وليس من شأننا الآن أن نعلم أكان الطبيب في حقيقة الأمر مذنبا أم بريئا. لكن الذي نكتب من أجله ، هو أن الفتاة وأهلها جميعا راحوا يغبطون أنفسهم على هذا الحظ الجميل الذي أفلتت به الفتاة من زوج كان على قيد أشهر قليلة من السجن ... وهكذا كان «الشر» «خيرا»، بل هكذا يكون الشر الظاهر خيرا في حقيقته في كثير جدا من الحالات.
وليس يمكن أن نجد تعبيرا عن هذا المعنى خيرا مما ورد في القرآن الكريم عما دار بين موسى والخضر عليها السلام:
قال له موسى هل أتبعك على أن تعلمني مما علمت رشدا * قال إنك لن تستطيع معي صبرا * وكيف تصبر على ما لم تحط به خبرا * قال ستجدني إن شاء الله صابرا ولا أعصي لك أمرا * قال فإن اتبعتني فلا تسألني عن شيء حتى أحدث لك منه ذكرا * فانطلقا حتى إذا ركبا في السفينة خرقها قال أخرقتها لتغرق أهلها لقد جئت شيئا إمرا * قال ألم أقل إنك لن تستطيع معي صبرا * قال لا تؤاخذني بما نسيت ولا ترهقني من أمري عسرا * فانطلقا حتى إذا لقيا غلاما فقتله قال أقتلت نفسا زكية بغير نفس لقد جئت شيئا نكرا * قال ألم أقل لك إنك لن تستطيع معي صبرا * قال إن سألتك عن شيء بعدها فلا تصاحبني قد بلغت من لدني عذرا * فانطلقا حتى إذا أتيا أهل قرية استطعما أهلها فأبوا أن يضيفوهما فوجدا فيها جدارا يريد أن ينقض فأقامه قال لو شئت لاتخذت عليه أجرا * قال هذا فراق بيني وبينك سأنبئك بتأويل ما لم تستطع عليه صبرا * أما السفينة فكانت لمساكين يعملون في البحر فأردت أن أعيبها وكان وراءهم ملك يأخذ كل سفينة غصبا * وأما الغلام فكان أبواه مؤمنين فخشينا أن يرهقهما طغيانا وكفرا * فأردنا أن يبدلهما ربهما خيرا منه زكاة وأقرب رحما * وأما الجدار فكان لغلامين يتيمين في المدينة وكان تحته كنز لهما وكان أبوهما صالحا فأراد ربك أن يبلغا أشدهما ويستخرجا كنزهما رحمة من ربك وما فعلته عن أمري ذلك تأويل ما لم تستطع عليه صبرا (الكهف).
كم وجها عابسا من حقه أن يبتسم إذا عرف صاحبه أن ما ظنه فشلا قد أصابه إنما هو في حقيقة الأمر نجاح إذا قيس إلى نتائجه البعيدة؟! إن الإنسان قد يدرك عاملا واحدا من عوامل الحياة الجارية ويفوته ألف عامل. ثم تراه يحكم بما علم، وما خفي عليه واستتر كان أعظم. يقول الناس عن فلان إنه نجح في حياته وعن فلان إنه فشل، والنجاح والفشل لا يكونان إلا بالنتائج. والنتائج لا تقف عند حد؛ فكيف يمكن الحكم؟ لقد قيل عن هتلر في غضون الحرب: إنه نجح لأنه انتصر، ثم قيل: بل فشل لأنه انكسر. ثم قرأت مقالا منذ عام للسير بيفردج يقول عنه: إنه المنتصر حقا؛ لأن ألمانيا زاد سكانها في آخر الحرب عنهم في أولها، وستكون العبرة آخر الأمر بالسكان. وهكذا ستظل النتائج الجديدة التي تتكشف عنها الأيام تحملنا على تغيير حكمنا بالنجاح أو بالفشل كل يوم مرة.
وإن كان ذلك كذلك؛ أفليس جديرا بالإنسان العاقل أن يبتسم متفائلا لكل ما تجيئه به الأيام؟
الصداقة العابرة
كثيرون هم أولئك الذين كتبوا عن الصداقة والأصدقاء، فوفقوا وأجادوا. أذكر منهم على وجه التخصيص أرسطو وبيكن. لكني لا أحسب أحدا من هؤلاء جميعا قد كتب شيئا في نوع من الصداقة عجيب، يمر في حياة الإنسان مرور الأطياف والأحلام، فلا يستغرق أمده إلا ساعة أو ساعتين، أو قل يوما أو يومين، ومع ذلك تراه يترك في النفس أثرا قد يبلغ من الشدة والعمق ما لا تبلغه الصداقة الثابتة الدائمة.
وإنما أردت بذلك تلك الصداقة العابرة التي تنعقد أواصرها بين اثنين يلتقيان في قطار أو في فندق أو على شاطئ البحر، أو ما إلى ذلك من أماكن لا تتيح للمجتمعين إلا حينا قصيرا، حتى إذا ما بلغ القطار غايته، أو انفض الاجتماع حيثما كان، تفرق الصديقان، ولم يعد للصديق منهما شأن بصديقه. بل قد تنعقد أواصر هذه الصداقة العجيبة وتتوثق عراها، دون أن يعرف أحد من الصديقين اسم زميله!
وقد التقيت منذ قريب بطيف من هاتيك الأطياف العابرة، التقيت به في فندق أقيم فيه، حيث شاءت لنا المصادفات أن يكون مكانه في غرفة الطعام على نفس المائدة التي أجلس إليها ... أكلنا الوجبة الأولى معا، دون أن ينطق أحد منا بكلمة لأخيه. أما هو فإنجليزي نشأ وتربى على أن يلتزم حدود نفسه، لا يكلم أحدا ولا يتدخل في شأن أحد إلا إذا دعي إلى ذلك. وأما أنا ففي خلقي من هذا الالتزام شيء كثير، أضف إليه موجة مؤقتة من الكآبة وضيق النفس تغمرني، فلا تكاد تترك لي متنفسا أستنشق منه الهواء النقي الطليق. وهي بالتالي لا تدع لي من فسحة الصدر متسعا يفتح شهيتي لمبادلة الناس الحديث.
وجاء وقت الوجبة الثانية، وبدأنا صامتين، لكن الظروف لم تلبث أن دفعتنا دفعا إلى الكلام ... وما هو إلا أن أخذ الرجل يبدي إعجابه بالقاهرة؛ فقد جاءها زائرا لأول مرة، وتمنى لو أتيحت له الفرصة فيعمل فيها ويقيم. وهكذا بدأت سلسلة الحديث بيننا. لكنها سرعان ما غاصت بنا في أعماق نفسينا، وراح ينفض لي هذا الزميل شيئا من أخص خصائص نفسه؛ إذ أخذ يقص علي كيف نشبت خصومة حادة عنيفة بينه وبين أبيه؛ بسبب فتاة إيرانية أراد أن يتزوجها؛ التقى بها في أكسفورد حيث كانا يدرسان معا، وأحبها وصمم على الزواج منها، وأبوه لا يريد أن يتم بينهما هذا الزواج ... فكأنما وجدت في ذلك ذريعة كنت أنشدها منذ أيام. وجعلت بدوري أفرغ في أذنيه كلاما كان حبيسا في صدري، لم أبح به إلى أخلص الأصدقاء. واستمع الرجل إلي في صبر جميل واهتمام ظاهر، كأنه أراد أن يدرس أوضاع الأمور في مصر من حوادث قصتي. ومهما يكن من أمره في ذلك؛ فقد وجدت أنا في ذلك الصديق العابر متنفسا لحمم كانت تضطرب بين جنبي كما تضطرب النار في جوف البركان لتلتمس لها مخرجا.
অজানা পৃষ্ঠা