وهذا المثال الذى أوردوه، وهو حال المربع المساوى للدائرة - الذى يجعلونه موجودا وإن لم يعلم - فهو مثال أشد إشكالا من الدعوى. فليت شعرنا أين وجوده ! فإنه إن كان له وجود فى الذهن فيجب أن يكون معلوما، وإن كان له فى الأعيان وجود حاصل، فبأى دليل عرفوا ذلك ؟ ومن حدثهم به ؟ وإن عنوا أنه ممكن أن يوجد، فذلك أمر بالقوة، كما أن العلم به أيضا ممكن أن يوجد. فنقول لمن قال هذا وسأله: إنه ليس يمكنك وانت منطقى أن تتحقق هذه الأحوال كنه التحقيق، وإنما كان غرضنا فيما أوردناه أن تعلم أنه يمكن أن يكون لذات أحد المتضايفين وجود لا ينفك من الاضافة إلى الآخر، وليس الآخر بمكافىء له فى ذلك. فإن كان علم تصورى أو تصديقى ليس مضايفا إلى شىء آخر، فليس هو من جملة المضايفات التى نذكرها. فإذا لم يكن من جملة ما ذكرناه، لم ينتفض به ما قلناه، بل جعلنا مثالنا الذى نعتده من الشىء لا يكون علما إلا وهو مضاف، وذلك مثل علمنا بأن الفلك موجود متحركا على الاستدارة. وهذا العلم هو فى الجملة التى ذكرناها، والشرط الذى أشرنا إليه؛ وإن كان لما أوردناه قبل مثالا مضايف فى الذهن أو خارج الذهن، وكان مكافيه فى الوجود معا، فليس ذلك أيضا مما ينقض به ما قلناه. فإنا لم نقل: ولا شىء من المتضايفات تتكافإ فى الوجود معا، بل قلنا: إن أكثرها كذلك. وأما أمر المربع والدائرة فليس يتغير بما زعم فيه غرضنا، وذلك لأنه إن كان لهذا المرب إمكان وجود فلا يستحيل فرضه موجودا، وليس فرضه موجودا يوجب أن يكون العلم به حاصلا. بل يجوز أن يكون هذا المرع موجودا ونحن على جملتنا من الجهل به؛ فبين أن جميع ما أورد من هذه الطعون لا يفسد الغرض الذى نؤمه. فما علينا من غير ذلك، وما حاجتنا إلى أن نتكلف فى المنطق علما غير المنطق ليس من شأن المنطقى أن يتحققه كنه التحقق. ويجب أن تعلم أن المتضايفين من حيث يتضايفان بالفعل تضايفا على التعادل فهما معا؛ إذ الشىء إنما تقال ما هيته بالقياس إلى شىء يكون معه. وأما إذا أخذ أحدهما بالفعل والآخر بالقوة، فقد زال التعادل. لكن على هذا إشكال، وهو أن لقائل أن يقول: إن المتقدم فى الزمان مقول بالقياس إلى المتأخر، ولا بد من أن تكون بينهما إضافة بالفعل، ولا تضاد، فهما موجودان معا.
وأيضا فإنا نعلم أن القيامة ستكون، والقيامة معدومة غير موجودة، والعلم بها موجود، ولا بد أن تقع بينهما إضافة بالفعل، ولا تضاد، فهما معا، فنقول: أما الشك المورد من جهة المتقدم والمتأخر فإنه ينحل بأن نقول: إن هذا المعنى يعتبر من وجهين: أحدهما بحسب الذهن مطلقا، والآخر بحسب الوجود مستندا إلى الذهن. أما بحسب الذهن فأن يحضر الذهن الزمانين معا فى الوهم، فيجد أحدهما متقدما والآخر متأخرا، فيكون قد حصلا جميعا فى الذهن؛ أو يكون أحد الزمانين كيوم من الأيام حاضرا فى الوجود والذهن، فيضيف الذهن إليه زمانا بعقله مستقبلا، فيحكم حينئذ بينهما بتقدم، لأنه قد أحضرهما معا.
وأما الوجه الآخر فهو أن الزمان المتقدم إذا كان موجودا،فموجود من الآخر أنه ليس هو، وممكن أن يوجد إمكانا يؤدى إلى وجوب، وهذا كونه متأخرا. وهذا الوصف للزمان الثانى موجود فى الذهن عند وجود الزمان المتقدم. وإذا وجد المتأخر فإنه موجود فى الذهن حينئذ أن الزمان الثانى ليس موجودا، ونسبته إلى الذهن نسبة شىء كان موجودا ففقد. وهذا أيضا أمر موجود مع وجود الزمان المتأخر. فأما نسبة المأخر إلى المتقدم على وجه آخر غير ما ذكرناه فلا وجود له فى الأمور، لكن فى الذهن فقط، فإن كل زمان وجد فلا يكون - من حيث هو موجود - لا متقدما ولا متأخرا، ولا مضافا إلى شىء من الأزمنة، وإلا لكان مضافا إلى أشياء بلا نهاية فى وقت واحد، وكانت هناك إضافات لا نهاية لها موجودة بالفعل؛ بل هو فى نفسه بحيث إذا عقل وعقل الآخر حكم العقل عليه بأنه متأخر عن أمر موجود فى الذهن.
وأما العلم بالقيامة، فإنه إنما هو فى حكم سيكون، فإن العلم بها أنها ستكون علم بحال من أحوالها موجود فى الذهن مع وجود العلم بأنها هى ستكون لا عندما تكون، بل قبل ذلك عندما هى معدومة فى الأعيان موجودة فى النفس. وأما تصور ماهية القيامة مجردة فإنه غير مضاف إلى شىء فى الوجود من حيث هو تصور.
واعلم أن جميع أمثال هذه إضافات إنما تتقرر فى الوهم، والمتضايفات فيها أيضا إنما تكون متضايفات فى الوهم. والبيان المستقصى لهذا إنما هو فى العلوم الحقيقية؛ لكن قوما من المتكلفين أجابوا فى شبهة تكافؤ العلم والمعلوم فقالوا: إن الذى قيل من أن المعلوم قد توجد ذاته والعلم به لا يكون، قول غير حق؛ فإن ههنا علما موجودا بكل شىء وجودا لا يتأخر عن الأشياء، وهو علم البارى والملائكة؛ ولم يعلموا أن هذا وإن كان حقا، فليس جواب المتشكك، فإن المتشكك ليس يقول: إنه ولا شىء من المتضايفات لا يكون معا، ولا أيضا يقول: إنه ولا شىء من العلم والمعلوم يكون معا؛ ولا يحتاج إلى ذلك، فإن دعواه انه ليس كل متضايفين يكونان معا. وهذه الدعوى تصح بمثال واحد يورده المتشكك فى علمواحد فيقول: إن علمى بوجود العالم لا يصح أن يكون علما وذاتا؛ والعالم غير موجود الذات، ثم العالم قد يكون موجودا فى ذاته، وليس علمى به بموجود؛ وكذلك إن لم يعتبر شرط الذات؛ فإذا كان علمه بالعالم على هذه الصفة، ولم يكن علم البته غير هذا العلم الواحد إلا وهو موجود والعالم دائما معا، لا العلم الذى أشار إليه فقط بل جميع العلوم، فكان العالم قد يكون موجودا وعلم ما من العلوم بوجوده ليس بموجود، فالشبهة تكون قائمة؛ فإن الشبهة لم ترد بسبب أن المعلوم قد يكون موجودا ولا علم ألبته؛ بل هى شبهة أخرى، وينبغى أن يرتاد لها حل آخر، وأقله أن يقال: إن العالم حينئذ لا يكون مضافا إلى هذا العلم إذ لا يكون معلوما له.
الفصل الخامس فصل فى تحقيق المضاف الذى هو المقولة والفرق بين ما هو مضاف بالذات وما هو عارض له الإضافة أو لازم وخواص المضاف الذى هو المقولة
পৃষ্ঠা ১০৫