وخلف الغسانيون من أبناء جفنة بني السميذع على ملك الشام، بعد فترة قصيرة حاول جماعة من بني نصر القائمين بأمر العراق أن يتولوا أثناءها أمر الشام، فلم يستقر لهم فيه أمر.
نقف هنيهة ها هنا، في منتصف القرن الثالث الميلادي، لنرى كيف صار الأمر في شرق الشام وغرب العراق إلى العرب، فهؤلاء الذين نزلوا البادية أول ما نزلوها قبائل مهاجرة أو أسرى جاء بهم ملوك فارس من شبه الجزيرة، قد صاروا إلى حيث يعتد بهم الروم وتعتد بهم فارس، وتحرص كلتا الدولتين على ولائهم لها ومناصرتهم إياها، وتعترف كلتاهما لهم بالاستقلال الذاتي، تقديرا لشجاعتهم وإقدامهم في الحروب، والحق أنهم لم يكونوا في صلتهم بهاتين الإمبراطوريتين العظيمتين دون اليمن أو حضرموت أو غيرهما من بلاد شبه الجزيرة التابعة لنفوذ فارس، بل لعلهم كانوا أكثر منها استقلالا، وأنت لذلك تستطيع أن تقول: إن بلاد العرب امتدت من خليج فارس وخليج عدن جنوبا إلى الموصل وأرمينية شمالا، وإن تأثر عرب العراق وعرب الشام بحضارة الفرس وحضارة الروم أكثر مما تأثر بهما سائر بقاع شبه الجزيرة.
ألسنا في حل، وذلك هو الشأن، من أن نقول: إن هؤلاء العرب في العراق والشام كانوا الطلائع الأولى في التمهيد للفتح العربي وللإمبراطورية الإسلامية؟ لم يدر ذلك بخلد أحد منهم بطبيعة الحال ، فلم يكن أحد منهم يتصور بعث محمد ورسالته، وما أدى إليه البعث وأدت إليه الرسالة من وحدة بلاد العرب ومن سمو النفس العربية إلى حيث سمت، لكن مقامهم بين الفرات وأودية الشام، واحتفاظهم بخصائص حياتهم العربية، واتصالهم بأهليهم وبمن يحيطون بهم في شبه الجزيرة، كل ذلك كان مقدمة لما تلاه بعد أربعة قرون من زحف عرب الجزيرة إليهم محاربين لتحل الإمبراطورية الإسلامية محل الإمبراطوريتين الفارسية والرومية.
تولى عمرو بن عدي ملك العراق بعد جذيمة الأبرش من قبل سابور، فانتقم لجذيمة من الزباء، كما قدمنا، وقد جعل عمرو الحيرة عاصمته؛ ومن يومئذ صارت عاصمة اللخميين إلى أن انحل الملك عنهم.
وكان تبعية عمرو بن عدي ومن جاء بعده من ملوك الحيرة لبلاط فارس محدودة، فكان صاحب الحيرة مطلق السلطان على غرب الفرات إلى بادية الشام، وكان ولاؤه لعاهل الفرس مقيدا بدفع العرب من شبه الجزيرة أو عرب الشام التابعين لإمبراطور الروم على أرض فارس، وبحماية التجارة التي تسير من فارس إلى الشام أو إلى بلاد العرب.
على أن هذا الولاء لم يحل دون اقتحام العرب أرض فارس، وبخاصة ما جاور منها الخليج الفارسي، وقد صدهم الفرس غير مرة، ثم اضطر سابور ذو الأكتاف إلى حفر خندق سابور على حدود بلاده ليصد عنها العدوان.
وتوالى الملوك من بني نصر على عرش الحيرة، حتى تولاه النعمان الأكبر في أواخر القرن الرابع وأوائل القرن الخامس المسيحي، وقد تولاه من قبل يزدجرد، والنعمان الأكبر هو الذي بنى قصري الخورنق والسدير، وهو صاحب قصة سنمار.
ويروى أن النصرانية بدأت تنتشر بالعراق في عهده، وأنه لان لها وعطف عليها، فأنشئت فيها برضاه أديار وبيع، بل إن بعضهم ليذهب إلى أنه تدين بالنصرانية ثم تقشف ونزل على ملكه لابنه المنذر الأكبر،
3
وذلك حين رأى يزدجرد يضطهد النصرانية ويحارب الذين يدينون بها.
অজানা পৃষ্ঠা