وبالجملة ربما كانت الصورة المعقولة سببا بوجه ما لحصول الصورة الموجودة في الأعيان، وربما كانت الصورة الموجودة في الأعيان سببا بوجه ما للصورة المعقولة، أى يكون إنما حصلت في العقل بعد أن كانت قد حصلت في الأعيان. ولأن جميع الأمور الموجودة فإن نسبتها إلى الله والملائكة نسبة المصنوعات التى عندنا إلى النفس الصانعة، فيكون ماهو في علم الله والملائكة من حقيقة المعلوم والمدرك من الأمور الطبيعية موجودا قبل الكثرة، وكل معقول منها معنى واحد، ثم يحصل لهذه المعانى الوجود الذى في الكثرة، فيحصل في الكثرة ولا يتحد فيها بوجه من الوجوه، إذ ليس في خارج الأعيان شئ واحد عام، بل تفريق فقط؛ ثم تحصل مرة أخرى بعد الحصول في الكثرة معقولة عندنا. وأما أن كونها قبل الكثرة على أى جهة هو، أعلى أنها معلومة ذات واحدة تتكثر بها أو لاتتكثر، أو على أنها مثل قائمة، فليس بحثنا هذا بواف به، فإن لذلك نظرا علميا آخر. واعلم أن ما قلناه في الجنس هو مثال لك في النوع والفصل والخاصة والعرض، يهديك سبيل الإحاطة بعقليته ومنطقيته وطبيعته، وما في الكثرة منه وقبلها وبعدها. واعلم أن الأمور التي هي في الطبيعة أجناس الأجناس،فهى فوق واحدة ومتناهية، كما سيتضح لك بعد. وأما الأمور التي هى أنواع الأنواع، فالمستحفظات منها في الطبيعة متناهية، وأما هي في أنفسها فغير متناهية في القوة، فإن أنواع كثيرة من المقولات، التي تأتيك بعد، لاتتناهى، كأنواع الأنواع الكمية والكيفية والوضع غير ذلك. وأما الأشخاص فإنها غير متناهية بحسب التكون والتقدم والتأخر. وأما المحسوس المحصور منها في زمان محدود فمتناه ضرورة؛ والشخص إنما يصير شخصا بأن تقترن بطبيعة النوع خواص عرضية لازمة وغير لازمة، وتتعين لها مادة مشار إليها، ولا يمكن أن تقترن بالنوع خواص معقولة كم كانت، وليس فيها آخر الأمر إشارة إلى معنى متشخص فيتقوم به الشخص في العقل؛ فإنك لو قلت: زيد هو الطويل الكاتب الوسيم الكذا والكذا، وكم شئت من الاوصاف، فإنه لايتعين لك في العقل شخصية زيد، بل يجوز أن يكون المعنى الذي يجتمع من جملة جميع ذلك بأكثر من واحد، بل إنما يعينه الوجود والإشارة إلى معنى شخصي، كما تقول: إنه ابن فلان، الموجود في وقت فلان، الطويل، الفيلسوف، ثم يكون اتفق أن لم يكن في ذلك الوقت مشارك له في هذه الصفات، ويكون قد سبق لك المعرفة أيضا بهذا الاتفاق، ويكون ذلك بالإدراك الذي ينحو نحو ما يشار إليه من الحس، نحو مايشار إلى فلان بعينه وزمان بعينه، فهنالك تتحقق شخصية زيد، ويكون هذا القول دالا على شخصيته. وأما طبيعة النوع وحده، فما لم يلحقه أمر زائد عليه لايجوز أن تقع فيه كثرة. وليس قولنا لزيد وعمرو إنه شخص اسما بالاشتراك،كما يظنه أكثرهم، إلا أن نعنى بالشخص شخصا بعينه؛ وأما الشخص مطلقا، فهو يدل على معنى واحد عام، فإنا إذا قلنا لزيد إنه شخص، لم نرد بذلك أنه زيد، بل أردنا أنه بحيث لايصح إيقاع الشركة في مفهومه؛ وهذا المعنى يشاركه فيه غيره؛ فالشخصية من الأحوال التي تعرض للطبائع الموضوعة للجنسية والنوعية، كما تعرض لها الجنسية والنوعية. والفرق بين الإنسان الذي هو النوع، وبين شخص الإنسان الذي يعم، لابالاسم فقط، بل بالقول أيضا، أن قولنا: الإنسان، معناه أنه حيوان ناطق، وقولنا: الإنسان شخصي، هو هذه الطبيعة مأخوذة ماعرض يعرض لهذه الطبيعة عند مقارنتها للمادة المشار إليها، وهو كقولنا: إنسان واحد، أى حيوان ناطق مخصص، فيكون الحيوان الناطق أعم من هذا؛ إذ الحيوان الناطق قد يكون نوعا، وقد يكون شخصا، أى هذا الواحد المذكور فإن النوع حيوان ناطق، كما أن الحيوان الناطق الشخصي حيوان ناطق. والعموم قد يختلف في الأمور العامة: فمن العموم ما يكون بحسب الموضوعات الجزئية، كالعموم الذي الحيوان أعم به من الإنسان، وقد يكون بحسب الاعتبارات اللاحقة كالعموم الذي الحيوان أعم به من الحيوان، وهو مأخوذ جنسا، ومن الحيوان، وهو مأخوذ نوعا، ومن الحيوان، وهو مأخوذ شخصا. وليست الجنسية والنوعية والشخصية من الموضوعات الجزئية التي لها درجة واحدة في الترتيب تحت الحيوان، بل هي اعتبارات تلحقه وتخصصه؛ وكما أن الإنسان قد يوجد ما عرض من الأعراض كالإنسان الضحاك، فيقال على جميع مايقال عليه الإنسان وحده من الجزئيات الموضوعة، كذلك الإنسان الشخصي؛ وذلك لأن الوحدة هي من اللوازم التي تلزم الأشياء - وسنبين أنها ليست مقومة لماهياتها - فإذا اقترنت الوحدة بالإنسانية على الوجه المذكور حدث منهما الإنسان الشخصي الذي فيه كل شخص، ولا يكون لذلك نوعا؛ لأنه مجموع طبيعة وعارض لها لازم غير مقوم؛ وأمثال هذه ليست تكون أنواعا، كما أن الإنسان مع الضحاك ومع البكاء ومع المتحرك والساكن، بل مع قابل الملاحة وغير ذلك، لايكون نوعا آخر، بل الإنسان بجوهره نوع، فتلحقه لواحق تكون تلك اللواحق لواحق النوع، وليست أمورا توجب النوعية الجديدة. وهذا مما تتحققه في الفلسفة الأولى.
الفصل الثالث عشر (يج) فصل في الفصل
পৃষ্ঠা ২৬