166

القضية إما أن يكون مصرحا فيها بالرابط المذكور زمانيا كان أو غير زمانى، وإما أن لا يكون، فإن صرح به فإنها تسمى ثلاثية، وإن لم يصرح به فإنها تسمى ثنائية. والثنائيات فانها قد اختصرت عن الواجب فيها إلا أن تكون محمولاتها كلما، فلا يبعد أن ترتبط بأنفسها. لأن الكلم تدل على الموضوع فى بنيتها، والرابطة إنما يحتاج إليها لتدل على نسبة المحمول إلى الموضوع إذا كان اسما هو فى نفسه منفرد. وإذا وجدت الدلالة على الموضوع حاصلة فى الكلم، لم تكن حاجتها إلى الرابطة حاجة الأسماء الأصلية، والأسماء المشتقة تجرى مجرى الكلم فى ذلك. على أن هذا ليس حكما جزما فى الكلم أيضا، إذ كانت الكلم وإن دلت على موضوع فلا تدل على معين، والحاجة إنما هى إلى ما يربط بالمعين ربطا يشير إليه. ولغة العرب لا تفقد هذه الرابطة أداة تشبه الاسم وتفقدها أداة تشبه الكلمة،فإنهم إذا قالوا: زيد هو حى فإن هو يرجع إلى زيد ويتناوله مشارا إليه فقط، وأما إذا قيل زيد كان حيا، لم يكن فى كان دلالة على تعيين زيد؛ فلذلك ما يقول علماء لغتهم إن هاهنا إضمارا، ومعناه كان هو حيا. ثم سائر اللغات تختلف فى ذلك. فمراتب القضايا إذن ثلاث: مرتبة ما دل فيه على تعيين النسبة، ومرتبة ما دل فيه على النسبة ولكن لا بالتعيين، ومرتبة مالم يدل فيه على نسبة أصلا. وهذا القسم الأخير هو الثنائى التام، والقسمان الآخران ثلاثيان، لكن أولهما ثلاثى تام، والثانى ثلاثى لم تتمم ثلاثيته. وبالجملة فان الثلاثية هى التى يصرح فيها بالرابطة كقولنا: الإنسان يوجد عدلا، أو قولنا: إن الإنسان هو عدل. فإن لفظة يوجد ولفظة هو ليست داخلة على أنها بنفسها محمول، بل لتدل على أن المحمول موجود للموضوع. وأما لفظة يوجد فلتدل على وجود المحمول للموضوع فى زمان مستقبل. وأما لفظة هو فلتدل على وجود المحمول للموضوع مطلقا. فالرابطة تدل على نسبة المحمول، والسور يدل على كمية الموضوع، فلذلك ما كانت الرابطة معدودة فى جانب المحمول وكان السور معدودا فى جانب الموضوع. فإذا صارت القضية ثلاثية وقرن بها حرف السلب لم يخل إما أن يدخل حرف السلب على الرابطة أو تدخل الرابطة على حرف السلب. مثال الأول قولنا: زيد ليس يوجد عادلا، ومثال الثانى: قولنا زيد زيد يوجد لا عادلا. فإن دخل حرف السلب على الرابطة سلب ربطها وكان ذلك سلبا بالحقيقة، وإن دخلت الرابطة على حرف السلب صيرت حرف السلب جزءا من المحمول فلم يكن العادل بانفراده محمولا، بل جملة اللاعادل، فإن لفظة يوجد تجعل جملة اللاعادل محمولة على زيد بالإيجاب كأنه قال زيد موصوف بأنه غير عادل حتى إنه يصلح أن يسلب هذا بحرف سلب يدخل كرة أخرى على الرابطة فيقال: زيد ليس يوجد غير عادل. فيفترض ها هنا موجبتان وسالبتان، فإن قولنا زيد يوجد عادلا يقابل قولنا: زيد ليس يوجد عادلا، وهما الموجبة والسالبة البسيطتان، وقولنا: زيد يوجد لا عادلا يقابله قولنا: زيد ليس يوجد لا عادلا، وهما الموجبة المعدولية والسالبة المعدولية. فإن القضية التى محمولها اسم غير محصل أو كلمة غير محصلة تسمى معدولية ومتغيرة، فإن أوجب ذلك المحمول كانت القضية موجبة معدولية، وإن سلب كانت سالبة معدولية. وإذا لم تكن رابطة وكانت القضية ثنائية فقرن بمحمولها حرف السلب لم يكن هناك دليل على أن حرف السلب داخل على أنه رافع المحمول ولا على أنه جزء من المحمول والمحمول هو الجملة. لكن بعض حروف السلب الداخلة وخصوصا إذا كان المحمول كلمة بحسب لغاتنا فإن ذلك يغلب الظن على أن حرف السلب رافع النسبة. ثم لا ندرى حكمه فى لغات أخرى موجودة أو فى القوة، فعسى أن يكون التصريف فى ألفاظ السلب الداخلة على كلماتها أو نحو آخر من أنحاء الإشارة يدل على ذلك. والمحمول هو الجملة الداخلة على الأسماء، كما أن بعض حروف السلب الداخلة على الأسماء فى لغة العرب أدل على السلب وبعضها على العدول فبشبه أن يكون لفظ ((ليس)) أولى بالسلب ولفظ ((غير)) أولى بالعدول، وإذا دخل على أيها كان لفظة ما صار موجبا كقول القائل إن آ ليس بب. فإن هذا القول قد يشعر الذهن قريبا معه أن المعنى هو أن آ هو ما ليس بب، فتقدم الرابطة التى هى لفظة هو على السلب فى الذهن وإن لم يصرح به فيشعر بأنه موجب. وأما إذا لم يكن هناك دليل كان حكم الظاهر أن القضية ثنائية خالية عن الرابطة. ونحتاج الآن أن نقدم لتحقيق ما يجب من التحقيق من هذا الباب أصولا. فنقول: إن حقيقة الإيجاب هو الحكم بوجود المحمول للموضوع، ومستحيل أن يحكم على غير الموجود بأن شيئا موجودا له، فكل موضوع للإيجاب فهو موجود إما فى الأعيان وإما فى الذهن. فأنه إذا قال قائل: إن كل ذى عشرين قاعدة كذا، فإنه يعنى بذلك أن كل ذى عشرين قاعدة يوجد كيف كان، فهو كذا؛ ليس معنى ذلك أن كل ذى عشرين قاعدة من المعدوم يوجد له فى حال عدمه أنه كذا فإنه إذا كان معدوما فصفاته معدومة، إذ ليس يجوز أن يكون معدوما وصفاته موجودة، وإذا كان معدوما فكيف يحكم بأنه يوجد إلا عند قوم يهوشون أنفسهم فيجوزن أن يكون للمعدوم صفات حاصلة ولا تكون موجودة ويكون الحاصل عندهم غير الموجود. وكلامنا فى المفهوم من الحاصل ولا نريد بالمفهوم من الموجود غيره، ولهم أن يريدوا بالموجود ما شاءوا، بل الذهن يحكم على الأشياء بالإيجاب على أنها فى أنفسها ووجودها يوجد لها المحمول أو أنها تعقل فى الذهن موجودا لها المحمول، لا من حيث هى فى الذهن فقط بل على أنها إذا وجدت وجد لها هذا المحمول. فإن كان لا وجود للشئ وقت الحكم إلا فى الذهن، فحينئذ من المحال أن نقول إن ب منه مثلا موجودا له أنه آ ليس فى الذهن، بل فى نفس الأمر، وليس هو فى نفس الأمر موجودا، فكيف يوجد له شئ. ومفهوم الإيجاب والإثبات ثبوت حكم لشئ وهذا هو وجوده له، كما أن مفهوم السلب هو لا ثبوت حكم لشئ، وهذا هو عدمه لا محالة. فبين من هذا أنه لا إيجاب ألبتة إلا على موضوع حاله ماذكرنا. فأما الأشياء التى لا وجود لها بوجه، فإن الإثبات الذى ربما استعمل عليها حين يرى أن الذهن يحكم عليها بأنها كذا، معناه أنها لو كانت موجودة وجودها فى الذهن لكان كذا؛ وهذا كما يقال إن الخلاء أبعاد. فأما السلب فقد يحق على الموجود والمعدوم، فالفرق المقدم بين السالبة البسيطة والموجبة المعدولية أن موضوع السالبة البسيطة قد يكون موجودا وقد يكون معدوما ويصح السلب عنه من حيث هو معدوم، وأما موضوع الموجبة المعدولية فلا يصح أن يوجب عليه وهو معدوم. ثم إن قوما حاولوا بعد هذا أن يفرقوا بين الموجبة المعدولية وبين السالبة البسيطة بأن جعلوا المعدولية تدل على عدم أمر من شأنه أن يكون موجودا فى الجنس القريب أو البعيد أو فى النوع، حتى قالوا: إن قولنا: لا عادل، إنما يصح على عادم العدل وفى طبيعته أن يكون عادلا أو فى طبيعة جنسه كقولهم للبهيمة إنها غير ناطقة أو للنفس الناطقة إنها غير جسم، والمعنيان موجودان فى جنسهما. وقوم قالوا: إن غير العادل هو بإزاء الجائر والمتوسط، وإن غير البصير إنما هو بإزاء الأعمى، فسواء قلت غير بصير أو قلت أعمى، حتى لا يصح أن يقال للخلد عندهم إنه غير بصير؛ فهذا ما يقولونه. فأما القول الحق فبين من مثال نمثله. فنقول: إنا إذا قلنا كل جسم فإنه غير موجود فى موضوع، وكل ما هو غير موجود فى موضوع فهو جوهر، فكل جسم جوهر؛ كان ما أنتجناه لازما. ومعلوم أن القضيتين موجبتان، ولفظ غير مأخوذة جزءا من المحمول، ولذلك تكررت جزءا للموضوع، ونتج ما نتج. ومع ذلك فإن غير الموجود فى موضوع ليس يشير إلى عدم شئ موجود فى جنس الجوهر بوجه من الوجوه إذ لا جنس للجوهر اللهم إلا أن يوجد الموجود كالجنس. فإن فعل هذا وجعل دلالة المعدول على عدم ما من شأنه أن يوجد فى جملة الوجود كان هذا أقرب إلى الحق بل المعدول هو الذى حرف السلب جزء من محموله كيف كان. فإذا أخذنا حرف السلب مع الذى لو انفرد كان محمولا وحده أخذا كشئ واحد، ثم أثبتناه على الموضوع برابطة الإثبات، كانت القضية موجبة من حيث تأليفها؛ فأما المادة وكيفيتها فهو أمر آخر. وقد سمعوا فى تعليم المقولات وبعده أن لفظ اللا إنسان ليس يختص بشئ دون شئ، وليس يختص بما وجد دون ما عدم، أو أنه يصلح أن يجعل محمولا. فما كان يجب أن يشكل هذا الأمر فيه، وإنما أوجبنا أن يكون الموضوع فى القضايا الإيجابية المعدولية، لا لأن نفس قولنا غير عادل يقتضى ذلك، ولكن لأن الإيجاب يقتضى ذلك فى أن يصدق سواء كان نفس غير عادل يقع على الموجود والمعدوم أو لا يقع إلا على الموجود. فيجب أن يعلم أن الفرق بين قولنا كذا يوجد غير كذا وبين قولنا كذا ليس يوجد كذا، أن السالبة البسيطة أعم من الموجبة المعدولية، فى أنها تصدق على المعدوم من حيث هو معدوم، ولا تصدق الموجبة المعدولية على ذلك فإنه يصدق أن يقال: إن العنقاء ليس هو بصيرا، ولا يصدق أن يقال: إن العنقاء يوجد غير بصير. هذا على أن العنقاء اسم يدل على معنى فى الوهم، ولا وجود له فى الأعيان.

পৃষ্ঠা ১৮৪