مقدمة
حياة سيبويه
كتاب سيبويه
مراجع البحث
مقدمة
حياة سيبويه
كتاب سيبويه
مراجع البحث
سيبويه
سيبويه
حياته وكتابه
تأليف
أحمد أحمد بدوي
مقدمة
سيبويه أشهر عالم يدور اسمه على ألسنة الدارسين لقواعد اللغة العربية، وله في نفوسهم من الإجلال والتقدير ما ليس لنحوي سواه، يمجدون آراءه، ويرونها في المكان الأول من العمق والإصابة.
وقد أحببت أن أساهم في دراسة هذا الرجل الخالد، فأجلو بعض جوانب شخصيته، وأصف مؤلفه الضخم، راجيا أن أرسم له بقدر ما أستطيع صورة من هذه الأشتات المبعثرة عنه في كتب التواريخ.
وظهر هذا البحث لأول مرة فصلة من صحيفة دار العلوم الصادرة في يناير سنة 1948م، وتقدم إلي بعض طلبتي راجيا أن أعيد طبعه، وهأنذا أخرجه مرة ثانية مؤملا أن ينفع الله به.
ومن الله أستمد الهداية والتوفيق.
حياة سيبويه
(1) اسمه ونسبه
يعنى الباحث كثيرا بدراسة نسب من يترجم له، إذا كان من وراء هذه الدراسة نور يضيء جوانب البحث، أو يوضح نتيجة من النتائج، أو يفسر أثرا من الآثار، فقد يكون في أسرة من الأسر توارث لنوع خاص من أنواع المعرفة، أو استعداد للون من ألوان الثقافة والفنون، ولكننا نبحث في نسب سيبويه فلا نجد شيئا يلقي بصيصا من الضوء على حياة آبائه، بل لا نعرف من هؤلاء الآباء إلى اثنين، هما: أبوه عثمان، وجده قنبر، وقنبر اسم عربي قح، هو اسم جد الشاعر الحكم بن معمر، وأرجح أن ذلك هو ضبط اسم جده، لا قنبرة كما في كتاب «نزهة الألباء» في الطبعة القديمة التي عثرت عليها، ويدل على ذلك رثاء الزمخشري له كما سنرويه بعد، فإن الشعر لا يسمح بالنطق بقنبرة، وليست القاف مفتوحة كما ضبطت في كتاب «معجم الأدباء»، وسلفستر دي ساسي (ص40)، وقد ترك ابن خلكان ضبط هذا الاسم مع شدة عنايته بضبط الأسماء، ولعله لم يصح عنده ضبط يذكره، واكتفاء المؤرخين بهذين الاسمين من سلسلة نسبه، قد يكون من حقنا أن نستنبط منه أن أباه وجده هما اللذان دخلا في الإسلام ، وسميا بأسماء عربية، ولم يكن لأجداده الفرس من الخطر ما يدفع المؤرخين إلى حفظ أسمائهم، وسيبويه وأسرته موال لبني حارث بن كعب، أو لآل الربيع بن زياد، أو آل ولاؤه لآل الربيع بعد بني الحارث.
أما أمه فكانت فارسية كذلك؛ بدليل أنها لقبت ابنها هذا اللقب الفارسي الصريح الذي عرف به في التاريخ، وبدليل هجاء بشار له بأنه ابن الفارسية كما سيأتي، وقد سار لقبه أشهر من اسمه وهو عمرو، وكنيته وهي: أبو بشر، أو أبو الحسن، ولا أريد أن أطيل في معنى هذا اللقب؛ فيكاد مؤرخو العرب يجمعون على أن معناه: «رائحة التفاح»، ثم يعللون سبب هذا التلقيب، مدعين حينا أنه كان جميلا ذا وجنتين كالتفاح، وحينا أنه كان جميل الرائحة حتى إن من يقربه كان يشم منه رائحة التفاح، وهذه تعليلات لا قيمة لها ولا داعي إليها؛ لأن الأسماء لا تعلل كما يقولون، ويقول المستشرق
Huart
في كتابه:
La Littérature arabe (الأدب العربي): إن هذه الصيغة قد يكون مدلولها التصغير في اللغة الفارسية، فيكون معنى اللقب إذا: التفاحة الصغيرة، والرأي في ذلك للعلماء باللغة الفارسية، وسيبويه هو الطريقة التي ينطق بها هذا النوع من الأسماء المنتهية ب «ويه»، ك «ابن خالويه» و«نفطويه»، أما نطقه في لغته الأصلية فسيبويه بفتح الياء كما ضبطه ابن خلكان وصاحب «إعجام الأعلام»، وبكسرها كما ضبطه «إيوارت»، وقد تعب المستشرق الفرنسي «دي ساسي» في ضبط هذه الكلمة وبيان معناها في كتابه:
An. Gra. Ara.
والمرجع أيضا علماء اللغة الفارسية.
سيبويه إذا فارسي صريح من ناحية أمه وناحية أبيه، وربما كانت اللغة الفارسية تحيا نوعا من الحياة في منزله، وعلى لسان أمه وأبيه، ولعله كان على علم قليل أو كثير بهذه اللغة، وهذا ما لا أستطيع إثباته، وإن كنت أستأنس له بهذا الفصل الذي عقده في كتابه للألفاظ المنقولة من الأعجمية، واطراد الإبدال في حروف الكلمة الفارسية عند تعريبها لوجود حروف في الفارسية لا نظير لها في العربية.
كان كثير من حملة العلم ودارسي اللسان العربي في تلك العصور من الفرس ، والمؤرخون يعللون ذلك بعلل كثيرة، كان من جملتها ولا ريب تطلع الشبان ذوي المواهب إلى نيل المناصب السامية في دولة كانت تعتمد على سواعد الفرس، ولقد كان هذا الباعث - بدون شك - واحدا من بين الأسباب التي حفزت سيبويه إلى دراسة اللغة العربية والتبحر فيها، كما يدل على ذلك رحلته إلى بغداد، فإنها كانت رحلة يريد من ورائها المجد المادي والأدبي، كما سنرى. (2) مولده
لا سبيل إلى تحديد سنة ميلاده، فقد أغفلها المؤرخون جميعا، ولا محيص لنا من الفرض والتخمين للوصول إلى معرفة تلك السنة على وجه التقريب؛ ذلك أن التاريخ يذكر من أساتذة سيبويه عيسى بن عمر الثقفي الذي يكاد المؤرخون يجمعون على أنه توفي سنة تسع وأربعين ومائة، ويقول ياقوت في كتابه «معجم الأدباء»: «وما يكون قد أخذ عنه إلا وهو يعقل، ولا يعقل حتى يكون بالغا، فإذا حسبنا لبلوغ سيبويه سن الرشد أربعة عشر عاما، كان لنا أن نضع ميلاد سيبويه في العام الخامس والثلاثين بعد المائة، ويكون عيسى بن عمر من أوائل الأساتذة الذين أخذ عنهم سيبويه.»
أين ولد هذا النابغة؟ يجهل التاريخ كذلك مكان هذه الولادة، فهو لا يعرف البلد الذي رآه للمرة الأولى، ولا يكاد يذكره إلا وهو طالب للعلم، يغدو إلى مجالسه في مساجد البصرة، وبعض المؤرخين يروي أنه ولد بالبيضاء التي يصفها ياقوت في «معجم البلدان» بأنها مدينة مشهورة بفارس، وأنها أكبر مدينة في كورة إصطخر، وإنما سميت بالبيضاء لأن لها قلعة تبين من بعد ويرى بياضها، وكانت معسكرا للمسلمين يقصدونها في فتح إصطخر، وهي مدينة تقارب إصطخر في الكبر، وهي تامة العمارة خصبة جدا، ينتفع أهل شيراز بميرتها، وبينها وبين شيراز ثمانية فراسخ، وينسب إليها كثير من العلماء المبرزين، عد ياقوت منهم جملة صالحة.
أرجح هذه الرواية، وأستأنس لهذا الترجيح بما سنراه بعد من أنه رحل بعد إخفاقه في بغداد إلى فارس عائدا في أغلب الظن إلى مسقط رأسه، فوافاه الأجل بها، أو قبل أن يصل إليها في شيراز. (3) نشأته
وإذا كان التاريخ يجهل بالتحديد منبته، فهو يجهل كذلك نشأته الأولى، ولا يعرف ما شداه الطفل من العلوم، ولا ما أخذه من ألوان الثقافة، وأغلب الظن أنه كان كنابتة هذا العصر يقرءون القرآن ويحفظون شعر العرب وشيئا من السيرة النبوية وتاريخ الغزوات، ثم يمضي من يريد التخصص في مادة فيما خصص نفسه له.
ويروي كثير من المؤرخين أن سيبويه لم يطلب النحو أول ما طلب، بل كان يطلب الفقه والآثار، أي الحديث وتاريخ الغزوات، قال نصر بن علي: كان سيبويه يستملي على حماد بن سلمة، فقال حماد يوما: قال
صلى الله عليه وسلم : «ليس أحد من أصحابي إلا وقد أخذت عليه، ليس أبا الدرداء.» فقال سيبويه: «ليس أبو الدرداء.» فقال له حماد: «لحنت، ليس أبا الدرداء.» فقال سيبويه: «لا جرم، لأطلبن علما لا تلحنني فيه أبدا.» وطلب النحو، ليس في هذه القصة شيء من الغرابة، فقد يعن للمرء وهو يدرس ما يشعره بالنقص في ثقافته، فيتجه لاستكمال هذا النقص، وقد تظهر موهبته المكنونة في تلك المادة الجديدة، فينبغ ويمتاز. ومما لا ريب فيه عندي أن سيبويه لم يكتف بالنحو والفقه والآثار، بل ضرب في كل علم من علوم عصره بسهم، قال ابن عائشة: «كنا نجلس مع سيبويه النحوي في المسجد، وكان شابا نظيفا جميلا، قد تعلق من كل علم بسبب، وضرب في كل أدب بسهم، مع حداثة سنه وبراعته في النحو، فبينا نحن ذات يوم إذ هبت ريح فأطارت الورق، فقال لبعض أهل الحلقة: انظر أي ريح هي؟ وكان على منارة المسجد تمثال فرس، فنظر ثم عاد، فقال: «ما ثبتت على حال.» فقال سيبويه: «العرب تقول في مثل هذا: قد تذاءبت الريح. وتذاءبت أي فعلت فعل الذئب؛ وذلك أنه يجيء من ها هنا وها هنا، ليخيل، فيتوهم الناظر أنه عدة ذئاب».» وإذا صحت هذه الرواية، وهي ليست بعيدة الصحة، دلتنا على منهج سيبويه التعليمي، واعتماده على التطبيق العملي فيما يلقيه من القواعد والنظريات، وإن علمه باللغة يدلنا عليه كثير من فصول كتابه ، ولا سيما أبواب الصرف، ففيها من غريب الكلمات ما يدلنا على محصول كبير في اللغة. (4) أساتذته
أما العلم الذي كرس له معظم وقته، ونبغ فيه وشهر به، فهو علم النحو، وكتابه فيه أول كتاب وصل إلينا في ذلك العلم، ويحفظ التاريخ من أساتذته في تلك المادة سيد أهل الأدب وصاحب العقلية الجبارة الخليل بن أحمد، وهو أعظم أساتذته أثرا فيه، وأكثرهم اتصالا به وأخذا عنه، وكان سيبويه يعد أبرع تلاميذ الخليل في النحو وأوثق من حمل عنه، ومنهم عيسى بن عمر الثقفي، مؤلف كتابي «الإكمال» و«الجامع» في النحو، وهو الذي أخذ عن أبي عمرو بن العلاء تلميذ يحيى بن يعمر أحد تلامذة أبي الأسود. ومنهم: أبو زيد الأنصاري تلميذ أبي عمرو بن العلاء أيضا، وقد عاش أبو زيد هذا بعد سيبويه بنيف وثلاثين سنة، ورأى المجد الذي أدركه تلميذه بتأليف الكتاب، وقد نقل عنه سيبويه فيمن نقل، فكان الأستاذ يقول كالمفتخر بذلك: كان سيبويه غلاما يأتي مجلسي، وله ذؤابتان، فإذا سمعته يقول: حدثني من أثق بعربيته فإنما يعنيني. ومنهم: يونس تلميذ ابن العلاء أيضا، وقد عاش كذلك بعد سيبويه، ويروى أنه لما مات سيبويه قيل ليونس بن حبيب: إن سيبويه قد ألف كتابا في ألف ورقة من علم الخليل، قال يونس: ومتى سمع سيبويه هذا كله من الخليل؟ جيئوني بكتابه، فلما نظر فيه ورأى كل ما حكى قال: يجب أن يكون هذا الرجل قد صدق عن الخليل في جميع ما حكاه عنه، كما صدق فيما حكاه عني. ويخيل إلي أن الصلة لم تكن وثيقة بين سيبويه وأستاذه يونس كما نلمس ذلك في تلك الرواية وفي رواية أخرى نقلها ياقوت. ومن أساتذته في اللغة أبو الخطاب الأخفش الكبير، أستاذ أبي عبيدة معمر بن المثنى، وهو غير أبي الحسن الأخفش تلميذ سيبويه، وإن كان أكبر من أستاذه سنا. وروى سيبويه اللغة أيضا عن أبي عمرو بن العلاء كما ذكر ذلك ياقوت في معجمه (ج11، ص160). (5) زملاؤه
ويذكر التاريخ من زملائه ثلاثة نبغوا على يد الخليل بن أحمد، هم: النضر بن شميل، وكان أبرع تلاميذ الخليل في اللغة، ومؤرج العجل، وكان أبرعهم في الشعر واللغة، وعلي بن نصر، وكان أبرعهم في الحديث. (6) مدرسة البصرة ومدرسة الكوفة
نشأ سيبويه بالبصرة، وأخذ علم النحو عن أعظم علمائها قدرا، ومعروف أن البصرة قد سبقت الكوفة في هذا اللون من الدراسة وانفردت به، حتى أخذ هذا العلم، عن أبي عمرو بن العلاء وعيسى بن عمر الثقفي، أبو جعفر الرؤاسي، وعنه وعن غيره من علماء البصرة أخذ الكسائي والفراء معاصرا سيبويه، وقد بدأت مدرسة الكوفة في النحو منذ أنشأها الرؤاسي تناظر مدرسة البصرة، يقول الأستاذ أحمد أمين في كتابه ضحى الإسلام (ج2، ص294): «بدأ الخلاف هادئا بين الرؤاسي في الكوفة، والخليل في البصرة، ويظهر أن العصبية العلمية بين المدرستين كانت مؤسسة على العصبية السياسية التي ظهرت بين البلدين، فقد كان الكوفيون يميلون في الجملة سياسيا إلى دولة بني العباس، بينما كان البصريون منصرفين عنها. وقد ظهر في البصرة محمد بن الحسن العلوي الملقب بالنفس الذكية، والذي حاربه المنصور، وكان هو المرشح للخلافة قبل أن يأخذها العباسيون.
أهم الفروق بين المدرستين
وربما كان أهم الفروق الأساسية بين المدرستين أن مدرسة البصرة رأت أن أهم غرض هو وضع قواعد عامة للغة في الرفع والنصب والجر والجزم ونحوها، تلتزمها، وتريد أن تسير عليها في دقة وحزم، وإذا كانت اللغات دائما لا تلتزم القواعد العامة دائما، بل فيها مسائل لا يمكن أن تجرى على القاعدة، وخصوصا اللغة العربية، التي هي لغات قبائل متعددة تختلف فيما بينها اختلافا كبيرا ... أراد البصريون تمشيا مع غرضهم أن يهدروا الشواذ، فإذا ثبتت صحتها قالوا: إنها تحفظ، ولا يقاس عليها. بل جرءوا على أكثر من ذلك، فخطئوا بعض العرب في أقوالهم إذا لم تجر على القواعد، فالبصريون إذا رأوا «إن» تنصب الاسم وترفع الخبر غالبا، ثم رأوها في بعض المواضع لا تسير هذا السير مع الوثوق بصحة ما ورد نحو:
إن هذان لساحران
ألزموا الناس باتباع الأكثر الأغلب، فهم قد فضلوا القياس وآمنوا بسلطانه وجروا عليه وأهدروا ما عداه.
أما الكوفيون فلم يروا هذا المسلك، ورأوا أن يحترموا كل ما جاء عن العرب، ويجيزوا للناس أن يستعملوا استعمالهم، ولو كان الاستعمال لا ينطبق على القواعد العامة، بل يجعلون هذا الشذوذ أساسا لوضع قاعدة عامة، قال السيوطي في «بغية الوعاة»: إن الكسائي كان يسمع الشاذ الذي لا يجوز إلا في الضرورة فيجعله أصلا ويقيس عليه، فأفسد النحو بذلك.
فإن أضفت إلى ذلك أن الكوفيين كانوا أكثر رواية للشعر، وأن الشعر المصنوع لديهم أكثر من الشعر المصنوع عند البصريين، أدركت مقدار الخلف بين البصريين والكوفيين في مسلكهم.
ونرى في هاتين النزعتين أن البصريين كانوا أكثر حرية وأقوى عقلا، وأن طريقتهم أكثر تنظيما وأقوى سلطانا على اللغة، وأن الكوفيين أقل حرية وأشد احتراما لما ورد عن العرب.
وكان البصريون أكثر اعتدادا بأنفسهم، وأكثر شعورا بثقة ما يروون، وأشد ارتيابا فيما يرويه الكوفيون؛ لذلك كان الكوفي يأخذ عن البصري، ولكن البصري يتحرج عن أن يأخذ عن الكوفي.» ا.ه. كلام الأستاذ أحمد أمين.
وسوف نرى أثر هذه النزعة التعليلية القياسية في كتاب سيبويه، وسنرى أن اعتداد سيبويه بالقياس كان من الأسباب التي جعلته يخفق في رحلته إلى بغداد. (7) رحلته إلى بغداد
متى رحل سيبويه إلى بغداد؟ ولم؟ وفي مجلس من دارت المناظرة بينه وبين الكسائي؟ وكيف أديرت؟ وبم انتهت؟ ولم انتهت كذلك؟ وما الرأي في المسألة التي كانت موضع النزاع بينهما؟ وما نتيجة إخفاق سيبويه؟
أما أن سيبويه رحل إلى بغداد، ودارت بينه وبين الكسائي مناظرة، فذلك ما لا سبيل إلى الشك فيه، ولكن متى رحل إلى بغداد؟ لم يحدد التاريخ هذه السنة، وكل ما يذكره أن الرحلة كانت في عهد الرشيد، وأنها كانت إلى يحيى بن خالد البرمكي، ثم يذكرون أن الرحلة قد تمت ولسيبويه من العمر نيف وثلاثون سنة، ثم مات بعد هذه الرحلة بقليل. والبعض يذكر أنها تمت ولسيبويه نيف وثلاثون سنة، ولكنه عاش بعدها نحو عشر سنوات، ولا سبيل إلى استخلاص وجه الحق من هذه الأقوال المتضاربة، والذي أرجحه - لأن أكثر المؤرخين عليه - أن سيبويه لم يعمر طويلا بعد هذه الرحلة، فإذا أضفنا إلى ذلك أنه مات - كما سأرجح ذلك فيما بعد - وعمره نيف وأربعون سنة، كانت رحلته إلى بغداد بعد الأربعين من عمره حول سنة 179 هجرية.
أما الباعث على تلك الرحلة فالطموح إلى نيل المجد المادي والأدبي، فقد كان الكوفيون إلى ذلك الحين يستأثرون بهبات الخلفاء والقيام على تربية أولادهم، فطمع سيبويه في أن يفتح باب الخلفاء والأمراء للبصريين، وأن يشارك الكوفيين حظهم، وكان واثقا بنفسه الثقة كلها، مؤمنا بتفوقه وقدرته على الغلب والظفر، فأراد أن يبرهن للأمراء على أن البصريين يفوقون الكوفيين ويبزونهم، فعمد إلى رئيسهم مؤمنا بأن انتصاره عليه انتصار للبصرة على الكوفة، ومن وراء هذا النصر يجلس هو على قمة المجد الأدبي، ويظفر بما يرغب من المال والثراء، ورغبته فيهما واضحة، حتى ليروى أنه بعد أن أخفق في مناظراته قال الكسائي ليحيى - ولهجة الشماتة والانتصار بادية عليه، بعد أن كان قلبه يرتجف عندما سمع برغبة سيبويه في الحضور إلى بغداد - قال: أصلح الله الوزير، إنه قد وفد إليك من بلده مؤملا، فإن رأيت ألا ترده خائبا. فأمر له بعشرة آلاف درهم، وشهرة البرامكة بالبذل والعطاء هي التي بلا ريب جذبت إليهم سيبويه.
أما المناظرة فكانت في مجلس يحيى بن خالد البرمكي، وعنده ولداه: جعفر والفضل، وأفضل الروايات في وصف هذه المناظرة ما ذكره ياقوت في معجمه نقلا عن الأخفش والمبرد وثعلب، قالوا: «قدم سيبويه إلى العراق على يحيى بن خالد البرمكي، فسأله عن خبره، فقال: جئت لتجمع بيني وبين الكسائي. فقال: لا تفعل، فإنه شيخ مدينة السلام وقارئها، ومؤدب ولد أمير المؤمنين، وكل من في المصر له ومعه. فأبى إلا أن يجمع بينهما [ومن ذلك تبدو رغبة سيبويه في التحدي والغلب وثقته بنفسه]، فعرف الرشيد خبره، فأمره بالجمع بينهما، فوعده بيوم، فلما كان ذلك اليوم غدا سيبويه وحده إلى دار الرشيد، فوجد الفراء والأحمر وهشام بن معاوية ومحمد بن سعدان قد سبقوه، فسأله الأحمر عن مائة مسألة، فما أجابه عنها بجواب إلا قال: أخطأت يا بصري. فوجم سيبويه، وقال: هذا سوء أدب. ووافى الكسائي وقد شق أمره عليه، ومعه خلق كثير من العرب، فلما جلس قال له: يا بصري [ومن هذه النسبة يظهر أن المناظرة لم تكن مناظرة شخصية، بل كان يلاحظ فيها أنها مناظرة بين البصرة والكوفة؛ ولذلك أهمل ذكر اسم سيبويه في مخاطبته، واستبدل به: يا بصري] كيف تقول: «خرجت وإذا زيد قائم»؟ قال: «خرجت وإذا زيد قائم». قال: فيجوز أن تقول: «خرجت فإذا زيد قائما»؟ قال: لا. قال الكسائي: فكيف تقول: «قد كنت أظن أن العقرب أشد لسعة من الزنبور، فإذا هو هي، أو فإذا هو إياها»؟ فقال سيبويه: «فإذا هو هي»، ولا يجوز النصب. فقال الكسائي: لحنت. وخطأه الجميع، وقال الكسائي: العرب ترفع ذلك كله وتنصبه. ودفع سيبويه قوله، فقال يحيى بن خالد: قد اختلفتما وأنتما رئيسا بلديكما، فمن يحكم بينكما، وهذا موضع مشكل؟ قال الكسائي: هذه العرب ببابك، قد جمعتهم من كل أوب، ووفدت عليك من كل صقع، وهم فصحاء الناس، وقد قنع بهم أهل المصرين، وسمع أهل الكوفة والبصرة منهم، فيحضرون ويسألون. فقال يحيى وجعفر: قد أنصفت. وأمر بإحضارهم، فدخلوا، وفيهم أبو فقعس وأبو دثار وأبو ثروان، فسئلوا عن المسائل التي جرت بينهما، فتابعوا الكسائي.»
هذه هي الرواية المعقولة للطريقة التي دارت بها المناظرة بين الكسائي وسيبويه، وأغلب الظن أن الأعراب الذين استشهد بهم الكسائي قد نطقوا بتلك الجملة كما نطق، وأغلب الظن أن بعض العرب ينطق بالجملة كذلك. وقد قال أصحاب سيبويه: إن الأعراب الذين شهدوا للكسائي من أعراب الحطمية الذين كان الكسائي يقوم بهم ويأخذ عنهم. أما تلك الرواية التي تزعم أن الأعراب اكتفوا بقولهم: الحق ما قال الكسائي، وهو كلام العرب، ولم ينطقوا كما نطق الكسائي، فغير معقولة ولا مقبولة، فقد كان سيبويه يعلم أن العرب الخلص في ذلك الحين يسبق الصواب إلى ألسنتهم.
ولم يكن سيبويه من قلة الذكاء بدرجة أنه لا يطلب من الأعرابي أن يتكلم، ويرجح الأستاذ أحمد أمين أن إصبع السياسة قد لعبت في هذه المسألة، ويروي ابن خلكان ما يفهم منه أن المسألة كانت مدبرة ضد سيبويه البصري، وكان الأمين تلميذ الكسائي من القائمين في هذا التدبير، وأنهم أحضروا أعرابا مرنوا ألسنتهم على أن تنطق بما ينطق به الكسائي، فيتم الأمر ويحكم للكوفة على البصرة، وفي ذلك إذلال لها أيما إذلال. والذي أرجحه أن المسألة أبسط مما يتصور حتى مع فرض أن إصبع السياسة قد لعبت فيها؛ ذلك أن الكسائي يعلم أن البصريين وعلى رأسهم سيبويه لا يعتدون بغير القياس، ولا يقرون ما يخالفه وإن ثبت سماعه، ولا يجيزون القياس عليه، وكان من اليسير على الكسائي أن يأتي بمسألة تخرج عن القياس، ولا يعدم أن يجد قوما ينطقون كما ينطق، ونحن نعلم أن بعض العرب قد شذ عن أشهر ما هو مألوف في اللغة ونظم الكلام.
والآن: ما وجه الصواب في هذا الخلاف؟ لا شك أن القياس هو ما قاله سيبويه، وهو المتمشي مع المنطق، ف «هو» مبتدأ و«هي» خبر، وهما ضميرا رفع، وأما: «خرجت وإذا زيد قائم» فيجوز في «قائم» الرفع والنصب، وإنما جاز فيها الوجهان، وامتنع في: «فإذا هو هي» لأن قائما تنصب على الحال وهي نكرة، أما إياها فمعرفة لا تصلح أن تكون حالا، فيتعين أن نأتي بالضمير المعرفة خبرا. (8) حبسة لسانه
يرجع إخفاق سيبويه في هذه المناظرة فضلا عن التحامل عليه، وأنه لم يستصحب معه أنصاره، ولا يؤمن بالقياس على الشاذ، إلى أنه لم يكن من الفصاحة بحيث يستطيع التأثير في سامعيه، ويكاد مؤرخو سيبويه يجمعون على أنه كان ألكن، حدث أحمد بن معاوية قال: ذكر سيبويه عند أبي فقال: عمرو بن عثمان، قد رأيته، وكان حدث السن، كنت أسمع في ذلك العصر أنه أثبت من حمل عن الخليل، وقد سمعته يتكلم ويناظر في النحو، وكانت في لسانه حبسة، ونظرت في كتابه فرأيت علما أبلغ من لسانه، أو كانت هذه اللكنة سببا قويا في إخفاقه في المناظرات، فإنه لم يخفق في مناظرته للكسائي فحسب، ولكنه أخفق في مناظرة أخرى دارت بينه وبين الأصمعي، وكان الحق فيها معه، ولكنه هزم بسبب هذه اللكنة في لسانه، حدث أبو حاتم السجستاني قال: دخلت على الأصمعي في مرضه الذي مات فيه، فسألته عن خبره، ثم قلت له: في نفسي شيء أريد أن أسألك عنه. قال: سل. فقلت: حدثني بما جرى بينك وبين سيبويه من المناظرة. فقال: والله لولا أني لا أرجو الحياة من مرضتي هذه ما حدثتك، إنه عرض علي شيء من الأبيات التي وضعها سيبويه في كتابه، ففسرتها على خلاف ما فسره، فبلغ ذلك سيبويه، فبلغني أنه قال: لا ناظرته إلا في المسجد الجامع. فصليت يوما في الجامع، ثم خرجت فتلقاني في المسجد، فقال لي: اجلس يا أبا سعيد، ما الذي أنكرت من بيت كذا وبيت كذا؟ ولم فسرت على خلاف ما يجب؟ فقلت له: ما فسرت إلا على ما يجب، والذي فسرته أنت ووضعته خطأ، تسألني وأجيب. ورفعت صوتي، فسمع العامة فصاحتي، ونظروا إلى لكنته، فقالوا: لو غلب الأصمعي سيبويه. فسرني ذلك، فقال لي: إذا علمت أنت يا أصمعي ما نزل بك مني لم ألتفت إلى قول هؤلاء. ونفض يده في وجهي ومضى، ثم قال الأصمعي: يا بني، فوالله لقد نزل بي منه شيء وددت أني لم أتكلم في شيء من العلم، فأنت ترى أن لكنته سبب هزيمته.
ولقد كان لمناظرة سيبويه والكسائي أثرها في نفس كثير من العلماء، كانوا يؤمنون بصدق سيبويه وخطأ الأعراب الذين أخذ عنهم الكسائي، ومن هؤلاء يحيى بن المبارك اليزيدي الذي قال حينما سمع استشهاد الكسائي بأعراب الحطمية، وهي قرية على فرسخ من بغداد منسوبة إلى السري بن الحطم أحد القواد:
كنا نقيس النحو فيما مضى
على لسان العرب الأول
فجاء أقوام يقيسونه
على لغى أشياخ قطربل
وقد علق المرحوم الأستاذ عبد الخالق على ذلك قائلا: إن الفساد الذي ينسب إلى الكسائي ربما كان واقعا، فإن القرى التي يسكنها هؤلاء «الأعراب» كانت مرتعا للبطالين والخمارين، وهي خليط من قوم لا يصح الاعتماد عليهم في اللغة، وقد ذكر ياقوت في «معجم البلدان» مثل هذه الصفات، هذا وإن أبا نواس قد شهر قطربل القريبة من بغداد بالخمر والخمارين.
ومن هؤلاء الذين ثاروا لهزيمة أستاذهم الأخفش الأوسط، راوي كتاب سيبويه، قال: «لما ناظر سيبويه الكسائي ورجع، وجه إلي فعرفني خبره، ومضى إلى الأهواز، فوردت بغداد، فرأيت مسجد الكسائي، فصليت معه خلفه الغداة، فلما انفتل من صلاته وقعد، وبين يديه الفراء والأحمر وابن سعدان، سلمت، وسألته عن مائة مسألة، فأجاب بجوابات خطأته في جميعها، فأراد أصحابه الوثوب علي، فمنعهم، ولم يقطعني ما رأيتهم عليه عما كنت فيه، فلما فرغت قال لي: بالله، أما أنت أبو الحسن سعيد بن مسعدة؟ قلت: نعم. فقام إلي، وعانقني، وأجلسني إلى جنبه، ثم قال: لي أولاد أحب أن يتأدبوا بك، ويتخرجوا عليك، وتكون معي غير مفارق لي، فأجبته إلى ذلك، فلما اتصلت الأيام بالاجتماع ... قرأ علي كتاب سيبويه سرا، ووهب لي سبعين دينارا.» وهكذا استطاع الكسائي - ويظهر لي أنه كان داهية - أن يلوي الأخفش عن قصده، وليس عليه في ذلك من بأس بعد هزيمة رأس البصريين.
كان سيبويه يؤمل كبار الآمال على هذه الرحلة، ويرجو أن ينصر البصرة على الكوفة، وأن ينال المكانة التي يجد نفسه جديرا بها، فما هو إلا أن وجد آماله تنهار أمام عينيه بانتصار الكسائي عليه انتصارا يعده سيبويه مختلسا، فأزمع الرحلة عن بغداد.
إلى أين يتجه؟ إلى البصرة! وقد حبط فيما كان يبنيه لها من المجد؟ أم إلى الكوفة، وهو أعظم منافس لأساتذتها، فضلا عن أنه لا يثق بعلمائها، ويرى أن ما يستنبطون منه قواعدهم النحوية مكذوب مختلق؟ أم يبقى في بغداد التي شهدت أمله ينهار؟ لا سبيل إلى شيء مع ذلك، فأزمع الرحلة إلى وطنه يقيم فيه عله يجد برد الراحة فيستريح. أزمع سيبويه الرحلة، ولكنها رحلة المنطوي على الضغن، رحلة الذي لا ينسى أن له حقا في الحياة والمجد، فحيل بينه وبين ما يشتهي. (9) وفاته
ويظهر أن الصدمة كانت شديدة عليه فلم يحتملها، ولم يلبث أن مات غما بالذرب؛ وهو فساد المعدة، وأعجله الموت، فلم يصل إلى بلده البيضاء، بل وافاه الأجل في شيراز أو بساوة بالقرب منها سنة 180 هجرية، ومما يدل على أثر الصدمة في نفس سيبويه أنه كان يتمثل عند موته قائلا:
يؤمل دنيا، لتبقى له
فمات المؤمل قبل الأمل
روى الأصمعي أن سيبويه مدفون بشيراز، وأنه قرأ على قبره هذه الأبيات، وهي لسليمان بن يزيد العدوي:
ذهب الأحبة بعد طول تزاور
ونأى المزار، فأسلموك وأقشعوا
تركوك أوحش ما تكون بقفرة
لم يؤنسوك، وكربة لم يدفعوا
قضي القضاء، وصرت صاحب حفرة
عنك الأحبة أعرضوا وتصدعوا
وذلك هو ما أرجحه من تلك الروايات التي نجدها في الكتب التي أرخت لسيبويه، فابن نافع وحده يذكر أنه مات بالبصرة سنة إحدى وستين ومائة، وهو قول لم يؤيده فيه أحد، وغير معقول أيضا؛ لأن سنه حينئذ لم تكن قد تجاوزت الخامسة والعشرين بكثير، وهو ما لم يقله مؤرخ، ويرى ابن خلكان - غير متثبت - أنه وصل إلى البيضاء ومات فيها، ويروي ابن النديم أنه عاد إلى البصرة، ثم ذهب إلى فارس، وعودته إلى البصرة مشكوك فيها بعد هذا الإخفاق.
وتحديدنا سنة وفاته بمائة وثمانين تحديد ترجيحي كذلك، وحسبي أن أذكر أن بعض الرواة يضعها سنة إحدى وستين ومائة، وابن الجوزي يضعها سنة أربع وتسعين ومائة، والفرق بين التاريخين ثلاث وثلاثون سنة، أما سبب ترجيحنا فإن أكثر الرواة عليه، ويرجحه ابن الأنباري، بدليل أنه مات قبل الكسائي، والكسائي مات سنة ثلاث وثمانين ومائة.
كانت سن سيبويه عندما توفي تزيد على الأربعين، وعلى حسب ما حددنا تكون سنه زهاء خمس وأربعين سنة، وهو المعقول بموازنة التواريخ، فليس بمعقول إذا أن نقبل قول الأستاذ أحمد أمين الذي يضع تاريخ وفاته في الثمانين بعد المائة، ثم يقول إنه مات وعمره نيف وثلاثون سنة؛ لأننا قلنا إنه أخذ عن عيسى بن عمر الذي توفي سنة تسع وأربعين ومائة، فيكون سيبويه حينئذ في المهد صبيا. (10) أخلاقه ومواهبه
كان سيبويه ذكيا، متوقد الذكاء، ذا عقل منطقي متزن، يحسن التفريع والتعليل، وكتابه خير دليل على ذلك، ثم هو طموح لم يرض بحظه في البصرة وأنه أصبح شيخها، بل أبى إلا أن يكون وحيد دهره، لا عالم فوقه في العالم الإسلامي، وإلى جانب طموحه كان واثقا بنفسه تمام الثقة، يؤمن بقدرته في النحو قدرة فائقة. عن أبي عثمان المازني قال: حدثني الأخفش قال: حضرت مجلس الخليل، فجاءه سيبويه، فسأله عن مسألة، وفسرها له الخليل فلم أفهم ما قالا، فقمت وجلست له في الطريق، فقلت له: جعلني الله فداءك، سألت الخليل عن مسألة فلم أفهم ما رد عليك، ففهمنيه. فأخبرني بها فلم تقع لي ولا فهمتها، فقلت له: لا تتوهم أني أسألك إعناتا، فإني لم أفهمها ولم تقع لي. فقال لي: ويلك، ومتى توهمت أنني أتوهم أنك تعنتني؟! ثم زجرني، وتركني ومضى. وذهابه إلى بغداد وطلبه مناظرة الكسائي تدلنا على هذا الخلق الثابت في نفسه، ولكنه لم يكن مع ثقته بنفسه وطموحه من هؤلاء المتعجرفين الذين تمل عشرتهم ويكره قربهم، بل كان محببا إلى نفس سامعيه ومجالسيه، والروايات كثيرة تدل على ظرفه وكياسته. حدث ابن النطاح قال: كنت عند الخليل بن أحمد، فأقبل سيبويه، فقال الخليل: مرحبا بزائر لا يمل. قال: وكان كثير المجالسة للخليل، وما سمعت الخليل يقولها لغيره.
وكان إلى جانب ذلك - على ما يظهر لي - مفرط اليأس إذا يئس، فلم يستطع أن يقاوم الصدمة التي مني بها عندما أخفق في رحلته إلى بغداد، ولعله أراد أن يحارب اليأس الذي حل به، فقيل: إنه سأل عن أمير له في النحو أرب، وخرج يريد بني طاهر في خراسان، كما يروى، ولكن الألم الذي حز في نفسه لم يفارقه حتى مات.
هذا وقد تحدثنا عن لكنته فيما مضى، وبينا أثرها في إخفاقه في المناظرات. (11) أسرته
أتزوج سيبويه وكون بيتا، أم وهب نفسه للعلم وكرس حياته له؟ لا يروي التاريخ شيئا يتعلق بذلك، وأغلب الظن أن سيبويه عاش حياته كلها للعلم والتعليم، ونستأنس لذلك بأن الروايات التي تتحدث عن وفاته، وتصف لحظاته الأخيرة، لا تتحدث عن زوجة ولا ولد، وكل ما يذكره التاريخ له من الأقارب أخ، يظهر أن الحب والمودة كانت تربطهما معا بأوثق رباط، ولعل سيبويه لم يكن له أخ سواه، قالوا: ولما اعتل سيبويه وضع رأسه في حجر أخيه، فبكى أخوه لما رآه لما به، فقطرت من عينه قطرة على وجه سيبويه، ففتح عينه فرآه يبكي، فقال:
أخيين كنا، فرق الدهر بيننا
إلى الأمد الأقصى، ومن يأمن الدهرا
لم يترك سيبويه ذرية من بعده، ولكن ترك ذكرا مخلدا، واسما سوف يبقى ما بقيت اللغة العربية، وما بقي دارس لهذه اللغة، ولقد نال سيبويه في حياته من الشهرة وذيوع الصيت ما لم ينله قبله إلا أستاذه العظيم الخليل بن أحمد، بل لقد صار اسمه يذكر بجانب أستاذه كلما تحدث الناس عن أعظم علماء النحو، ولم تقف شهرته عند العلماء، بل لقد كان مشهورا كذلك بين جمهور الشعب، يتأثرونه ويقلدونه، حدث التاريخي عن المبرد عن الزواوي أبي زيد قال: قال رجل لسماك بالبصرة: بكم هذه السمكة؟ قال: بدرهمان. فضحك الرجل، فقال السماك: ويلك، أنت أحمق، سمعت سيبويه يقول: ثمنها درهمان. (12) تلامذته
ترك سيبويه من بعده تلاميذه، وكان من أشهرهم أبو الحسن الأخفش الأوسط، والناشئ، وأبو علي قطرب، وترك كتابه العظيم الذي سنتحدث عنه فيما بعد. (13) من أرخ لسيبويه
لم يدرس سيبويه إلى اليوم الدراسة التفصيلية التي يستحقها إمام ألف أول كتاب وصل إلينا في قواعد اللغة، وأقدم ترجمة اهتديت إليها لسيبويه في كتاب أخبار النحويين البصريين للسيرافي المتوفى سنة ثلاثمائة وثمان وستين للهجرة، وهي ترجمة موجزة، تحدث فيها عن اسمه وبعض أساتذته وزملائه وتلامذته وكتابه، ولم يحدد بالزمن سني حياته ووفاته، ولا مكان موته، وفي كتاب «الفهرست» لابن النديم المتوفى سنة 385 خمس وثمانين وثلاثمائة هجرية ترجمة موجزة كذلك، وتحدث فيها عما تقدم، وأضاف إليه خبر رحلته إلى بغداد، وحدد سنة وفاته .
كنا نطمع من هذين العالمين أن يشفيا غليلنا من سيبويه لقرب عهدهما به، ولكن منهجهما في التأليف وخطتهما التي اتبعاها في الإيجاز حرمتنا من معارف كثيرة كانا يستطيعان أن يقدماها إلينا.
وفي «تاريخ بغداد» للخطيب البغدادي المتوفى سنة ثلاث وستين وأربعمائة هجرية ترجمة لسيبويه، نهج فيها المؤلف منهجه في ذكر الروايات المختلفة بأسانيدها، وفي هذه الترجمة بعض الطول، وهي تحوي روايات متعارضة من مصادر مختلفة.
وفي القرن السادس للهجرة كتب صاحب «نزهة الألباء» المتوفى سنة 577ه، وهو كوفي يتعصب للكوفيين، فصلا يشبه إلى حد كبير فصل الخطيب البغدادي، ولم يبين وجه الصواب في الخلاف بين سيبويه والكسائي، ولكنه لم يستطع أن ينكر مواهب سيبويه ولا فضل كتابه، أما صاحب «معجم الأدباء» المتوفى سنة 626ه، فقد عقد لسيبويه فصلا مطولا، هو أطول ما كتب عن سيبويه إلى ذلك الحين، وفيه عيوب التأليف في تلك العصور، فلا ترتيب ولا تبويب، ولكنها روايات تجمع، ينتقل فيها من موضوع إلى غيره بلا صلة ولا رباط، وإن كانت له تحقيقات نافعة في كثير من الأحيان، كتحقيق سن سيبويه عند وفاته، كما تناول الحديث عن سيبويه في مواضع شتى، وفي هذا الكتاب نقل لرواية لم يمحصها وتركها كما رواها، قال: نقلت من خط أبي سعد السمعاني، مما انتخبه من طبقات أهل فارس وشيراز، تأليف الجاحظ أبي عبد الله محمد بن عبد العزيز الشيرازي القصار، بشير بن سعيد، وقيل: عمرو بن عثمان بن قنبر، يكنى أبا بشر سيبويه النحوي، «أخذ» عن الخليل بن أحمد، وهو من الحارث بن كعب، مات وكان على مظالم فارس، وقبره في شيراز، لم يزد في ترجمته على هذا. وأقول أنا بدوري: إن ياقوت لم يزد عن أن نقل هذه الترجمة ولم يمحصها، فهل ولي سيبويه مظالم فارس؟ أستبعد ذلك؛ إذ لم يرو غيره من المؤرخين نبأ كهذا، والمترجم يخطئ حتى في اسم سيبويه، مما يجعل هذه الترجمة تافهة قليلة القيمة.
عن هذه الكتب الخمسة أخذ ابن خلكان الذي توفي سنة 681ه، وقد عقد له فصلا موجزا ليس فيه من جديد سوى ضبط اسم سيبويه في العربية والفارسية. وأخذ السيوطي أيضا المتوفى سنة 911ه في كتاب «بغية الوعاة»، وأخذ المحدثون من أمثال جورجي زيدان، والرافعي، والإسكندري.
والأستاذ أحمد أمين في كتابه «ضحى الإسلام» قد تناول بالحديث نشأة النحو والتأليف فيه، ومدرسة البصرة والكوفة، وتحدث حديثا مجملا عن كتاب سيبويه، وذكر أن دراسة الكتاب وتحليله يحتاجان إلى فصل مطول.
وقد عرف المستشرقون سيبويه، وكتب عنه وعن مدرستي البصرة والكوفة وعن تلاميذه وأساتذته المستشرق
Huart
في كتابه
La Littérature arabe (الأدب العربي)، وتحدث عنه وعن كتابه وحقق اسمه، وترجم بعض فصول كتابه إلى الفرنسية المستشرق المعروف
Silvestre De Sacy
في كتابه
Anthologie Gramaticale arabe (مختارات من قواعد اللغة العربية)، وذكر الأستاذ جورجي زيدان في كتابه أن المستشرق ديرنبورج طبع سيبويه في مجلدين كبيرين في 1000 صفحة كبيرة، عليها تعاليق مفيدة، ومقدمة باللغة الفرنسية عن مسودات هذا الكتاب ومظانها، وما قيل فيها، وقد نقله إلى الألمانية الدكتور ياهن وطبع في برلين، والآن يجدر بنا أن نزن كتاب سيبويه، وأن ندرسه ونحلله، لنعرف قيمته الحقيقية.
كتاب سيبويه
(1) موقف الأقدمين منه
قال الجاحظ: أردت الخروج إلى محمد بن عبد الملك الزيات، ففكرت في شيء أهديه له، فلم أجد شيئا أشرف من كتاب سيبويه، وقلت له: أردت أن أهدي لك شيئا، ففكرت فإذا كل شيء عندك، فلم أر أشرف من هذا الكتاب، وهذا كتاب اشتريته من ميراث الفراء. قال: والله ما أهديت إلي شيئا أحب إلي منه.
وذكر صاعد بن أحمد الجياني من أهل الأندلس في كتابه قال: لا أعرف كتابا ألف في علم من العلوم قديمها وحديثها فاشتمل على جميع ذلك العلم وأحاط بأجزاء ذلك الفن غير ثلاثة كتب؛ أحدها المجسطي لبطليموس في علم هيئة الأفلاك، والثاني كتاب أرسطاطاليس في علم المنطق، والثالث كتاب سيبويه البصري النحوي، فإن كل واحد من هذه لم يشذ عنه من أصول فنه شيء إلا ما لا خطر له.
وقال السيرافي: كان كتاب سيبويه لشهرته وفضله علما عند النحويين، فكان يقال بالبصرة: قرأ فلان الكتاب، فيعلم أنه كتاب سيبويه، وقرأ نصف الكتاب، ولا يشك أنه كتاب سيبويه. وكان محمد بن المبرد إذا أراد مريد أن يقرأ عليه كتاب سيبويه يقول له: هل ركبت البحر؟ تعظيما له واستصعابا لما فيه.
وكان المازني يقول: من أراد أن يعمل كتابا كبيرا في النحو بعد كتاب سيبويه، فليستح.
وقال الزمخشري في هذا الكتاب:
ألا صلى الإله صلاة صدق
على عمرو بن عثمان بن قنبر
فإن كتابه لم يغن عنه
بنو قلم ولا أبناء منبر
تلك كانت نظرة الأقدمين إلى كتاب سيبويه نظرة التقدير والتعظيم، ولم يقتصر إجلال الكتاب على المعجبين بسيبويه، بل كان خصومه في تقديره والارتفاع به كالمحبين، حدث الأخفش - كما سبق أن روينا - أنه قرأ كتاب سيبويه على الكسائي في جمعة، فوهب له سبعين دينارا، قال: وكان الكسائي يقول له: «هذا الحرف لم أسمعه، فاكتبه لي، فأفعل.»
قيل: فكأن الجاحظ سمع هذا الخبر، فقال مما يعدده من فخر أهل البصرة على أهل الكوفة: وهؤلاء يأتونكم بفلان وفلان، وبسيبويه الذي اعتمدتم على كتبه وجحدتم فضله!
وحدث أبو الطيب اللغوي عن أبي عمر الزاهد قال: قال ثعلب يوما في مجلسه: مات الفراء (وهو كوفي كما نعلم) وتحت رأسه كتاب سيبويه.
والآن لكي نستكمل البحث نرى أن ندرس النقط الآتية: (1)
متى ألف سيبويه كتابه؟ (2)
متى ظهر الكتاب للجمهور؟ (3)
من روى هذا الكتاب؟ (4)
ثم ندرس خطة المؤلف وأسلوب عرضه. (5)
ونبحث بعد ذلك مصادر الكتاب، وشخصية المؤلف، وأثر الكتاب في دراسة النحو، وآراء منتقديه. (6)
ونختم البحث برأينا في الكتاب. (2) متى ألف سيبويه كتابه؟
تاريخ تأليف هذا الكتاب مجهول كل الجهل، ولم تذكر كل كتب التاريخ أن الكتاب ظهر في حياة مؤلفه، فالسيرافي والمؤرخون من بعده قد ذكروا أن الكتاب لم يظهر في حياة سيبويه، ولكنه ظهر بعد وفاته، والذي نقله عنه ورواه للجمهور تلميذه الأخفش، قال السيرافي: والطريق إلى كتاب سيبويه، الأخفش؛ وذلك أن كتاب سيبويه لا نعلم أحدا قرأه على سيبويه، ولا قرأه عليه سيبويه، ولكنه لما مات سيبويه قرئ الكتاب على أبي الحسن الأخفش، وكان ممن قرأه عليه أبو عمرو الجرمي، وأبو عثمان المازني. وقال ياقوت في معجمه: وكان الأخفش يستحسن كتاب سيبويه كل الاستحسان، فتوهم الجرمي والمازني أن الأخفش قد هم أن يدعي الكتاب لنفسه، فتشاورا في منع الأخفش من ادعائه، فقالا: نقرؤه عليه، فإذا قرأناه عليه أظهرناه، وأشعنا أنه لسيبويه، فلا يمكنه أن يدعيه. فأرغبا الأخفش وبذلا له شيئا من المال على أن يقرآه عليه، فأجاب، وشرعا في القراءة، وأخذا الكتاب عنه، وأظهراه للناس.
وتلك قصة تدل على أن الأخفش هو الراوي الوحيد لكتاب سيبويه، ويفهم منها أن كثيرا من الناس كان يعلم بتأليف سيبويه للكتاب، بل أرجح أن بعض أجزاء الكتاب كان معروفا للجمهور، وكذلك بعض ما استشهد به سيبويه من الشعر، بدليل ما ذكرناه من أن الأصمعي وجه هذا الشعر توجيها غير توجيه سيبويه، واضطر سيبويه إلى مناظرته كما ذكرنا. وإذا فالذي كان مجهولا هو الكتاب كاملا، أما بعضه فكان معروفا عند الجمهور، ولو أن أمر الكتاب كان مجهولا بالكلية، ولم يكن يعلم أحد أن سيبويه قد ألف كتابا لكان من الميسور الشك في نسبته إلى مؤلفه من ناحية، وهو ما لم يروه مؤرخ، بل الإجماع منعقد على أن هذا الكتاب لسيبويه.
غير أن عدم ظهور الكتاب كاملا طول حياة المؤلف يجعل من حقنا أن نستنبط منه أن سيبويه ظل إلى آخر أيام حياته يراجع مؤلفه، يزيد فيه وينقص، ويقدم ويؤخر، غير راض أن يظهره للجمهور إلا بعد أن يكون قد رضي هو نفسه عنه، فعاجلته المنية قبل أن يوفي على هذه الغاية، ويؤيد هذا الاستنباط أيضا أن الكتاب خال من مقدمة يضعها المؤلف في رأس كتابه، ليقدم بها الكتاب للجمهور، ويذكر فيها غرضه وخطته، وخال من خاتمة تنبئ بانتهاء المؤلف من فكرته، بل إن المؤلف لم يضع لكتابه اسما يميزه كما هو المألوف، مما يدل على أن سيبويه قد مات من غير أن يضع الكتاب في ثوبه النهائي .
والذي يلوح لي أن سيبويه قد استغرق في تأليف كتابه وقتا طويلا، وأنه قد بدأه في وقت مبكر، فكان يقيد ما يسمعه من أساتذته وما يراه فيما ألف قبله من الكتب، ويجمع المتفرق، ويؤلف من المتناثر مجموعا كاملا، وربما كان يعرض ما يكتبه على الأخفش الذي كان تلميذه، وفي الوقت نفسه أخذ النحو عمن أخذ سيبويه عنهم، وهنا نستبعد على رجل مثل الأخفش في علمه، وفي ثقة أستاذه أن ينسب الكتاب إلى نفسه، ولكنه وهم سبق إلى الجرمي والمازني.
ويظهر لي أن الكتاب قد ظهر للجمهور بعد موت سيبويه بقليل، فإن يونس بن حبيب قد راجع الكتاب، وأقر بصدق ما رواه سيبويه عنه، كما سبق أن ذكرنا، ويونس قد مات بعد عامين من وفاة تلميذه، كما أن الكسائي الذي توفي سنة ثلاث وثمانين ومائة قرأ الكتاب على الأخفش سرا، كما روى الأخفش.
هذا ويروي الأستاذ
Huart
أن الأخفش قد عارض أستاذه في بعض آرائه، ولكني لم أعثر فيما بين يدي من كتب على هذه الاعتراضات. (3) خطة المؤلف
لكتاب سيبويه وحدة وغرض معين؛ لأن موضوعه جمع القواعد النحوية والصرفية، وهنا يحسن أن نشير إلى أن كتاب سيبويه لا يقتصر على ذكر قواعد النحو فحسب، بل شمل قواعد الصرف أيضا، ففيه أبواب لأوزان الكلمة وأنواع الاشتقاق المختلفة، والتثنية، والجمع، والإعلال، والإبدال، والتصغير، والنسب، وغير ذلك من أبواب التصريف.
والكتاب مقسم إلى أبواب تبلغ زهاء ستمائة، كل باب منها يعالج ناحية من نواحي القواعد، وليس في الكتاب مقدمة كما ذكرنا، بل أوله في صميم الموضوع؛ إذ يتحدث عن أقسام الكلمة، فيقول: «هذا باب علم ما الكلم من العربية». والكتاب جزءان: يحتوي الجزء الأول منهما على الكلم وأقسامه، والفاعل، والمفعول، وما يعمل عمل الفعل، وإعمال المصدر، واسم الفاعل، والصفة المشبهة، والحال، والظرف، والجر، والتوابع، والمعرفة والنكرة، والمبتدأ والخبر، والأسماء التي بمنزلة الفعل، والأحرف المشبهة به، والنداء، والترخيم، والنفي بلا، والاستثناء، وباب لكل من أحرف الجر. وفي الجزء الثاني ما ينصرف وما لا ينصرف، والنسب، والتصغير ، والمقصور والممدود، والجمع، والوقف، والإعلال، والإبدال، ووزن الكلمات، ولكن ترتيب الكتاب يخالف النهج الذي نتبعه ويتبعه المؤلفون المتأخرون فيما يأتي:
أولا:
ترتيب أبواب الكتاب يخالف ما عهدناه من الترتيب فيما نتداوله من الكتب التي بين أيدينا، فلا يأتي بالمرفوعات كلها على حدة ثم المنصوبات والمجرورات مثلا، بل بعضها ممزوج ببعض، كما رأينا ذلك وأنا أسرد أبواب الكتاب، فينتقل من الفاعل إلى المفعول، ثم بعد أبواب كثيرة يذكر المبتدأ والخبر، وهكذا.
ثانيا:
لا يسير في ترتيب أبوابه وفصوله على الطريقة المنطقية الدقيقة، فيقدم أبوابا من حقها أن تتأخر، ويؤخر أبوابا من حقها أن تتقدم، ويضع فصولا في غير موضعها الطبيعي، فهو يتحدث عن المسند إليه والمسند، وكان من اللائق أن يستوفي أبواب المسند إليه، من مبتدأ وفاعل وغيرهما، ثم يعود إلى المسند ليستوفي أنواعه وأحكامه، ولكنه لم يتبع ذلك، وكثيرا ما تقول - وأنت تقرأ الكتاب - ليت ذلك الباب وضع هنا، أو ليت ذلك الفصل قد انتقل إلى هناك.
ثالثا:
يذكر سيبويه الباب العام، ثم يعقد لكل مسألة من مسائله تقريبا بابا خاصا يعالجها، فهو يعنون مثلا للتصغير، ويذكر صيغه المختلفة، ثم يعقد أبوابا للمسائل الجزئية فيه، فتجد بابا لتصغير ما يكون على خمسة أحرف، وآخر لتصغير المضاعف، وبابا لتصغير ما كان على ثلاثة أحرف ولحقته الزيادة للتأنيث، وأبوابا أخرى لفروع التصغير المختلفة.
رابعا:
يذكر مسائل في أبواب نضعها نحن تحت عنوانات أخرى، فمثلا هو يعد في أبواب الفاعل بابا للفاعل الذي لم يتعده فعله إلى مفعول، وبابا آخر للفاعل الذي يتعداه فعله إلى مفعول، وبابا ثالثا للفعل الذي يتعداه فعله إلى مفعولين، بينما نحن الآن نضع ذلك تحت عنوان الفعل المتعدي واللازم.
خامسا:
لا يذكر دائما مسائل الباب الواحد سلسلة متصلة متتابعة، بل يذكر بعضها في موضع وبعضها الآخر في موضع ثان، بعد أن يفصل بينهما في كثير من الأحيان بأبواب أخرى، وتذكر هذه المسائل لمناسبات تستدعيها.
سادسا:
إن الاصطلاحات النحوية لم تكن قد استقرت بعد؛ ومن أجل ذلك نجده يضع عناوين طويلة لأبواب، وغالبا ما تكون هذه العناوين غير مفهومة لنا، فترى نفسك مضطرا إلى العودة إلى صلب الكتاب لتفهم المقصود منها، وقلما تجد عنوانا مفهوما لك في هذا الكتاب، وحسبك أن تعلم أنه وضع لإن وأخواتها هذا العنوان: «هذا باب الحروف الخمسة التي تعمل فيما بعدها كعمل الفعل فيما بعده، وهي من الفعل بمنزلة عشرين من الأسماء التي بمنزلة الفعل، ولا تصرف تصرف الأفعال، كما أن عشرين لا تصرف تصرف الأسماء التي أخذت من الفعل وكانت بمنزلته، ولكن يقال بمنزلة الأسماء التي أخذت من الأفعال وشبهت بها في هذا الموضع، فنصبت درهما لأنه ليس من نعتها، ولا هي مضافة إليه، ولم ترد أن تحمل الدرهم على ما حمل العشرون عليه، ولكنه واحد بين به العدد، فعملت فيه كعمل الضارب في زيد، إذا قلت: هذا ضارب زيدا؛ لأن زيدا ليس من صفة الضارب ولا محمولا على ما حمل عليه الضارب، وكذلك هذه الحروف منزلتها من الأفعال»، وبعد ذلك كله يقول: وهي إن ولكن وليت ولعل وكأن. ويضع عنوانا لباب كان وأخواتها قوله: «وهذا باب الفاعل الذي يتعدى اسم الفاعل إلى اسم المفعول، واسم الفاعل والمفعول فيه لشيء واحد».
ويضع عنوانا للمفعول لأجله قوله: «هذا باب ما ينتصب من المصادر لأنه عذر».
ويدلنا على أن الاصطلاحات النحوية لم تكن قد استقرت أنه لم يضع لأسماء الإشارة أسماء، بل دعاها: الأسماء المبهمة، كما كان يدعو التسكين: جزما، فيقول: وجزمت لدنه، ويسمي المقصور: منقوصا، وغير ذلك كثير.
سابعا:
يذكر القاعدة وأمثلتها، ويمزج ذلك بالتعليلات المنطقية، وبيان وجه القياس فيما يذكره من القواعد، وعرض الآراء المختلفة في الموضوع الواحد.
ثامنا:
يفرض فروضا يضع لها أحكاما، فيقول مثلا (ص3 / 2): «ولو جاء في الكلام شيء نحو أكلل وأيقق فسميت به رجلا صرفته؛ لأنه لو كان أفعل لم يكن الحرف الأول إلا ساكنا مدغما.»
تاسعا:
لم تكن الأبواب قد تميز بعضها من بعض التميز الكافي، ويدلنا على ذلك باب التمييز وباب التعجب، مما لم تتحدد معالمه التحدد الواضح في كتاب سيبويه. (4) دراسة باب من أبواب الكتاب
ولعل من الخير أن ندرس بابا من أبواب الكتاب لنرى في صورة أوضح منهج الكتاب في التأليف، وطريقته في تناول مسائل النحو، ولنأخذ باب الحال لنرى الفرق بين تناول سيبويه له وتناول المحدثين.
لم يضع سيبويه عنوانا للحال ثم يذكر أحكامه المختلفة، كما نرى ذلك مثلا عندما نأخذ كتابا كالتوضيح، بل ذكر أحكام الحال موزعة في نواح شتى، وأول ما ذكر باب الحال في كتاب سيبويه كان بين أبواب المفعول، وعنون له سيبويه بقوله: «هذا باب ما يعمل، فينتصب وهو حال وقع فيه الفعل وليس بمفعول أوضح»، وفي هذا الفصل أوضح سيبويه لم لا يجوز أن يعرب الحال مفعولا، وبعد أبواب عدة تحدث فيها سيبويه عن كان وأخواتها، وظن وأخواتها، والتنازع، والاشتغال، وإعمال اسم الفاعل، والمصدر، والصفة المشبهة، والمفعول المطلق، وشيء من التمييز، والتحذير، والمفعول معه، وعاد إلى المفعول المطلق، عرض بين أبوابه بابين من أبواب الحال، عنون لأحدهما بقوله: «هذا باب ما ينتصب من الأسماء انتصاب الفعل استفهمت أو لم تستفهم.» وذكر تحت هذا العنوان حكم الحال عندما يكون عامله محذوفا، وذلك مثل قولك: أقائما وقد قعد الناس. وقدر سيبويه أن العامل فيه فعل من لفظه، كأنه يقول: أتقوم قائما. قال السيرافي: وأنكره بعض الناس؛ لأن لفظ الفعل لا يكاد يعمل في اسم الفاعل الذي من لفظه. قال المبرد: والقول عندي ما قاله سيبويه؛ لأنه قد تكون الحال توكيدا كما يكون المصدر توكيدا. وعنون للباب الثاني بقوله: «وهذا باب ما جرى من الأسماء التي تؤخذ من الفعل مجرى الأسماء التي أخذت من الفعل»، وذكر في هذا الباب ما يكون عامل الحال فيه محذوفا وليس من لفظه، وذلك مثل قولك: أتميميا مرة وقيسيا أخرى؛ أي أتدعي أو أتتحول، وإنما ذكر هذين البابين بين أبواب المفعول المطلق لمشابهتهما له في أن عامله أحيانا يكون محذوفا، كقول جرير: «ألؤما لا أبا لك واغترابا»؛ أي أتلؤم لؤما وتغترب اغترابا، ثم عاد بعد ذلك إلى المفعول المطلق في أبواب كثيرة، وانتقل إلى المفعول لأجله، ثم عاد إلى باب الحال، فذكر في أبواب شتى المصادر التي تعرب حالا، سواء أكانت نكرة أم معرفة، والأسماء التي تعرب كالمصادر أحوالا مع أنها معرفة. وذكر هذه الفصول من الحال في هذا الموضع؛ لأن الحال مصدر أو كالمصدر. وبعد أن ذكر بابا آخر في المفعول المطلق عقد بابا فيه مسائل مشتركة بين الحال والمفعول، ثم عاد بعد فصل آخر ليس من باب الحال إلى ذكر أبواب للحال التي تقع جامدة، مما يدل على مفاعلة، ككلمته فاه إلى في، أو سعر، والحال التي تقع معرفة، ثم انتقل إلى ظرف الزمان والمكان، وباب الجر، وباب النعت، والعطف، والبدل، ثم عاد إلى باب الحال عندما يكون العامل فيه الابتداء، مثل قولك: ما شأنك قائما، وترك ذلك إلى النعت المقطوع وأطال فيه، ثم عاد إلى باب الحال، فذكر فصلا عندما يكون صاحبها خبرا لاسم إشارة أو ضمير، وفصلا آخر عندما يكون صاحبها معرفة ونكرة، مثل قولك: هذان رجلان وعبد الله منطلقين، وبابا لما يصح أن يعرب حالا أو خبرا، مثل: هذا الرجل منطلق أو منطلقا. وبابا لما يعرب حالا، وكان في الأصل خبرا مثل: فيها عبد الله قائما. ثم ذكر شيئا من باب المعرفة والنكرة، وعاد إلى أبواب أخرى من أبواب الحال، هذا إلى مسائل متناثرة منه هنا وهناك تذكر في أبواب أخرى لمناسبة بينها وبين هذه الأبواب.
هذه صورة لباب من الأبواب التي تناولها الكتاب، ذكرت مسائله موزعة في أماكن شتى، تبعا للمناسبات التي تستدعيها، ولكن من الواجب أن أشير إلى أنه ليس كل الأبواب في الكتاب كباب الحال، بل بعضها أفضل منه حظا، فذكرت مسائلها متقاربة نوعا من التقارب، كما كان بعضها أسوأ منه حظا، فعرضت مبعثرة متناثرة.
وعذر سيبويه في ذلك كله أمران؛ أولهما أن ترتيب أبواب النحو الترتيب النهائي لم يكن قد تم بعد، وثانيهما ما رجحناه من أن سيبويه لم يضع كتابه في وضعه النهائي كما أسلفنا. (5) أسلوب الكتاب
كتاب سيبويه كتاب موضوع للعلماء، وهو من أجل ذلك موجز، كل كلمة فيه موضوعة لمعنى، فهو يشبه مع ضخامته متنا من المتون؛ ومن أجل ذلك وضع عليه العلماء كثيرا من الشروح، وقد يستغرب أن أقول: إنه مع الإيجاز يلتزم جانب التفصيل والتوضيح لما يتناوله حتى يستوفيه، ولكن لا محل للغرابة إذا ذكرنا أنه مع التفصيل يلتزم جانب الإيجاز أيضا، والذي ساعده على التفصيل تجزئة الموضوع إلى أبواب كثيرة يستوفي في كل باب منها مسألة، يذكر قاعدتها وأمثلتها ويفرعها ويفرض فروضا يضع لها أحكاما، ويذكر فيها الآراء المختلفة.
وهذا الإيجاز الذي تحدثت عنه يسبب في أحيان كثيرة غموضا وإبهاما والتواء، مما يحتاج إلى إعمال الروية والتأني في فهم غرض المؤلف، ولست أرمي إلى أن الكتاب غامض أنه غير مفهوم، بل أريد أن أثبت أن الغموض واقع في بعض الفصول، ولكنه في الأغلب واضح، غير أنك لا تستطيع مع ذلك أن تقرأه إلا وأنت متريث على مهل، وأسلوب الكتاب يرمي إلى التفهيم لا التأثير، ومع ذلك لا أستطيع أن أخفي ضعف الإبانة في كثير من صفحات الكتاب. (6) مصادر الكتاب
وبعد، فمن المستبعد أن يظهر كتاب شامل في النحو والصرف ككتاب سيبويه من غير أن يكون قد سبقته محاولات اقتبس منها، وسار على هداها، وهم يقولون لذلك: إن سيبويه قد اقتبس ممن سبقه، ولا سيما عيسى بن عمر الثقفي، الذي ألف كتابين في هذه المادة، سماهما: الإكمال والجامع، ويروون أن الخليل قال فيهما:
ذهب النحو جميعا كله
غير ما أحدث عيسى بن عمر
ذاك إكمال، وهذا جامع
فهما للناس شمس وقمر
غير أن هذين الكتابين لم يبقيا، وعفى على آثارهما كتاب سيبويه، ويظهر لي أنه من الحق أن نعد كتاب سيبويه ثمرة لكل الجهود التي قام العلماء والمؤلفون بها، منذ بدأ أبو الأسود هذا النحو، فجمع سيبويه ما تفرق في كتبهم، وما استشهدوا به من شعر، ورتبه ونظمه، وأضاف إليه ما سمعه بنفسه.
وهكذا يجب أن نفهم ما قاله ثعلب: اجتمع على صنعة كتاب سيبويه اثنان وأربعون إنسانا، منهم سيبويه، والأصول والمسائل للخليل؛ فليس معناه أن واحدا وأربعين إنسانا اشتركوا مع سيبويه في تأليف كتابه، ولكن معناه أن سيبويه قد انتفع بعلم من سبقه - وقد كانوا كثيرين - وبنتائج أبحاثهم.
أما هذه الرواية التي نقلها ابن خلكان في ترجمة عيسى بن عمر حين قال: وأخذ سيبويه عنه النحو، وله الكتاب الذي سماه: الجامع في النحو، ويقال: إن سيبويه أخذ هذا الكتاب وبسطه وحشى عليه من كلام الخليل وغيره، ولما كمل بالبحث والتحشية نسب إليه، وهو كتاب سيبويه المشهور. قال ابن خلكان: والذي يدل على صحة هذا القول أن سيبويه لما فارق عيسى بن عمر المذكور، ولازم الخليل بن أحمد، سأله الخليل عن مصنفات عيسى، فقال له سيبويه: صنف نيفا وسبعين مصنفا في النحو، وإن بعض أهل اليسار جمعها، وأتت عنده عليها آفات، فذهبت ولم يبق منها في الوجود سوى كتابين؛ أحدهما اسمه الإكمال، وهو بأرض فارس عند فلان، والآخر الجامع، وهو هذا الكتاب الذي أشتغل فيه وأسألك عن غوامضه. فأطرق الخليل ساعة ثم رفع رأسه وقال: رحم الله عيسى. وأنشد: ذهب النحو ... إلخ.
أما هذه الرواية فمنقوضة لا أساس لها من الصحة فيما أرى، وهي أقرب إلى التأليف منها إلى الحق والصواب، فغريب ألا توجد من مؤلفات عيسى سوى نسخة واحدة عند هذا الثري، وغريب أيضا أن تأتي الآفة على جميع كتبه غير هذين الكتابين، هذا إلى أنني أستبعد على الخليل بن أحمد، ومنزلته في النحو منزلته ألا يكون قد اطلع على أهم ما خلفه عيسى بن عمر، وأستبعد عليه، وهو الرجل الذي يزن كلامه بميزان الذهب أن يتحدث عن كتابين لم يرهما هذا الحديث المليء بالإكبار والإعجاب، وأستبعد عليه أيضا أن يظل جاهلا أن تلميذه يقرأ عليه كتاب الجامع ليشرحه ويحشوه. هذا وكتاب سيبويه ليس فيه ما يدل على أن أصله متن وشرح، ولكنه كتاب وضع وضعا ابتدائيا كذلك، وليس معنى هذا أنه لم ينتفع بكتابي عيسى بن عمر، بل قد انتفع بهما وبغيرهما، شأنه في ذلك شأن كل مؤلف محترم حتى عصرنا الحاضر ، يريد أن يضع كتابا قيما، فمن المحتم عليه أن يرجع إلى ما سبقه من الكتب يستفيد بنتائجها وتجاربها، ولا يعد ذلك عيبا في المؤلف أو نقصا في كتابه، بل إنه ليعد ناقصا مقصرا إذا لم يرجع إلى الكتب المؤلفة قبله.
استفاد سيبويه، ومن حقه أن يستفيد، من الكتب السابقة، ونقل أيضا عن أساتذته الذين تحدثنا عنهم فيما مضى، وكلهم من البصريين، ولم يأخذ إلا عن الرؤاسي من الكوفيين، ناقلا عن كتابه الذي سماه: الفيصل - كما ذكر ذلك ياقوت - وأكثر من روى عنه الخليل بن أحمد، وإن سيبويه ليقف منه في الكتاب موقف التلميذ من أستاذه، يسأله عن الأحكام والعلل وفروق القياس، ويثبت إجابة الخليل، بل لقد نقل إلينا في فصل من فصول الكتاب درسا من دروسه، فقد عقد بابا عنوانه: هذا باب إرادة اللفظ بالحرف الواحد (ص61، ج2)، قال: قال الخليل يوما وسأل أصحابه: كيف تقولون إذا أردتم أن تلفظوا بالكاف التي في لك والكاف التي في مالك والباء التي في ضرب؟ فقيل له: نقول: باء، كاف. فقال: إنما جئتم بالاسم ولم تلفظوا بالحرف. وقال: أقول كه وبه. فقلنا: لم ألحقت الهاء؟ فقال - وهنا أوجه النظر إلى مثل من أمثلة القياس الذي كان يستخدمه الخليل - قال: رأيتهم قالوا: عه، فألحقوا هاء حتى صيروها يستطاع الكلام بها؛ لأنه لا يلفظ بحرف، فإن وصلت قلت: وب، فاعلم يا فتى، كما قالوا: ع يا فتى. ويمضي سيبويه بعد ذلك ناقلا أسئلة الخليل وأجوبته وأجوبة تلاميذه، ونستطيع أن نأخذ من ذلك صورة لسير الدروس في ذلك الحين، فقد كانت تسير على طريقة المناقشة لا الإلقاء.
ونقل سيبويه كثيرا عن يونس أيضا، حتى لقد ينقل عنه أبوابا برمتها، ففي الكتاب فصلان في التصغير نقلهما عنه، وقال: وجميع ما ذكرت لك في هذا الباب، وما أذكر لك في الباب الذي يليه قول يونس. كما كان يروي عن أبي الخطاب الأخفش الكبير، ويقول: حدثني من أثق بعربيته ... ويريد: أبا زيد، كما سبق أن ذكرنا، ويحكي أقوال أبي عمرو بن العلاء، ويوازن بينها وبين قول الخليل ويونس، وكان رائده الحق، فلا يتعصب للخليل، بل للصواب، فنسمعه يقول أحيانا: وقول يونس أقوى. وأحيانا يروي عن العرب مباشرة ويقول إنه سمع منهم، وذلك كله يدل على سعة اطلاع سيبويه وتضلعه. (7) شخصية المؤلف
استفاد سيبويه - ولا ريب - من الكتب المؤلفة قبله، وأخذ عن أساتذته - كما ذكرنا - فهل أفنى كل ذلك شخصية المؤلف، فأصبح جماعا ليس غير؟
إن كتاب سيبويه لتطل منه شخصيته واضحة قوية فيما يأتي:
أولا:
أسلوبه، فالمعلومات قد يتلقاها المرء من هنا ومن هنا، ولكن وضع هذه المعلومات في أسلوب خاص وطريقة خاصة من طرق التعبير هو ما يميز شخصا من آخر، يقول
Buffon
في حديثه عن الأسلوب: إن الموضوعات والمكشوفات تسرق، وتنتقل، وتكتب أيضا بأيد أكثر مهارة، إن هذه الأشياء خارجة عن الرجل، أما الأسلوب فالرجل نفسه، وإذا فشخصية سيبويه واضحة كل الوضوح في أسلوبه الذي صاغ به معلوماته التي أخذها من جميع المصادر المعروفة في ذلك الحين.
ويقول بعض المؤرخين: إن الكتاب معقود بلفظ الخليل، وهو ما لا أوافق عليه، فالكتاب بين أيدينا معقود بلفظ سيبويه، وما نقله عن الخليل أو غيره نسبه إليه في صراحة، وقد تحدثنا عن أسلوب سيبويه فيما مضى.
ثانيا:
تبويب الكتاب وتقسيمه وترتيبه، وذلك من صنع سيبويه، ولا نستطيع أن نعرف إلى أي مدى استفاد من تبويب الكتب السابقة؛ لأنها لم تصل إلينا.
ثالثا:
الاستنباط وحسن التعليل والبرهنة والتفريع، وحظ سيبويه من ذلك حظ غير يسير، فلا تكاد تخلو صفحة من صفحات الكتاب من استنباط يسوقه، أو تعليل يأتي به، أو برهان يقدمه، أو تفريغ يذكر أحكامه المختلفة، مما يدل على عبقرية ممتازة وشخصية قوية لا تكتفي بالنقل والتقليد.
شخصية سيبويه واضحة إذا في كتابه كل الوضوح، فالكتاب كتاب سيبويه، كتبه بقلمه، وصاغ أسلوبه بفكره، واشترك فيما فيه من استنباط وتعليل وبرهنة وتفريع، وهل يعظم الخليل سيبويه إلا إذا كان قد رآه آخذا طريقته، مجيدا للتعليل والقياس والتفريع. (8) شواهد الكتاب
للكتاب مصدران من الشواهد، هما : القرآن الكريم، وكلام العرب وأشعارهم وأمثالهم وحكمهم، وفي العصر القديم احتاج العلماء إلى شعر العرب يستنبطون منه قواعدهم، ويثبتون به آراءهم، وكانوا يستشهدون على ذلك بأشعار الطبقتين من الجاهليين والمخضرمين، ثم اختلفوا في الإسلاميين كجرير والفرزدق، والأكثر على جواز الاستشهاد بأشعارهم، وكان أبو عمرو بن العلاء وعبد الله بن أبي إسحاق والحسن البصري يلحنون الفرزدق والكميت وذا الرمة ومن على شاكلتهم، ويعدونهم من المولدين الذين لا يجوز الاستشهاد بكلامهم، وقد كان بين ابن أبي إسحاق وبين الفرزدق خصومة ونزاع، فقد سمع الفرزدق يقول:
وعض زمان يا ابن مروان لم يدع
من المال إلا مسحتا أو مجلف
فرأى أن «مجلف» في رفعها لا تناسب مسحتا في نصبها، فاعترض على الفرزدق، فهجاه الفرزدق بقوله:
فلو كان عبد الله مولى هجوته
ولكن عبد الله مولى مواليا
فاعترض ابن أبي إسحاق على قوله «مولى مواليا» أيضا، وقال: بل هو مولى موال، وسمع قول الفرزدق:
مستقبلين شمال الشام تضربنا
بحاصب كنديف القطن منثور
على عمائمنا تلقى وأرحلنا
على زواحف تزجى، مخها رير
1
فقال ابن أبي إسحاق: إنما هو رير. وخالفه يونس، فقال: إن ما قاله الفرزدق جائز حسن. فلما ألحوا على الفرزدق قال: زواحف تزجيها محاسير.
ولكن الثقات مجمعون على أن الاستشهاد بالشعراء جائز به وبطبقته، وبمن جاء بعده من المحدثين الذين ينتسبون في العرب، ولم يتجاوز الثقات بهم مخضرمي الدولتين الأموية والعباسية، روى ابن قتيبة عن الأصمعي أنه قال: ساقة الشعراء ابن ميادة (سنة 149) وابن هرمة ورؤبة (سنة 145) وحكم الخضري وجميعهم من مخضرمي الدولتين الأموية والعباسية.
هذا، وقد كان البصريون يجتهدون - كما ذكرنا - في أن يتعرفوا قائل الشعر، وخلوص عربيته، ولا يأخذون شواهدهم إلا من العرب الخلص الذين لم تفسد ألسنتهم بمجاورة الأعاجم، وهم يتثبتون قبل أن يستنبطوا، أما الكوفيون فليس لهم ما لهؤلاء من التدقيق والتحقيق.
وقد بذل سيبويه جهده في تخير شواهد كتابه، وأخذ هذه الشواهد عن الجاهلية كزهير والنابغة، والمخضرمين كحسان والحطيئة، وشعراء الأمويين كجرير والفرزدق والكميت وابن أبي ربيعة وابن قيس الرقيات وجميل والأخطل، وأخذ عمن قال الثقات إن شعرهم آخر شعر يحتج به، وهم: ابن ميادة وابن هرمة ورؤبة بن العجاج، فكان موقفه من هؤلاء الإسلاميين غير موقف أبي عمرو بن العلاء وصحبه، ولست أدري رأي سيبويه في بيت الفرزدق: «مستقبلين شمال الشام ...» ولعله يوافق رأي أستاذه يونس، من جوازه واستحسانه، ولا رأيه في البيت الأول: وعض زمان ... أما رأيه في البيت الثاني، فقد ذكره في الجزء الثاني من كتابه (ص58) وبين أن الخليل قد خرجه على الضرورة الشعرية التي تحفظ ولا يقاس عليها.
أما موقف سيبويه من بشار فلم يستشهد بشعره في كتابه، وروي أن سيبويه طعن على بشار في قوله:
فالآن أقصر عن سمية باطلي
وأشار بالوجلى علي مشير
وفي قوله:
على الغزلى مني السلام فربما
لهوت بها في ظل مرءومة زهر
وفي قوله يصف سفينة:
تلاعب نينان البحور وربما
رأيت نفوس القوم من جريها تجري
وقال: لم يسمع من الوجل والغزل فعلى، ولم أسمع بنون ونينان، فبلغ ذلك بشارا، فغضب وهجاه - وكلنا يعلم مرارة لسان بشار - بقوله:
أسبويه يا ابن الفارسية ما الذي
تحدثت عن شتمي وما كنت تنبذ؟!
أظلت تغني سادرا في مساءتي
وأمك بالمصرين تعطي وتأخذ!
وأي هجاء أبلغ من حذف المفعول في الفعلين: تعطي وتأخذ، فيقال إن سيبويه توقاه بعد ذلك، وكان إذا سئل عن شيء فأجاب عنه ووجد له شاهدا من شعر بشار احتج به استكفافا لشره، ولعل بشارا أراد أن يحتج سيبويه بشعره، فغير نينان البحور وجعلها تيار البحور.
هذا، وأما جمع نون على نينان فقد أثبته صاحب القاموس واللسان، وحكى السيد المرتضى في شرح القاموس تخطئة سيبويه لبشار، ثم قال: واستعمله المتنبي وغلطوه أيضا.
تثبت سيبويه في اختيار شواهد كتابه حتى ليقال إنها أصح شواهد، وقد انتقد بعضهم بعض شواهده، فالمبرد في كامله يقول: وقد روى سيبويه بيتين محمولين على الضرورة، كلاهما مصنوع، وليس أحد من النحويين المفتشين يجيز مثل هذا في الضرورة، والبيت الأول هو:
هم القائلون الخير والآمرونه
إذا ما خشوا يوما من الأمر معظما
والثاني:
ولم يرتفق والناس محتضرونه
جميعا، وأيدي المعتفين رواهقه
والبيتان مذكوران في الجزء الأول من كتاب سيبويه في باب إعمال اسم الفاعل، وقد رجعت إليهما، فوجدت سيبويه يقول: واعلم أن حذف النون والتنوين لازم مع علامة المضمر غير المنفصل ... وقد جاء في الشعر، فزعموا أنه مصنوع، ثم أورد البيتين المذكورين، فسيبويه يخبر كذلك أنهما مصنوعان، فلا وجه لاعتراض المبرد عليه.
وروى أيضا أن سيبويه سأل اللاحقي: هل تحفظ للعرب شاهدا على إعمال فعل؟ قال اللاحقي: فوضعت له هذا البيت:
حذر أمورا لا تضير، وآمن
ما ليس منجيه من الأعداء
وقد رجعت إلى كتاب سيبويه فلم أجد هذه القصة، ولكنه أورد البيت شاهدا على إعمال فعل، وقد علق الأعلم الشنتمري بعد أن ذكر قول من زعم صناعة هذا البيت بقوله: وإن كان هذا صحيحا فلا يضر ذلك سيبويه؛ لأن القياس يعضده، وقد ألفيت في بعض ما رأيت لزيد الخيل بن مهلهل الطائي بيتا في تعدي فعل، وهو قوله:
أتاني أنهم مزقون عرضي
جحاش الكرملين لها فديد
فقال: مزقون عرضي كما نرى، وأجراه مجرى ممزقين، وهذا لا يحتمل غير هذا التأويل، فقد ثبت صحة القياس بهذا الشاهد القاطع.
وأقول بدوري: إن ذلك لن يكون مطعنا في شواهد سيبويه التي يبلغ عددها ألفا وخمسين بيتا، حدث التاريخي عن المبرد عن المازني عن الجرمي قال: في كتاب سيبويه ألف وخمسون بيتا، سألت عنها فعرف ألف ولم تعرف خمسون أي من قائليها، وذكر الأستاذ الرافعي في هامش كتابه أن المرحوم الشقنقيطي ذكر في حماسته المطبوعة أنه علم واحدا من هذه الخمسين، وهو قول القائل: «أفبعد كندة تمدحن قبيلا»، فقال إنه لامرئ القيس، ولكني رجعت إلى كتاب سيبويه فوجدت هذا الشطر بالجزء الثاني (ص151) في باب نون التوكيد منسوبا إلى شاعر يسمى «مقنعا»، ولعل الأستاذ الشقنقيطي نسبه إلى امرئ القيس لما فيه من مدح كندة قبيلة الشاعر، وذكر الأستاذ الرافعي رأيه، فقال: والصحيح أن تلك الأبيات التي منها هذا الشطر موضوعة على امرئ القيس، لنزولها عن طبقته، وظهور الصنعة والتوليد فيها.
هذا وقد كان استشهاد سيبويه في كتابه بآيات من القرآن الكريم مدعاة إلى تحرج بعض العلماء أن يدرس الكتاب لغير المسلمين، قال صاحب كتاب الوافي بالوفيات: وكان المازني في غاية الورع، قصده بعض أهل الذمة ليقرأ عليه كتاب سيبويه، وبذل له مائة دينار في تدريسه إياه فامتنع، فقال له المبرد: جعلت فداك! أترد هذه المنفعة، مع فاقتك وشدة إضاقتك؟! فقال: إن هذا الكتاب يشتمل على ثلاثمائة وكذا وكذا آية من كتاب الله عز وجل، ولست أرى أن أمكن منها ذميا، وغيرة على كتاب الله وحمية له. (9) الكتاب ودراسة النحو
أصبح كتاب سيبويه بعد أن ظهر للناس برنامجا لمن أراد الدراسة العليا في النحو، وأصبح الطالب لا يعد مستكملا هذا النوع من الدراسة إلا إذا قرأ كتاب سيبويه، وصار اسم الكتاب يطلق عليه، ويفتخر الطلبة بأنهم قرءوه، وممن باهى بذلك أبو نواس وغيره من شعراء العصر، وقد ذكرت فيما مضى مغالاة الناس بهذا الكتاب، وحرصهم على دراسته سواء أكانوا من محبي سيبويه أم من خصومه، ومن هؤلاء الأعلام الذين درسوا كتاب سيبويه في تلك العصور الأولى غير من ذكرناه فيما سبق: الجرمي، والزيادي، والسجستاني، وأبو العباس المبرد وغيرهم، ولم يكن يحسب العالم عالما في النحو إلا إذا درس كتاب سيبويه كله، قال أبو علي الفارسي: جئت لأسمع من ابن السراج سيبويه، وحملت إليه ما حملت، فلما انتصف الكتاب عسر علي إتمامه، فانقطعت عنه لتمكني من مسائله، فقلت في نفسي بعد مدة: إذا عدت إلى فارس، وسئلت عن إتمامه، فإن قلت: نعم. كذبت، وإن قلت: لا. بطلت الرواية. (10) العناية بالكتاب
وكان كتاب سيبويه منذ تأليفه موضعا لمراجعة العلماء، منهم من يشرحه ومنهم من ينظم ترتيب أبوابه، ومن هؤلاء ابن السراج الذي ألف كتاب الأصول، وقد جمع فيه أصول علم العربية، وأخذ مسائل سيبويه، ورتبها أحسن ترتيب، كما أنه شرح كتاب سيبويه.
وممن شرح كتاب سيبويه أيضا سعيد بن المرزبان، والأخفش الصغير أبو سعيد السيرافي، كما قام بشرح شواهده يوسف بن سليمان الشنتمري.
ولم يقف كتاب سيبويه عند حدود المشرق، بل جاز البحر إلى بلاد الأندلس، وقد عقد الأستاذ الرافعي في كتابه تاريخ آداب العرب فصلا تحدث فيه عن كتاب سيبويه في الأندلس، فذكر أن أقدم ما وقف عليه ممن حفظ كتاب سيبويه هناك هو حمدون النحوي، المتوفى بعد المائتين، ثم ذكر من شهر بحفظ الكتاب وتدريسه وشرحه والتعليق عليه، مما يدل على ما لاقاه هذا الكتاب في الأندلس من الإجلال وحسن التقدير تقديرا لا يقل عن تقدير أهل المشرق له إن لم يزد، حتى كانوا يتنافسون في حفظه عن ظهر قلب، وقد قام بعضهم باختصاره للطلبة المبتدئين، ومن أشهرهم أبو حيان في القرن الثامن. (11) ما أخذه العلماء على سيبويه
قال ثعلب: يقول سيبويه في كتابه في غير نسخة: «حاشا حرف يخفض ما بعده، كما تخفض حتى، وفيها معنى الاستثناء»، وقد رد عليه الزجاج بأن ذلك في كتابه، وهو صحيح ذهب في التذكير إلى الحرف، وفي التأنيث إلى الكلمة، قال ثعلب: والأجود أن يحمل الكلام على وجه واحد، فرد عليه الزجاج بأن كلا جيد، قال الله تعالى: «ومن يقنت منكن لله ورسوله ويعمل صالحا»، وقرئ:
وتعمل صالحا ، وقال عز وجل:
ومنهم من يستمعون إليك
ذهب إلى المعنى، ثم قال:
ومنهم من ينظر إليك
ذهب إلى اللفظ، وليس لقائل أن يقول: لو حمل الكلام على وجه واحد في الاثنين كان أجود؛ لأن كلا جيد.
أما الفراء فكان يقول: إن سيبويه لا يدري حد التعجب. ولقد رجعت إلى الكتاب فلم أجد سيبويه قد استوفى حقا أبواب التعجب وفروعه المختلفة.
وأما المبرد، فيقول الأستاذ الرافعي: إنه أفرد كتابا في القدح في كتاب سيبويه والغض منه، ولم أطلع على هذا الكتاب الذي وضعه المبرد، ولم أعرف النقط التي خالفه فيها، ولكن ياقوتا في معجمه ذكر أن عبيد الله القصري ألف كتابا سماه : الانتصار لسيبويه على أبي العباس في كتاب الغلط.
وذكر الأستاذ «جورجي زيدان» أن أبا بكر الزبيدي ألف كتابا سماه: كتاب الاستدراك على كتاب سيبويه، انتقد فيه مواد هامة، وطبع في روما سنة 1890م بعناية الأستاذ «جويدي» المستشرق الإيطالي. (12) رأينا في الكتاب (1)
الكتاب في نظرنا مرجع من المراجع، نعود إليه عندما نؤلف كتابا في القواعد العربية. (2)
وهو صورة لآخر ما وصل إليه التقدم العلمي في النحو في أواخر القرن الثاني الهجري؛ لأن الكتاب - كما قلنا - ثمرة لهذه الجهود المتصلة في تلك المادة منذ بدأها أبو الأسود. (3)
وهو صورة أيضا لما كانت عليه دراسة النحو في ذلك الحين، من التعليل والقياس والاستنباط والتفريع واستيعاب الفروض. (4)
وفي رأيي كذلك أن كتاب سيبويه كان الكتاب الأول والأخير في النحو، فالكتاب سجل لقواعد النحو، وقف العلماء عندها، ولم يزيدوا عليها، وكل من جاء بعده جعل الكتاب أساس دراسته ووقف عند حد الشرح أو الاختصار، ولم يزد المتأخرون على كتاب سيبويه إلا أن وضعوا الاصطلاحات التي كانت تنقصه - كما ذكرنا - وإلا أن رتبوا أبواب القواعد ترتيبا جديدا، فالطبقة التي تلت كتاب سيبويه كانت طبقة الشرح والتكميل والتنظيم، ثم جاءت طبقة أخرى اكتفت في القواعد بذكرها من غير أن تقرنها بعللها وأسبابها، وظل الأمر يتدرج حتى انتهى إلى هذه المختصرات أو المتون التي احتاجت إلى شروح مطولة، ثم احتاجت الشروح إلى حواش وتقريرات مصدرها في كتاب سيبويه. (5)
نقرأ كتاب سيبويه على أنه مرجع ومصدر، أما أن نجعله أساس الدراسة مثلا في عصرنا الحديث فلا؛ لأننا بذلك نلغي تطور التأليف النحوي وما ناله هذا التأليف من التنظيم والتبويب منذ عصر سيبويه إلى وقتنا الحاضر.
ويا حبذا لو تضافرت الجهود واجتمعت القوى على إخراج كتاب فيه القواعد النحوية المبعثرة مجموعة منظمة، واستخرجنا من كتب السالفين ما فيها من جواهر مستورة، ووضعنا ذلك كله في أسلوب جميل تزينه شواهد ممتازة، ليكون عدة العالم في عصرنا الحديث. إن كتابا كهذا يكون له من الأثر ما كان لكتاب سيبويه طوال هذه القرون المتعاقبة، والله يهدي إلى سواء السبيل.
مراجع البحث
(1)
كتاب سيبويه. (2)
أخبار النحويين البصريين، للسيرافي. (3)
الفهرست، لابن النديم. (4)
تاريخ بغداد، للخطيب البغدادي. (5)
نزهة الألباء، لابن الأنباري. (6)
معجم الأدباء، لياقوت. (7)
وفيات الأعيان، لابن خلكان. (8)
بغية الوعاة، للسيوطي. (9)
كتاب الأغاني، لأبي الفرج الأصفهاني. (10)
تاريخ آداب اللغة العربية، لجورجي زيدان. (11)
تاريخ آداب العرب، للرافعي. (12)
تاريخ اللغة والآداب في العصر العباسي، للسكندري. (13)
ضحى الإسلام، لأحمد أمين. (14)
الأعلام، لخير الدين الزركلي. (15)
إعجام الأعلام، لمحمد مصطفى. (16)
كشف الظنون، لحاجي خليفة. (17)
La Littérature Arabe. par Huart . (18)
Anthologie Gramaticale Arabe. Par S. De Sacy . (19)
كتاب الاقتراح، للسيوطي.
অজানা পৃষ্ঠা