جاءا إلى المدينة يحملان في أصلابهما تقاليد الريف كلها، أعني التقاليد المصرية الصافية الخاصة من أخلاط الثقافة الأوربية، ولم يكن للزوجة نصيب من التعليم كائنا ما كان. أما الزوج فيكتب ويقرأ ويحسب ويناقش ويجادل ويفكر على نحو يدعوك إلى الاعتراف بحدة ذكائه أكثر مما يدعوك إلى احترام دقة تفكيره وصدق خبرته.
كان للزوج حقوق على زوجته، وكادت تكون هي صفرا من كل حق إزاءه؛ فهو يحاسبها وهي لا تحاسبه. البيت بيته هو لا بيتها والأبناء أبناؤه هو، حتى ليوشك أن يظن أنهم أبناؤها بالمصادفة. من حقه أن يدعو من شاء من الضيوف، ولا وزن إطلاقا لقبولها أو رفضها. أما هي فيستحيل عليها استحالة قاطعة أن تدعو زائرا أو زائرة إلا بعد استشارته وموافقته.
وحدث في ليلة ليلاء من ليالي الشتاء، أن تأخر الزوج عن موعده المألوف، فنامت الزوجة ونام الأبناء، وكان أكبرهم في نحو العاشرة. حتى إذا ما انتصف الليل، نهض هذا الغلام - وهو الذي قص علي قصة والديه بعد أن شب واكتمل - نهض من نومه فزعا لأنه سمع أمه تبكي. وتسلل من غرفة نومه خائفا مرتعشا، مشوقا متطلعا، كان يرتعش خائفا لأن أباه في الدار، وحسبه هذا باعثا على الرعشة والخوف، فما بالك وأبوه هذا يقرقع بصوته غاضبا ثائرا؟! ثم ما بالك والغضب والثورة قد جاءا في هذه الساعة من الليل التي يسكن فيها الإنس وينشط الجن؟! وكان مشوقا متطلعا؛ لأنه يسمع بكاء أمه نحيبا قويا حزينا، ويود لو يعلم فيم بكاؤها في مثل هذه الساعة التي يخلد فيها المحزون فينسى حزنه في غمرة من أحلام الظلام، حتى تعود الشمس فتستيقظ لتوقظ في الناس أحزانهم من جديد؟!
وقف الغلام في ردهة الدار دقيقة أو نحوها، يتسمع. ويبني مما يسمعه قصة فاته نصفها الأول، وإذا بأبيه يناديه دون أن يراه . فأسرع الغلام إلى سريره ليجيب النداء من فراشه . وأجاب الغلام من مخدعه نداء أبيه، وجاءه مسرعا إلى حيث كان، وإذا بالغلام الصغير - وهو في العاشرة من عمره! - يرى عجبا ويسمع عجبا.
فقد عاد الوالد إلى الدار ومعه سمك، وأمر الزوجة التي استيقظت كالذاهلة الحالمة في تلك الساعة من الليل، أمرها أن تعد له من هذا السمك عشاء. وهمت الزوجة أن تعترض على هذا الأمر الشاق العسير، فكان ما كان من ثورة وغضب وصياح.
ولو وقف الأمر عند هذا الحد، لما كان في الأمر ما يقتضي الحكاية والرواية؛ ففي كل دار زوج يثور ويغضب ويصيح. لكن الرجل الطاغية، أقسم بالطلاق ليقذفن بالسمك في النيل! ومن ثم كانت دعوته للغلام الصغير أن ينهض من نومه ليحمل له السمك، ويصحبه في هذه الساعة من زمهرير الليل ... إلى النيل! والشر بعضه أهون من بعض، فخروج الصبي مع أبيه على هذه الحال أهون شرا من خراب الأسرة وانفصال الوالدين.
ويمضي الصديق في حكاية ذكرياته عن هذا الحادث العجيب، فيقول دفاعا عن أبيه: إنه كان مفرط الذكاء، ولولا اندفاعه لكان خيرا من ذلك حالا. ويروي كيف أن أباه قد أحس لذعا قويا من ضميره على ما فرط منه، وراح يلتمس لنفسه الغفران عند ابنه الصغير وهو يسير إلى جانبه يحمل مقطفا صغيرا، يحمله بيمناه مرة وبيسراه مرة، حتى لم يسع الغلام عندئذ إلا أن تدمع عيناه إشفاقا على أبيه!
ووصل الوالد والولد إلى مكان من ضفة النيل، وإن الفتى ليذكر جيدا كيف اضطرب جسمه كله عندئذ حين خيل إليه أنه يسمع حفيفا في أعشاب الشاطئ. وتوهم أن عفريتا من الجن قادم إليهما من مكمنه، لكن الوالد طمأن ولده، وتناول مقطف السمك، وقبله قبلة أحس فيها الغلام كل ما ينطوي عليه الوالد الطاغية من حنان الأبوة الذي استحال على طغيان الشرق أن يمحوه من القلوب.
تناول الوالد من ولده مقطف السمك وأفرغه في النيل عند شاطئه. ووقف قليلا، وعاد مع ابنه خطوتين، ثم رجع إلى كومة السمك يعيدها إلى وعائها، قائلا لابنه الغلام الصغير، إنه لم يعد يرى مانعا من أخذ السمك إلى الدار بعد أن نفذ اليمين. والغلام لم يفهم بعد ما تلك اليمين التي تدعوهما معا أن يخوضا في هذا البرد الشديد وفي تلك الساعة التي لا يخرج فيها الناس من بيوتهم! •••
لما قرأت قول هيجل إن أهل الشرق لا يعرفون إلا أن تكون الحرية لرجل واحد، وإن حرية هذا الرجل الواحد لا تكون إلا اندفاعه وراء نزواته؛ ارتسمت في ذهني صور لرجال ثلاثة، منهم هذا الوالد الذي قص علي الفتى قصته ...
অজানা পৃষ্ঠা