بل نرجع من رأس، ونقول: إنه لما كان علم القياس جزءا من المنطق، وكان علما بصورة ما، تلك الصورة تتكثر وتتغير لأجل أن مادتها تتغير وتتكثر، فيصير إحدى الصنايع الخمس، لم يكن لنا سبيل إلى معرفة أصناف أقسام الاختلاف إلا بعد معرفة الصورة الجامعة للأصناف، وهي صورة القياس بما هو قياس، فقدم النظر في صورة القياس. ثم لم يكن لنا سبيل إلى معرفة القياس إلا بعد تقدم معرفة ما القياس المؤلف منه، فقدم النظر في بسائط القياس، وبسائطه القريبة هي القضايا، وبسائطه البعيدة التي هي بسائط بسائطه هي المفردات. فبدىء بالمفردات، فملا أحصيت وعلمت، تلى ذلك النظر في التأليف الأول منها الذي يكون فيه الصدق والكذب. فلما عرف ذلك وفصل، شرع في تعليم القياس . ونقول: إن الاستدلال صنعة ما، تؤدي إلى غرض. وكل صنعة فإنها تتعلق بمادة وصورة، وبحسب اختلاف كل واحدمن المادة والصورة يختلف المصنوع في الصنعة. فربما كانت الصورة فاضلة، ولم تكن المادة فاضلة، كما يتفق أن يبنى البيت من خشب نخر وطين سبخ، ثم يوفى جقه من الشكل والرسم، ولا يغني ذلك، زولا يبلغ به الغرض الأقصى من الانتفاع به، والسبب فيه رداءة مادته. وربما كانت المادة فاضلة، لكن الصوزرة غير فاضلة، كما يتفق أن يبنى بيت من خشب صلب وحجارة صلبة بناء غير محكم في تركيبه ووضعه وهندامه وشكله، فيعدم فائدة استجادة خشبه وحجارته لاستفساد صورته. وربما اجتمع الأمران جميعا. فكذلك الاستدلال يدخله الفساد من أحد وجوه ثلاثة: إما من جهة أن يكون ما يؤلف عنه غير وثيق، أي غير حق، وغير بين، وعلى غير ما يجب أن يكون، فإن أوقع عليه تأليف حسن ورصف فاضل لم يغن في التوصل الى الغرض؛ وإما من جهةو أن نفس التأليف ليس يوجب شوق الذهن إلى الغرض. وإن كان ما عنه التأليف فاضلا حقا. وإما لاجتماع الشيئين جميعا. وكما أن الصانع يلزمه أن يعرف أي الصور نافعة في غرضه، وأيها غير نافعة، وأي المواد محكمة، وأيها متوسطة، وأيها واهية؛ كذلك المستدل يلزمه أن يعرف حال التأليفات منتجها وعقيمها، وحال ما عنه التأليف. والغرض في حصول الاستدلال حصول علم أو تسليم أو ظن على سبيل اكتساب. والمؤدي المعتمد عليه هو القياس. ومادة القياس هي مصدقات أو أمور في حكم مصدقات سلف بها التصديق. وصورة القياس هي الرصف والتأليف الذي يقع فيها .
فأنت تعلم أنه ليس يمكن أن يكتسب العلم بالمجهول من أي علم كان، بل بعلم له إلى المجهول نسبة مخصوصة؛ وتعلم أنه ليس أي تأليف اتفق في المعلومات التي عندك تؤديك إلى أي مطلوب اتفق، بل تأليف مخصوص. فالمنطقي يلزمه أن يعرف أصناف المطالب، وهي بأعيانها أصناف القضايا، ثم يعرف أن أي التأليفات يؤدي إلى أي مطلوب، ويعلم كل ما يؤدي إلى كل مطلوب معين. فإن القضايا تدخل في تأليف تأليف نحو مطلوب معين. وذلك لها من حيث هي قضايا مطلقة ليس يلتفت بعد إلى مادتها. وذلك هو الذي يجب أن يعلم من حالها أولا، ثم يعلم أن تلك القضايا كيف تكون مادتها، أعني حال الصدق في تأليف أجزائها حتى يؤدي فيما يؤدي إليه إلى يقين، وكيف يكون حتى يؤدي إلى ظن قوي يكاد يشبه اليقين، وكيف يكون حتى يغلط، وكيف يكون حتى يوقع أغلب الظن. وبالجملة القناعة، وكيف يكون حتى يخيل. ثم ينظر أن الأفضل والأبلغ في كل باب ما هو، وليس يلزمه هذا في جنبة التصديق فقط؛ بل وفي وجنبة التصور، وعلى هذا القياس بعينه. وإذ لابد من مصدقات أولى لم تكتسب بروية، وإلا لماكان لنا سبيل إلى كسب الثواني؛ إذ كان لا وجه لكسب الثواني إلا بتقدم تصديق الأوائل. فلو احتيج في كل مصدق به إلى أوائل، ذهب هذا إلى غير نهاية، ولم يكن إلى قطعه سبيل. فبين أن تلك أوائل المواد القياسية، سواء أكان التصديق بها واقعا بأول العقل، أو بالحس، أو بالتجربة، أو بالتواتر، أو بالشهرة، أو بالغلط، أو بالظن، أو بالقبول من مظنون به الصواب فيما يقول. والمصدقات بالكسب قد تعود مرة أخرى مواد لقياسات تكتسب بها مصدقات أخرى، ويمضي ذلك إلى ما عسى أن لا يتناهى .
পৃষ্ঠা ২০৫