فمن أبشع مصادر الخطأ الإنساني، وأفظعها خطرا، المماثلة بين شيء وشيء، بحيث نطبق على الثاني ما يصدق على الأول لشبه بين الشيئين في وهمنا وخيالنا، ثم نتصرف على هذا الأساس ... فالحكومات الاستبدادية التي أظلت أوروبا منذ عهد قريب، إن هي إلا نتيجة هذا الخطأ، ولأن الفرد من الناس كائن عضوي. والمجتمع يشبه الفرد، فلا بد أن يكون المجتمع كائنا عضويا كذلك، وما دام الكائن العضوي يتسم بوحدة تمسك الأعضاء، بحيث لا يجوز لعضو أن يتصرف بما لا يتفق مع تصرف سائر الأعضاء؛ فكذلك الأمة لا ينبغي للفرد منها أن يعارض بسلوكه أو بفكره ما تواضع عليه سائر الأفراد، ومن الحكم؟ هو العقل في الفرد، وهو الدولة في المجتمع، فما تحكم به الدولة قضاء مبرم لا راد له، وليس فيما تنطق به الدولة خطأ يصحح أو كذب يرد إلى صواب.
والخطأ كله هنا مصدره المماثلة بين المجتمع والفرد، ولا تماثل هناك إلا في وهم الإنسان، فلو قلنا لهؤلاء الذين يعتقدون الشبه بين المجتمع والفرد، ويفرحون بهذا الشبه، ويستنتجون منه النتائج الخطيرة البعيدة المدى، لو قلنا لهم: إن للفرد شعرا وأظفارا، فأين الشعر والأظفار في المجتمع؟! ضحكوا من جهلنا، وقالوا: ما هكذا تكون المشابهة بين الشيئين، وإنما يشبه الشيء بالشيء في الصفات الجوهرية التي هي كيت وكيت ... وكأنما فاتهم هم في هذا الموضوع أن الصفة تكون جوهرية لمن أرادها!
وكذلك ترى من أصحاب الفكر من يمضون في تشبيه المجتمع بالفرد إلى حد أن يقولوا: إن الفرد له طفولة وشباب وشيخوخة بعدها يموت، وكذلك حال المجتمع، فلكل مجتمع طفولته، وشبابه وشيخوخته ... وعلى ذلك المنطق لا يترددون في الحكم على الأمم، فتراهم يقولون - مثلا - إن هذه الأمة الفلانية قد طال بها العهد وهي في أوجها؛ ولذا فلا بد أن تكون قد هرمت، ولا ينتظر لها إلا الفناء القريب ... وربما رتبوا على ذاك التفكير نتائج عملية تمس سلوكهم. •••
هذا مثل واحد أسوقه لأبين به كيف يتعرض الإنسان للخطأ حين يبني نتائجه على تشبيه شيء بشيء. وإنما سقت هذا المثل استطرادا في الحديث، وما أردت في الواقع إلا أن أذكر للقارئ حالة على وجه التخصيص، وهي أن الطير إذا كان لا بد له أن يقع بعد ارتفاع، فما كذلك الإنسان؛ فصفحات التاريخ مفعمة بالشواهد على أن الرجل من الناس قد يرتفع ويرتفع في غير نقوص ولا انتكاس، بل يظل يرتفع حتى بعد موته! وإلا فحدثني متى وقع شيكسبير بعد صعوده في أجواز الفضاء؟ لقد ظل الرجل يعلو ثم يعلو، وها هو ذا لا يزال في أنظارنا يعلو! وحدثني متى وقع «فورد» بعدما أصابه من نجاح في عالم الأعمال؟ ومتى سقط نيوتن أو أينشتين؟ وقل مثل هذا في كثير جدا من نوابغ الإنسانية في كل جانب من جوانب حياتها.
إننا على وجه الإجمال أمة متشائمة، تعطف على العاجز أكثر مما تصفق للقوي الناجح . إن أسماع الناس لا تطمئن إليك إذا زعمت لهم أن الإنسان ذو قدرة وجبروت، وأنه يحاول أن يمضي قدما في غزو الطبيعة حتى يغزوها ويقهرها، لكن اضرب لهم على وتر الضعف والإخفاق. وقل لهم: من ذا يكون هذا الإنسان المسكين؟ إنه ضئيل هزيل، لن يبلغ من فهم الكون شيئا يسمن أو يغني؛ يصفقوا لك إجلالا وإكبارا.
وهذا هو - في أغلب الظن - ما يدعوهم إلى التجهم لك إذا زعمت لهم أن الطير القوي قد يظل محلقا في أعلى أجواز السماء إلى الأبد؛ لأنهم لا يريدون لرفعة إنسانية أن تتصل وتستمر. ولا يحبون شيئا بمقدار ما يحبون لهذا الطائر المحلق في حصون الجو أن يسقط مهيض الجناح محطم الريش، جزاء ما طمع وما طمح.
إننا على وجه الإجمال أمة تنطوي على كثير من الذلة والانكسار، وصدق من لاحظ أن بين نظراتنا ونظرات الغربيين فرقا في البريق واللمعان! فعين الأوروبي مفتوحة تلمع وعين الشرقي مكسورة تنم عن كثير من الشعور بالضعف ... ولعل أول شروط الحياة الناجحة أن تثق بالقدرة على تحقيقها؛ فلن تشق أجواز الفضاء بجناحيك إلا إذا وثقت منذ البداية أن ارتفاعك لا يعقبه سقوط.
المتفرج واللاعب
كثيرا ما يقال إن هذه الحياة مسرحية، وهؤلاء الناس ممثلوها، والحق أن الحياة والمسرحية شبيهتان إلى حد بعيد، فليس يقتصر الأمر فيما بينهما من أوجه الشبه على الظواهر التافهة، كأن يقال مثلا: إن الحياة لها - كما للمسرحية - ستار يرفع ساعة الميلاد بصرخة ويسدل ساعة الختام بشهقة خفيفة ينتهي بها كل شيء، أو أن يقال إن في الحياة - كما في المسرحية - فصولا ومشاهد؛ فهذه طفولة لاهية، وهذا شباب مندفع، وتلك كهولة تنضج عندها ثمرة العمر نضجا قد يشوبه شيء من العطب فتسقط، كما يسقط البطل في نهاية المأساة سقوطا ينسدل بعده الستار.
كل هذا شبه صحيح، لكن ما هو أعمق منه من أوجه التشابه بين الحياة والمسرحية؛ هو أن الإنسان في الحياة - كاللاعب في المسرحية - يحصر نفسه في «دوره» حصرا؛ فلا تتوقف إجادته له على معرفة العلاقة بين ما يقوله أو يفعله، وبين ما يقوله أو يفعله سائر اللاعبين. ولو قد ارتفع بنظره لينظر إلى الأوضاع كلها نظرة تقرن بعضها إلى بعض، كما ينظر إليها مؤلف المسرحية، أو كما ينظر إليها المتفرج؛ إذن لتغيرت قيم كثيرة للأشياء في عينه وتقديره.
অজানা পৃষ্ঠা