ويل لي، لحظة سعادة واحدة تفعل بي هذه الأفاعيل، ماذا أحاول أن أعرف؟ هل فرض علي فرضا أن أبحث عن سبب هذه السعادة؟ ألا يكفيني أني سعيد؟
لنبحث أولا، ما هي أعراض السعادة التي أعانيها، ويلي ألا أعرف أعراض السعادة، أهذه أيضا تحتاج إلى شرح، ألا أعرف هذه الإشراقة التي تشيع في النفس، فإذا النفس بهجة وإذا هي متطلعة إلى المستقبل الوردي الصافي وإلى الحاضر وكأن سعادة العالم تجمعت فيه، هذه هي حالي الآن، لماذا؟ وما يهمك؟ لماذا ما دمت سعيدا، ألا تخشى أن تفقد سعادتك وأنت تبحث في هدوء دون هذا البحث السخيف، وتتفلسف أيضا وتريد أن تظل سعيدا، يقولون إن الفلاسفة هم السعداء، بل يقولون إن السعداء هم الجهلاء، كلا القولين غير صحيح؛ فأنت سعيد ولست جاهلا إلى درجة أن يقال عنك جاهل، ولست فيلسوفا إلى درجة أن يقال عنك فيلسوف، ولكنني لست سعيدا، ماذا هل فقدت السعادة؟ أقصد أنني لست سعيدا سعادة الفلاسفة ولا الجهلاء، كل ما في الأمر أنني أشعر بلحظة سعادة، لعل لقاءك بالأمس مع سهام أمدك بهذه السعادة. لقد أحسست بالسعادة فعلا في لقائي معها، ولكن اللقاء كان يشغلني عن الشعور بالسعادة، وانتهى اللقاء وعدت إلى حياتي اليومية، ومرت بي لحظات رضى ولحظات ضيق، فلا شأن لسعادتي الراهنة بلقائي مع سهام، هي حبي وهي الوحيدة في هذا العالم التي تستطيع أن تمسح عن نفسي خمولها وآلامها، وأنا أسعد بلقائها وأهب لها كل ما تريد، ولكن الحياة تلاقيني بعد ذلك وأرى فيها الخير وأرى فيها الشر، وأحيا كما يحيا الناس حتى ألتقي مرة أخرى بسهام، فهذه السعادة التي أحسها إذن سعادة جديدة من نوع آخر ينتابني بلا مقدمات، ولهذا أبحث عن أسبابه، ألا بد أن تبحث؟ رجعنا ثانية إلى هذا الحديث. وهل السعادة مع سهام خالصة؟ أتحبني لنفسي أم لما أقدمه لها من مال؟ إنني أقدم المال وأسعد، لا شيء يهم بعد ذلك. أم تراه يهم؟!
لعلك سعيد لهذه المرافعة الرائعة التي قدمتها في قضية الأمس، أهي المرافعة الوحيدة التي رضيت عن نفسي فيها، إنني أعمل في المحاماة منذ سنوات طويلة، ويقولون إنني محام ناجح، وأعرف أنني ناجح، ومعرفتي هذه تجعلني ألتقي بكل قضية وأنا أحتشد لها وكأنني محام ناشئ، ثم أحتشد لها وورائي تاريخي الطويل في ساحة القضاء، أرى أنك بدأت تترافع، طبيعة، ماذا أفعل فيها، المهم أن لحظة السعادة التي أمرح فيها الآن لا صلة لها بمرافعتي.
اسمع، ألا يجوز ... مجرد فكرة لا تسخر منها، ألا يجوز أن يكون حديثك التليفوني مع صديقك إسماعيل قد أرسل إليك بهذه اللحظة السعيدة؟ أرى أنك بدأت تخرف، إنني كثيرا ما أحادث الأصدقاء ولا شك أنهم يرسلون الدفء إلى قلبي، ولكن لو أنني شعرت بهذه لمجرد حديث مع صديق لأصبحت حياتي كلها سعادة بلهاء، سعادة لا قيمة لها لأنها ستصبح سعادة غبية سخيفة.
اسمع، طالما سمعت ... اسمع ولا تعقب، إنك سعيد لأنك سعيد، أهذا آخر ما وصلت إليه، ما أشد سخفك! بل أنت السخيف، أرأيت أنك تريد أن تفسد علي سعادتي.
اسمع إنني لن أبحث عن السبب، إني الآن سعيد ولا يهم لماذا، إني سعيد وكفى.
السباحة في الرمال
كان البحر هادئا، ولكن الشاب الذي يسبح فيه خائر القوى؛ فهو يرفع رأسه يلقف نفسه، ثم تغوص رأسه مرة أخرى فيمد يديه يرفع يديه لا تجدان إلا الفراغ وتهويان مرة أخرى خائرتين إلى المياه، ويعود رأسه يشرئب في يأس ويهوي في عجز إلى الماء.
أنا لا أجيد السباحة، لو حاولت أن أنقذه مت أنا وهو لا محالة، نظرت حولي فوجدت شابا فتيا يجلس في زورق على الرمال ويحرك مجدافين، فيمسان الرمال في رفق ثم يرتفعان إلى الهواء والفتى ماض في عمله هذا وكأنما يجدف في الماء، وكأنما يفضي إلى مكان يعرفه، فإن نظرت إليه خيل إليك أن الهدف أمامه واضح لا شك فيه.
وارتفع صوت الفتى الذي يغرق في اليم، ارتفع في يأس يطلب النجدة ومزقت صرخته كل نفس، ولكن الفتى في الزورق لم يلتفت إليه وظل يجدف وكأنه في عالم آخر. - ألا ترى هذا الذي يغرق؟ - أراه وأعرفه. - أتعرفه؟ - إنه أبي. - أبوك؟! - وأخي. - وأخوك؟! - وأمي. - وأمك؟! - وزوجتي. - وزوجتك؟! - وابني. - وابنك؟! - وابنتي. - وابنتك؟! - وكل ماضي وكل مستقبلي. - فلماذا لا تذهب إليه بالزورق؟ - هذا الزورق لا يسير في الماء. - إن الزورق لم يخلق إلا للماء. - ولكن هذا الزورق لا يسير في الماء. - وأنت ألا تستطيع أن تنقذه، ألا تستطيع أن تعوم؟ - أنا أحسن سباح في العالم. - فلماذا لا تنقذه؟ - أنا لا أسبح إلا في الرمال. - إن الرمال لم تخلق للسباحة. - وهل خلق الماء للسباحة؟ - إن السباحة هي التي خلقت للماء. - فأنقذه. - لا أستطيع. - لماذا؟ - إن أحدا لم يدعني. - ها أنا ذا أدعوك. - ومن أنت؟ - بشر. - ولكن ما شأنك؟ - إنسان يغرق. - وهل أنت مسئول عن كل إنسان يغرق. - إنني مسئول عن كل إنسان. - من الذي ألقى عليك هذه المسئولية؟ - إنسانيتي. - مغرور. - إنه وقت النقاش. - أبوك وأمك وزوجتك وابنك وابنتك وأخوك وماضيك ومستقبلك جميعهم يغرقون وأنت تناقش. - أنا لا أعرف إلا النقاش. - فأعطني هذا الزورق. - قلت لك إنه زورق للرمال فقط. - أعطنيه ولا شأن لك. - لا تستطيع الاقتراب منه. - سأحاول. - لا تحاول. - بل لا بد أن أحاول.
অজানা পৃষ্ঠা