130

সিদ্দিক আবু বকর

الصديق أبو بكر

জনগুলি

ويذهب قوم إلى أن التقيد بما أنزل الله في كتابه يهدر إرادة الشعب ويقضي عليها، ويحول دون تطور التشريع مع تطورها، وأنه يجعل الحكومة الإسلامية ثيقراطية في أسها وجوهرها، وهذا اعتراض لا مسوغ له، فما ورد في القرآن من التشريع لا يعدو المبادئ العامة التي تقررها قواعد العدل مصورة في مثلها الأعلى، أما ما جاء فيه من تفصيل لبعض هذه المبادئ العامة فإنما يتناول أمورا بذاتها محصورة العدد ، والمبادئ العامة التي قررها القرآن ضرورية لحياة الجماعة الحرة، فالخروج عليها يفسد هذه الحياة، وقد ثبت على التاريخ أن ما يخالف هذه المبادئ قد استحال قيامه في البلاد التي تلائم بين حرية الفرد ونظام الجماعة، والتي تقر لذلك نظام الأسرة والملك والميراث، ثم تفرض قدرا من الاشتراكية يقتضيه تضامن الجماعة، وتدعو إليه مبادئ الرحمة الإنسانية التي تعد في الإسلام قاعدة مقررة لا كمالا نفسيا وكفى.

ولو أن تحديد ما جاء في كتاب الله ترك لطائفة خصت به، كما خصت طائفة الكهنة في بعض الأديان بإعلان إرادة الله، لكان للخوف من إهدار إرادة الشعب موضع، أما والإسلام يأبى هذا التخصيص ويجعل الناس سواء في الحرص على إدراك ما أمر الله به وما نهى عنه، وفي محاسبة الحاكم على تصرفاته، فالفكرة الثيقراطية في الحكم الإسلامي منتفية لا وجود لها على الإطلاق.

وهذا الحكم الإسلامي المقيد خاضع لرقابة المسلمين جميعا، لكل فرد منهم أن يحاسب القائم به، وليس لطائفة أن تستأثر لنفسها من أمور الحكم بما تمتاز به على غيرها من الطوائف، وقد رأيت في تصرف أبي بكر شدة الحرص على التقيد بكتاب الله والتأسي برسوله في التنزه عن كل مطامع الدنيا، ثقة منه بأن من ساس أمور الناس فأفاد لنفسه منها، كان ظالما لنفسه وللناس.

ولقد بلغ أبو بكر من هذا التنزه حدا يحسبه أهل جيلنا ممعنا في المبالغة، لم تغير الخلافة ولا غيرت الإمارة على المؤمنين من حياته، ولم تنتقل به من داره إلى دار غيرها، وقد نسي منذ تولي أمور المسلمين نفسه ونسي أهله وأبناءه، وتجرد لله تجردا مطلقا، وأوجب على نفسه أن يشعر بضعف الضعيف وحاجة المحتاج، تحقيقا لمعنى الإخاء في أسمى صوره، وإيذانا بأنه ليس له في الحياة هوى، وأنه يقدر لذلك على أن يقيم بين الناس عدلا منزها لا يعرف محاباة، وإنما يعرف حدود الله في أن يعيش الناس جميعا في ظل عدله، جل شأنه، آمنين مطمئنين.

حكومة ذلك شأنها، لم تعرف السلطان المطلق ولم يكن للكهنة وجود فيها، لا يمكن أن تكون ثيقراطية اللون، وهي لم تكن أرستقراطية، ولم يكن استئثار المهاجرين والأنصار باختيار الخليفة من الأرستقراطية في شيء، فقد كان هؤلاء رجالا من طبقات شتى، وهم إنما استأثروا بالأمر صونا للنظام القائم ودفاعا عنه، ثم إنهم كانوا طبقة مؤقتة تزول بزوال أفرادها، لا يرثها أحد، ولا تقوم مقامها طبقة أخرى، بل لقد نازعهم أهل مكة السبق كما رأيت، وولاية بني أمية ثم بني العباس أمر المسلمين من بعد شاهد قوي على أن الفكرة الأرستقراطية لم يكن لها بين المسلمين الأولين وجود.

وإنما كانت حكومة أبي بكر حكومة شورى في منشئها وفي نزعتها، بويع الصديق بالانتخاب العام، وبويع لصفاته الذاتية ولمكانته من رسول الله، لا لأسرته ولا لعصبية قبيلته، ولم يطلب أبو بكر البيعة لنفسه، بل كان يرشح عمر بن الخطاب وأبا عبيدة بن الجراح ليبايع المسلمون أيهما شاءوا، وكان يرشحهما والأنصار ينازعون المهاجرين الأمر ويتهمونهم بأنهم يريدون غصبه منهم، ولقد تم ذلك كله في اجتماع عام، هو اجتماع السقيفة، ألقيت فيه الخطب، وكانت فيه المداورات الانتخابية أبرع ما تكون، فلما أقبل الناس على البيعة لم يكن المهاجرون أسبق إليها من الأنصار، وكان عمر وأبو عبيدة أول من مهد لها ثم أتمها.

هذه بيعة أنشأها الشورى؛ فليس انتخاب رئيس الجمهورية في فرنسا، بل في أمريكا، بأكثر حرية منها، فلما تولى أبو بكر الحكم كانت أول خطبة له موطدة أسس الشورى مثبتة قواعدها، ألم يقل للناس إثر بيعته العامة: «لقد وليت عليكم ولست بخيركم، فإن أحسنت فأعينوني، وإن أسأت فقوموني»؟ أولم يقل لهم: «أطيعوني ما أطعت الله ورسول فإن عصيت الله ورسوله فلا طاعة لي عليكم»؟ هذا إقرار صريح بحق الرأي العام في مراقبته وإرشاده، وبحق الناس في العصيان إذا عصى الخليفة الله وصدف عن أمره، والنتيجة المنطقية لتقرير مبدأ العصيان هي الإقرار للعصاة بحقهم في عزل من عصوه، ولا نحسب معنى أبلغ في تقرير مبادئ الشورى من هذا المعنى.

ومع أن الحرب امتدت طيلة عهد أبي بكر كما رأيت، لقد قام حكمه على الشورى في الجليل والصغير من شئونه، فهو لم يكن يبت في أمر قبل أن يشاور الناس فيه، ولم يكن يميز طائفة من الناس على طائفة في القضاء أو في العطاء، وهو لم يعرف من أبهة الملك ومن جاه السلطان ما عرف أهل الملك والسلطان في أمم العالم جميعها، وكان المسلمون أمامه سواء، وللذين يدخلون في الإسلام من غير أهله ما للمسلمين وعليهم ما عليهم، وإنما أبى الصديق على الذين ارتدوا ثم عادوا إلى الإسلام أن يشتركوا في قتال الفرس؛ لأنه حرص على أمن الدولة وسلامتها؛ فلما زالت مخاوفه أوصى عمر أن يمد المثنى بهم في حروب العراق.

بذلك مهد أبو بكر للتطور الذي أشرنا إليه في نظام الحكم، وهيأ الأسباب لوحدة بلاد العرب السياسية بعد أن تمت لها وحدتها الدينية، وكانت مرونة أبي بكر وكان حكمه من أقوى العوامل في التمهيد لهذه الوحدة السياسية، وقد رأيته كيف عفا عن زعماء الثائرين باليمن وغير اليمن من البلاد التي ارتدت في سبيل استقلالها؛ عفا عن قرة بين هبيرة، وعن عمرو بن معدي كرب، وعن الأشعث بن قيس، وعن غيرهم من سادات العرب، فكان عفوه عنهم بعد الذي أبداه من الحزم والشدة مع غيرهم داعيا لهم ولأقوامهم أن يرتبطوا بالمدينة في وحدة لا تنفصم عراها، وزادت الشورى التي أقام عليها أبو بكر حكمه هذه الوحدة قوة، وزاد فتح العراق وفتح الشام جميع العرب عليها حرصا.

وكان طبيعيا أن يقوم الحكم في ذلك العهد على أساس الشورى، فقد نشأ الإسلام في بلاد العرب، وكان كتابه عربيا، وكان رسول الله به عربيا، وكانت بلاد العرب تعيش يومئذ في نظام بلغت الحرية فيه أقصى مداها، ذلك أن الحرية كانت أعز شيء على العربي، بدويا كان أو حضريا، وفكرة المساواة متأصلة في النفس البدوية، كذلك كانت ولن تزال، وقد زادت تعاليم الإسلام هذه الفكرة قوة إذ سمت بها إلى المساواة التامة أمام الخالق البارئ المعز المذل، لا يتفاضل الناس أمامه جل شأنه إلا بأعمالهم، ولا فضل لعربي على أعجمي منهم إلا بالتقوى، فأما الإخاء الذي يتم مع الحرية والمساواة شعار الحكم الشعبي في عصرنا، فقد بلغ به الإسلام مبلغا ما أشده وضوحا في قول رسول الله: «لا يكمل إيمان أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه.» لا غرو، وهذه تعاليم الإسلام التي نشرها رسول الله بين الناس والتي تتفق مع أكرم ما في النفس العربية من سجايا، أن تتوطد الوحدة العربية حول هذا النظام الذي ثبت أبو بكر قواعده، وأن تؤدي سرعة التطور إلى تماسك هذه الوحدة وإلى استقرارها.

অজানা পৃষ্ঠা