وسار المهاجر من نجران حتى نزل صنعاء، وأمر جنده أن يتعقبوا العصابات المتمردة التي أثارت الفساد في الأرض من عهد الأسود، وأن يقتلوا من ثقفوه منهم لا يقبلون منه توبة ولا إنابة، وإنما قبل توبة من أناب من غير المتمردة، أما عكرمة فقد بقي في جنوب اليمن بعد أن استبرأ النخع وحمير، وبذلك عادت اليمن كلها آمنة مطمئنة، ورجع أهلها إلى دين الله الحق؛ وبذلك لم يبق من المرتدين في شبه الجزيرة كلها إلا أهل حضرموت وكندة.
وقبل أن نسير مع عكرمة والمهاجر للقاء المرتدين فيهما ندفع شبهة قد ترد إلى بعض النفوس حين يذكرون ما حدث باليمن، فكيف نصر أبو بكر الفرس على العرب فيها؟ وكيف ناصر فيروز ومن معه على قيس ومن اتبعه؟ ودفع هذه الشبهة يسير؛ فأنت تعلم أن الإسلام لا يرى فرقا بين عربي وعجمي إلا بالتقوى، وأن أكرم الناس عند الله أتقاهم، على أن ذلك لم يكن وحده الذي دعا أبا بكر لنصرة فيروز، بل دعاه لنصرته كذلك أن الفرس أول من أسلم باليمن، والسابقة في الإسلام لها قدرها، ثم إن العرب من أهل تلك البلاد هم الذين قاموا بالثورة على الدين الجديد، قام بها الأسود العنسي مدعيا النبوة في عهد الرسول، وقام بها أنصار الأسود من بعده، وفي جملتهم عمرو بن معدي كرب ثم قيس بن عبد يغوث.
وبازان وشهر وفيروز والفرس من حولهم هم الذين قاموا بالدعوة للإسلام في هذه الربوع، وهم الذين استمسكوا به وقاوموا خصومه، وهم الذين أقاموا على الولاء لسلطان المدينة والخليفة رسول الله حين ارتدت العرب كلها وتضرمت الأرض في شبه الجزيرة نارا، فلا عجب إذن أن يؤيد أبو بكر فيروز بسلطانه، وأن يمده بجنده وقواده، وأن يقيمه أميرا على صنعاء، كما أقامه النبي شهرا أميرا عليها، وكما أقام أباه بازان أميرا على اليمن كلها من قبله. •••
والآن فلنخط الخطوة الأخيرة في حروب الردة، ولننتقل مع المهاجر وعكرمة إلى كندة وإلى حضرموت.
ونذكر تمهيدا لذلك أن رسول الله قبض وعماله على هذه البلاد زياد بن لبيد على حضرموت، وعكاشة بن محصن على السكاسك والسكون، والمهاجر بن أبي أمية على كندة، وقد رأيت أن المهاجر كان مريضا بالمدينة فلم يخرج إلى عمله بكندة ولا خرج في لوائه إلى المرتدين باليمن إلا بعد أشهر من وفاة الرسول.
لذلك أناب عنه زياد بن لبيد في عمله منذ استعمله الرسول على كندة إلى أن خرج في جيشه إلى اليمن.
وقصة تولية المهاجر أمر كندة طريفة، فقد كان أخا أم سلمة زوج رسول الله أم المؤمنين، وقد تخلف مع ذلك عن الخروج مع النبي
صلى الله عليه وسلم
إلى غزوة تبوك، وغضب رسول الله لتخلفه وأقام زمنا عاتبا عليه، وحز في نفس أم سلمة أنها لم تفلح في استرضاء زوجها عنه، وإنها يوما لتغسل للنبي رأسه وتحدثه ويتلطف بها إذ قالت له: كيف ينفعني شيء وأنت عاتب على أخي! ورأت منه رقة فدعت أخاها، فلم يزل برسول الله ينشر عذره حتى رضي عنه وأمره على كندة وقام زياد في الإمارة مقامه حتى ذهب إليه في خلافة أبي بكر.
وكانت كندة لمجاورتها اليمن قد استجابت لدعوة الأسود العنسي أول ما قام بها، لذلك أمر رسول الله أن توزع بعض صدقات كندة في حضرموت، وبعض صدقات حضرموت في كندة، واشتد زياد في اقتضاء هذه الصدقات شدة أثارت الخواطر، ولقد استطاع أن يتغلب على المتذمرين في كندة بمن ناصره من رجال السكون الذين حافظوا على إسلامهم وعلى ولائهم فلم يخرج عليه منهم أحد، فلما مات النبي وفشت الردة في العرب، أراد زياد قمعها قبل أن يستفحل في إمارته أمرها، وشجعه على ما أراد أن التقت حوله القبائل التي بقيت على إسلامها ودفعوه لمقاتلة المتمردين عليه، وهاجم زياد بني عمرو بن معاوية في غفلة منهم فقتل رجالهم وسبى نساءهم، وسار بهن وبالأموال في طريق يفضي إلى عسكر الأشعث بن قيس زعيم كندة، وكان بين أولئك النسوة ذوات مكانة في قومهن لم يعرفن قبل ذلك اليوم إلا العزة والكرامة، فلما مررن بالأشعث نادين منتحبات: «يا أشعث، يا أشعث! خالاتك، خالاتك!» هنالك ثار في عروق الأشعث دمه، وأقسم لينقذهن أو يموت دونهن.
অজানা পৃষ্ঠা