخل، فهذه لا تحتاج إلى استئذان فقد يكون المتاع: الاستظلال، وقد يكون المتاع: أن تشتري حاجة، وقد يكون المتاع أغراضًا وضعتها في غرفة الفندق، فلا يحتاج أن تستأذن عند الدخول في غرفتك في الفندق، ولا يحتاج أن تستأذن عند دخول دكان في الشارع يبيع، ولا يحتاج أن تستأذن في مبنى في الطريق مهيأ لاستقبال المسافرين أو جعل لابن السبيل يأوي إليه، فإن بعض الناس يقيمون على طرق السفر أو أماكن مظللة مثلًا لاستراحة المسافرين بدون أجرة بابًا مفتوحًا بالمجان، فليس هناك من حرج في دخولها، وليس من الضرورة أن يكون فيها متاع يعني: فيها جهاز أو فيها عفش وما شابه ذلك، بل يدخل فيها ما سوى ذلك من الحاجات، بل لو أن إنسانًا يريد أن يدخل خربة ليقضي حاجته من بولٍ أو غائط فلا يحتاج أن يستأذن في دخول هذه الخربة، فإن ذلك من المتاع الذي يقصده بالدخول.
فإذًا: مثل هذه الأشياء لا حرج من الدخول فيها.
وهذا الاستئذان العام.
1 / 6
آية الاستئذان الخاص
أما الاستئذان الخاص فهو الاستئذان داخل البيت، ذاك استئذان لدخول البيت، وهذا استئذان داخل البيت وهو المذكور في قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنْكُمْ ثَلاثَ مَرَّاتٍ مِنْ قَبْلِ صَلاةِ الْفَجْرِ وَحِينَ تَضَعُونَ ثِيَابَكُمْ مِنَ الظَّهِيرَةِ وَمِنْ بَعْدِ صَلاةِ الْعِشَاءِ ثَلاثُ عَوْرَاتٍ لَكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ وَلا عَلَيْهِمْ جُنَاحٌ بَعْدَهُنَّ طَوَّافُونَ عَلَيْكُمْ بَعْضُكُمْ عَلَى بَعْضٍ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآياتِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ * وَإِذَا بَلَغَ الْأَطْفَالُ مِنْكُمُ الْحُلُمَ فَلْيَسْتَأْذِنُوا كَمَا اسْتَأْذَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ﴾ [النور:٥٨ - ٥٩] هذه الآية عامة للرجال وللنساء وإن كانت بصيغة المذكر، لكن يدخل فيها النساء؛ لأن صيغة التذكير هنا من باب التغليب ليس إلا، وإلا فالنساء يدخلن في ذلك؛ لأن النساء من باب حفظ العورة أشد من الرجال، فإذا ثبت الحكم في الرجال فالنساء من باب أولى، وقوله: ﴿الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ﴾ [النور:٥٨] سواءً كانوا بالغين أو غير بالغين.
﴿وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنْكُمْ﴾ [النور:٥٨] هؤلاء الأحرار، وليس المراد الذين لم يظهروا على عورات النساء؛ لأن الذي لم يبلغ الحلم قد يعرف أحوال النساء فيميز المرأة الجميلة من المرأة القبيحة، وله التفات إلى النساء وإلى ملابس النساء وزينتهن ويصف النساء، فقوله: ﴿وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنْكُمْ﴾ [النور:٥٨] أي: الأحرار غير البالغين، وليس خاصًا بالذين لم يظهروا على عورات النساء، بل المراد الذين عرفوا أمر النساء لكن ما بلغوا الحلم، أما ابن السنتين ونحوها ليس من الذين يظهرون على عورات النساء، ولا يميز المرأة الجميلة من المرأة القبيحة أو يصف ويهتم بشئون النساء وله ميلٌ إلى ذلك.
وهذه الأوقات الثلاثة التي ذكرها الله ﷾ هي أوقات الخلوة والتصرف التي يمكن أن يأتي فيها الإنسان أهله في العادة، فالله ﷿ يعلم أن الاستئذان الخاص مثلًا: استئذان الخدم أو الإماء أو الأطفال على الأبوين مثلًا، كل وقت يشق فجعله واجبًا في هذه الأوقات الثلاثة؛ لأنه يوجد مشقة، لأجل الطواف بالخدمة، وقضاء الأشغال والحوائج، فإذا كانت كلما تريد أن تتحرك من مكان إلى مكان تستأذن سيكون هناك مشقة، لكن جعل هناك أوقات معينة ليس فيها دخول إلا باستئذان، وهي مظنة خلع الثياب ومظنة إتيان الرجل أهله واستراحته وقيلولته ونومه، وكانوا في الحر يخلع الرجل إزاره ورداءه، فربما تعرى فينكشف فيطلع غير المستأذن على شيء غير مناسبٍ على الإطلاق.
وقوله ﷿: (ليستأذنكم) يدل على أنه ينبغي أن نربي أولادنا على هذا الأدب، يجب أن يربى الأطفال على عدم اقتحام غرفة نوم الأبوين إلا بإذن، ويربى الأولاد ألا يدخل الواحد على غرفة الآخر إلا بإذن، فقد يغير ثيابه بعد استحمام أو لأجل الخروج من البيت ونحو ذلك، ولما استغرب أحد الناس قال لـ ابن عمر: [أستأذن على أمي؟ قال: أتريد أن تراها عارية؟] فربما أنها تبدل ثيابها، فلابد أن يستأذن استئذانًا خاصًا حتى في الدخول على الأم، وبالذات غرف البنات، ينبغي تعليم من يدخل الاستئذان قبل أن يدخل، هذا أدب إسلامي حصل فيه تفريط أو إخلال يؤدي إلى كوارث.
1 / 7
الاستئذان عند الانصراف إذا كان في اجتماع
وهناك استئذان آخر عند الانصراف، يكون الإنسان في بيته شخص زائر مثلًا أو في مكان اجتماع، أما إذا كان في مكان اجتماع فيه الخليفة أو إمام المسلمين فإنه لا ينصرف إلا باستئذان لقوله ﷿: ﴿إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِذَا كَانُوا مَعَهُ عَلَى أَمْرٍ جَامِعٍ لَمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ أُولَئِكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ فَإِذَا اسْتَأْذَنُوكَ لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ فَأْذَنْ لِمَنْ شِئْتَ مِنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمُ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ [النور:٦٢] فهذا نوعٌ من الأدب أرشد إليه ربنا ﷿ عباده المؤمنين، وهو الاستئذان عند الانصراف، كما أمرهم بالاستئذان عند الدخول، ومدح الله من تأدب بهذا الأدب الرفيع، فكل من كان قائمًا على أمر، أو أميرًا على جماعة مثل أمير السفر مثلًا، فأراد إنسان أن ينصرف أو يغادر فيستأذن منه؛ لئلا ينفرط عقد الجماعة أو يكون هناك اختلال في الإمرة أو الواجبات ونحوها، وأما بالنسبة للزيارة العادية فإن النبي ﵊ أرشد إلى أن الإنسان إذا زار أخاه فلا يقومن حتى يستأذنه.
فإذا كنت عند شخص في زيارة، فالأدب إذا أردت الانصراف أن تستأذن قبل أن تقوم وليس أن تقوم وتمشي، فهذا احترام لصاحب الدار ولأخيك المسلم، ويكون هذا الاستئذان مصحوبًا بالسلام؛ لأنه ﵊ قال: (إذا انتهى أحدكم إلى مجلسٍ فليسلم، فإن بدا له أن يجلس فليجلس، ثم إذا قام فليسلم، فليست الأولى بأحق من الآخرة).
ولذلك روى البخاري ﵀ في الأدب المفرد: باب إذا جلس الرجل إلى الرجل يستأذنه في القيام، وعن أبي بردة بن أبي موسى قال: جلست إلى عبد الله بن سلام فقال: إنك جلست إلينا وقد حان منا القيام، فقلت: فإذا شئت، فقام، فتبعته حتى بلغ الباب.
فإذًا: عرفنا الآن التحية عند دخول البيوت، والتحية عند الانصراف، ولنعلم كذلك بأن هذا الأدب وهو أدب الاستئذان بنوعيه العام والخاص، أدب كريم، أجمع العلماء على أن الاستئذان مشروع، وتظافرت في ذلك دلائل الكتاب والسنة وإجماع الأمة، فقال بعض العلماء: إنه مستحب، وقال بعضهم: إنه واجب بنوعيه الخاص والعام، قال ابن مفلح: فيجب في الجملة، وأدلة الوجوب كثيرة مثل: الأمر أو النهي، والأصل في الأمر الوجوب، والأصل في النهي التحريم، والنبي ﷺ قال: (الاستئذان ثلاثًا، فإن أذن لك وإلا فارجع) وهذه اللام في قوله: (ليستأذنكم) هي لام الأمر، هذا ظاهره يدل على الوجوب ثم ستر العورة واجب، والنبي ﵊ قال: (إنما جعل الاستئذان من أجل البصر) والاطلاع على العورة محرم، فالمسألة كبيرة.
1 / 8
صيغ الاستئذان
وأما صيغ الاستئذان فإن الصيغة المشهورة (السلام عليكم أأدخل؟) فإن أذن له دخل وإلا رجع، ودل على هذه الصيغة (أن رجلًا من بني عامر استأذن على النبي ﷺ وهو في بيته فقال: أألج - أي أأدخل؟ - فقال النبي ﷺ: اخرج إلى هذا فعلمه الاستئذان فقال له: قل: السلام عليكم أأدخل؟ فسمع النبي ﷺ فقال: السلام عليكم أأدخل؟ فأذن له النبي ﷺ فدخل) رواه أبو داود في كتاب الأدب، باب كيفية الاستئذان، وصححه الألباني.
وجاء عن ابن عمر ﵄ أنه كان إذا استأذن فقيل له: ادخل بسلام، رجع وقال: لا أدري أدخل بسلامٍ أو بغير سلام، فهذا امتناع ابن عمر ﵄ الدخول لما قيل له: بسلام، احتمال أن يكون المراد ادخل بسلامك لا بشخصك، ولأنهم اشترطوا عليه شرطًا لا يدري أيفي به أم لا، فمن ورعه كان يرجع.
فالمهم الصيغة: السلام عليكم أأدخل، وقد جاء عن عمر ﵁ أنه استأذن فقال: السلام على رسول الله السلام عليكم أيدخل عمر؟ ولكل قومٍ عرفٌ في الاستئذان، ولذلك لو استأذن بأي كلمة: ممكن أدخل؟ لا بأس، أأدخل؟ لا بأس، لكن الصيغة الأتم والأكمل (السلام عليكم أأدخل؟).
فهذه الصيغة الأفضل، وقد جاء عن عبد الملك مولى أم مسكين قال: أرسلتني مولاتي إلى أبي هريرة فجاء معي فلما بلغ الباب قال: أندر؟ قالت: أندرون، وهذه العبارة معناها بالفارسية استئذان، فإذًا يمكن أن تدخل على شخص لا يعرف العربية، فتستأذن عليه بلسانه بالإنجليزية أو بغيرها، المهم أن يفهم أنك تريد الدخول وتسمع إذنًا صريحًا.
1 / 9
بعض آداب الاستئذان
1 / 10
أن يستأذن ثلاثًا
ورد في الحديث: (كان إذا سلَّم سلَّم ثلاثًا، وإذا تكلم بكلمة أعادها ثلاثًا) عنون عليه البخاري ﵀: باب التسليم والاستئذان ثلاثًا، أما قضية التسليم ثلاثًا ستأتي إن شاء الله تعالى في آداب السلام، وأما مسألة الاستئذان ثلاثًا فإن الاستئذان ثلاثًا لا يزيد عليها الإنسان، وإذا لم يؤذن له فليرجع، وجاء عن أبي سعيد ﵁ قال: (كنت في مجلس من مجالس الأنصار إذ جاء أبو موسى الأشعري كأنه مذعور فقال: استأذنت على عمر ثلاثًا فلم يأذن لي فرجعت، فقال: ما منعك؟ قلت: استأذنت ثلاثًا فلم يؤذن لي فرجعت، وقال رسول الله ﷺ: إذا استأذن أحدكم ثلاثًا فليرجع، فقال عمر لـ أبي موسى: والله لتقيمن عليه بينة، أمنكم أحدٌ سمعه من رسول الله ﷺ؟ فقال أبي بن كعب لـ أبي موسى: والله لا يقوم معك إلا أصغر القوم، فكنت أصغر القوم، فقمت معه فأخبرت عمر أن النبي ﷺ قال ذلك) عمر أراد أن يستثبت، وأراد المزيد من التأكد، فطلب من أبي موسى شاهدًا معه أن النبي ﷺ حدد الاستئذان بثلاث مرات، وأن الإنسان لا يزيد عليها، وأنه إذا لم يؤذن له يرجع، وهذا هدي النبي ﵊، طبقه أبو موسى الأشعري مع عمر، وشهد مع أبي موسى أبو سعيد الخدري ﵁.
1 / 11
إذا لم يؤذن له فليرجع
الآن عرفنا إذا استأذن ثلاثًا فلم يؤذن له يرجع، لكن هل يجوز الزيادة على الثلاث؟ منع من ذلك جمهور العلماء؛ لأن ظاهر الحديث الاكتفاء بالثلاث والزيادة عن الثلاث إزعاج، يعني يمكن تقول: ما سمع من أول مرة، كان ساهيًا أو لاهيًا، نستأذن إذن مرة ثانية، وهكذا، فقد يكون سمع، ولو كان يريد أن يأذن لأذن، وقال ابن عبد البر ﵀: السنة في الاستئذان ثلاث مرات لا يزاد عليها.
وبعض العلماء قال: يجوز الزيادة إذا لم يكن فيها إزعاج وإحراج لصاحب البيت، أي لو أن إنسانًا مثلًا خاصم شخصًا أو بينه وبينه خصومة، فأراد أن يتصالحا فذهب إلى مكانه، وأراد من الزيادة على ثلاث استرضاء الشخص الذي بينه وبينه خصومة، فلم يقصد بالزيادة على الثلاث الإحراج أو الإزعاج، قصد أن يسترضيه ويلح عليه ويقبل منه الدخول، ويقبل منه الاعتذار، فلا بأس فلها معنى ولها وجه.
وقد جاء في حديث قيس بن سعد بن عبادة قال: (زارنا رسول الله ﷺ في منزلنا فقال: السلام عليكم ورحمة الله، قال: فرد سعد ردًا خفيفًا يعني: أباه قلت: ألا تأذن لرسول الله ﷺ قال: ذره يكثر علينا السلام، فقال: السلام عليكم ورحمة الله، فرد سعد ردًا خفيفًا، ثم قال: السلام عليكم ورحمة الله، ثم رجع رسول الله ﷺ وأتبعه سعد فقال: يا رسول الله! إني كنت أسمع تسليمك وأرد ردًا خفيفًا لتكثر علينا من السلام، فانصرف معه ﷺ رواه أبو داود في الاستئذان، باب كم مرة يسلم الرجل.
فالنبي ﵊ اكتفى بالثلاث ورجع، قالها في قوله وعملها بفعله ﷺ، وإذا تحقق المستأذن أن أهل البيت سمعوه لزمه الانصراف بعد الثلاث؛ لأنهم لما سمعوه ولم يأذنوا دل ذلك على أنهم لا يريدون الإذن، وعدم الزيادة على الثلاث ثابت في السنة.
1 / 12
عدم متابعة الاستئذان ورفع الصوت
ومما ينبغي للمستأذن ألا يجعل استئذانه متواصلًا، أأدخل، أأدخل، أأدخل، ثم ينصرف فهذه صارت مثل واحد يريد ألا يدخل، أعط فرصة لصاحب البيت، ويكون بين كل استئذان والآخر وقتٌ يسير، أما قرع الباب بعنف ويضغط الجرس عشرين مرة كما يفعل بعض الناس، والصياح لصاحب الدار فهذا فيه إيذاء وإيحاش، والله ﷾ عاتب الأعراب فقال: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِنْ وَرَاءِ الْحُجُرَاتِ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ * وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُوا حَتَّى تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ﴾ [الحجرات:٤ - ٥] فهؤلاء كانوا يأتون عند بابه ويصوتون ولا يصبرون، والأولى للإسماع، والثانية ليأخذ الحذر والأهبة أهل البيت، والثالثة ليأذنوا وإن شاءوا ردوه، الأولى استعلام، والثانية تأكيد، والثالثة إعذار، الثلاث وردت في أشياء كثيرة أنها منتهى الأمر، وكذلك فإن الخضر بعد الثلاث امتنع عن مرافقة موسى؛ المرة الأولى قد يكون الإنسان جاهلًا، المرة الثانية قد يكون ناسيًا، المرة الثالثة أقيمت عليه الحجة، ما بقي بعد ذلك سبب.
الطلاق ثلاث مرات: المرة الثالثة ليس فيها رجعة، فنجد أن الثلاث في الشريعة جاءت في أمورٍ كثيرة أنها منتهى الأجل ونهاية المطاف.
1 / 13
إذا أحرج صاحب البيت فلينصرف ولا يدخل
وكذلك فإن الإنسان إذا لاحظ أن صاحب البيت قد أحرج وخرج إليه في حال غير مناسبة فلا يدخل، بل إنه ينصرف «فالنبي ﷺ جاء إلى عتبان ﵁ واستأذنه فخرج إليه ورأسه يقطر ماءً، فقال: لعلنا أعجلناك؟ قال: نعم يا رسول الله!) والنبي ﷺ لما جاء إلى سعد بن عبادة ولم يسمع ردًا انصرف ولم يلح، فإذًا إذا تبين إنسان أنه قد أحرج صاحب البيت فلينصرف ويعتذر عن حضوره في وقتٍ غير مناسب، إلا إذا لاحظ أن صاحب البيت يريده فعلًا أن يدخل فإنه يدخل.
ولذلك الآن من الأمور التي أهلكتنا قضية المجاملات الفارغة، يعني: مثلًا واحد أوصل الثاني إلى بيته بعد العمل بعد تعبه وإرهاقه وعرقه وجوعه، الذي حصل وصله إلى البيت، فهذا الذي ينزل بيته يقول: تفضل معنا، هل هو يقصد فعلًا حقيقة هذه الكلمة؟ لا يقصدها، بدليل أنه لو تفضل معه لصارت نكبةً عليه، هذه تفضل معنا يعني: مع السلامة، لكنهم يقولونها بعبارةٍ أخرى، فلذلك ينبغي عدم الوقوف عند هذه الألفاظ المجردة، بل ننظر إلى ما وراء ذلك من المعاني والأحوال.
1 / 14
الاستئذان على المحارم
وينبغي التأكيد على قضية الاستئذان على المحارم لئلا يكون في ذلك انكشاف للعورة واطلاع عليها، وقد سأل رجلٌ حذيفة فقال: أستأذن على أمي؟ فقال: [إن لم تستأذن عليها رأيت ما تكره] وكذلك قال ابن مسعود ﵁: [عليكم بالإذن على أمهاتكم وأخواتكم] وجاء عن موسى بن طلحة قال: [دخلت أنا وأبي على أمي، فدخل فاتبعته، فالتفت إليَّ فدفع بصدري وقال: أتدخل بغير إذن؟] فهذا الأب عاتب ابنه على الدخول على أمه بدون استئذان، يعني: هو زوجها يدخل عليها؟ وسأل عطاء ابن عباس، فقال: [أستأذن على أختي؟ قال: نعم، قال: إنها في حجري أنا الذي أربيها -قد تكون يتيمة- قال: أتحب أن تراها عريانة؟].
فإذًا: هذه الآثار الصحيحة كما بين ابن حجر ﵀ تدل على الاستئذان حتى على المحارم، ويستأذن الرجل على أمه ولو كانت عجوزًا، وأن هذا الاستئذان أمرٌ مفروض لعموم البلوى التي تحصل داخل البيوت، وربما يكون الخطر من الداخل أعظم من الخطر من الخارج.
1 / 15
حكم الاستئذان على الزوجة
لكن الاستئذان على الزوجة ليس بواجب، إنما هو من كمال الأدب، قال ابن جرير لـ عطاء: أيستأذن رجل على امرأته؟ قال: لا.
لكن قالت زينب زوجة ابن مسعود: [كان عبد الله -يعني زوجها- إذا جاء من حاجة فانتهى إلى الباب تنحنح كراهة أن يهجم منا على أمرٍ يكرهه] إسناده صحيح، صححه ابن كثير ﵀ في تفسيره، فإذا من كمال الأدب أن يستأذن الإنسان على زوجته، لكن من ناحية الوجوب لا يجب، وهناك فرقٌ بين إعلامها بالدخول وبين الاستئذان عليها، فالزوجة تعلم بالدخول لئلا تكون على حالٍ تكره أن يراها زوجها عليها، وإلا فالزوجة لا يجب الاستئذان عليها، لكن لا يفاجئها فتقع في شيءٍ من الحرج.
ولماذا أمرنا ألا ندخل على أهالينا ليلًا من السفر؟ لا يطرق الرجل أهله طروقًا لئلا يقع منها على أمرٍ يكرهه، ينتظر حتى تستحد المغيبة وتمتشط الشعثة، وبعد ذلك إذا أراد أن يدخل فليدخل.
طبعًا الآن لو أن إنسانًا أخبر زوجته بالهاتف أنا سآتي هذه الليلة، فقد حصل المقصود فيجوز أن يأتي ليلًا، لكن النبي ﵊ في أسفاره ينتظر قرب المدينة، يعني: أهل المدينة يكون عندهم خبر أنه سيدخل قريبًا، إذا وصل في الليل لا يدخل في الليل، ينتظر لئلا يدخل الرجل على زوجته في حال يكرهها، يعني: هو جاء من السفر مشتاقًا إلى زوجته، وزوجته غير ممتشطة وغير مستعدة، فعند ذلك كان ﵊ يبيت خارج المدينة ثم يدخل في الصباح، إذا جاء في النهار دخل، ويمهل، لماذا يمهل؟ قال: (حتى تستحد المغيبة) التي غاب زوجها تستحد يعني: تحلق العانة بالموس، ونحو ذلك من لوازم التهيئ للزوج، فالمقصود التهيئ للزوج لأنه إذا رآها متفرقة الشعر في حالة العرق والمهنة وهو آتٍ من سفر مشتاق إليها نفر منها، وقد تحدث وحشة بينهما، ولذلك أمرت المرأة بالتهيئ لزوجها إذا جاء من سفر ولا يطرقها طروقًا في الليل إلا إذا أخبرها قبل أن يأتي، كما إذا اتصل عليها قال: سآتي أنا في الليل، الطائرة ستصل في الليل ونحو ذلك.
1 / 16
تقديم السلام على الاستئذان
لما تكلمنا عن قضية الاستئذان وقلنا: إنه يرفق بالسلام، السلام قد يكون استئذانًا، وقد يكون الاستئذان بغير سلام، فلو قال الإنسان: أأدخل؟ يكفي للاستئذان، لكن الأفضل أن يكون السلام مرافقًا للاستئذان، فيقول: السلام عليكم أأدخل؟ ويتضح من هنا أن السلام قبل الاستئذان.
بالنسبة لموضوع تقديم الاستئذان كنا نتكلم عن موضوع الاستئذان والسلام أيهما قبل؟ يقول ابن القيم ﵀: وفي هذه السنن رد على من قال بتقديم الاستئذان على السلام، ورد على من قال: إن وقعت عينه على صاحب الدار قبل دخوله قدم السلام وإلا قدم الاستئذان، وهذان القولان مخالفان للسنة، لأن السنة أن يقدم السلام، فيقول: السلام عليكم أأدخل (ولا تأذنوا لمن لم يبدأ بالسلام) حديث رواه البيهقي، وصححه الألباني: [إذا دخل ولم يقل: السلام عليكم فقل: لا.
حتى تأتي بالمفتاح " السلام] رواه البخاري في الأدب المفرد عن أبي هريرة من كلام أبي هريرة، كان إذا دخل ولم يقل: السلام عليكم يقول: لا.
حتى تأتي بالمفتاح، ويقصد بالمفتاح السلام، فإذًا يقدم السلام على الاستئذان.
1 / 17
إرسال الخادم إلى المدعو إذن له
ماذا بالنسبة لموضوع الرسول الذي يرسل من شخصٍ إلى آخر، واحد أرسل خادمه إلى شخصٍ يقول: فلان يدعوك، هل هذا الخادم يغني عن الاستئذان؟ يقول البخاري ﵀ في صحيحه: باب إذا دعي الرجل فجاء هل يستأذن، وساق حديث أبي هريرة أن النبي ﷺ قال: (هو إذنه) وجاء في حديث أبي هريرة أنه قال: ادع أهل الصفة قال: فجاءوا فاستأذنوا، فإذًا كيف نجمع بين الحديثين، قال: ابن القيم ﵀: إن جاء الداعي على الفور من غير تراخٍ لم يحتج إلى استئذان، وإن تراخ في المجيء عن الدعوة وطال الوقت احتاج إلى استئذان، فلو إنك قلت لشخص: ادع لي فلانًا فذهب وكلمه، فجاء هذا مباشرةً، يدخل عليك مباشرة ولو بغير استئذان، لكن لو دعاه فجاء بعد فترة من الزمن فيحتاج إلى استئذان، وقيل: إذا حضر مع الرسول فلا يستأذن، وإن تأخر عن الرسول لزمه الاستئذان، فـ أبو هريرة ما كان معهم، ولذلك لما جاءوا استأذنوا، وأما قوله: رسول الرجل إلى الرجل إذنه فذلك إن جاء معه، ولذلك جاء في رواية (إذا دعي أحدكم إلى طعام فجاء مع الرسول فإن ذلك له إذنٌ) رواه أبو داود، وصححه الألباني.
ففي هذا دلالة على أن الدعاء إلى الوليمة إذنٌ بالدخول والأكل، وهذه مسألة واسعة تختلف فيها الأعراف، يعني مثلًا: بعض الناس يقول: الليلة العشاء عندي، يأتي الناس يجدون باب البيت مفتوحًا، ما معنى فتح باب البيت؟ معناه الإذن فلا يحتاج إلى قرع باب ولا استئذان، تدخل مباشرة إلى المجلس، هذه واضحة من أعراف الناس، وإبراهيم ﵇ كان بابه مفتوحًا للضيوف، ولذلك قال الله تعالى: ﴿هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ الْمُكْرَمِينَ * إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقَالُوا سَلامًا قَالَ سَلامٌ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ﴾ [الذاريات:٢٤ - ٢٥] دخلوا عليه معناه: أن بيته مفتوح للضيوف، وقد اشتهر بذلك ﵇.
1 / 18
اختيار الأوقات المناسبة
المجيء لابد له من اختيار الأوقات المناسبة، على كل حال فالإنسان لا يأتي مثلًا في نصف الليل أو بعد نصفه، أنا أطرق الجرس ثلاث مرات إن أذنوا لي وإلا رجعت، ولكن هذا الوقت غير مناسب، فاستئذانك مزعج، لو ما جئت لكان أحسن.
1 / 19
أن يقف بجانب الباب
أين يقف المستأذن من الباب؟ (كان النبي ﷺ إذا جاء الباب يستأذن لم يستقبله، يقول: يمشي مع الحائط حتى يستأذن فيؤذن له أو ينصرف) رواه أبو داود، ورواه الإمام أحمد، والبخاري في الأدب المفرد، وصححه الألباني.
فإذًا: لا يقوم مواجه الباب بحيث إذا فتح الباب رأى كل شيءٍ وراء الباب، وقد جاء رجل إلى باب النبي ﷺ فقام على الباب، فقال: هكذا عنك -تنح يمينًا أو شمالًا والآن الإنسان يتنحى في أي جهة؟ يعني: لا يستقبل الباب بل يذهب يمينًا أو شمالًا، يذهب عكس اتجاه فتحة الباب، أي في الجانب الذي لا يرى منه إلى الداخل؛ وإنما يكون في الجانب الآخر، فإذا كان الباب يُفتح يمينًا وقف إلى الشمال، وإذا كان الباب يفتح شمالًا فيقف يمينًا، والمهم أنه يجلس في المكان الذي إذا افتح الباب لا يرى ولا يطلع، وإذا جعل ظهره للباب أو جنبه بحيث أنه لا يرى وتأخر عن الباب فهذا من الأدب، وبعض الناس بل قلة منهم من يراعي هذه الأشياء، مع أنه من الدين والشريعة ومن السنة وفيها أجر؛ ولكن يوجد تهاون في الحقيقة وإهمال في هذه الأمور.
1 / 20