إن القضية الحملية إنما تكون واحدة إذا كان فيها محمول لموضوع واحد، فإن تكثر الموضوع والمحمول واحد كقولنا: الفرس والإنسان حيوان، أو تكثر المحمول والموضوع واحد كقولنا: زيد كاتب وطويل، فإن القضية لا تكون واحدة، بل الأول من المثالين قضيتان إحداهما أن الفرس حيوان والأخرى أن الإنسان حيوان، والثانى أيضا قضيتان إحداهما زيد كاتب والأخرى زيد طويل. فأما إن اتفق أن كان فى الموضوع أو المحمول تكثر باللفظ، وكان هناك تأليف لفظى لكنه يؤدى بالجملة إلى أن يكون منه معنى واحد، لم يؤد تكثر اللفظ إلى تكثير المعنى، مثل قولك: إن الإنسان حى ناطق ميت، أى إن الإنسان شىء هو الحى الذى هو الناطق الذى هو الميت؛ فهذه الجملة محمول واحد بالحقيقة، وكذلك إذا قلت الحيوان الناطق المايت قابل للكتابة. وأما إذا كانت المعانى متباينة، لا تجتمع طبيعة واحدة كالإنسان الأبيض المشاء، فإذا قلت زيد إنسان أبيض مشاء فما حملت عليه معنى واحدا، فإن هذه الثلاثة أمور لا يتقيد فى الطبع بعضها ببعض حتى تتخذ طبيعة واحدة، ولذلك فإن القضية لا تكون واحدة. فهذا هو ما يقال، ولكننى لا أضايق فى أمثال هذا مضايقة كثيرة ألبتة، فإنى أجوز أن يجعل هذا قضية واحدة حتى يكون زيد الشىء الذى هو موصوف باجتماع هذه فيه، ولى أن أضع لذلك اسما واحدا من حيث هو جملة فيكون حمل ذلك الاسم. ولتكن الجيم مثلا تدل على مجموع هذه حتى تكون ج الذى هو الشىء الموصوف بأنه مشاء، والمشاء الذى هو أبيض، فيكونإذا قلت زيد ج فهمت أنه مجموع هذه، ولم يكن بد من أن تقول زيد ج أو ليس ج، وليس هذا كما كنا قلنا من قبل: إنا إذا سمينا الأبيض بالثوب وسمينا الطول بالثوب فقلنا زيد ثوب كان قولنا فى حكم قضيتين، كأنا قلنا زيد أبيض وزيد طويل، وذلك لأن الثوب هناك اسم للأبيض، وأما هاهنا فليس الجيم اسما لواحد من هذا، بل للجملة من حيث هى جملة. وأيضا فإن الحيوان الناطق المائت إذا لم يذكر فى الحمل والوضع على سبيل التقييد، بل على سبيل التعديد حتى كان كأنه قال الإنسان حيوان وناطق ومائت، كانت هذه قضايا كثيرة ولما كان السؤال الجدلى، كما ستعلمه، ليس هو كل سؤال فإن السؤال عن ماهية الشىء وكيفيته سؤال بعلم ليس سؤال طلب الإلزام، بل السؤال المنطقى هو ليتسلم به مقدمات تجتمع فتنتج خلاف ما ينصره المجيب، فيكون الجواب عنه إما تسليم ما يطلبه أو تسليم نقيضه ضرورة ولا يكون للمجيب محيص عنهما. وإذا لم تكن المسألة بقضية واحدة فى الحقيقة لم تقتض جوابا واحدا، فإن من ذلك ما لا يمكن أن يجاب فيه بإيجاب ولا سلب، كمن سأل فقال هل الإنسان جسم وروح أم ليس فإنه ليس يمكن أن يجاب بالإيجاب ولا بالسلب، فإن أحدهما محمول على الإنسان والآخر مسلوب عنه، بل يجب أن يفرق الجواب فيقال الإنسان جسم وليس الإنسان بروح. ومن ذلك ما يمكن أن يجاب فيه وفى نقيضه كليهما بإيجاب أو سلب، ولكن لا يكون الجواب واحدا، كمن سأل أليس الإنسان جسما ومكلفا ؟ فإن هذا وإن أمكن فيه الجواب بالإيجاب فيهما جميعا فليس جوابا واحدا. وربما كان اللفظ واحدا لكنه مشترك وذلك على القسمين الممثل بهما جميعا، فللمجيب إذا حكمه السائل بين طرفى النقيض وألزمه أن يجيب بأحدهما أن يلزم السائل تحرير المسألة وتقريرها وتوحيدها. ثم يتصل بهذا المعنى أشياء جرت العادة بذكرها، وبالحرى أن نذكر المشهور منها ثم نتعقبه. قد قيل إن من الإشياء التى تحمل فرادى ما يصح أن تحمل جملتها جملة واحدة ومنها ما لا يصح، وكذلك من الأشياء التى تحمل جملة ما يصح أن يحمل أفرادها فرادى ومنها ما لا يصح. أما مثال ما يصدق جملة وفرادى فهو الحد وأجزاؤه. وأما مثال ما يصدق فرادى ولا يصدق جملة فقد قالوا إن بعضه يكذب صراحا، مثل أن يكون إنسان من الناس طبيبا دون الوسط ويكون فارها فى الخياطة أو بصيرا بالعين، فيصح أن يقال: إن زيدا طبيب، ويصح أن يقال: إن زيدا فاره، ولا يصح أن يقال: إن زيدا طبيب فاره، بأن يؤخذ الكل محمولا واحدا. وكذلك لا يصح أن يقال: زيد طبيب بصير، فإن هذا يكون نعتا إياه بأنه طبيب فاره فى الطب أو بصير فيه. وقالوا وإن بعضه يكون هذيانا إما بالقوة وإما بالفعل، أما بالفعل فإن القائل إذا قال: زيد إنسان، فصدق؛ ثم قال: هو أبيض، فصدق، فإن كان يجب أن يصدق جملة ما يصدق فرادى، وجب أن يصدق أن زيدا إنسان أبيض ولأن هذا يصدق والأبيض يصدق، وما صدق فرادى صدق جملة من غير هذيان، وجب أن يصدق من غير هذيان، فيقال إن زيدا إنسان أبيض أبيض، وكذلك إلى غير النهاية. وإن كانت التفاريق أكثر من اثنين، فالشناعة أظهر. وأما الذى بالقوة فمثل أنه إذا وجب من صدق قولنا: الإنسان حيوان، وقولنا: اإنسان جسم، أن يصدق جملة فيصدق أن الإنسان حيوان جسم أو حيوان حساس، وهذا هذيان. بل قال بعضهم إن هذا أيضا كذب، وذلك لأنا إذا قلنا: إن سقراط إنسان ذو رجلين، فكأنا إنما فصلناه من أناس ليسوا بذى رجلين، فكأنه قد انطوى فى قولنا هذا أن فى الناس من ليس هو ذا رجلين، وهذا كذب. ثم طلبوا القانون لهذا فقالوا: إن الأشياء التى يعرض لبعضها أن تحمل على بعض لأنها قد تجتمع فى موضوع واحد كالبصير والطبيب والأبيض وجميع ما ليس بعضه كالصورة وبعضه كالمادة، أو الأشياء التى ليس حال اجتماعها كما يكون من حال اجتماع الصورتين فى مادة واحدة بل هى عوارض متباينة مثل ما عرض للطبيب فى المثال أن صار أبيض وللأبيض أن صار طبيبا فإنها لا تصير معنى واحدا وذلك لأن معنى أنه طبيب ليس معنى أنه أبيض بل عرض له أنه أبيض، فمن هذه الجملة قد يكون ما لا يجتمع صدقا. وكذلك إذا كان بعضه محصورا فى بعض، فإنه لا يحمل كالأبيض فى الإنسان الأبيض صريحا وذو الرجلين فى الإنسان تضمينا. وأما ما يصدق مجتمعا ولا يصدق فرادى فمنها ما يكون أجزاء المحمول فيه تشتمل على مناقضة مصرح بها، كقولهم: إن الخصى رجل لا رجل، والقاضى سلطان لا سلطان، وإن الخفاش طير لا طير، إذ يلد ولا يبيض. ومنها ما تكون تلك المناقضة فيها بالقوة، كما يقال للسفينة التى تتخذ من الحجر فيلعب بها الصبيان أنها سفينة حجر، ولا يصدق أن يقال إنها سفينة، لأن السفينة آلة للطفو والحجر يرسب، فحد السفينة يقتضى مناقضة لما كان حجرا. وكما يقال لهذا الشخص إنه إنسان ميت ولا نقول: إنه إنسان، لأن الإنسان حده أنه حيوان ناطق. والمائت يقابل الحيوان. وأما الذى لا مقابلة فيه وتكذب أفراده مع ذلك، أنا إذا قلنا الآن، وقد مات أوميروس، إن أوميروس موجود شاعر، وإن أوميروس هو شاعر، فإن ذلك حق؛ وإذا قيل: إن أوميروس هو أو موجود، كان كذبا وكذلك العنقاء موجود فى التوهم، فإذا قيل موجود كان كذبا. قالوا فيجب إذا كانت المحمولات ليس فيها تقابل لا بالفعل ولا بالقوة، أى إذا اعتبرت الحدود، فكان الحمل بالذات، فإن حملها الصادق جملة لا يمنع حملها الصادق فرادى. فيجب علينا نحن أن نتأمل هذه الأشياء بالإنصاف، ونقول فيها ما يوجبه الحق. فنقول: أما إذا تجوز فى الحمل وتوسع فيه فقد يعرض جميع ما قالوا، وبإغفال معرفة ما قالوا يعرض غلط شديد. وذلك لأن الناس قد اعتادوا ألفاظا يقولونها وفيها مجاز قولا كالحقيقة. ففى مثل تلك الألفاظ إذا أوجب أن كل ما يحمل فى العادة تفاريق يجب أن تصدق جملة، أو ما يحمل فى العادة جملة فيجب أن تصدق تفاريق عرض ما قالوا. وللعلم الأول إنما لحظ فى ابتداء التعليم هذا الغرض، ولم يلحظ التحقيق، إذ كان المبتدىء يشق عليه الوقوف على ذلك حتى يميز العادة المجازية فيه عن الحقيقة المحضة. ومع ذلك فيغلطه إهمال ظاهر الحال فيه، فحذر من ذلك ومن مذهب العادة فيه، وأما إن لملم يشتغل بالعادة والتفت إلى الأعراض وإلى المفهومات اللفظية بالحقيقة، لم يلزم شىء من جميع ما قالوه غير الواحد الذى هو فى التكرير والهذيان. فأما أمثلة الطبيب والفاره والبصير فالحق يوجب أن هذا يصدق فرادى ومجتمعة، وذلك لأنه حين حمل على زيد الفاره لم يحمل عليه الفاره كيف اتفق، بل حمل عليه الفاره على أنه فاره فى شىء محصل لما كان فارها فى الخياطة، وحين حمل البصير عليه أيضا فلم يحمل عليه البصير كيف اتفق بل على أنه بصير بالعين. وإذا كان كذلك، فإذا جمعت المحمولتين وعنيت عند الجمع ما عنيت فى التفريق لم يعرض كذب، فإن زيدا طبيب فاره فى الخياطة وطبيب بصير بالعين وليس طبيبا فارها فى الطب، فلم تكن أردت عند التفريق بالفاره الفاره فى الطب ولا بالبصير البصير فى الطب. فإن قال قائل: إنه إنما حمل عليه الفاره بلا شرط شىء وكذلك البصير، فلنفرض أنه إنما حمل عليه الفاره فارها من غير شرط والبصير بصيرا من غير شرط، فيجب عند الجمع أن يحفظ على ما كان قبل الجمع. فإنه إذا لحق به شرط أو غير منه معنى فليس هو المحمول الذى كان أولا، فإن كان قد حمل الفاره مطلقا وعنى أنه فاره أى فى شىء ما يحق الآن عند الجمع أنه طبيب فاره فى شىء ما. وأما فاره فى الطب فلم يحمل مفردا، ولا إذا قرن بالطبيب هذا المعنى وجب أن يكون معناه أنه فاره فى الطب وإن أوهمت العادة ذلك. وأما إن كان أريد فى التفريق بالفاره الفاره فى الخياطة فهذا كان هو المحمول بجملته عند الحقيقة، وهو الذى يجب أن يورد عند الجمع. وقد يجوز فى حذف جزء منه لفظا من حقه أن يصرح به ، وأما إذا لم يصرح به فإنما لم يصرح اتكالا على تفهيم العادة ذلك.يشتغل بالعادة والتفت إلى الأعراض وإلى المفهومات اللفظية بالحقيقة، لم يلزم شىء من جميع ما قالوه غير الواحد الذى هو فى التكرير والهذيان. فأما أمثلة الطبيب والفاره والبصير فالحق يوجب أن هذا يصدق فرادى ومجتمعة، وذلك لأنه حين حمل على زيد الفاره لم يحمل عليه الفاره كيف اتفق، بل حمل عليه الفاره على أنه فاره فى شىء محصل لما كان فارها فى الخياطة، وحين حمل البصير عليه أيضا فلم يحمل عليه البصير كيف اتفق بل على أنه بصير بالعين. وإذا كان كذلك، فإذا جمعت المحمولتين وعنيت عند الجمع ما عنيت فى التفريق لم يعرض كذب، فإن زيدا طبيب فاره فى الخياطة وطبيب بصير بالعين وليس طبيبا فارها فى الطب، فلم تكن أردت عند التفريق بالفاره الفاره فى الطب ولا بالبصير البصير فى الطب. فإن قال قائل: إنه إنما حمل عليه الفاره بلا شرط شىء وكذلك البصير، فلنفرض أنه إنما حمل عليه الفاره فارها من غير شرط والبصير بصيرا من غير شرط، فيجب عند الجمع أن يحفظ على ما كان قبل الجمع. فإنه إذا لحق به شرط أو غير منه معنى فليس هو المحمول الذى كان أولا، فإن كان قد حمل الفاره مطلقا وعنى أنه فاره أى فى شىء ما يحق الآن عند الجمع أنه طبيب فاره فى شىء ما. وأما فاره فى الطب فلم يحمل مفردا، ولا إذا قرن بالطبيب هذا المعنى وجب أن يكون معناه أنه فاره فى الطب وإن أوهمت العادة ذلك. وأما إن كان أريد فى التفريق بالفاره الفاره فى الخياطة فهذا كان هو المحمول بجملته عند الحقيقة، وهو الذى يجب أن يورد عند الجمع. وقد يجوز فى حذف جزء منه لفظا من حقه أن يصرح به، وأما إذا لم يصرح به فإنما لم يصرح اتكالا على تفهيم العادة ذلك. وأقول بالجملة إن من حقوق الأمور المنسوبة إذا كانت محمولات أن تراعى جهاتها وشرائطها وأن يكون مصرحا بها عند الضمير وإن لم يصرح بها فى اللفظ، وعلى ما قيل فى شروط النقيض. ولولا أن قولنا فاره معناه فاره فى شىء كذا أو فاره فى شىء ما لا أنه نفسه فاره فى أى شىء اتفق، لكان كلما قيل إنه ليس بفاره وعنى فى أمر آخر ليس هو فيه فارها كان تناقض، فإذ لا تناقض، أو نغير ذلك الشىء ونلتفت إليه، فذلك الشىء إذن لا محالة داخل فى نفس الأمور المحمولة، وإن حذف تجويزا، دخولا معينا أو مبهما لا يجب أن يكون مقصودا فيما تعين جمعه معه. وإذا كان كذلك، فإذا جمع على واجبه كان أيضا حقا. فكان حقا أن زيدا طبيب فاره فى الخياطة أو بصير بالعين، أو فاره فى أمر ما وبصير فى أمر ما. على أن التمثيل بالبصير ردىء جدا، لأن البصير إذا عنى به البصير بالعين مرة وعنى به أنه الفاره فى صناعة ما، كان ذلك باشتراك الاسم. ولكن قد عرض هاهنا شيئان مجازيان: أحدهما أن قيل لزيد: إنه فاره، ولم يزد عليه لفظ آخر اتكالا على معرفة السامع بأنه فاره فى كذا، فلما جمع على حاله فقيل: طبيب فاره، وكانت العادة جرت أنه إذا قيل هذا عنى به طبيب فاره فى الطب، أوهم اجتماع اللفظين مع جريان العادة أن معنى القول أنه يقول طبيب فاره فى الطب وهذا العارض ليس مما يوجبه نفس الأمر، بل عادات العبارات وما فيها من الإيهامات والاختصارات، والإيهامات والاختصارات مما لا يعتبر فى حقيقة دلالة الألفاظ. وأما ما قالوه من مصير الكلام إلى الهذيان فهو حق، لكن ماقاله الرجل المحكى ألفاظه أن الهذيان فى قوة الكذب متعلقا فى ذلك بالإيهامات ليس هو من كلام أهل المعرفة بشىء، فإن الالتفات إلى الإيهامات وأن قائل كذا كأنه قال كذا من غير أن يكون قال كذا بالحقيقة لفظا ولا معنى ولا لزوما، بل قال ما هو كأنه ذاك وليس هو ذاك ولا لازما عنه، أمر غير معتبر فى تحقيق معنى الألفاظ ودلالاتها. فإنه إذا قال قائل: إن الإنسان ضحاك بادى البشرة، لم يلتفت إلى أنه يحاول أن يفصل بذلك ضحاكا عن ضحاك أو يحاول أنه من جملة الضحاكين ما هو بادى البشرة وإن كان يوهم ذلك فإن هذا اللفظ قد يوهم هذا فليس هو مفهوما عنه ولا لازما للمفهوم عنه بوجه من الوجوه، بل إنما يلتفت إلى أن له هذا الوصف مقرونا بذلك الوصف. فإن اتفق أن كان التقرير مخصصا ماله الوصف الثانى عما له الوصف الأول دون الثانى، فذلك شىء يعرض من غير أن يكون مقصود القائل. وإن كان مقصودا له فيكون قد قصد ما ليس يوجبه اللفظ، بل ما قد يستدل عليه من اللفظ على سبيل العادة. وهاهنا أشياء كثيرة من هذا الجنس مثل قول القائل: بعض الناس حيوان، فإن هذا حق فى نفسه وكذب بالإيهام، فإن السامع ربما يتوهم أن البعض الآخر ليس بحيوان. لكن لا يقال إن قائل هذا اللفظ كاذب، وإن كان له أن يقصد فى مثله الدلالة على التخصيص فيقول: بعض الناس كاتب، يريد أن يدل بهذا على أن البعض الآخر ليس بكاتب، فتكون العادة تعرف غرضه لا نفس لفظه. ولست أمنع أن يكون الهذيان كاذبا بإيهامه، لكنه لا يكون فى نفسه كاذبا. وأما ما قيل إن الطبيب ليس معناه معنىالبصير، فليس يلزم منه شىء مما يحاولونه، حتى يكون لما كان الطبيب ليس معناه معنى ذاك لم يجتمع منه ومن ذلك الآخر محمول، فالحى أيضا ليس معناه معنى الناطق. وليس يجب من هذا أن لا يجتمع منهما محمول واحد، فهب انه ليس معناهما واحدا فما الذى يمنع ذلك من اجتماعهما واحدا. فإن لم يفهموا من قولهم: إن الطبيب ليس معناه معنى البصير، هذا الذى ذهبت إليه، بل معنى أخص منه، فليس ذاك الذى فهموه هو مفهوم اللفظ الذى عبروا به، وليس مفهوم اللفظ الذى عبروا به غير ماذهبنا إليه، فما كان من حق المفسرين أن يسكتوا عن تعريف ذلك المعنى ويعرضوا عنه إلى وقت أن ذكروا فأخذوا يحترزون. نعم الطبيب لا يحتاج فى تقويمه إلى مقارنة البصير، ولا البصير إلى مقارنة الطبيب، والحى والناطق ليسا هكذا، ولكن لفظهم لم يدل على هذه الزيادة، بل دل على المقدار الذى لا يعنى فى الغرض وعلى أنه ليس فى أنه لا يتقوم به ما يوجب أن يكون لا يجتمع منه معه محمول واحد بوجه ما. فإن كثيرا من المحمولات الوحدانية أسماء لمعان مجتمعة بهذه الصفة كما يسمى الذى فى بعض بدنه سواد وفى بعض بياض أبلق، كما يقال الأخيف والأشرج، وأمور أخرى تسمى من اجتماع صفات ليس يتقوم بعضها ببعض فيجعل لتلك الجملة منها اسم. ومع ذلك فليكن الطبيب والبصير ليس معناهما معنى واحد، وليكونا مع ذلك أيضا بحيث ليس يجتمع منهما معنى واحد فلم ليس يصدق مجموعهما كأن الأشياء التى يصدق مجموعها هى التى يتحد منها معنى واحد اتحادا طبيعيا فقط، حتى إذا لم يكن كذلك كذب حمل الجملة، فلم لا يجوز أن يكون الشىء الذى هو طويل وكاتب محمولا عليه جملة أنه طويل كاتب ولم يكون ذلك كاذبا عليه ذلك ؟ فأمثال هذه المذاهب مما لست أتصوره ولا أقول به، وعسى أن يكون عند غيرى بيان له يحققه. وأما ما قيل فى الخصى من حمل الرجل واللارجل عليه، فإن التفت فيه إلى العبارات العامية صدق قولهم إن الخصى رجل لا رجل، وكان حينئذ معنى الرجل الداخل فى الجملة ليس هو معنى الرجل الذى فيه يسلب عنه مفردا. فإن الرجل إما أن يعني به الذى يستعمل آلة الإيلاد من الناس فيولد فى غيره، أو الذى له فى الطبع هذه الآلة وإن غصبها قهرا، أو الذى يشبه الرجل فى بعض أحواله وأعضائه. وأى هذه المعانى عنى به منها فلا يجتمع مع مقابله، بالحقيقة، فإنه أن عني به أنه الإنسان الذى له أن يستعمل آلة الإيلاد فى غيره فإن هذا المعني لا يجتمع ألبتة مع لا رجل الذى هو مقابله، فإنه حينئذ يكون كأنه قيل هو بحيث يستعمل آلة الإيلاد فى غيره ولا يستعمل معا، وهذا كذب، اللهم إلا أن يقال إن المراد به أنه يشبه الرجل الذى بهذه الصفة وليس هو بالحقيقة الرجل الذى هو بالصفة المذكورة، أو أنه الذى فيه بعض معانى الرجلية وليس فيه كمال معانى الرجلية. فهذا الاعتبار يصدق معه الجمع بين الرجل واللارجل حتى يحمل على الخصى، وكذلك يصدق متفرقا، فإنه يصدق عليه أنه رجل مفرد إذا عنى بالرجل ما أريد حين قيل رجل لا رجل، وذلك أنه يصدق عليه أنه يشبه الرجل أو أن فيه بعض خواص الرجل، ويصدق أيضا أنه لا رجل مفردا إذا عنى باللارجل الذى ليس بالحقيقة رجلا والذى ليس فيه كمال معانى الرجلية. وإن عنى بالرجل من له ذلك فى الطبع وباللارجل مقابله فهو كذب أن يقال إنه كذلك فى الطبع ليس كذلك فى الطبع، بل اللهم إلا أن يكون المراد بالرجل الذى له ذلك فى الطبع، وباللارجل الذى ليس له أن يستعمل ذلك، فلا يكونان متقابلين ويكون كل واحد منهما صادقا إذا حمل بالانفراد. فمن العجز أن يؤخذ الرجل حيث يقال رجل ولا رجل بمعنى ثم يؤخذ حين يفرق بمعنى آخر، فإذا كذب بهذا المعنى الآخر فيوجب من ذلك أن الوصف من جهة المعنى قد يصدق فى حكمه جملة ولا يصدق مفردا، بل لو كان إذا قيل رجل فى الجملة ومجتمعا مع غيره قولا بمعنى فصدق، ثم قيل وحده بذلك المعنى فلم يصدق، لكان ما ذهبوا إليه حقا. وأما إذا كان معنى ما يصدق غير معنى ما يكذب، لم يجب من ذلك أن الشئ الواحد يصدق مرة عند الجمع ولا يصدق مرة عند التفريق؛ وكذلك حديث القاضى وأنه سلطان ليس بسلطان، والخفاش أنه طائر ليس بطائر. وبالجملة لا تصدق أمثال هذه التركيبات إلا أن تحرف الألفاظ عن دلالتها المعتادة إلى دلالات لها مستعارة. والذى قيل فى السفينة أيضا فهو من العجائب، فإنهم يدرون أنهم إذا قالوا سفينة حجر عنوا به أنه شئ فى صورة السفينة متخذ من حجر، وأما السفينة بحد السفينة فلا يصدق أن يقال على مثلها إنها حجر. فإذا كان المراد فى قولهم سفينة حجر أنه شئ فى شكل السفينة من حجر، فلينظر السفينة بذلك المعنى محمول على الشئ مفردا، فتجده محمولا عليه لأنه شئ فى صورة السفينة. ولكن العوام لا يفرقون بين الشئ الذى يستحق اسما لطبعه ونوعه وبينه وله ذلك الاسم بمعنى محسوس ظاهر فيه، فلذلك لا يمتنعون أن يسموا الميت إنسانا والحجرى سفينة لا مفردا ولا مركبا. فإن تنبهوا للمعنى امتنعوا أيضا عن إطلاق ذلك مركبا، وإن لم يمتنعوا أخطأوا وزلوا. وكذلك المثال المورد من الإنسان الميت فإنه أخذ فيه اللفظة الواحدة عامية مرة وخاصية أخرى، ولو أخذ بمعنى واحد لظهر أن الأمر ليس كما يقولون بل وجدوا ما يصدق جملة يصدق فرادى. فإن قول القائل: زيد إنسان ميت، قول عامى؛ والخاصى لايقول ألبتة لشئ: إنه إنسان ميت، ولا يجوز عنده أن يكون الإنسان والميت محمولين على شئ واحد؛ فإنه سواء عند الخواص أن يقال حى ناطق هو ميت بالفعل، وبين أن يقولوا إنسان ميت، فكما لا يمكنهم أن يقولوا زيد حى ناطق هو ميت، كذلك لا يقولون زيد إنسان ميت؛ ولا يحق أيضا أن يقولوا: إن هذا كان إنسانا فالآن هو ميت، وذلك لأن هذا لا يتناول منهما امرا واحدا، لأن الذى هو الآن هذا هو جزء من الشئ الذى كان إنسانا لأنه بدنه، وهذا لم يكن ألبتة إنسانا، وإن أردت التحقيق فلم يكن أيضا موضوعا للإنسانية، لأن مقادير العناصر وكيفيات المزاج ليست كما كان حين كان موضوعا؛ ومع ذلك فإن قالوا إن هذا كان موضوعا للإنسانية وهو الآن موضوع للموت، صدقوا فرادى ومجتمعا. لكن العامة يعنون بالإنسان المصور على صورة الإنسان الظاهرة ومن مادة هى فى الحس كمادته، وإذا عنى ذلك صدق الآن أيضا وأن يقال للميت إنه إنسان بهذا المعنى. فإن لك يوجد هكذا، بل عنى بالإنسان الذى فى المركب غير ما يعنى فى الإنسان الذى يلحظ إليه مفردا ، فهو زيغ. وأما التمثيل بأوميرس فإن الظلم فيه ظاهر، وذلك لأن لفظة هو وموجود مأخوذة فى ذلك القول الذى محموله مؤلف على أنه رابطة، والروابط فى حكم الأدوات لا دلالة لها بنفسها كما علمت. فيجب أن لاتؤخذ فى حال التفريق على أنها اسم حتى لا يكون المعنى فى الوقتين واحدا. فإن لم يؤخذ الموجود رابطة، بل أخذ دالا على معنى حتى يكون كأنه يقول: إن أوميرس هو الموجود الذى ذلك الموجود يكون شاعرا، كذب القول بعد موت أوميرس مفردا ومركبا. فإن لم يؤخذ هكذا، بل أخذ رابطة، ولكنه عندما يحمل وحده يحمل على أنه اسم مطلق محقق مشتق من وجود الأمر فى ذاته، فهو ظلم ومغالطة باشتراك الاسم؛ وإن حمل وحده على أنه رابطة لم يصدق ولم يكذب حتى يقال موجود أى شئ، وكذلك إذا قيل كان وعنى به الرابطة كان غير قولهم كان فى نفسه ويعنى المحمول الكلى. وبعد هذا كله فقد تعلمنا منه أن المعدوم لا يحمل عليه شئ، وعلمنا أنا إذا قلنا: إن أوميرس كان شاعرا، لم يكن حقا على معنى أن أوميرس شئ يوصف أنه كان شاعرا، بل على أن الخيال الذى من أوميرس بصفة أنه خيال يتخيل من أوميرس، ويصدق أن يقرن به معنى كان شاعرا، أى هو خيال موجود له صفة هو أنه إذا قلنا معه خيال الزمان الماضى وقرن معه معنى الشاعر صدق عليه. وأما المثال الذى أوردوه بقولهم: إن العنقاء موجود فى التوهم، ففيه أيضا ظلم. وذلك لأن لفظة الموجود من قولنا الموجود فى التوهم إما أن تدل على معنى أو لا تدل، فإن لم يدل واحد مفرد وهو حينئذ يدل، لم يكن المأخوذ مفردا هو المأخوذ فى التركيب. وإن دل فإما أن يدل على معنى يعم الموجود فى الوهم والموجود من خارج من حيث هو موجود أو لايدل، فإن دل على معنى عام هو أعم من الموجود فى التوهم والموجود من خارج ثم أخذ مفردا، فيجب أن يؤخذ بذلك المعنى. فحينئذ يصدق بأن العنقاء موجود نوعا من الوجود، فإن التوهم له وجود ما، وإنما يكذب إذا أخذ العنقاء موجودا فى الأعيان والخارجة، وهذا شئ أزيد من الموجود إذا أخذ بذلك المعنى. ولا يمنع أن يكون المعنى الذى يصدق فى الجملة إذا أفرد وقرن به معنى آخر وشرط آخر أنه قد يكذب، كما إذا صدق على الإنسان أنه حيوان لم يجب أن يصدق عليه أنه حيوان بشرط زائد على ماكان له فى الأول، حتى إذا قيل: إنه حيوان أعجم، كان صادقا. وإذا كان الموجود الذى فى التوهم لا يشارك الموجود فى الأعيان بمعنى من المعانى فأخذ الموجود مفردا على أنه موجود فى الأعيان، أخذ معنى لم يكن ألبتة مذكورا فى التركيب إلا من طريق الاسم. ومن الذى يمنع أن يكون بعض الاسماء التى فى التركيب إذا أريد به غير معناه فى الأفراد جاز أن لا يصدق. فهذا هو رأيى وما يدركه عقلى، ويشبه أن يكون عند غيرى لهذا بيان آخر وحقيقة أخرى لم أدركها. إلا أن القوم لا يحلوا لهم أن يؤخروا بيان تلك الحقيقة ولا يذكرونها وهم يعلمونها ويعلمون موضع الشبه فيها إلى أن يجئ معارض فينبههم. وما أراهم يفعلون، فإنه إن كان ما ذكرناه ينحو غير النحو الذى نحوه فهو من الاعتراضات القوية الظاهرة التى لا يسكت عن التحذير منه من عنده نحو آخر وغرض آخر يكون عذرا له، بل بالحرى أن يذكر ذلك وينبه عليه ويحترز مما أوردته، فإن لم يفعل ذلك فليس إلا غفلة. وأما صاحب التعليم الأول فإنه إنما أراد فى إيراد ما أورده أن يعرفنا أن بعض المحمولات تصدق فرادى، فيعرض لها بعد ذلك أن تقال مجتمعه، فتوهم معنى آخر يكذب أو يصدق مجموعه. فإذا أفردت عرض لها أن تفهم على وجه آخر فيكذب. وحينئذ يكون إذا سلم أن كل ما يصدق متفرقا يصدق مجتمعا على المفهوم المعتاد من الاجتماعات وإن لم يكن المفهوم المحقق أو أن كل ما يصدق مجتمعا يصدق متفرقا على المفهوم المعتاد عند التفريق، وإن لم يكن المفهوم المحقق لزم من ذلك محالات ويمكن به المغالطون من تخليطات.
الفصل الرابع (د) فصل في القضايا المنوعة وهى الرباعية وأحكامها وتلازمها وتعاندها
পৃষ্ঠা ১৯৫