3
هذه الكلمات التي نقلت إلى العربية من عشر سنوات خلت تؤيد ما قدمت، وها نحن أولاء نسمع اليوم من زعماء العالم عبارات تردد مثل الإسلام الأعلى وتدعو إليه وتستهين بالحرب في سبيله، ولا تزال الإنسانية تضطرب في هذه السبيل خلال طوفان جارف من الآلام والتضحيات والدموع، وهي تبذل اليوم منها أضعاف ما بذلت مجتمعا على القرون التي خلت، أفقدر لها أن تبلغ ما طالما أملت بلوغه، وأن تعيش في ظلال الحرية والمحبة والسلام؟ أفيكون النظام الجديد الذي يتحدث زعماء العالم اليوم عنه محققا حرية الشعوب، كما حققت الثورات فيما مضى حرية الأفراد؟ وهل يؤدي ذلك إلى أن يتحرر الجميع صدقا من قيود الخوف والفاقة، وأن يتعاونوا تعاونا خالصا لوجه الله يسعد به الناس في مختلف أرجاء العالم؟ هذا أمل عذب ما أحبه إلى كل نفس، وأقربه من كل قلب! وما أشد الناس حرصا على أن يتم فتتم به على الأرض كلمة الحق والسلام!
وتحقيق هذا الأمل رهن أن يبلغ الضمير الإنساني نضجه، ترى هل كتب القدر الرحيم في لوحه أن تتمخض الآلام والضحايا التي احتملها العالم في هذا القرن المتم للعشرين عن هذا النضج؟! لا ريب عندي في أن الإنسانية ستخطو في هذه السبيل خطوة إن لم نستطع اليوم أن نقدر مداها فمن حقنا على كل حال أن نغتبط بها، وأن نرجو بعدها خطوات أفسح منها، فالعالم اليوم تتقارب أجزاؤه، وتتزايد وسائل الاتصال بين أبنائه، كانت الصحافة تعد في القرن الماضي أعظم قوة لتيسير التفاهم بين الناس، ثم كانت صحافة أمريكا لا تصل إلى هذا الشرق العربي قبل أسابيع من ظهورها، أما ما يجري اليوم في العالم فيتلقاه الناس في مختلف أرجائه بسرعة البرق على موج الأثير عن طريق الإذاعة، وهذه الإذاعة المشغولة اليوم بأنباء الحرب وأهوالها ودعايتها ستشغل غدا بالدعوة إلى السلم وإلى السمو الإنساني وتصور الوسيلة التي تهيئ أسبابهما، وقد تهذب هذه الدعوة الضمير وتقربه من النضج، وتجعله الحكم العدل المنزه عن الهوى، والذي يستطيع لذلك أن يجنب الإنسانية الحرب، فيجنبها الضحايا والآلام والدماء والدموع.
متى يبزغ فجر هذا اليوم ومتى تشرق شمسه؟ إنا نراه بعيدا، ويراه الله قريبا، فيوم عند ربك كألف سنة مما تعدون، وذلك اليوم الذي تشرق فيه الشمس على الإنسانية وقد نضج ضميرها، هو الذي تبلغ فيه الكمال ويصبح فيه المثل الأعلى حقيقة واقعة، ويومئذ يصفو جوهر النفس من كل ما يخالطه من شوائب النقص، فتسمو على إملاء الغرائز الدنيا، وتمتثل مبادئ قائمة بها، بل تصبح سر حياتها، فإذا مر بها طيف يخالفها لفظته وعدته دخيلا عليها ومرضا يؤذيها ويتلفها، عند ذلك يكمل إيمان الناس جميعا، فيحب كل منهم لأخيه ما يحب لنفسه، وينظر كل منهم نظرة الإشفاق والتألم لكل من تبدو في نياته أو أعماله شائبة من أثرة أو نزوة من هوى، ويرون واجبا عليهم أن يلتمسوا له الطب وأن يسعفوه بالدواء؛ فإن برئ فذاك، وإلا عزلوه عنهم اتقاء عدواه، ورجاء أن يسمع أثناء العزلة صوت الحكمة، فإذا سمعه برئ وعاد إلى الناس وقد صار مثلهم، وأصبح ضميره قاضيه الذي يحاسبه وينصفه منه من ترد بخاطره خصومتهم، وأصبحت نفسه التي برأت فلم تعد أمارة بالسوء هي التي تجعل الناس جميعا أحب إليه من نفسه، وآثر عنده منها.
ويومئذ يصبح ضمير الإنسانية ميزان العدل بالقسطاس المستقيم، فلا تكون أمة خيرا من أمة، ولا جنس خيرا من جنس، ولا لون خيرا من لون، بل تكون الأمم كالأفراد إخوة يربط بينها العدل والرحمة ويدعوانها للتعاون على البر والتقوى، ويجعلان الأمم الصغيرة آثر عند الأمم الكبيرة من نفسها، والأمم الضعيفة والأمم القوية سواء في السعي إلى الخير ابتغاء وجه الله وحده.
ويومئذ ينظر أبناؤنا مطمئنين من عالمهم السعيد إلى عالمنا الذي انطوى في صحف الماضي وطوانا معه، أتراهم يتحدثون بينهم مشفقين مما احتمل هؤلاء الآباء بحكم غرائزهم وشهواتهم، باسمين سخرا من هذه الشهوات والغرائز، ومن إذعان الناس لها وإسلامهم لحكمها؟! أم تراهم ينصفوننا، والضمير الناضج منصف بطبعه، فيقدرون أن غرائزنا وشهواتنا وآلامنا وضحايانا هي التي أدت بهم إلى ما ينعمون به من سلام وسعادة؟! ما نراهم إلا منصفين، وما نراهم، إذا قر نظرهم خلال هذا الماضي عند عهد أبي بكر ورأوا ما تم في خلافته القصيرة الأمد من خلال جلائل الأعمال إلا يقولون: رحم الله الصديق صفي النبي وخليله! لقد كان ضعيفا في بدنه، قويا في إيمانه، وقد دفع العالم بقوة هذا الإيمان دفعة نشرت فيه لواء الحق وأقرت كلمته، والكلمة الطيبة كالشجرة الطيبة أصلها ثابت وفرعها في السماء، تؤتي أكلها كل حين بإذن ربها، والذين جاهدوا مؤمنين لإقرار كلمة الحق لهم عند ربهم جزاء الصديقين، وحسن أولئك رفيقا.
ستكون هذه كلمتهم، فهي كلمة التاريخ المنصف، ونحن نقولها اليوم وسيقولها من بعدنا أبد الدهر، ومن أحسن قولا ممن جعل الله حجته، والإنصاف غايته!
تقدير وشكر
بقلم محمد حسين هيكل
الآن وقد أراد الله للطبعة الأولى من هذا الكتاب أن تتم، فمن الحق علي أن أقدر معاونة الذين عاونوني أثناء كتابته، وأثناء طبعه، وأن أشكر لهم هذه المعاونة أصدق الشكر.
অজানা পৃষ্ঠা